
مقدمة
إن بحثًا تأثيليًا حول عبارة «الطفل» في بعض اللغات قد يقول الكثير عن منزلته في التمثلات الاجتماعية القديمة. فعبارة enfant الفرنسية مثلا تعود إلى عبارة infans اللاتينية. وبحسب معجم Littré الفرنسي (في مادة enfant)، فإن هذه العبارة اللاتينية مركبة من in وتستعمل للنفي وfans المشتقة بدورها من fari وتعني الكلام أو التعبير بواسطة الكلام. فالمرادف اللاتيني لعبارة الطفل يعنى إذن في الأصل «ذاك الذي لا يتكلم». وفي اللغة اليونانية القديمة، وبالإضافة إلى مصطلحات بايدوس Paidos وتكنيا Teknia الدالة على الطفولة ثمة أيضًا استعمال واسع لمصطلح pais الذي يعني في الأصل ما هو صغير. إلا أن استعمال هذا المصطلح توسع ليشير في الآن ذاته إلى كل من الطفل والعبد بما يفهم منه وجود تماثل في منزلتهما [1]. وفي العربية أيضًا الطفل هو الصغير من كل شيء. وعبارة الصغير فضلًا عن كونها تحيل إلى حديث السن فإنها في كثير من اشتقاقاتها تشير إلى الحقارة والهوان وقبول المهانة والضيم. وفي المقابل، فإن التحول من الطفولة إلى الرشد ينظر إليه باستمرار باعتباره لحظة تحول حاسمة نحو الإنسانية المكتملة: تحول من الوصاية إلى الحرية، ومن التفاهة إلى النضج، ومن الإنسانية بالقوة إلى الإنسانية بالفعل.
تكشف هذه الدلالات السلبية عن مدى خضوع الطفولة إلى منظور كهولي صرف مبني على مقارنات غير منصفة بين الطفل والكهل. ولعل هذا ما جعل روسو يعترف في بداية كتابه إيميل، أو في التربية، نيابة عن معشر الفلاسفة، بأننا «لا نعرف شيئا عن الطفولة»([2]). إذ لا يبدو أن الفلاسفة قد احتفوا قبل ذلك بالطفل أو اعتبروه من بين موضوعات بحثهم الكبرى. ولعل في هذا الإقرار أيضًا استحثاثًا للفلاسفة حتى يتجاوزوا تقصيرهم وحتى يراجعوا نظرتهم للطفل. وفعلًا فقد شهدنا منذ العصر الحديث تحولات عميقة في التصورات الفلسفية للطفل ولرمزيته. ولذلك سنحاول في هذا المقال تقصي منزلة الطفل في الفلسفة عمومًا وما طرأ عليها من تطور: ما الذي كان يحول دون معرفة الطفل؟ هل يتعلق الأمر بجهل أم بتجاهل يصل حد الإنكار؟ وهل أصبحنا نعرفه فعلًا؟ هل أن الاهتمام المتزايد بالطفولة –في الفلسفة وفي غيرها من المعارف– دليل كاف على انحسار هيمنة الرؤية الكهولية، أم هو على العكس من ذلك تماما دليل على أننا، أكثر من أي وقت مضى، بتنا نبحث في الطفل عن أنفسنا، لا شيء غير أنفسنا وتمنياتنا؟
- ما دون الإنسان، أو في الإنكار الفلسفي للطفولة
لا يبدو أن الفلسفة قد سعت قبل روسو إلى التفكير في الطفل (وفي الطفولة) كغرض في ذاته. هذا لا يعني أنها استبعدته تمامًا من مجال بحثها، ولكن حضوره ظل باستمرار حضورًا على هامش الأسئلة الكبرى للميتافيزيقا وللأنطولوجيا ولنظريات المعرفة، لكأن الفلاسفة في انشغالهم بهموم الإنسان الكبرى، تلك التي تنكشف في قضايا الموت والمصير، أو العدالة والحرية، أو العقل وممكناته لم يجدوا متسعًا من الوقت للنظر في هذا الذي لم يتكون بعد كإنسان أو كمواطن. فنظرية أفلاطون في التربية مثلا تتأسس على نظريته في النفس وأطوارها ولم تكن البتة مبنية على تأمل في معنى الطفولة وخصوصياتها([3]). إن العودة إلى الطفولة في مثل هذا السياق وخاصة في كتاب الجمهورية لم تكن تهدف البتة إلى اكتشاف هذه الطفولة. فهي تُستدعى فقط استدلالًا على وجاهة الفصل بين المثل والوقائع وعلى أن المعرفة كامنة في النفس وأن اكتشافها هو مجاهدة لقوى الجسد. وعلى هذا النحو أيضًا ضمّن أرسطو ملاحظاته حول الطفولة والتربية أساسًا في مؤلفاته حول السياسة والأخلاق. فهو حينما يخصص الباب الخامس من كتاب السياسة إلى «التربية في المدينة الفاضلة» إنما يفعل ذلك في إطار بيان واجبات المشرع وحينما يهتم في الكتاب الأول بالسلطة العائلية وبمنزلة الأولاد وفضائلهم فلأن التربية شأن سياسي طالما أن الأولاد ينتمون إلى العائلة وتنتمي العائلة إلى الدولة([4]).
ولذلك يمكن تشخيص موقف فلسفي أول من الطفل لا يعترف بإنسانيته التامة وإنما ينكرها أو يؤكد على طابعها المنقوص. ويبدو أن هذا الموقف كان ضحية افتراض تصور ماهوي للإنسان -لا يجد تحققه إلا لدى الكهل- أي بوصفه الكائن العاقل وبالتالي القادر على المعرفة وعلى الخير. فعلى صعيد إبستمولوجي لا تشكل الطفولة بأي حال رمزًا لرجاحة العقل أو سعة المعرفة أو عمق الحكمة. لقد مضى ديكارت بعيدًا في نقده للطفولة التي تتسم بكثير من الرخص والنعومة. فمرحلة الطفولة في نظره هي مرحلة تقبُّل الأحكام المسبقة التي لا دليل على صحتها والتي لعبت الحواس دورا حاسمًا في تكونها فتحولت إلى قيود تمنع العقل من النفاذ إلى الحقيقة. يكرر ديكارت في نصوصه على نحو لافت، وإن بصيغ مختلفة، القول بأن هذا الخطأ أو ذاك تسرب إلينا مما تعلّمناه في مرحلة الطفولة. فإن كان المرء قد عقد العزم على طلب الحقيقة، كان حريّا به قبلا أن «يمسح الطاولة» مسحًا، أي أن يلغي هذه الطفولة في بعدي رمزيتها: باعتبارها طفولة النوع، أي طفولة الجنس البشري، وباعتبارها طفولة الفرد أي طفولة شخص بعينه. وهكذا فإن التربية التي تقوم على استعادة السابق والسائد دون دليل يسند صحّته، والتي تقوم على التلقين واجتناب الشك، هي تربية فاسدة. فإن رمنا معرفة الحقيقة توجب علينا التخلص من الطفل. فيغدو القتل الرمزي للطفل عند ديكارت شرط التفلسف([5]).
