استهلالًا لأعماله الكاملة التي بدأ نشرها سنةً قبل وفاته، وضع مارتين هايدغر العبارة التالية: «هي دروب وليست أعمالًا»:Wege – nicht Werke . ما حاول المترجم الفرنسي أن ينقله، محتفظًا على صورته البلاغية، بقوله: Des passages – non des ouvrages، «هي ممرات-وليست مؤلفات». كأنّما يحاول هذا الاستهلال أن يؤكّد أن دروب الفكر تتنافى ونشر أعمال كاملة، وأنّ كتابات هايدغر ليست في النهاية إلا مسالك وممرّات، أكثر من أن تكون أهدافًا ومقاصد وغايات.
لا يعمل هذا الاستهلال في واقع الأمر إلاّ على تأكيد ما سبق للفيلسوف الألماني أن أشار إليه مرّات عديدة منذ كتابه «في الطريق نحو الكلام» حيث كتب: «كل شيء درب وطريق»، وكتاب: Holzwege، ما تنقله اللغة الفرنسية بـ دروب لا تؤدي إلى أيّ مكان، إلى ما يعدّ نوعًا من السّيرة الذاتية للفيلسوف التي نشرت تحت عنوان الطّريق الريفي.
لا ينبغي أن تردّنا هذه الإشارات المتكرّرة إلى الطريق، إلى منهج ديكارت وطريقته. ذلك أنّ البون بين النّهج الفرنسي والدّرب الألماني بون شاسع: منهج الفيلسوف الفرنسي تحدّده قواعد موجِّهة على ضوئها يسير العقل في سعيه نحو بلوغ الحقيقة. إنّه خطّة مرسومة بفضلها يهتدي العقل. خطة هي عبارة، كما يقول عنوان أحد كتب ديكارت، عن قواعد لتوجيه العقل، صحيح أن هذه القواعد لا تُملَى على العقل من طرف أيّ سلطة خارجه، وأنّه هو الذي يسنّها لنفسه، ويخطّها، ويمرّن نفسه عليها، إلاّ أنّه لا يسير إلا على هديها.
سيرُه هذا انتقال من الأبسط نحو المركّب، ومن الواضح نحو الأقلّ وضوحًا. إنّه، على حدّ قول الفيلسوف الفرنسي جان بوفري، «السّير خطوة خطوة». وربطٌ بين «سلاسل الحجج» على حدّ قول أبي الفلسفة الحديثة نفسه. صحيح أننا قد نتعرض للخطأ، إلاّ أنّ المنهج يمكّننا من تجاوز الأخطاء، والسّير قدُمًا نحو اليقين. المنهج يخرجنا من متاهة تدور حول نفسها نحو تيه يتّبع خطًّا واحدًا. وغالبًا ما يصبح ذلك الخطّ «تقليدًا» يكرّر. هذا ما نلحظه عند تلاميذ الفصول الثانوية الذين من شدّة ما يكثرون من التّمارين في مادّة الرّياضيات، فإنّ حلّ تمارين جديدة يكاد يصبح بالنّسبة إليهم عملًا آليًا. إنّهم يتملّكون مقدرة وكفاءة تجعلهم يتّبعون طريقة واحدة بعينها مهما اختلفت التمارين. والمعروف أنّ صاحب المقدرة والكفاءة، كما قال بول فاليري «عندما يخطئ، فهو لا يخطئ إلاّ وفق ما تمليه القواعد».
نُقل عنوانُ ديكارت Discours de la méthode إلى لغة الضّاد بـ«مقال في الطريقة» أو «مقال في المنهج». ما يمكن أن يعاب على هذه الترجمة هو أنّها تغفل «التّناقض» بين لفظي Discours و Méthode. ذلك أنّ اللفظ الأوّل يُشتق من اللفظ Détour الذي يعني اللفّ والدّوران. لذا فالفعل Discourir يعني أساسًا الجري courir في كل اتجاه وصوب، الجري في أكثر من طريق. وديكارت نفسه يستحضر ذلك في مقدّمة الكتاب إذ يرجع اختلاف الآراء إلى كوننا «نقود أفكارنا نحو طرق متباينة». هذا في حين أن طريق الحقيقة واحدة هي التي تحدّدها قواعد المنهج، وهي التي تحول بين الفكر وبين الخطأ، شرّ المعرفة. لا ترى العقلانية الدّيكارتية ما هو إيجابي في الخطأ. الأخطاء مكائد ينصبها للذهن «شيطان ماكر»، لذا فما على الفكر إلاّ أن يتسلّح بقواعد المنهج لتفاديها.
