«ما بين الوجود والعدم: بيتٌ في الدنيا، وبيتٌ في الحنين» – حوار مع إبراهيم الكوني
حاورته: بلقيس الأنصاري

لتحميل الحوار [wp-svg-icons icon=”file-pdf” wrap=”i”]: حوار منصة معنى مع إبراهيم الكوني
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
الأستاذ القدير إبراهيم الكوني، يسعدنا ويشرّفنا استقبالك لإجراء هذا الحوار؛ بدايةً حدّثنا عن بداياتك مع الأدب، وكيف شكّل هذا السّمت الطارقي ثقافتك الواسعة ورحلتك الدائمة في البحث عن سِرّ الحقيقة المطلقة؟
من الطبيعي أن يحدث المسّ عندما يتحلّى المكان الطبيعي بخصال السر، كما هو الحال مع وجود قارّة اللا بداية واللا نهاية، المدعوّة في أدبيّاتنا صحراء كبرى، التي لن نخطيء إذا أبحنا لأنفسنا بأن نستنزل في حقّها لقبًا مهيبًا كـ«قارّة الحُريّة الكبرى». فالمكان، في صيغة مسقط رأس، دومًا لغز، سيّما في حال فاجأنا بهويّة العدم، كما اعتدنا أن نصف واقعًا بيئيًّا حميمًا كالصحاري، قبل أن نبحر في دوّامات الوعي، لنكتشف أخيرًا أنّ ما نسمّيه عدمًا ما هو في الحقيقة، سوى مستودع الغيوب الذي أبدع الوجود. ولأنّ الصحراء حُريّة اللا محدود، ولأن مفهوم العدم، الذي نلصقه بها، هو مبدع المحدود، المترجم في حرف الوجود، فمن الطبيعي أن يتلقّى سليل هذا الواقع الطبيعي، أو البيئيّ، تلك الصعقة الغيبيّة، المدعوّة في معاجمنا وحيًا، أو حتى لا نسمّي الأشياء بأسمائها، فنقول: نبوءةً! لأن الوحي، أو الشرر النبوي، هو ما يحوّل كينونتنا كلّها سؤالاً. وقيمة الجواب، كما تعلّمنا بالتجربة، دومًا رهينة فحوى السؤال، وإلّا لما آمنّا بحقيقة طرح الأسئلة، الأعظم شأنًا دومًا من تقديم الأجوبة. والعدم، الذي توحي به الصحراء، ونعتمده قرينًا لها في المعادلة، هو عرّاب الأسئلة. ببساطة السؤال، استطاعت الصحراء أن تشعل في نفسي، ككائنٍ هشّ، حديث العهد بالأحجية الوجودية، سُعار الوَجْد، طلبًا للأجوبة.
«يجب أن نُكبر الصحراء، أن نركع للصحراء، أن نصلّي للصحراء، لأن كل علامة في الصحراء هي صلاةٌ للأبديّة». من هذا السياق كيف درجت الصحراء كرمز للوجود الإنساني في أعمالك، وما المرجعية التي تستند إليها حين لا تكرّرك في كل نصٍّ تكتبه، بل تكتب بعشقٍ جديد؟
كيف لا تكون الصحراء صلاةً في محراب الأبدية إذا كنّا قد برهنّا في موسوعتنا «بيان في لغة اللاهوت» أنها وطن التكوين؟ هل يُعقل أن نكتفي بعمل، أو بأعمال أدبيّة، في استنطاق واقع، عندما يكون هذا الواقع مجلّلاً بمنزلة قدسيّة كمسقط رأس التكوين؟ أليس إفلاسًا منّا أن نعجز عن استجواب واقعٍ يترجم في حرفة لا مجرّد تجربة عالمنا الدنيوي، ولكنه يختزل أبجديّات النشاط البشري في بُعد الكينونة التاريخي؟ فصحرائي لم تكن يومًا صحراء الجغرافيا، ولكنها الصحراء كاستعارة لما نسمّيه وجودًا. وثراء الصحراء ما هو إلّا ثراء وجودنا على هذه اليابسة. ففي الصحراء لا وجود لشيء، ولكن في الصحراء يوجد كل شيء. بل يوجد ما لا وجود له في عالم العمران الذي نتباهى بالانتماء إليه، ونسوّقه في أدبيّاتنا كقدس أقداسٍ عندما نجود عليه بمصطلح خاطىء هو: الحضري، في مقابل العالم البرّي، أيّ الصحراويّ، فتخذلنا اللغة نفسها، في هذه المفاضلة، لأن كلمة «برّي» هي حرفيًا كلمة «بريء»، ذات الحمولة الأخلاقيّة، تمييزًا لها عن كل مبدأ آثم، وتبرئةً لذمّتها من دنس المدن! وهو ما سيعني أنّ الصحراء أغنى بما لا يقاس، إذا قورنت بشحّ عالم العمران، سيّما إذا حكّمنا في المقارنة القيم الروحيّة الخالدة، لا الماديّة الفانية. وعلَّ أعظم دليل على ذلك هو حقيقة الحقيقة، المتمثّلة في النبوّة، التي كانت منذ الأزل وَقفًا على الصحراء، وحكرًا على براءة الواقع البرّي. فما هي القيمة التي يمكن أن تستهوي الروائي، أو الفيلسوف، فيحتكم في شأنها للعمران دون الصحراء؟ فالموضوعات الروائية أو الفلسفية رهينة الأسئلة الوجودية الكبرى، لتنتصب الصحراء بكبرياء حصنًا سخيًّا، وخزنةً ثريّةً، في احتضان الرؤى المنتجة لأجناس الإبداع، بسبب طينة العراء، حيث التقاط اللُّقَى متاحًا على نحوٍ لا يقارن بواقعٍ آخر يحترف الاحتجاب يقينًا، كما هو واقع العمران.