وعلى صعيد أخلاقي يرمز الطفل إلى الانسياق السهل والغافل نحو الشهوة. فهو لم يتحقق بعد باعتباره كائنًا عاقلًا قادرًا على التحكم في شهواته أي على الترقي بقيمة الإنسانية. فأفلاطون مثلا يؤكد في كتاب النواميس بأن اللذة والألم هي المدركات الحسية الأولى للأطفال وأنهما الشكلان اللذان أُحضرت تحتهما الفضيلة والرذيلة لهم([6]). ولذلك فإن فضائل الطفل ليست من قبيل فضائل الرجل-الإنسان وليس له أن يحصّل السعادة الحقيقية بما هي الحكمة والتأمل. إنه في مستوى دون الإنسانية الأخلاقية الكاملة. ولذلك لا يجد أرسطو حرجًا في المماثلة بين وضعية الطفل ووضعية العبد. ف «الباييس» يظل في نظره «كائنًا غير تام» ولا حاجة للبحث عن فضيلة خاصة به. «فالفضيلة لا تتعلق به على الحقيقة» ([7]). يترجَم هذا النقص على صعيد سياسي باستبعاد الطفل من مجال المواطنة، أي من المجال العام، وبِرده إلى المجال الخاص أي إلى الحياة المنزلية. فالأولاد هم مواطنون ناقصون وهذا كفيل بحد ذاته بجعل الوصاية عليهم مسوِّغًا لمصادرة إرادتهم. ويترجَم على صعيد أخلاقي باستبعاد الطفل من مجال البراكسيس، إذ لا يرى أرسطو أن ما يقوم به الطفل جدير بأن يُسمى فعلًا. فهو مدفوع بالرغبات والانفعالات وغير قادر على أن يبني علاقات صداقة حقيقية، شأنه في ذلك شأن السوائم والأشرار، وهو علاوة على كل ذلك لا يتصرف طبقًا لمقتضيات المنطق والعقل، ولذلك لا يمكن أن نصنّف ما يأتيه الطفل – كما لا يمكن أن نصنف ما يأتيه الحيوان – على أنه فعل([8]). وهكذا لا يمكن أن تكون المقارنة بين الطفل والكهل إلا مقارنة منحازة لا تنظر إلى الطفل من حيث هو كينونة اجتماعية نفسية لها وجودها الخاص وإنما هي تنزّله دائمًا منزلة الكائن الناقص في مقابل الكائن التام.
تعكس هذه المقارنة المبنية على معايير يضعها الكهول أنفسهم وعيًا يميل إلى إنكار أي قيمة للطفل في ذاته. وقد كان لهذا الأمر تبعاته على جهة تمثل أساليب التربية وأهدافها. فليس الطفل بحد ذاته هو غاية التربية وإنما هو المجتمع. ولذلك فقد كان في تقدير فلاسفة مثل أفلاطون وأرسطو أن التربية، بما هي نشاط مصيري بالنسبة إلى لمجتمع، ينبغي أن يُعهد به إلى الدولة، إذ هي تهدف إلى تكوين الإنسان بوصفه مواطنًا في المدينة أي جزءًا من كل. فما يهم في التربية إذن هو وضع هذا الكل واستقرار نظامه ووحدته. ولعل هذا التصور للتربية يعود أساسًا إلى استبعاد مفهوم الفرد باعتباره نمطَ وجود مضاد للطبيعة. فبالنسبة لأرسطو لا يوجد كائن بوصفه فردًا إلا من كان إلهًا أو وحشًا. ولذلك، فمن الأولى أن لا يُنظر إلى الطفل ككيان مستقل أو حامل لحقوق أو كقيمة في ذاته. ولقد ذهب أفلاطون بعيدًا حينما افترض أن الرجال والنساء إنما يُنجِبون من أجل المدينة (الجمهورية، الكتاب الرابع) وأنه ينبغي أن يُعهَد بالأطفال، منذ ولادتهم، إلى أشخاص مكلَّفين بذلك (الجمهورية، الكتاب الخامس)، فأعطى الحق للمشرع أن يتدخل في اختيار الأزواج بعضهم لبعض واعتبر «تحسين السلالة مسارًا أساسيًا وضروريًا كل الضرورة من أجل التماسك السياسي للمدينة»([9]). بل إن الخلاف الأساسي حول التربية بين السفسطائيين والسقراطيين يدور حول تحديد الغاية منها. فبالنسبة للسفسطائي، ينبغي على التربية أن تعمل على دعم الاقتدارات الضرورية للشاب، تلك التي تمكنه من تحقيق النجاح الشخصي. وأما مسائل الحقيقة والخير العام للمدينة فلم تكن لديه من الأهداف الأساسية للتربية.