«الرواية بوصفها فنًّا مدينيًّا لا ينتمي إلى الريف أو الصحراء، وفي الوقت نفسه يطلبون منّا أن نكتب عمّا نعرفه، وأنا لا أعرف سوى الصحراء». إلى أيّ مدى أثّرت تجربتك الروسية هذه في معهد غوركي على توغّلك في أدب الصحراء لاحقًا، حيث كتبت روايات ملحمية صحراوية؟
حدث ذلك بسبب تعويذة عظمى، لعبت دور البطولة في تربية النفس البشرية، فحقّقت الأعاجيب ألَا وهي: التحدّي. لقد ركبتُ الخطر، ولم أتردّد في التضحية بالوطن، يوم سلّمت زمام أمري لما كان جنونًا في زمن الحرب الباردة، بالسفر إلى عالم مخيف ومجهول، يقع في نهايات العالم، مشفوعًا باسمٍ أسطوري هو «ما وراء السِّتار الحديدي»، لا فرارًا من واقع الوطن، ولكن طلبًا لكلمة السِّر التي ستنقذ الوطن، وهي: الحكمة! وهو ما لن يفهمه جيل اليوم، الذي فتحت له جنيّة تقنية المعلومة كل أبواب المعرفة دون أن يضطرّ لخوض تجربة وجيعة كالاغتراب. ففي نهايات الستينيات من القرن السالف كانت الترجمة في عالمنا العربي تلفظ أنفاس النزع الأخير. وكان اكتساب لغة أجنبية مسألة حياة أو موت ثقافيًّا، لأن تعلّم الأدب صار رهين تعلّم لغة تستطيع أن تعبر بنا تخومنا، لتُنزلنا رحاب العالم، حيث تهيمن البطون المسكونة بالحقيقة (الكتب)، ومن الطبيعي أن يهدهد كل مريد حقيقة حلم الفوز بنصيبٍ من هذه الكنوز. ولمّا كانت الأحلام تتحقق بطبيعتها السحرية إذا أحسنّا ترويضها، فقد طرق باب مكتبي بالجريدة، في أحد أيام عام 1969، رسول القدر، متمثّلاً في الملحق الثقافي السوفييتي بالسفارة، ليعرض عليّ منحة علميّة لدراسة الآداب بإحدى الجامعات السوفييتية آنذاك، فقرأت في الرسالة لا منحة دراسية، ولكن منحة قدريّة، أيّ ذلك النوع من الفرص، التي تتنزّل علينا بمشيئة إلهيّة، فإن لم نخاطر بقبولها، فلن تتكرّر مرّتين، برغم استنكار الأخلّاء آنذاك خوض المغامرة فزعًا من المثول في حضرة بعبع الزمان: الاتحاد السوفييتي. ولكن الالتحاق بكليّة الآداب بجامعة الصداقة بين الشعوب لم يكن ليشفي غليل الحالم بالالتحاق بفردوسٍ آخر ذاع صيته تلك الأزمان هو معهد غوركي للآداب. وهو ما لم يحدث إلّا بعد أمدٍ استغرق سنتين، وبعد كفاحٍ شرس مع الروتين الإداري، لأفاجأ على مقاعد الدراسة بالنظرية السائدة في منطق أوروبا بعدم وجود أدب روائي خارج العالم العمراني، المعتمدة لا كمجرد نظرية، ولكن كمسلَّمَة أيضًا، مما أوهمني بأن أودّع حلمي الأبدي بإنتاج أيّ عمل روائي فيما لو صدقتُ مزاعم جورج لوكاتش، لو لم تتدخّل نزعة مجيدة هي وجوب التشكيك في المسلّمات التي اعتنقتها كتميمة في تجربتي الدنيوية مبكّرًا، لأهتدي بفضلها إلى حقيقة لم تخذلني، وهي عدم الرهان على الأحكام المسبقة، التي تتعاطاها النظريات، واعتماد الواقع العملي في اللعبة حكَمًا. فبعد شكوك افترستني أعوامًا استطعت التوصّل إلى زيف كل عطايا المجّان، لأن رأس المال في تجربة الوجود ليس النظريات، ولكن لغزٌ هو الإنسان! والرواية، بحكم هذا القانون، لن تكون حكرًا على هويّة المكان، الذي يستوطنه هذا الإنسان، ولكن الرهان الحقيقي على مبدأ الطبيعة، التي تشكّل طينة هذا الإنسان، أيّ على إنسانيّة الإنسان. وحيثما حلّ هذا اللغز، المسكون بأحجيته الخالدة، المدعوّة في منطقنا «إنسانًا»، فهو المستودع المتكتّم على السرّ، على الشفرة، على الطلسم، الجدير وحده بالمساءلة، والقادر على تحمّل الوزر الجسيم الذي آلت الرواية على نفسها أن تستطلعه في مجاهل هذا المجهول، في حال تأمّلنا مسيرة هذا الكادر في بُعدها التاريخي عندما كانت القبيلة الإنسانية كلها ماهيّة مهاجرة، والانقسام التراجيدي إلى إنسان راحل وآخر مستقرّ، حدث في مرحلة تزامنت مع انقسام العمل، الذي ركن فيه فريقٌ إلى المكان لاستزراع الأرض، في حين واصل الفريق الآخر استمرار مزاولة الصيد أو الرعي. هذا الاكتشاف قلب في تجربتي مفهوم الرواية رأسًا على عقب، ممّا مكّنني من إنجاز، لا عمل روائي وحسب، ولكن إنجاز الأعمال الملحميّة التي تتعدّد فيها الأجزاء الروائية، كما هو الحال مع تناول واقع تتعاقب فيه الأجيال مثالاً.
بالرغم من شحّ المسرح الصحراوي إلاّ أنك استطعت صياغة عوالم فلسفية غنية بالدلالات والمعاني، وجعلت منها وحدة عضوية وموضوعية، إلاّ فيما يخصّ المعالجة الفنية، كيف ترى هذه الثنائية العجيبة التي جمعتك بالصحراء؟
لا تتبدّى الصحراء واقعًا شحيحًا إلّا في عدسة السائح، الذي يترصّد فيها حال المكان كظاهرة، طلبًا لغنيمة حسٍّ. هذا في حين طرحت الصحراء طبيعتها الحرفية قربانًا، لكي تشتري، بهذه التضحية الموجعة، القيمة الروحيّة، لتكون لها سجيّة خفيّة، لن تعدم أن تستعير بُعدًا غيبيًّا، صار في تجربتها برهانًا حاججت به أوطان الأمم؛ لأن الرهان دومًا كان على ذخيرة الروح التي تُحيي، لا على ثروة الحرف، الذي يميت، بدليل أنّ الأخيرة فانية، أمّا الأولى فخالدة. فالصحراء هي كاهنة الطبيعة، مثلها مثل ديوتيما سليلة مانتينايا التي آلت على نفسها أن تراهن على وصيّة القدّيس في شأن بطلان كل ما يُرى، مقابل أصالة كل ما لا يُرى.
ويكفي هذه النزعة فخرًا أنها جادت علينا بالحُريّة، لتكون في نهجها فدية الحقيقة، وهو ما لم يكن ليحدث لو لم تراهن الصحراء على الروح في تجربتها الوجودية. تلك الروح التي تغنّى بها هيراقليطس في وصيّته القائلة: «الروح الإلهيّة؛ تكمن في البدن اليابس». بإفناء البدن حقّقت الصحراء اليبوسة، التي كانت مقياسًا للسموّ عن دنسٍ، كان دومًا رهين الامتلاء الأرضيّ، والزهد الصحراوي التقليدي في اغتنام المسوح الدنيوية هو ما نزّهها، لتستحق لقب «ملاك الطبيعة».
هذه القداسة هي ما يستهوي كل مريد حقيقة، ويفرض على الروائي أن يعتنق في شأنها ذلك الدين الذي لا يعوّل على واقع المكان، الذي نسكنه، ولكن على واقع المكان الذي يسكننا. هذا التحدّي هو حُجّة المبدع، لأنه يستدعي خوض مغامرة دموية هي تغيير ما بالنفس، لكي تفلح في اختراق الحُجُب، لترتاد أبعاد البعد المفقود، لتعود من هذا الفردوس بالغنيمة، التي لم ترها عين، ولم تسمع بها أذن، ولم تخطر ببالِ بشر. فالصحراء لا تجود بهبات مستعارة من خارج بيئتها، ولكنها تبشّر بما يسكن مريديها. والرواية، كشهادة في حقّ طينتها، ليست في الوقائع التي نختلقها، ولكن في الامتلاء الوجودي الذي يسكننا، عندما يستنطق العمق الغيبي الذي يسكن طبيعتها. ومعاملة الصحراء كفراغ كان جورًا منّا في حقّها. فعالمنا الموبوء بسُعار النفع آثمٌ، فلا يتردّد في استغلال كنوزها المادية، من نفط وغاز ومعادن نفيسة وحتى المياه، فيستنزفها استنزافًا، وبدل أن يبادلها امتنانًا جزاء هذا الصنيع المجيد، يناصبها العداء، عندما يحوّلها مكبًّا للنفايات السامّة، ويُجري تفجير القنابل النووية في حرمها، غير مبالٍ بحضور الإنسان والحيوان والنبوت في رحابها، كأنّه يتعمّد تسفيه حقيقة نبيلة في وجودنا، هي «وحدة الكائنات»، التي حرّضت عليها الديانات الطبيعية، قبل أن تحرّض عليها ديانات الوحي.
وأستطيع أن أتخيّل كيف سيُصاب إنسان الحداثة هذا بالدهشة فيما أوتي علمًا في شأن الوديعة التي يتكتّم عليها إنسان هذه القارّة الشقيّة في الذاكرة التي تترجم سِرّ التكوين، لأنها هي مسقط رأس التكوين كما برهنّا في الأجزاء السبعة الصادرة منذ ربع قرن من موسوعتنا «بيان في لغة اللاهوت».