وفي الحقيقة، فإن هذا الإنكار الفلسفي للطفولة قد يكون امتدادًا لنوع من الإنكار الاجتماعي الذي استهدفها. فرغم الأهمية التي أعطاها المجتمع اليوناني مثلًا للتربية وللتعلم وذلك ضمن مدينة كان تدبيرها يقوم على النقاش والمجادلة، ورغم ارتباط لفظ «المدرسة» نفسه (skhole) بمعنى «المناقشة العالمة»، إلا أن المجتمع اليوناني عمومًا لم يحوّل التربية إلى شأن عام، إذ إن تربية الأطفال وتعليمهم كان مسؤولية العائلة التي يعود إليها اختيار المعلمين والمدارس. على أن الأهم من ذلك أن بعض الممارسات الدالة على إنكار اجتماعي للطفولة كانت إلى حد ما رائجة ولم تواجه بمعارضة تُذكر من طرف الفلاسفة، ولعل أهمها ظاهرة قتل الأطفال. أما خلال العصور الوسطى في أوربا فقد توقف آرياس عند مظاهر عديدة من الإنكار الاجتماعي للطفولة تفسر تغييبها النسقي من مجال اهتمام التعابير الفنية وحتى محدودية التعابير المعجمية المرتبطة بها. فبالنسبة لآرياس، الطفولة هي إنشاء اجتماعي (وبالتالي فكري) حديث. ولكن من الواضح أن آرياس، الذي أثارت أطروحته نقاشات، لا يحيل إلا إلى إطار مرجعي تاريخي واحد فقط هو التاريخ الأوروبي.
- الطفل قيمة في ذاته أو في الاعتراف الفلسفي بالطفل
إن النظر إلى منزلة الطفل خارج سياق التاريخ الوسيط الأوروبي وتحديدًا ضمن سياق الثقافة العربية الإسلامية يمكن أن يضع أمامنا مظاهر عديدة لاعتراف اجتماعي بالطفل عززه حضور فلسفي وعلمي ملاحَظ لفكرة الطفولة. ولعل من أهم مظاهر هذا الاعتراف الاجتماعي، الذي لا يخلو من خلفية دينية واضحة، الممارسات والاحتفاليات المصاحبة لمولد الطفل (التسمية، العقيقة، التحنيك، الختان، إلخ.) والرفض المطلق لقتل الطفل واعتبار وفاته حدثًا مأساويًا واعتبار الطفل المتوفى شفيعًا لوالديه لدخول الجنة، وربط الاعتراف الاجتماعي بالشخص «برحمة» هذا الشخص للطفل (ليس منا من لم يرحم صغيرنا…)، ومركزية الطفل الصالح في التمثل الاجتماعي للسعادةـ إلخ. بل إن اللغة نفسها تشير إلى لفظ الطفل بعدد لافت من التسميات([10]) قد يدل على حظوة ما في المجتمع والثقافة. واستتباعًا لهذا الاعتراف الاجتماعي، ظهر الطفل في الفكر الفلسفي العربي الإسلامي ضمن بعض الرسائل والمصنفات الفلسفية والطبية المخصصة للطفولة([11]) أو ضمن مصنفات تعنى بالأخلاق([12]) أو بالاجتماع البشري([13]) أو غيرها. هل يُعد ذلك دليلًا على اعتراف فلسفي بالطفل ضمن الفلسفة العربية الإسلامية تجاوز لحظة الإنكار السابقة؟
صحيح أن كل اهتمام بالطفل لا يمكن أن يتخلى عن التفكير فيما سيكون، أو ينبغي أن يكون عليه، هذا الطفل في المستقبل. وهذا ما يفسر الترابط الوثيق خلال كامل تاريخ الفلسفة بين مسألة الطفولة ومسألة التربية. إلا أن الاعتراف بالطفولة يمكن أن يُفهم على معنى النظر إلى الطفل في خصوصيته، أي من حيث هو كائن حامل لبنية نفسية وذهنية خاصة، ومن حيث هو مسار انفتاح على العالم الخارجي يتحقق بمقتضى ما يبنيه الطفل نفسه من علاقات مع المجتمع ومع الأشياء. ومن هذا المنظور، يقتضي الاعتراف بالطفولة، من الناحية الشكلية، عدم الاكتفاء بتمثلها على هامش قضايا الميتافيزيقا أو السياسة، ومن الناحية المعيارية تحريرها مما يمكن أن نسميه مركزية الكهولة (adultocentrisme) أو كذلك «الاستحواذ الكهولي على الطفولة»([14]) ومن ثمة الإقرار بأن الطفل يشكل بحد ذاته قيمة. وفي هذا المعنى يمكننا دون شك رصد بوادر اعتراف فلسفي-علمي بالطفولة برز خاصة من خلال حرص الفلاسفة والعلماء العرب على النظر إليها باعتبارها مرحلة خاصة ومختلفة من مراحل الحياة وعلى تفصيل بعضهم فيما يُحمل على الوالدين والمجتمع من واجبات تجاه الأطفال وهو ما يجعل التمثل العربي-الإسلامي، الاجتماعي والفلسفي على حد سواء، للطفولة مختلفًا كل الاختلاف عن تمثلها لدى المجتمعات الأوروبية الوسيطة([15]).
يمكن أن تعتبر بوادر الاعتراف هذه أيضًا بداية لمراكمة متدرجة للمعارف الإنسانية بشأن الطفولة بلوغًا إلى العصر الحديث الأوروبي، حيث يقوم الكم الهائل من المؤلفات الخاصة بمسألة التربية خلال القرن الثامن عشر شاهدًا على القيمة التي بات يحظى بها الطفل([16]). وفي هذا السياق بادر لوك منذ سنة 1693 بوضع كتاب يعنى حصريًا بالتربية([17])، تلاه في ذلك جون جاك روسو بنشره كتابه المرجعي «إيميل» سنة 1762، وظهرت بعد ذلك مؤلفات ودروس كانط وهيغل وبيستالوزي وغيرهم، مع سعي حثيث لتصبح البيداغوجيا علمًا.