ما الثيمة الصحراوية الغيبية التي انفردت بها دون بعض الكُتّاب العرب، عبدالرحمن منيف مثلاً. هل هذا الانزياح المغاير للخطاب السردي العربي كان السبب في احتفاء النقاد الغرب بكتاباتك، وكيف بنيتَ هذه العوالم الإبداعية على التخوم الفاصلة بين الواقعي والمتخيّل وبين الوعي واللاوعي؟
ليس شخصي هو الذي يكتب عن الصحراء، ولكن هذه الداهية هي التي تكتبني، ربما لأن ليس شخصي هو الذي يسكنها، ولكنها هي التي تسكن شخصي، ولهذا هي التي تقوّلني، وليس شخصي هو الذي يُقوّلها. وأحسب أن هذه المفارقة هي السِّر الذي ميّز خطابي في حقّ صحرائي عن خطاباتٍ أخرى كالعربي أو الأمريكي اللاتيني أو العالمي إجمالاً؛ لأن الأخير عامل الصحراء كوصيّ على القارة، واقترف في حقّها خطايا كثيرة أخرى عندما استجوبها باستعلاء، بوصفه المقياس لكل الأشياء، وهي في المقابل ليست بصاحب الشأن، لأن دورها، في منطق الوصيّ، أن تخضع لمشيئته، لأنها مجرد فراغ، وليست كائنًا حيًّا، وعليها أن تمتثّل، وهو الذي لم ينتظر منّةً من الطبيعة يومًا، وآلى على نفسه أن ينتزع منها غصبًا ما لم تهبه طوعًا.
هذا الموقف تبنّته عقلية إنسان الإبداع أيضًا في حقّ شقيّة الأجيال هذه، وأحسب أن لعنتها هي التي حاقت بالفريق، الذي توهّم دومًا أنه يشرّف الصحراء، عندما يتنازل عن استكباره ليكتب عن الصحراء، ولكن عنصر الزيف يفضحهم، لأنهم يستنسخون تجارب لم يعيشوها، ويتغنّون بحسناء لم يحبّوها!
كيف استلهمتَ الموروث دون أن تستنسخ الواقعية السحرية لأدب أمريكا اللاتينية في ابتكاركَ لتقنياتٍ سردية تحقّق هويتها عن طريق السرد الأسطوري والانغراس في عمق الموروث؟
استلهام الموروث، سيّما عندما يكون أسطوريًّا، رهين تجربة بعث. فلا يكفي أن أحبّ أمّي الكبرى المتمثّلة في صحرائي الكبرى حبًّا جمًّا، ولكن الواجب يقضي أن أحقّق التماهي بها، كي أحقِّق ثقتها بي إلى الحدّ الذي يجعلها تزكّيني، كي أكون ناطقًا باسمها في محافل الأمم. وهو تماهٍ لم يكن ليتحقق لولا تجربة اغتراب أشرفتُ فيها على مِيتةٍ حقيقية، ولكنها هي من شاء لي أن أنجو بشرط أن أعي رسالتها، التي لقّنتني إيّاها في تلك الليلة الشتوية القارصة، في أعالي السلسلة الأسطورية في الحمادة الغربية، عندما ضعتُ في فيافيها، في عمر الخمسة أعوام، أثناء قيامي برعي مخلوقات أنعامٍ شقيّة، هي في الواقع جداء، ولكنها بالطينة مخلوقاتٍ من مِلّة الجان، التي استدرجتني إلى التيه لأقضي يومين وليلة ضائعًا في عالم اللا محدود، الذي لم أطمع في أن أعود منه إلى المضارب سالمًا.
في تلك الليلة هجعتُ متوسّدًا فراشًا ملفّقًا من حجارة حزيز، ظلّت تسلخ أطرافي كالسكاكين، وصقيع الشتاء الذي تهبط فيه درجات الحرارة إلى ما تحت الصفر جمّد جسدي، مهدّدًا بهجوم الذئاب، وأنياب الأفاعي، في سماء عارية، مرصّعة بحشود نجومٍ ساطعة، حوّلت بصفائها ليلي نهارًا، فأيقنتُ أن الصحراء ابتلعتني. أعادت إلى بطنها وليدًا ضاع منها يومًا عندما استعارته منها أُمّ الجسد، ولكنها شاءت أن تستردّه في تلك الليلة لتكون له أُمّ الروح! وأمومة الروح، في منطقها هي، هو ما يعوَّل عليه. ولم أجد ما أعبّر به عن تلك التجربة سوى أن أقول بأنّ الصحراء سكنتني، بعد أن كنت أسكنها.
وعندما طلع الفجر أيقنت بأن ذاك اليوم كان يوم ميلادي الحقيقي، لأن سكينةً عميقة بدّدت في نفسي الخوف من شبح الموت، الذي تلبّسني مذ يئست من النجاة. في الصباح تطلّعتُ حولي، كانت الصحراء تتمدّد، وتتواصل في اتجاهات الدنيا الأربعة، حتى يبتلع امتدادها الأفق. ليس الأفق، ولكنه تماهي الأفق بالسماء، وهو ما يبتلع لا نهاية المدى. فأينما توجّهتُ في المتاهة فهناك تنتظرني المنيّة عطشًا. ولكن الأمان الغيبيّ، الذي تنزّل في روح إنسان البارحة لم يبرحني. يقينٌ خفيّ وسوس في سمعي قائلاً أنَّني أنا الصحراء، والصحراء هي أنا، وليس لي أن أخشى الصحراء بعد الآن، لأن ذلك سيعني أنَّي سأخشى نفسي. تفقدتُ المكان، فلم أعثر على أيّ أثرٍ يمكن أن يقودني إلى أي مكان، ولكني لم أملك إلّا أن أنطلق. انطلقت دون أن أختار اتجاهًا، لأن الاتجاهات تفقد معناها عندما نفقد معنى الغرب، أو الشرق أو الجنوب أو الشمال؛ لأنها تستوي في هذه الحال، وبرغم ذلك تشجّعتُ وخطوت. قطعت مسافة قصيرة قبل أن أعثر على أثر ذلك المخلوق العظيم، الذي لم يكن ليصير في حياتي هاجسًا لو لم يلعب دور البطولة في إنقاذي من الضياع. ولم أخلّد مآثره في أعمالي الروائية من باب الامتنان وحسب، ولكن تعبيرًا عن حكمته التي يعلمها كل من عاش في الصحراء. إنّه: الجمل!