لقد ساهمت عوامل عديدة في هذا التحول. فعلى مستوى معرفي وفكري يمثل القرن الثامن عشر قرن التنوير في أوروبا. وقد كان انتشار التنوير، الذي سعى إلى القطيعة مع الخرافة والرؤى الميتافيزيقية للعالم، يتطلب واسطة. و أدرك التنويريون أن الواسطة الأهم إنما هي التربية من حيث هي آلية قادرة على تكوين جيل جديد حامل للأفكار الجديدة. ولعل هذا ما دفع كانط إلى الإقرار في تأملاته في التربية بأن «الأنوار تتوقف على التربية كما أن التربية تتوقف بدورها على الأنوار»([18]). وعلى مستوى فلسفي-سياسي، كان لاكتشاف الذات ومن ثمة الحرية في بعدها الذاتي تأثيرًا كبيرًا في بلورة فكر سياسي قائم على أولوية حقوق الإنسان وما تستدعيه من استقلالية للذات ومن رفض لكل أشكال التسلط. وقد كانت المطالبة بهذه الحقوق جوهر التحولات والثورات السياسية في أوروبا الحديثة. وما كان للتربية أن تكون بمعزل عن هذه الثورة السياسية والقانونية. فتراجعت تبعًا لذلك الأنماط القديمة للتربية وخاصة منها تلك الخاضعة لمؤسسات للتعليم الديني في مقابل انتشار المدرسة الحديثة والقيم الجديدة التي تبشر بها. ولعل أحد أهم القواسم المشتركة لما يمكن اليوم أن نسميه فلسفات التربية لعصر التنوير هو تأكيدها على قيمة الحرية. فإذا كانت التمثلات القديمة للتربية لدى الفلاسفة اليونانيين والمسلمين تدور حول قيمة الفضيلة، حيث يُنتظر من الفرد أن يعمل من أجل الخير الجماعي، فإن مطلب الحرية بات هو غاية التربية الإنسانية عند التنويريين حيث يعود لكل فرد أن يبحث عن سعادته الخاصة.
في هذا الإطار، يعترف روسو في فاتحة كتابه إيميل أو في التربية بأن مؤلَّفه «أضأل من جلال الموضوع الذي يتصدى له». ولكنه لا يتردد في نقد التربية السائدة في عصره. ويعتبرها فاسدة ولا تنبي على معرفة بالطفولة». فلقد كان الكتاب يهتمون أساسًا «بما ينبغي للرجل أن يعرفه من غير اعتبار لما يستطيع الطفل أن يتعلم. ذلك أنهم ينشدون الرجل دائمًا في الطفل من غير أن يراعوا ماذا يكون الطفل فعلًا قبل أن يغدو رجلًا»([19]). إن هذا النمط من التربية يقوم على محو شخصية الطفل وإلغائها وعلى ضرب من المفاضلة يستأثر فيه الكهل بميزة الإنسانية العاقلة والفاضلة. لكن هل يمكن أن يمثل الرجل-الكهل، من حيث هو فاعل اجتماعي، الصورة الأقرب لما ينبغي أن يكون عليه الإنسان؟ إن الإجابة عن هذا السؤال هي التي تحدد منزلة الطفل عند فيلسوف العقد الاجتماعي وتستدعي العودة إلى فرضية الحالة الطبيعية لديه.
إن الطبيعة الإنسانية في نظر روسو هي طبيعة خيرة. «فكل شيء يخرج من بين يدي الخالق صالحًا» وإنما إنسان المجتمع هو من يفسد هذه الطبيعة ويشوه صنع الخالق([20]). فالكمال، أي الصورة المثلى للإنسان، هو إذن سمة الإنسان لحظة الخلق لا في أعقاب مسار التربية. إن الفطرة التي يولد عليها الطفل تحتوي بعدُ معنى الخير وما على التربية إلا المحافظة عليه. لكن هذا الخير يسقط في النسيان أو يكاد بتأثير من علاقات اجتماعية يحل فيها الحب الخالص محل حب الذات والبحث عن المصلحة محل البحث عن الخير. لقد تحول الثقل الأخلاقي لمعنى الإنسانية مع روسو من الكهل العاقل والمسؤول (إنسان الحضارة) إلى الطفل المدفوع بالفطرة (إنسان الطبيعة). فإن كان للتربية من غاية فهي قطعًا ليست التعجل ببلوغ الرشد بل المحافظة على الطفولة أطول فترة ممكنة. فكانت فرضية التربية السالبة عند روسو تحريرًا للطفل عبر تقييد الاستحواذ الكهولي عليه بدعوى تربيته وتعليمه.
ولقد أعاد كانط في دروسه في التربية استدعاء قيمة الحرية مبررًا الحاجة إلى التربية من منطلقات أنثربولوجية. فإذا كانت الحيوانات محكومة بحتمية أن تكون ما هي عليه بمقتضى غريزتها، فتغنيها هذه الغريزة عن التربية فإن الإنسان محكوم بوعيه وبمصيره، بما يجعله قادرًا على الاختيار الحر. فهو يحتاج للتربية والتعلم حتى يحسن الاختيار. ولا يمكن أن تتعايش حرية الذات مع حرية ذات أخرى دون تنظيم يضبط حدود كل واحدة. ومن هنا فإن الحرية تحتاج إلى الانضباط. إن الانضباط هو المدخل الضروري لحالة المدنية بماهي حالة خضوع لقوانين الإنسانية([21])، وشرط ضروري للعيش المشترك وللتنوير ببعديه الفكري والأخلاقي. وعلى أساس جدلية الحرية-الانضباط هذه ينشأ الطفل بوصفه مواطنًا. إن الاعتراف الفلسفي بالطفل يبدو مبرَّرًا إذن من منطلق الحاجة إلى تحويل الحرية إلى ثقافة، أي جعلها مقوِّما من مقومات السلوك الفردي وقيمة جماعية مشتركة ترقى إلى مستوى البداهة.
غير أن نيتشه، الناقد للحداثة ولعقلانية التنوير، سيعطي للطفولة دلالة تذهب إلى ما وراء قيمة الحرية: إلى ما يجعل الإنسان الأرقي ممكنًا. فمجاز تحولات العقل الثلاثة تطيح بالدعوة الديكارتية للتحرر من الطفولة. إذ العقل من منظور نيتشه يبدأ جملًا في قابليته للخضوع وفي قدرته على التحمل، ثم ينقلب أسدًا في قوته وفي رغبته ابتداع قيم جديدة. وفي الأخير يستحيل العقل طفلًا. لم «طفلًا»؟ و«ما الذي يقدر عليه الطفل مما لا يقدر عليه حتى الأسد؟»، ما هذا الذي يتجاوز الحرية؟ يجيب نيتشه أن الأسد لا يستطيع ابتداع قيم جديدة. هو يستعد لها فحسب بمقتضى تحرره. الطفل هو من يتولى ابتداع القيم. «براءة هو الطفل ونسيان. بدء جديد، لعب، دولاب يدفع نفسه بنفسه، حركة أولى، نعم مقدسة»([22]). إن ما يقرِّب الطفل من صورة الإنسان الأرقى هو تحديدًا خلوه من الضغينة، هو اللعب الذي يمنحه القدرة على خلق عالمه الخاص([23]) حيث يكون، بإرادته، سيدًا، وحيث يُقبِل على الحياة ويظفر بالمعنى. الطفل النيتشوي ليس قوة نفي، بل إرادة إثبات، بواسطة اللعب، لعالم خاص يكون هو سيده.