عثرتُ على أثرٍ لخفّ الجمل فتعلّقت به. تتبّعتُ أثر الخفّ على أرضٍ ظلّت تتلوّن، وتتشكّل، وتتنوّع، طوال المسافة، فيختفي الخفّ حينًا ليظهر حينًا آخر، لأتشبّث به في كل مرّة. استمرّت المطاردة الفروسيّة منذ الصباح، بلا ماء، بلا طعام، بلا أملٍ في نجاة، عبر تضاريس بريّة عصيّة، صارعتُ فيها التعب، والظمأ، والجوع، وغياب الأمل، حتى حلّ غيهب الغروب. في تلك اللحظة فقط أسفر الكفاح المستميت عن بصيص أمل: في البُعد، تفتّق الأفق عن أضواء. كانت تلك أضواء الواحة. لا أنسى حُجّة الأب، الذي أقبل بعد أيام على الواحة ليعيدني إلى أمّي الصغرى، ولا يدري أن لي، منذ ذلك اليوم، أُمًّا أخرى كبرى، لينبّهني إلى وجوب أن أسلك أثر الخفّ عكسًا، لأنه عندها كان سيقودني إلى صحراء النجوع. ولكن أين للأب أن يدري أنّي لم أعد ابن المنطق منذ ذلك اليوم، بل ابن الطبيعة، ابن الصحراء التي ألهمتني بأن الغريزة أقوى حجّةً من العقل، لأن الجمل هو رسول هذه الطبيعة، الذي أينما يتّجه فثمّة يوجد الماء! توجد الحياة! والسليل الذي ظنّ أنه ينتمي إلى ملّة العقل، إنّما انتمى إلى طينة الطبيعة، طينة الصحراء التي عبَرَته لتوثّق معه عهدًا في تلك الليلة، وليس هو مَن عَبَرها. فكيف يستوي الذين يستهويهم، أن يعبّروا عن الصحراء، والذين عَبَرَتهم الصحراء، فحقّ لهم أن يحسنوا التعبير عن الصحراء؟
هذا من جانب، أمّا الأصالة في المعالجة فهبةٌ من إنتاج الصحراء كواقع أسطوري، مدجّج بخصال تنزّهها عن واقع السرد الكلاسيكي، التي اعتمدناها في حياتنا الأدبيّة كقياس، ناسين أن الصحراء، كمسقط رأس التكوين، هي صاحبة فضل على عالمنا في كل ما متّ بصلة للوجود. والموروث لن يكون استثناءً، لأنه حصيلة الذاكرة. وإذا عاملناه كثروة منسيّة، لن يعني غياب سلطته الميثولوجية لمجرّد أننا نجهلها، أو بالأصحّ، نتعمّد أن نتجاهلها. نتجاهلها لأننا نستهين بحقيقتها. ولكن الإخلاص في فحصها، والتفاني في استجوابها، أسفر، وسيسفر عن اكتشافٍ قيمٍ نفيسة تفوق في قيمتها اكتشاف قارّةٍ مجهولة كأميركا؛ ذلك أن الصحراء الكبرى تحديدًا ثقافة خرافيّة مذهلة، عاشت في لغة أهل المكان منذ الأزل، وسكنت كتاب القوم المقدس «آنهي»، الموصوف بالضائع صحيفةً، ولكنه الحاضر في واقع الأمّة حقيقةً، والحاضن لمبدأ الأسبقية في اسمه، الدال على معنى «المبكّر»، لأنه قبس الفجر في تجربة وعي الإنسان بحقيقته كإنسان، لم يكن ليتبوّأ منزلة الإنسان، لولا الشغف بالإيمان.
وأحسب أنّ ما فعلتُه في حقّ هذا الإرث الدّفين ليس سوى مفتتح، لأن استكشافه حملة من واجب مؤسسات أمميّة كاليونسكو المقتولة بحرف الروتين، والترف الدبلوماسي، الذي جعل منها مجرد صنم يُحجّ إليه لاستخراج شهادات براءة في حقّ خرائب هنا، وأخرى هناك، لإدراجها في القائمة كـ«تراث إنساني»!
ما حزمة الاغترابات التي لعبت دورًا مركزيًا في تكوينك الروحي حتى غدت هويتك هي العالم نفسه، هل هي الاغترابات التي تخصّ الهوية أم الاغترابات الوجودية؟
بالإحساس الغيبيّ، في الانتماء إلى هويّة ميثولوجيّة، يغدو الاغتراب قدرًا بلا ترياق، ليستوي، مع الزمن، في بُنية مركّبة من حصيلة اغترابات، سيّما عندما نكتشف أن الإبداع لم يكن يومًا سوى فاكهة اغتراب. فالهجرة الإجبارية عن وطنٍ رأس المال فيه جنس هجرة، كما هي الصحراء، شكّل عتبة أولى في سلّم هذا المنفى العصيّ. فنستطيع أن ننعته بالاغتراب الحرفيّ، لأنه انسلاخٌ عن حضن أُمّ هي مسقط الرأس. وهي منزلة لا تلبث أن تنقلب هاجسًا لجوجًا، يستقيم في غصّة شجن، توقظ وسواسًا عدميًّا فجيعًا بالاغتراب عن وطن الروح، الملقّب في منطق المتون المقدّسة بالفردوس الضائع، ليستعير الإحساس بالفقد بُعْد اللعنة، فيهون في جحيمه الاغتراب عن الانتماء العرقي، أو الثقافي، أو الوطني أو ما شابه من اغترابات، ليتحوّل اغترابًا وجوديًا. ولمّا كان الإغواء سجيّة في أيّ اغتراب، فقد طاردتُ اغترابي عبر اليابسة، بدل أن يطاردني هو عبر المسكونة، لأتنقّل من صحرائي إلى عالم الواحات، ثم حاضرة الواحات جنوب ليبيا، ثم عبور حاضرة الوطن الهاجعة على سواحل بحر ليبيا، المجبول بالأساطير والأحلام ونزاع الأمم، الذي أوجد تناسل الثقافات، للحلول في عالم ما وراء العالم، في أرض الديلم، الملقّبة آنذاك باسم الستار الحديدي، لأهجره إلى بلاد الصقالبة (بولندا)، لأعود ثانيةً إلى ديار الإمبراطورية الآيلة للسقوط، لأكون شاهد عيان على هذا السقوط، لأهاجر من جديد إلى رحاب جبال الألب لعقدين كاملين من الزمن، فلا أقنع هنا أيضًا بالمقام، لأحمل متاعي إلى رحاب شبه الجزيرة الإيبيرية، ظنًّا منّي أنّي أبحث عن الدفء المفقود، أو أسعى في فراري الخرافي لاستكمال الدائرة في المنزلة الفلكيّة، التي نصّبتها الديانات السنسكريتية نموذجًا لرحلتنا الوجودية، لأكتشف، عند حلولي في ربوع «تاراكّو»، حاضرة إسبانيا ما قبل التاريخ، بأن طوافي كان استجابةً غريزيّة لنداء الدمّ، لأن هذه المدينة التاريخية، التي اخترتها للاستقرار، هي نفسها المكان الذي احتضن سلفي الأسطوري «مسّينسّا» ملك نوميديا الصحراوية، منذ ألفي وثلاثمائة عام، قبل أن يكشف علم الجينات عن انتماء الملّة الإيبيريّة إلى طينة شمال إفريقيا، هاجرت منذ ألوف الأعوام لتستوطن جنوب القارّة الأوروبيّة. وما توق أترابي سوى حنين الأصل للحجّ إلى حرم الفرع، لاستعادة الابن الذي ظلّ. والكثيرون سيُدهَشون عندما يكتشفون أن كلمة «إيبيريا»، هي نفسها كلمة «إيفيريا»، (كإبدال مباح بين الباء والفاء في اللغات الهندو أوروبيّة)، التي تعني في الليبية القديمة (التي مازالت تجري في لسان أمّة الملثّمين): الصحراء! واسم إفريقيا مستعارٌ من «إيفيريا» هذه، التي تُنطق أحيانًا «آفرا»، لأن العلامة الفارقة في واقع هذه القارة الجغرافي هو وجود أعظم صحاري العالم مساحةً وجمالاً وكمالاً، كما يصفها عاشق الصحاري العلّامة الفرنسي «مانو»؛ ولن تكون إيبيريا استثناءً بوصفها الامتداد الجغرافي الطبيعي لهذه الظاهرة، حتمّة مزاج المناخ، لتتباهى بلقب «صحراء أوروبا». ولكن يبقى اليقين بحقيقة الاغتراب في بُعد «الهمّ الكينوني»، القرين بالحضور في حضرة أُناسٍ لا ينتمون إلى طينتنا الروحيّة. ذاك ليس اغترابًا وحسب، ولكنه داءٌ بلا ترياق.
«الصحراء وطن من أوطان الله». ما سبب هذه الشِّعرية في أدب الصحراء، هل لكونها متعلّقة بمسائل وجودية وميتافيزيقيّة، البدايات والنهايات، الموت والحياة، هذا الإغراق في التجريد، والانفتاح على قضايا جعلت من الصحراء فضاءً استعاريًّا كامنًا في الروح والفكر والوجدان، والتساؤل الوجوديّ الدائم؟
الصحراء ليست وطن من أوطان الله؛ ولكنها وطن الله. وهي وطن الله لأنها وطن الحُريّة. ولو لم يكن الأمر كذلك لما كانت فردوس الأنبياء الذين أنقذوا الجنس البشري بتعويذة الوحي، الذي لم يكن فاكهة الخلاص لو لم يكن صنيع الحُريّة. ومن الطبيعي أن تنتج هذه الحُريّة روح الشِّعريّة، لأن الحُريّة فردوس، ولكنه كأيّ فردوسٍ، ملفّقٌ من عدم. لأنه عندما يريد أن يحيي عظامًا، كانت رميمًا، فليس له إلّا أن يمارس في حقّ المريد قصاصًا بسيوف عدم، لتحقيق البعث.
فالصحراء تحرّر، لأنها تحرّرت يوم تنكّرت لطبيعتها كطبيعة، لتتحوّل روحًا؛ كل ما هنالك أنها مجسّدة. فالعالم إذا كان حرفًا يُميت، فإن الصحراء هي روحه التي تُحيي. ورسالتها أن تنبّهنا إلى الكنوز التي تسكننا، بدل كنوز الباطل التي تستدرجنا، ولن نستيقظ من غيبوبتنا، ما لم نحسن مساءلة أنفسنا. لهذا السبب كان أهل الصحراء بالفطرة شعراء، لأن شفافيّتهم مستعارة من شفافية الواقع البيئيّ، الذي يتغلغل فيهم، ليستوطنهم من حيث ظنّوا أنهم هم مَن يستوطنه. وأن يكونوا شعراء سيعني أنهم وجدانيّون، وأن يكونوا وجدانيّين، فهذا سيعني أنهم وَجوديّون، وأن يكونوا وجوديّين فسوف يعني أنهم الأطياف التي تنكّرت لقيمنا، بل ولطينتنا، وفضّلت القطيعة مع كل ما متّ بصلة لعالمنا.
«يقينًا أنّ الضياع هو شفرةٌ وجودية ميتافيزيقية، ذات أبعاد غيبية وفلسفية في آثارها النهائية». هل هذه إشارة إلى مفارقة المكان ودوره في تكوين الإنسان، تكوين المبدع كإنسان، هل المكان هو المهم أم البُعد المفقود في المكان؟ وهل ما يستهوينا في هذا الوجود هو الوطن أم الميثولوجيا التي تسكن الوطن؟
الأكثر صوابًا هو استعمال مصطلح «هجرة»، بدل مصطلح «ضياع»، لأن الإنسان الضائع مبلبل وجدانًا، ومشوّش رؤيويًّا، أمّا المهاجر فمُريد يَعي ما يُطارد، ويسعى وراء مبدأ يريد أن يستعيده، وهو ما ينزّهه عن التيه؛ فكلّنا، بهذا المنطق، مهاجرون مجازيًّا أيضًا، وليس حرفيًّا فقط. أيّ أننا كلّنا في الواقع فلاسفة، شئنا أم أبينا، ممّا يعطينا الحقّ في تحديد موقفنا من جلّادٍ اسمه المكان. وقيمتنا تكمن في مدى استعدادنا لأن نحمل متاعنا لنتمرّد على سلطان هذا الطاغية، الذي يوقعنا في أشراك الأسر بالمجّان، ودون نطق بحيثيّات لتبرير حكم الاعتقال. ولم تكن الوصيّة الطاويّة لتحذّر من عاقبة السماح للناس بأن يهجروا أوطانهم، لولا يقين دهاة هذه الديانة بحقيقة الهجرة، التي كانت منذ الأزل حكرًا على الصفوة، بقدر خطورتها على العامّة. ذلك أن هذا المهاجر، الذي يجرؤ على تعليق الجرس في رقبة القطّة، ليسفّه سلطان حبل السُّرّة، الذي يشدّنا إلى الأمكنة، حتى لو استنزفنا فيها بُعدًا غيبيًّا عندما ننعتها باسم الأوطان، هو في الواقع البطل، الذي لا يخرج ليحقق لنفسه غنيمةً دنيوية، يدري مسبقًا كم هي باطل أباطيل، ولكنه يركب الخطر ليجلب، بمغامرته الفروسية، الخلاص للأمّة. والدليل أنّ أولئك الذين يخاطرون بالخروج عن الأوطان؛ هم الذين ينقذون الأوطان.
وهو ما عبّرت عنه حكمة أمّة الملثّمين، المستعارة من كتابهم المقدّس «آنهي»، التي توصي بوجوب الحرص على البقاء في الأوطان بالأقدام فقط، أمّا الرؤوس فيجب أن تظلّ خارج تخوم الأوطان، كنايةً عن احتراف حُريّة الفرار دومًا، لأن الاستسلام للاستقرار مرض. والعُرف يقضي بأن نستثمر، في معالجاتنا، ثروة المكان، ذاكرة المكان، ميثولوجيا المكان، دون أن ننسى أن الرهان سيبقى على الذخيرة التي تسكننا في علاقتنا بالمكان، لأن الطبيعة، سواءً البيئية أو الروحية، تلعب في واقعه دور الحُجّة في صنع الرؤية، التي تترجم كلمة المكان. فللمكان فضلٌ في تشكيلنا كلغز وجود، ولكن المكان ينتظر منّا مكوثًا نزفناه بأرواحنا، في حمّى الجود بالعطاء تعبيرًا عن امتناننا في حقّ المكان.
«لاحظت مبكّرًا، غياب الرؤية الفلسفية في أدبنا العربي المعاصر، واكتشفت لاحقًا أنّ السبب هو غياب الروح الميثولوجية». كيف ترى غياب استنطاق البُعد الميثولوجي في الوجود أو في المكان، قائمًا في الثقافة العربية الحديثة بالرغم من أنّ التراث العربي قائم على الثروة الميثولوجية؟ حدثنا.
تغيب الرؤية الفلسفيّة في أدبنا العربي المعاصر بسبب طغيان الرؤية الأيديولوجية، ووجودنا كلّه مختزل في الموقف من السُّلطة، لا في بُعدها الوجوديّ، ولكن في بُعدها السياسيّ؛ ومن الطبيعي في واقعٍ كهذا، أن تتوارى الميثولوجيا من الساحة استنكارًا.
وكان على مواطننا الشقيّ أن ينتظر أجيالاً، كي يدرك أن شقوته إنّما رهينة الهوس بهذا الأفيون المزيّف، المدعو في لغتنا سياسةً، وغياب السعادة في واقعنا، كان رهين عداوتنا لكل ما متّ بصلة لجناب الـ«ميثوس». تخلّصنا من بعبع اسمه الاستعمار على أرض الواقع، ولكننا أخفقنا في تحرير أنفسنا من شبح هذا البعبع في أفئدتنا. وقد أهملنا استنطاق ذاكرتنا المنسيّة، التي كانت في تجربتنا بمثابة رأس المال، بعد أن طرحناها قربانًا على مذبح «حركة التحرّر الوطني» الأبدي، وما زلنا، لتتحوّل هذه الحركة في حياتنا وسواسًا، بل عقدةً، لم نفلح في الاستشفاء من مفعولها إلى اليوم، ليبقى التفرّغ لمعالجة تراثنا الأسطوري حلمًا رهين أجلٍ غير مسمّى، لأنَّنا قرّرنا أن نكتفي بالاحتكام إلى ثروتنا الميثولوجية في وصايا دنيانا، ولكننا نأبى استثمار فحوى ذاكرتنا المنسيّة في واقعنا. لماذا؟ لأنَّنا مشدودون لما تمليه جنيّة هذه الأيديولوجيا، التي تستعير إلهامها من جنيّة أخرى هي السُّلطة، في بُعدها السياسي البائس، لتفرض مشيئتها في حقّ مبدأ كان في عرفها دومًا عدوًّا وهو: الروح، التي أنتجت عبر القرون ترياقًا لمداواة كل أمراض الإنسان: الأسطورة!