ثمة إذن منذ بدايات الحداثة مع لوك وإقراره بضرورة التعامل مع الطفل باعتباره كائنًا عاقلًا اعتراف متزايد بأهمية الطفولة لا فقط كمرحلة مؤقتة تنتهي مع الرشد ولكن باعتبارها هوية ذات خصوصية تملي علينا أن نتعامل مع الطفل على ما هو عليه، قيمةَ في ذاته. دون شك، لا يمكن أن نعتبر أن عودة الطفل إلى الفلسفة تعني نهاية أنماط التربية التسلطية، أو انتهاك حقوق الطفولة، ولكن في المقابل من المؤكد أنها كانت لحظة ضرورية من أجل ثورة بيداغوجية حديثة يعاد فيها النظر إلى منزلة الطفل في وضعيات التعلم وأساليبه.
- من الفلسفة إلى العلوم الإنسانية… والعود مجددًا
لم يكد مسار الاعتراف الفلسفي الحديث بالطفولة يتعزز مع فلسفة الأنوار حتى ظهرت العلوم الإنسانية وخاصة منها علمي النفس والاجتماع الذين أحدثا منعطفًا مهمًا في طريقة مقاربة مسألة الطفولة. فلقد سعى هذان العِلمان بخاصة إلى تجاوز الطروحات التأملية للفلاسفة نحو أنماط من المعالجة التجريبية والتحليلية. وكانت حصيلة هذا المنعطف ولادة ما يعرف بعلوم التربية ثم دراسات الطفولة، حيث ستستند هذه العلوم والدراسات إلى مقاربات متعددة الاختصاصات للطفل وستوفر كمّا من المعرفة غير مسبوق بسلوك الطفل وبشخصيته وبنمو قدراته التعلّمية وبتمثلاته لعالمه المعيش.
في هذا السياق، وفرت نظريات علم نفس النمو بداية من القرن التاسع عشر إطارًا علميًا يساعد على فهم كيفية تطور الملكات الإدراكية لدى الإنسان وخاصة لدى الطفل وطرق تفكيره وتفاعله مع محيطه بما يسمح بتحديد أساليب التعلم المثلى. فإذا كانت فلسفة روسو فتحت الباب أمام قراءة تطورية وديناميكية للمسار التربوي متتبعة بذلك عالم الطفولة في تغيراته التي يتقاطع فيها البيولوجي مع النفسي والإدراكي، فإن نظريات النمو ستؤسس هذه القراءة علميًا وستعطي تبعًا لذلك دفعًا جديدًا لفلسفة التربية وللفلسفة المهتمة بالطفل. بل إن هذه النظريات، التي تطمح إلى معرفة الطفل وتعبّر عن محدودية هذه المعرفة في آن، أعادت ترتيب العلاقة بين الفلسفة والطفولة على نحو مغاير تمامًا، حيث لم تعد المواقف إزاء الطفولة والتربية استتباعًا لتأملات في الميتافيزيقا أو الأنطولوجيا أو السياسية وإنما، على العكس من ذلك، بات فهم بنية الحياة النفسية للطفل على صعيد فردي (ontogenesis) مدخلًا لفهم التطورات الاجتماعية والثقافية التي عرفتها المجموعة (phylogenesis) بل وحتى لفهم كيف يبني الإنسان تمثلاته للعالم وللقيم وكيف ينتجها أو يتخلى عنها.
ورغم أن هذه النظريات تهتم بجوانب مختلفة في الشخصية (النمو الإدراكي، النمو الأخلاقي، النمو النفسي الاجتماعي إلخ) فإنها تشترك فيما بينها، أولًا، في افتراض أن الحياة النفسية للإنسان تتكون منذ الولادة. فولادة الكائن هي أيضا لحظة انبثاق المسارات النفسية التي ستشكل شخصيته لاحقًا. والطفولة هي نقطة انطلاقٍ لا فقط نحن غير قادرين على تجاوزها ولكنها فوق ذلك تشكل جوهر هويتنا الفردية. بل لعلنا بحاجة إلى العودة إلى مرحلة ما قبل الولادة أو المرحلة الجنينية باعتبارها مرحلة التكون الأولى للخصائص الفيزيولوجية والبيولوجية التي سيكون لها، لاحقًا، تأثير على الحياة النفسية. وتشترك هذه النظريات فيما بينها، ثانيًا، في السعي إلى نمذجة مسار النمو لدى الكائن عبر ردِّه إلى عدد معين من المراحل وفق معايير تختلف من نظرية إلى أخرى. وتكون هذه التحولات عادة محكومة بالتفاعل بين العالم الذاتي-الداخلي للطفل وبين البيئة الطبيعية والاجتماعية المحيطة به. هذه النماذج يمكن أن تكون لها استعمالات طبية أو تعليمية أو تربوية عموما، ولكنها من ناحية فلسفية تضعنا أمام كائن من الصعب أن يتحدد على نحو جوهراني بما أن ماهيته هي سيرورة محكومة في جانب كبير منها بعوامل تتجاوز إرادة هذا الكائن نفسه. إنها تذهب إلى ما هو أبعد من مجرد تعامل فلسفي انطباعي مع الطفولة سواء بوصفها «شرًا لا بد منه أو خيرًا مفقودًا»([24]).