الأسطورة التي جادت علينا بالخلاص مترجمًا في حرف الأديان. فنحن نتشدّق بالتغيير، ولكننا ننتظر أن يتنزّل علينا هذا التغيير هبةً من السماء، أيّ من خارجنا، وننسى أنّ التغيير الحقيقي هو التغيير الذي نستحدثه بأنفسنا، في أنفسنا، وبمشيئتنا.
لمن البطولة في البُعد الروائي للعمل الإبداعي هل هو الإنسان الذي يسكن هذا المكان، أم للسؤال الذي يسكن هذا الإنسان؟ وهل شرط الإبداع الروائي هو وجود العلاقة بينهم، من خلال تنصيب العلاقة سلطانة على الوجود في البعد الروائي؟
النظرية الغربية نصّبت العلاقة كقياس في الرواية، ولهذا اعتمدت الواقع العمراني شرطًا في عمل الرواية، ولكنها لم تطرح السؤال حول ماهيّة هذه العلاقة. حرفيًّا هي بالطبع المجتمع، الذي لا يبخل بالعطاء في شأن العلاقة، ولكن الإنسان يستطيع أن يحاجج هنا فيقول إنّ العزلة تجود أيضًا بالعلاقة، كل ما هنالك أنها العلاقة الأخرى، التي تسكننا، بالحوار مع القرين السخيّ، الذي يقيم فينا، فيجادلنا، ويحاججنا، وكثيرًا ما يتفوّق فيفحمنا. بل كثيرًا ما يفلح في تلقيننا الدرس تلو الدرس في تجاربنا. المدارس الأدبية تسمّي هذه الحملة: «تيّار الوعي»، لتبرهن أن الذخيرة التي تسكن هذه الأحجية الغيبيّة، المدعوّة في منطقنا إنسانًا، أكثر ثراءً وأقوى برهانًا من كل الأدلّة التي تتباهى بها العقليّة الحرفية، التي تعتمد العلاقة الاجتماعية، في شأن فنّ الرواية، مقياسًا. ذلك أن هذا اللغز، المسمّى إنسانًا، ليس مجرد كيان، ليس مجرد فرد، ولكنه المجهول الذي يتستّر على ذخيرة عالمٍ كامل. ألَا يتغنّى شيلّلر بالوصيّة التي تقول: «تحت كل شاهد قبر، يهجع عالم كامل؟»، فإذا كان الإنسان يحمل ماهيّة «العالم الكامل»، وهو رفات في حفرة، فكيف به إذا دبّ على أرض الواقع بقدمين؟
كيف لعبت الميثولوجيا دورًا رئيسيًّا في تأسيس الديانات والفلسفة وتأسيس مفاهيم الوجود من خلال خطاب شِعري واستعاري، كيف صنعتَ الإبداع وفكّكتَ لغز الوجود، وهل من الضروري استنطاق البُعد الميثولوجي؟
عندما يُقال: «ما لا يؤنّث؛ لا يعوّل عليه»، فإننا نترجم في الواقع الوصيّة التي تقول: «ما لا يتأسطر؛ لا يعوّل عليه». لأن الأنوثة هي الوصيّ على الوجود، والميثوس هي الترجمان الناطق باسم الأمومة. وعندما استجار إمام الحكمة سقراط بالداهية «ديوتيما» في مونتينايا، طلبًا للحقيقة، إنّما حجّ إلى هذا الحرم بوحيٍ من ملاكه «دايمون»، وهو الذي حرّضه دومًا على التشبّث بتلابيب الـ«ميثوس»، في كل ما متّ بصلة لأحاجي هذا الوجود، وكان عليه أن يدفع الثمن في كل مرّة خالف فيها وصايا هذا الملاك. وفي ذلك اليوم الذي لقّنت فيه كاهنة الأجيال «ديوتيما»، سقراط درس الحُبّ الإلهيّ، إنّما كانت تلقّنه في الواقع درس الميثولوجيا، المستعار من ربّات الفنون التّسع، ذلك المحفل الإغريقي الخالد، الوصيّ على مصير الإنسان الفاني، والمفوّض الوحيد، في المنطق، بحقيقة هذا الوجود.
تشكّل أعمالك عالمًا روائيًّا يصف العلاقة المدهشة التي تقوم بين إنسان وحيوان الصحراء، في جوٍّ أسطوري واضح. من هذا السياق كيف فسّرت الأسطورة الحكاية السردية كلها في أعمالك، وما عنصر الإدهاش فيها؟
تشكّل وحدة الكائنات في معالجاتي هاجسًا لا يلبث أن ينقلب في عملي قطبًا، وهو خيارٌ تفرضه طبيعة الحياة في الصحراء، حيث كل جِرم حميم الصلة بجرمٍ آخر، بقطع النظر عن هويّة هذا الجرم: هل هو إنسان أم حيوان أم نبات أم جماد؟ وطبيعي أن يتضاعف هذا التماهي في البُعد الحيواني الإنساني ليبلغ الذروة، لسببٍ بسيط تغنّى به سفر الجامعة، ونصّبتُه استشهادًا في «التبر»، للتعبير عن معنى العلاقة بين هذين النموذجين (أوخيّد والأبلق): «ما يحدث لبني البشر يحدث للبهيمة، وحادثة واحدة لهم. موت هذا كموت ذاك، ونسمة واحدة للكلّ، فليس للإنسان مزيّة على البهيمة؛ لأنّ كليهما باطل. يذهب كلاهما إلى مكانٍ واحد. كان كلاهما من التراب، وإلى التراب يعود كلاهما». فهل توجد حُجّة في حقّ وجوب الإلتزام بناموس وحدة الكائنات أقوى من حكم حكيم الجامعة هنا؟
أحسب أنّ إنسان الصحراء أكثر الخلائق احتفاءً بهذا الحكم، لأن حضور الإنسان في حضرة الحيوان يغدو حميمًا في واقع الصحراء، إلى الحدّ الذي يتحوّل فيه هذا الحيوان عزاءً لمجرّد وجوده في هذا الفراغ القاتل، لا لأنه ظمآن لما يلهيه، ولكنه ظاميء إلى ما يعزّيه في عزلة المطلق. ونموذج كـ«أوخيَّد» مجبر أن يتماهى بالأبلق، لتسمو علاقتهما في حُبٍّ أسطوريّ، لأن حكمة الصحراء تقضي بهذا، لتتحوّل التجربة تراجيديا عند تدخّل قوى الشرّ، الخارجة عن طاعة الصحراء، المعادية لناموس الصحراء، التي تربك بوجودها القانون المعتمد بالصحراء في حقّ كائنات الصحراء.
ما المفتاح إلى فهم فلسفتك دون النظر إلى علاقة التواشج بين حكايتك والنصوص المقتبسة، وكيف يلمس القارىء تقاطعات هذه الحكايات والأساطير المستدعاة من ثقافاتٍ مختلفة؟
قانون «وحدة الكائنات»، يملي مشيئة أخرى هي «وحدة الإنسان»، الذي يعني وحدة الثقافات، ووحدة الفلسفات، ووحدة الديانات، وهو ما لا يريد إنساننا العربي أن يعترف به بكل أسف. والمتأمّل جيّدًا سوف يكتشف أنّ هذه الاقتباسات، أو بالأصحّ، الاستشهادات، لا تُغتصب اغتصابًا، أيّ لا تُستعار مزاجًا، ولكنها مفروضة بحرف النصّ، وتلعب دورًا بطوليًا كرؤية في شرايين النصّ، ولذا فهي حقًّا المفتاح السِّحري، أو السِّري لفهم النصّ. وليس للذين لم يؤتوا القدرة على التحرّر من أوزار الحكم المسبق أن يدركوا سلطان الاستشهاد في تسويق فكرة النصّ. وكثيرًا ما أُصدم من جهل أُناسٍ كان يفترض منهم أن يكونوا قدوةً في تفسير المستغلق، كما حدث مرّة مع علّامة مستشرق، فرنسي، كان يشغل منصب مدير المركز الثقافي الفرنسي في تونس، كان قد قرأ «المجوس» عند صدورها منذ أكثر من ثلث قرن، فتناولها بدراسة عجولة، حكم فيها عن غياب دلالة بعض الاستشهادات، لمجرّد جهله بحقيقتها، كما الحال مع ترنيمة لنبيّ ما قبل الأنبياء، أمبيدقليس، التي يتغنّى فيها كيف كان في حياته السابقة سمكةً، ثم طيرًا، ثمّ صبيّةً، مترجمًا بذلك، لا الإيمان بوجود حيواتٍ سابقة فقط، ولكن الإيمان بحقيقة العقيدة الإحيائيّة، التي كان عليها أن تنتظر ألوف الأعوام، كي تستوي في نظرية «تايلور» في القرن التاسع عشر! وهو ما يعني أن الكثيرين يفضحون جهلهم، عندما يحاولون أن يتفوّقوا على أنفسهم!
لماذا يتمثّل الأخلاقي والفلسفي والأسطوري والديني والصوفي بنزعةٍ وجودية بارزة في أعمالك، هل هي العقيدة الخلاصيّة لمعضلة تحرير الإنسان وسط ذلك الجدب النهائي والخواء الروحي؟
بلى! لقد كان التحرير رهان الإنسانيّة منذ الأزل. وهو تعويذة وحيدة للانتصار على ضعفنا، وتغيير ما بأنفسنا. ويجب ملاحظة الدلالة الانقلابيّة الكامنة في مصطلح «ما بأنفسنا»، وذلك لتمييزها عن نزعة ما اعتدنا أن نسمّيه «ما بالواقع»، أو بصيغةٍ أخرى «ما بالعالم». وهو الاختراع الفاشل الذي سوّقناه في مصطلح «الثَّورة»، لتبرهن التجربة على حقيقة عدم وجود خلاص في أيّة هبة ننالها بالمجّان، كأنّ نعوّل على تغيير ما بواقعنا بمشيئة الذهاب لمنازلة شبحٍ هو العالم، ناسين أنّ العالم، أو ما نسمّيه العالم، ما هو إلّا انعكاسٌ بائس للعالم الذي يسكننا، ومحاولة تغييره عملٌ طائش، لأنه ليس سوى نسخة من الأصل الذي يسكننا. وسوف يبقى عالمنا خاويًا، ونشاطنا خائبًا، وغايتنا باطلة، ما ظللنا نستميت في مقارعة الشبح، بدل أن نتحلّى بالشجاعة ولو مرّة في حياتنا، ونلتفت إلى الذخيرة، التي نستودعها، لنجادل الأصل فينا، المخوّل وحده لإنقاذ وجودنا. إنها التجربة التي تنكّبها الأنبياء والرسل وكل المصلحين العظام، كي يفتدونا، في سبيل تحريرنا، لنستطيع أن نهنأ بالإيمان، ونستمتع بحكمة أن نوجد، وأن نتفلسف، وأن نتأسطر، وأن نتدَيَّن، وأن نتحلّى بمكارم الخُلق، لأن هذا سيعني اقتناص عنقاء مغرب المسمّاة في لغتنا: سعادة!
ما قولكَ لمن يرى بأنكَ أسير الصحراء وأهلها، مقارنة بعيشك بعيدًا عنها أكثر ممّا عشت فيها، هل يوجد في هذا النقد شيء من الموضوعيّة، ولماذا؟
يسعدني أن أكون أسير صحراء، ويسرّني أن أنتمي إلى ملّة الصحراء، ما دامت هويّتها هي القرين الحقيقي لكل مبدأ نبيل، بدايةً بالبراءة، مرورًا بالفطرة، والعفويّة، والزهد، والنزاهة، والشجاعة، نهايةً بعبادة العدالة. وإذا كانت الظروف قد حرمتني المقام بين أُناسٍ هم أهل؛ فعزائي أنّي لم أحتمل عذاب أن يحيا الإنسان غريبًا عن الوطن، وعن الأهل، وعن مسقط رأسٍ حميم، هو مسقط رأس الكينونة، إلّا لكي يبشّر العالم بحقيقتهم، ويقول كلمتهم، وينبّه إلى اغترابهم، فحقٍّ لابنهم البار القديس أغسطين أن يصفهم في مؤلّفه الذي صار إنجيل الديانة المسيحية بـ«القبيلة الإلهيّة»، لا لأنهم انحازوا إلى الهجرة في تجربتهم، ولكن لأنهم الأمّة التي ضحّت بالترف، والرخاء، والنعيم الأرضي، لكي تعتنق الحُريّة للحلول في رحاب الله.
أمّا إذا كانت تهمة «التكرار»، التي يتشدّق بها أولئك الذين لم يقرأوني، تعني تكرار الأدوار، أو الأفكار، أو الشخصيّات في الروايات، فذاك جهلٌ منهم بحقيقة التكرار أولاً، وبقوانين الرواية التي تجيز، بل وتحرّض، على التكرار، ثانيًا. والخطأ الأوّل الذي تقع فيه هذه الفئة هو الفرق بين تكرار وظائف الشخصيات، وبين تكرار الشخصيّات نفسها كأسماء أشخاص. وهو جهلٌ يرجع إلى جهل بواقع الصحراء، سواءً البيئي، أو الاجتماعي، أو الأخلاقي، أو الاقتصادي، أو السياسي، أو الوجودي برمّته. فعندما نقول في واقع الصحراء «الزعيم» فهذا ليس اسمًا، ولكنه وظيفة، أو عندما نقول «العرّاف» فهذه أيضًا وظيفة الوصيّ على الناموس، أو الدين، في العالم القديم، أو العُرف الأسطوري. وكذلك الأمر بالنسبة «لكبير التجّار» مثالاً، أو «الدرويش» إلى آخره، وهم كأبطال رواية، يحملون وزرًا جسيمًا، أيّ رسالة دنيوية ودينية ووجودية، في مجتمعٍ صحراويٍّ شحيح ومميت بيئيًّا. هذا من جانب، أمّا في حال تكرار الشخصيات فهذا روائيًّا أيضًا مباح، والدليل يقدّمه لنا الأدب العالمي. فكم مرّة تتكرّر شخصيّة مثل راستينياك في روايات بلزاك؟ وكم مرّة يتكرّر لوسين وغيره من شخصيات «الكوميديا البشرية»؟ وكم مرّة تتكرّر شخصيات روايات وليام فوكنر من رواية إلى رواية؟
المهم هو المعالجة الدرامية، لأنها وحدها تبرّر تكرار هذه النماذج، والمبرّر يكمن في حقيقتها كنماذج بالذّات. فالصحراء في أعمالي ليست صحراء الطبيعة فقط، كما قد يبدو؛ ولكنها استعارة شِعرية وأسطورية لما نسمّيه وجودًا. والنقد الأوروبي والأمريكي والياباني يعاملها بهذا المقياس، لأن في تلك الأوطان يوجد حكماء موسوعيّون معنيّون بالحقيقة في أحكامهم، وليسوا مجرد هواة، أو حواة، كما الحال عندنا!