لقد كان لهذه النظريات أثر عميق على أنماط المقاربة الفلسفية للطفولة. يلفت فرويد النظر إلى ضرورة التفكير في مفهوم الطفولة نفسه وإلى منزلة هذه المرحلة ضمن مسار تكوّن الشخصية. إذ للطفولة في نظره وجهان. فإذا نظرنا إليها من الناحية البيولوجية، فإنها قابلة للتزمين وتنتهي بانتهاء المراهقة. وأما إذا نظرنا إليها من الناحية النشوء-نفسية أي من وجهة نظر نشوء الوظائف النفسية وتطورها فإنها تشير إلى ديناميات لا تنتهي مفاعيلها إلا بموت الشخص. إن النمو النفسي في نظره هو الوجه الآخر للنمو الجنسي. وبهذا فإن الطفولة هي ماضينا الذي لا مفر منه -إلا عبر حيل الوعي- وقدرنا الذي لن نتجاوزه أبدًا. يخرج التحليل النفسي بذلك عن المقابلة التي سادت الفلسفة نفسها بين الطفولة والكهولة لتصبح الكهولة مسكونة بالطفولة وتتلاشى فرضية «تجاوز الطفولة» أو «قتل الطفل».
أما مع بياجيه فإن فكرة الطفل، الصفحة البيضاء التي تتقبل المعرفة من العالم الخارجي كما يؤكد ذلك التجريبيون ومن بينهم لوك وعلماء نفس السلوك، فقدت دلالتها. إن الطفل كائن مفكر لا من حيث قدرته على إدراك العالم الخارجي حسيًا ولكن من خلال قدرته على إعادة بناء هذا العالم وتنظيمه بفضل ذكائه ورؤيته الخاصة وتفاعله معه، أي عبر ما يسميه بياجي نشاطي الاستيعاب والمواءمة. وهكذا نجد أن بنائية بياجيه فتحت أمام الفلسفة بشكل عام وفلسفة التربية بشكل خاص أفقًا جديدًا للتفكير في الإنسان وفي آليات تحصيله للمعرفة وفي علاقته بمحيطه وفي ماهية الطفل وقدراته.
بالتوازي مع ذلك، كانت دروس اميل دوركهايم في علم الاجتماع قد استدعت مسألة التربية إلى مجال اهتمامها. وفيها، تظهر التربية بوصفها ظاهرة اجتماعية قابلة للملاحظة بعيدًا عن المسلمات الانثروبولوجية للفلاسفة، القدامى منهم والمحدثين. كانت وجهة النظر التي تعاطى من خلالها دوركهايم مع مسألة التربية هي الوظيفة الاجتماعية الادماجية لهذا النشاط بوصفه تكييفًا للطفل مع بيئته الاجتماعية، فلم يكن تركيزه في الحقيقة محمولًا على الطفل بحد ذاته. هذا المنظور الوظائفي هو أيضًا ما يميز سوسيولجيا بارسنز لدى اهتمامها بالعائلة وبعملية التنشئة الاجتماعية([25]). فكان علينا انتظار الثلث الأخير من القرن العشرين لنشهد الولادة الفعلية لما بات يُعرف اليوم بسوسيولوجيا الطفولة، حيث يكون الطفل من حيث هو فاعل اجتماعي هو مركز الاهتمام الأول. تقوم سوسيولوجيا الطفولة بالأساس على فكرة إعطاء الكلمة إلى الطفل، هذا الذي كان ممنوعًا من الكلام، وإلى التعامل معه باعتباره مقولة اجتماعية([26]). وبعيدًا عن كل تحديد ماهوي، تصبح الطفولة لدى عالم الاجتماع بناء اجتماعيًا تاريخيًا.
يمكن القول إذن إن القرن التاسع عشر، قرن الثورة الصناعية، شهد تقدمًا لافتًا للمعرفة العلمية التي بدأ مجالها يتسع باطراد ليشمل معارف كانت إلى زمن قريب تدخل في مجال اهتمام الفلسفة ومن بينها المعرفة بالطفولة. فهل يعد هذا إذن إعلانًا لنهاية الانشغال الفلسفي بالطفل؟ هل ما تزال الفلسفة في عصر المعرفة العلمية الوضعية تمتلك مشروعية التفكير في الطفل؟
لقد كان للمقاربة العلمية للطفولة وللتربية من خلال نظريات النمو النفسي وعلم اجتماع التربية والطفل أثر كبير على تشكيل صورة الطفل لدى فلاسفة التربية. ولكن من جهة أخرى يبدو أن الاستحواذ المتزايد من طرف العلم على القضايا والاشكاليات ذات الصلة بالطفولة أدى إلى نوع من المفارقة في مستوى الاهتمام الفلسفي بالطفل. ففي مقابل غيابه النسبي عن النظريات الفلسفية الكبرى للقرن العشرين([27])، ظهرت فلسفة التربية كاختصاص أكاديمي مستجد ولكن في صلة وثيقة بالتوجهات والأنساق الفلسفية الكبرى.
لقد كانت الدعوة إلى علم خاص بالتربية، أي إلى تأسيس البيداغوجيا كعلم، دعوة صادرة عن الفلسفة نفسها عندما أثار كانط ما سماه «مشروع نظرية في التربية». إلا أن كانط كان مترددًا بين الحماس لتحويل التربية من مجرد فن إلى نظرية، أي إلى علم يتسم بالموضوعية والكونية، وبين نوع من الشعور بالإحباط باعتبار أن عصره، كما يعترف هو نفسه، غير قادر على تحقيق هذا التحول([28]). لكن يبدو أن هذه الدعوة قد وجدت سبيلًا للتحقق مع ازدهار العلوم ذات الصلة بالتربية وبالطفولة. والثمن الطبيعي لهذا الانزياح نحو العلم هو دون شك تضييق مجال تدخل الفلسفة. فسواء تعلق الأمر بقواعد الرعاية العائلية الأولية للرضيع والطفل، أو بالتعليم ما قبل المدرسي أو بوضع البرامج التعليمية وتحديد أهدافها والبيداغوجيات الملائمة لتبليغها أو بفهم الاستعدادات النفسية والذهنية للطفل وتطورها، فإن المعرفة العلمية هي المرجع. وهكذا تحول الشأن التربوي تدريجيًا من التعميمات الفلسفية الغامضة والتي لا تستند إلا إلى أنثربولوجيا غير علمية إلى شأن يحتكره العلماء وخبراء التربية والسياسيون. فالتربية ليست فنًا يضع الفلاسفة أسسه الأولى استنادًا إلى نوع من المعرفة النظرية التأملية وإنما هي ممارسة تخضع لقواعد وتنبني على مقاربات تجريبية واستقرائية وإحصائية. وهي فضلًا عن ذلك مدعوة إلى أن تستجيب لحاجيات المجتمع وللمخططات السياسية. هكذا يبدو كما لو أن بداية فهمنا للطفل تزامن مع استبعاد الفلسفة من مجال الاهتمام هذا أو ربما كان يقتضي هذا الاستبعاد. وقد يؤيد فرضية الاستبعاد هذه ندرة النصوص التي تحيل إلى الطفولة لدى كبار فلاسفة القرن العشرين.
إلا أن هذا الزعم القائل بلا مشروعية الاهتمام الفلسفي بالطفل يستند على ما يبدو إلى قراءة تقابلية بين النشاط العلمي والنشاط الفلسفي. فالاستحواذ العلمي على المعرفة بالطفولة يقدم من هذا المنظور التقابلي معرفة أكثر دقة وتطبيقات أكثر نجاعة في المجالات التربوية أو العلاجية المتعلقة بالطفولة. ولذا، فإن الفلسفة، ومن حيث أنها لا تقدم لنا شيئًا ذا نفع على هذا المستوى، ينبغي أن تتراجع. وهو زعم دونه اعتراضان كبيران:
- الأول أن العلوم المختلفة لا تقدم لنا في نهاية الأمر إلا معارف مجتزأة بالطفولة أو بسائر المفاهيم والمسائل المرتبطة بها. في المقابل، فإن تحديد أهداف التربية والنموذج الاجتماعي أو السياسي الذي ينبغي أن تخدمه يستدعي من بين شروط أخرى معرفة تأليفية بالطفل وبالمجتمع. ومختلف العلوم بما فيها تلك التي تهتم بمسألة الطفولة والتي تندرج ضمن العلوم الإنسانية هي مقاربات ممكنة وهي ليست بمنأى عن مراجعات نقدية سواء من منطلقات علمية – إبستمولوجية أو من منطلقات فلسفية تسائلها عن طبيعة فرضياتها وعن التبعات العملية لنتائجها. ولعل هذا ما جعل أوليفيي ربول يقر بمشروعية فلسفة في التربية لا تكون مجموعة من المعارف «وإنما مساءلة لكل ما نعرفه أو نعتقد أننا نعرفه حول التربية»([29]).
- الثاني أن أي مقاربة للطفولة أو للتربية لا يمكن أن تختزل إلى مجرد دراسات تقنية يطغى عليها الطابع المنهجي وهوس الموضوعية المزعومة، على أهمية هذه الدراسات. فالتربية كممارسة عملية تتخلل كل نشاطات الإنسان وتؤسسها سواء في الاقتصاد أو السياسة أو غيرهما. ولذلك فإنها لا يمكن أن تُؤخذ بمعزل عن قضايا القيم أو السلطة أو التنوع الثقافي والمواطنة إلخ. فإذا كانت المقاربات العلمية توفر لنا معرفة نحتاجها حول شخصية الطفل مثلًا، فإن مجرد البحث عن تعريف لمفاهيم من قبيل التربية أو التعلم أو الديمقراطية أو المواطنة أو العيش المشترك، إلخ. تضعنا في صميم المباحث الفلسفية.
تشكل هذان النقطتان اليوم مركز الاهتمام في فلسفة التربية التي باتت اختصاصًا فلسفيًا قائمًا بذاته ولكن على صلة وثيقة بمجالات اهتمام الفلسفة الأخرى. إلا أن مصدر المشروعية الأهم لفلسفة التربية وللفلسفة في تعمدها التفكير في الطفل هو الحاجة الملحة اليوم إلى رؤية نقدية تعمل على التغيير الاجتماعي من أجل عالم أقل ظلما.
إن التدبر الفلسفي للتربية لا يكتفي فقط بطرح مسائل تقنية وهو ليس مهتمًا فحسب بنجاعة أساليب التعلم. إنه مطالب بالانتباه إلى أنه فيما وراء أساليب التعلم هذه ثمة رهانات اقتصادية وسياسية ضخمة للتربية عمومًا وللطفل بحد ذاته. ولا يقتصر الأمر على التعامل المتزايد مع التربية على أنها ممارسة ربحية وذات مردودية اقتصادية، ولا حتى على استثمار البحوث في مجال العلوم النفسية وغيرها من أجل جعل آلة الدعاية والإشهار، التي تستهدف الأطفال على نطاق واسع، أكثر تأثيرًا. إن الأمر يتعلق أيضًا بخلق الفرد المنضبط كما بين ذلك فوكو؛ أي الفرد من حيث هو مختزل إلى جسد طيّع سياسيًا ومنتج اقتصاديًا. وهذه بالأساس مسؤولية المدرسة كما تفترضها المجتمعات الحديثة. بل إن الحديث يدور اليوم حول تحويل الطفل نفسه إلى منتَج استهلاكي. فلقد أتاح تقدم علم الأجنة قدرات أوسع للتحكم في طرق الإنجاب وتوقيتها وربما أيضًا حتى في بعض الخصائص الوراثية للجنين. وإذا كانت النسالة الحديثة في مستوى تطبيقاتها إلى حد الآن تستهدف فقط التصدي لبعض الأمراض (النسالة السالبة)، فإن لا شيء يمكن أن يؤكد أنها لن تأخذ مستقبلًا شكل ممارسة علمية تستجيب لخيارات الوالدين في ما يريدانه في ابنهما (النسالة الموجبة). لقد فتح التطور الحديث للنسالة الباب أمام الأمل بطفل «مثالي» ومن شأنه أن يغذي استعدادا يجد جذوره في الثقافة الاستهلاكية الحديثة، للتعامل مع الطفل كمنتَج يمكن تحسينه أو تعديله بحسب رغبة المالك المحتمل له، أي الوالدين. فلا عجب إذن إن فرض علينا علم النسالة اليوم، وكما لمّح إلى ذلك هابرماس([30])، إعادة النظر في مفاهيم الأبوة والبنوة وفي التواصل الطبيعي للأجيال.