يرى بعض النقاد أنّ رؤيتك الصحراوية لا تتطرّق إلى الكوارث الإنسانية التي سبّبها الاستعمار الغربي على هذه الصحراء، لماذا صحراء فيلسوف الصحراء منعزلة عن تاريخها الاستعماري؟
لم تكن رواية واحدة من أعمالي لتخلو من إيماءة لشرور الاستعمار في حقّ صحرائي، كل ما هنالك أنّهم لا يقرأون، وإلّا ما هي سداسية «الأخلاف والأسلاف»، إن لم تكن الملحمة الكبرى، المعبّرة على صراع الليبيين ضدّ الغزو الغربي الفرنسي والبريطاني والأمريكي طوال قرن وربع القرن؟ وما هي معالجة الغزو الإيطالي في «التّبر»، حيث يموت أبّ البطل دفاعًا عن وطنه ضد الغزاة؟ وما هي الأحداث في «رسول السماوات السبع»، إن لم تكن استماتة أهل الصحراء الأبدية في مقارعة الغزاة. ولكن يخيّل لي أنهم لا يريدون تناولاً روائيًّا، أيّ رؤيوي، لهذه المسألة، لاعتيادهم على المعالجات التقريرية، المباشرة، وليس الدرامية.
وليكن معلومًا لدى الجميع أنّ نَصّي هو شهادة متعددة الأصوات، الرواية فيه مكمّلة للدراسة التاريخية، وللشذرة، والقصة القصيرة، وإلّا ما هو كتابي المبكر «ثورات الصحراء الكبرى»، إن لم يكن إدانة في حقّ الغزوات الاستعمارية؟ وما هي ملحمة «ناقة الله»، إن لم تكن وثيقة إدانة أخرى ضدّ الغزو الفرنسي، وما فعله ضدّ أهل الصحراء؟ بل ما هي: «كلمة الليل في حقّ النهار»، إن لم تكن أداءً لواجب قول الحقيقة، حتى لو استفزّت الذين يفرّقون بين الغزو الإيديولوجي وبين الغزو الديني؟ وما هي الأحداث الدموية المقترفة بيد الاستعمار الإيطالي في حقّ أهلي المعبّر عنها في عديد القصص القصيرة «واحة كبيرة تضجّ بالغناء» نموذجًا، وكذلك «الشهيد يريد أن يتكلّم»، أو «الشظية»، أو «إلى أين أيها البدوي إلى أين؟»، أو المعالجة الشِّعرية لمأساة جريمة التفجيرات النووية في الصحراء الكبرى، منتصف خمسينيات القرن الماضي، كما في «طفولة الزمن شيخوخة العدم»؟ سامحهم الله، لأنَّهم يأبون إلّا أن يبرهنوا في كل مرّة على انتمائهم إلى أمّة «اقرأ»؛ التي آلت على نفسها ألّا تقرأ!
ما شعورك تجاه هذه الجوائز العالمية التي حصلت عليها، وهل سنرى تجربة سينمائية مستوحاة من أعمالك؟
الإحساس بالسعادة غنيمة الإحساس بأداء الواجب، الذي يحقّقه التحرير الروحي، المدعو إبداعًا. أمّا الجوائز فهي مجرد هامش على هذا المتن. ألا يُقال أن النجاح رهين العمل، ولكن المكافأة رهينة الحظّ؟ هذا لن يعني أنّي لا أريد أن أعبّر عن امتناني لكل أولئك الذين أحسنوا الظنّ بما أعمل، برغم يقيني بأن الحكم، في شأن قيمة العمل، هي من اختصاص الزمن، وأستطيع أن أعترف أن الزمن، أو القدَر، قد أنصفني حيًّا عندما أرى جامعات العالم تتبنّى أعمالي، لا في ترجمتها، ثم إصدارها وحسب، ولكن عندما تقرّرها في مناهجها الدراسية، وهو ما لم يحظَ به معلّمي الروحي ديستويفسكي، الذي لم يشهد في حياته مؤلّفًا واحدًا من أعماله الخالدة، مترجمًا إلى أيّة لغة أجنبية. فالحكم في شأن الجوائز يجب أن يكون الاستحقاق. فكل جائزة تُمنح عن استحقاق حقيقي، مبرم بحرف النصّ، هي شرفٌ لمن منح الجائزة، قبل أن تكون شرفًا لمن نال الجائزة. أمّا في حال كان العكس، أيّ مُنحت الجائزة لاعتباراتٍ أخرى، مستعارة من خارج النصّ، فهي وصمة عار في حقّ مَن منح الجائزة، ووصمة أخرى في حقّ صاحب الجائزة.
«غاية المؤلّف التعبير عن الوجود». من منطلق هذه الغاية، ما هي رسالتك الوجودية للعالم، ومتى يحقّ لكل صحراء أن تقول كلمتها؟
لا أستطيع أن اختزل في جملة ما حاولتُ أن أعلنه في تسعين كتابًا. وبرغم ذلك توجد دومًا في القاع ثُمالة: الثمالة التي يُقال أنها الألذّ مذاقًا، والأعظم ترياقًا، ولكن اليقين أن البوح بها لا يليق في عجالة. أمّا السؤال حول التوقيت المناسب لكل صحراء لكي تقول كلمتها، فالجواب هو أن كل وقتٍ هو توقيتٌ مناسب لقول ما يجب أن يُقال. وأحسب أنّ الأمر يعتمد على أبنائها، وبالأصحّ، على رسُلها، هذا برغم قناعتي بأن كلمة الصحراء وحدة لا تتجزّأ في جنسها البيئيّ، أو في ترجمة طبيعتها الروحية، أو بصفتها كأكاديمية للعلوم الغيبيّة؛ ولكن تَميّز أهلها هو ما يؤهّل الخصوصية في منطقها.
كلمة أخيرة لمعنى، وما الأعمال الفكرية والأدبية والتطلّعات التي سنرى نتاجها قريبًا؟
أؤمن بوصايا دهاة الـ «أوبانيشاد»، التي تؤكّد عدم تحقّق أيّ نيّة، إذا جرى بها اللسان قبلاً. وهو ما يعني أنّ القول إنّما هو الفعل البديل للعمل؛ ليقيني أيضًا بأن مَنْ يتكلّم لا يعمل، ومَنْ يعمل لا يتكلّم! وتجربتي برهنت أننا لا نحقّق عملاً، إلّا في اليوم الذي نكفّ فيه عن اللغو، ممّا لقّنني الدرس الذي يحرّم الخوض في العمل المزمع، ما لم يُنجَز. وهي تعويذة في متناول الجميع، ولكنها منيعة في معدن أهل الفضول. وها هو عرّاب الرواية الأقوى حُجّةً، إذا تعلّق الأمر بالحكمة، ديستويفسكي، يتغنّى دومًا بالمشروع الروائي، الذي سيختزل كل تجربته الرائدة، في عملٍ بعنوان: «الآثم العظيم»، ولكن لم يُكتب لهذا العمل أن يُكتب، لأن عضلة الإثم اقتصّت من الحكيم جزاء استهانته بالحكمة! فإذا أُجبرتُ شخصيًّا على الاعتراف، فليس لي إلّا أن أكشف عن حلمي بأن أفلح يومًا في معالجة العمل الذي لا أملك إلّا أن أسمّيه «العدم»، ليقيني بمواهب هذا الداهية، الذي يراقب مهزلتنا من وراء حجاب، ويلقّننا الدرس تلو الدرس، في تسويق الباطل، بروح السخرية، علَّ روح سخرية هذا البعبع تشفع لشخصي التجديف في حقّ الوصيّة المعتمدة في ناموس «أوبانيشاد»، برغم أنها لم تقترف خطيئةً في حقّ الحقيقة، وكلّ ما عبّرت عنه هو البرهنة على وحدة الوجود واللغة!