خاتمة: أسئلة الحاضر والمستقبل
إن فلسفة التربية مدعوة اليوم للتفكير في كل هذا وللتفكير خاصة في واقع الطفولة ومستقبلها على ضوء التعارض المأساوي بين مدوّنة قانونية ما فتئت تتضخم حول حقوق الطفل ولاسيما حقه في الإعلام وفي التعليم وفي الرعاية واللهو وبين واقع لا يخفي قساوته على هذه الفئة الاجتماعية-العمرية: عدم التحاق بالمدرسة أو انقطاع مبكر عنها، عمالة الأطفال، استعمالهم أثناء النزاعات، تهجيرهم، استغلالهم جنسيًا، إلخ. ولعل هذا التعارض يخفي وراءه مأساة أخرى: التفاوت الموجود بين أطفال الشمال وأطفال الجنوب في المستوى المعيشي وفرص التعلم وفي القدرة على التمتع بمختلف الحقوق.
أي رهانات سلطوية وسياسية إذن يخفيها الاهتمام المتزايد معرفيًا واجتماعيًا بالطفولة؟ أي مستقبل للطفل في مجتمعات الاستهلاك؟ هل تسمح النسالة الموجبة الممكنة بالنظر إلى الطفل باعتباره «واحدًا بيننا»؟ تعكس هذه الأسئلة رهانات حاضرة ومستقبلية لفلسفة التربية، وهي لا فقط تؤكد مشروعة هذه الفلسفة والحاجة إليها ولكن أيضًا أن الطفل مازال، رغم تطور معرفتنا به، مسألة فلسفية.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
([1]) انظر: Mark Golden, « ‘Pais’, ‘Child’ and ‘Slave’ », L’antiquité classique, Tome 54, 1985. pp. 91-104. وخاصة الصفحات 92 و97.
([2]) جون جاك روسو، إيميل أو تربية الطفل من المهد إلى الرشد، ترجمة نظمي لوقا، الشركة العربية للطباعة والنشر، 1958، ص 18.
([3]) Bernard Charlot, «L’idée d’enfance dans la philosophie de Platon», Revue de métaphysique et de morale, 82ème année, n°2/1977 (pp.232-245), p. 234.
([4]) أرسطو، السياسة، نقله إلى العربية أحمد لطفي السيد، الدار القومية للطباعة والنشر، ص. 125.
([5]) انظر مثلا Laurent Bachler, «Trois conceptions philosophiques de l’enfance», Eres, n°79/2016 ((pp. 48-57).
([6]) أفلاطون، النواميس، الكتاب الثاني، ، ص. 53، ورد في المحاورات الكاملة، بيروت، الأهلية للنشر والتوزيع، 1994.
([7]) أرسطو، مرجع مذكور، ص. 124.
([8]) Laititia Monteils-Laeng, «La valeur de l’enfance chez Aristote», Archives de philosophie, 80/2017, (pp. 659-676), p. 662.
([9]) François—Xavier Ajavon, «L’inhumain et le surhumain dans la Grèce ancienne», Le philosophoire, 23/2004, (pp. 149-164), p. 157.
([10]) انظر: Avner Giladi, « Saghir », Encyclopedia of Islam, Vol. VIII, Leiden, Brill, 2006.
([11]) ومن أهمها: ابن الجزار، سياسة الصبيان وتدبيرهم، تحقيق محمد الحبيب الهيلة، تونس، بيت الحكمة، 2008.
([12]) ومن أهمها: مسكويه، تهذيب الأخلاق، تحقيق عماد هلالي،بيروت، منشورات الجمل، 2011.
([13]) نحيل هنا خاصة إلى مقدمة ابن خلدون، الباب السادس، بيروت، دار صادر، 2000.
([14]) محمد محجوب، «الطفولة مدخل الإنسانية فينا: قراءات في بعض السرديات الفلسفية»، مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث، https://bit.ly/3chdjYk
([15]) Carol Bargeron, «The Continuing Vitality of the Tradition: A Classical Muslim Paradigm of Children and Family», Intus Legere Historia, Vol.9, N°2, 2015 (pp.5-22), p. 8.
([16]) Marcèle Grandière, «Quelques observations sur l’enfant au XVIIIe siècle», Annales de Bretagne et des pays de l’Ouest, 87-1/1980, (pp. 51-63), p. 51.
([17]) John Locke, Some Thoughts Concerning Education, London, A.and J. Churchill at the Black Swan in Paternoster-row. 1693.
([18]) ايمانويل كانط، تأملات في التربية، ترجمة محمود بن جماعة، دار محمد علي الحامي، صفاقس، 2005، ص. 17.
([19]) روسو، المرجع المذكور، ص. 18.
([21]) كانط، المرجع المذكور، ص. 12.
([22]) فريدريش نيتشه، هكذا تكلم زرادشت، ترجمة علي مصباح، بغداد، منشورات الجمل، 2007، ص. 63-64.
([23]) Bachler, op.cit., p.54.
([24]) هذا التعامل المغرق في الحياد مع الطفولة هو ما كان سبينوزا أيضا قد ذهب إليه. انظر بهذا الخصوص Pascal Sévérac, «L’enfant est-il un adulte en plus petit ? Anthropologie et psychologie de l’enfance à partir de Spinoza», Astérion, 19/2018
([25]) Parsons, T., & Bales, R. F. Family, socialization and interaction process, New York, Free Press, 1955.
وللمزيد، يمكن الاطلاع على William A. Corsaro, The Sociology of Childhood, Los Angelos, Sage, 2015.
([26]) Régine Sirota, «L’enfance au regard des sciences sociales», AnthropoChildren, 2012, 1, Sirota: & http://popups.ulg.ac.be/AnthropoChildren/document.php?id=893
([27]) قد يكون مؤلف مرلوبنتي البيداغوجيا وسيكولوجيا الطفل، وهو مجموعة دروس ألقاها الكاتب في جامعة السربون بين سنتي 1949 و1952 من أهم ما كتب الفلاسفة في هذا المجال: Maurice Merleau-Ponty, Psychologie et Pédagogie de l’enfant, Paris, Vrdier, 2001.
([28]) كانط، المرجع المذكور، ص 15.
([29]) Olivier Reboul, Philosophie de l’éducation, Paris, PUF, 2016, p. 3.
([30]) يورغن هابرماس، مستقبل الطبيعة الإنسانية: نحو نسالة ليبرالية، ترجمة جورج كتورة، المكتبة الشرقية، 2006، ص. 28 وما يليها.