ستعيد الإبيستمولوجية اللاديكارتية للأخطاء قيمتها، بل إنّ من فلاسفة العلوم من سيجعلها طريق الاكتشاف. في حوار مع مؤرّخ العلوم ميشيل سير، ذهب الفيلسوف الفرنسي إلى قول: «أنت تعلم أن اللفظ “منهج” الفرنسي مشتق من اليونانية “ميتودوس” التي تعني “الطريق”. والحال أنك إن تابعت طريقك نحو لاندورنو، فإنك ستصل إلى لاندورنو. وعلى النّحو نفسه فإن الطريق السيار أ6 يؤدي دومًا إلى طريق باريس الدائري. الأمر نفسه بالنسبة لوصفة الطبخ، إذا تابعت بعناية وصفة الفطيرة تاتان، فإنّك ستصنع فطيرة تاتان. لكن من حقّنا أن نتوقّف لحظة ونتساءل كيف عملت الأختان تاتان كي تبدعا هذه الفطيرة العجيبة. إنّهما ارتكبتا زلّة: أوقعتا الفطيرة التي سقطت مقلوبة. أعتقد أنّ التفكير الحقّ يتمّ على هذا النحو: إنّه يتمّ عن طريق الحيد عن الطريق وبفعل الحظ والصدفة. فنحن نجد ما لم نكن نبحث عنه. التقدّم يتحقّق بفعل الخطأ».
طريق ديكارت قادته من الطّرق نحو المنهج، أما درب هايدغر فأعاده من المنهج نحو الدّروب. فهايدغر لا يتّبع طريقًا، وإنّما يشق دربًا، أو دروبًا على الأصحّ. الفرق بين اتّباع طريق والسّير على نهجها، وبين شقّ الدّروب، هو أنّ الفكر في النّهج الأوّل يتّخذ طريقًا مرسومة حدّدتها قواعد المنهج، أما عند المفكّر الألماني فإنّ الخطوات ذاتها هي التي ترسُم الدروب. الفكر هنا يشقّ دربًا من جرّاء السّير عليه. ثم إنّ الفكر، وهو ينتهج الطريق عند المفكّر الفرنسي، فإنّه ينتقل خطوة خطوة فيقطع مسافات، أما داخل الغابة فالفكر لا يفتأ يشقّ دروبًا، ويفتح مسالك وينفتح على آفاق. ذلك أنّه لا يواجه أخطاء تسكن الخطاب، وتتلخّص في عدم مطابقة الأحكام لما تحيل إليه، وإنّما يجد نفسه أمام ضلال كوني. فما جرت العادة على تسميته خطأ، وما تنعته المذاهب الفلسفية كذلك، وأعني عدم مطابقة الأحكام، ليس، في نظر صاحب الدروب، سوى كيفية من كيفيات الضّلال وأنماطه. وهي أكثر تلك الكيفيات سطحية. الضّلال، عند الفيلسوف الألماني، مسرح الخطأ وأساسه، ولولاه لما كان هناك تاريخ. فهو ليس عثرة وغلطة تأتي صدفة، وإنّما مملكة هذا التّاريخ الذي تختلط فوق خشبته أنماط الضّلال جميعها. ذلك أنّ الوجود بما هو حقيقة وانكشاف، ولا-اختفاء، أليتيا، فهو يخفي أكثر مما يُظهر. بيد أنّ هذا الانسحاب والأفول لماهية الوجود ومنبعه هو الخاصّيّة التي يتجلّى فيها الوجود ابتداء، وهذا بحيث لا يتابعه الفكر. فانكشاف الموجود وظهوره يُخفي وضوح الوجود ويغلّفه. إن الوجود ينسحب عندما ينكشف في الموجود. وهكذا فإن ما يظهر ويضيء، يتيه بالموجود، ولا يعرضه إلا في التيه، فيقيم بذلك عالمًا من الضلال. «ذاك هو مجال حصول التاريخ (…) ولهذا فإن كل حصول تاريخي أصيل لا يُؤوَّل بالضّرورة إلا تأويلًا خاطئاً»[1]، وعبر هذا التّأويل الخاطئ ينتظر القدر ما ستُنبته بذوره، ويضع من يهمّهم الأمر أمام إمكانية ملاءمة القدر أو عدم ملاءمته. وبذلك يجرّب القدر نفسه. وكل انسحاب للوجود تعقبه هفوات للإنسان»[2]. وهكذا يتستّر الوجود بكيفيات مختلفة ليفسح المجال لانكشاف يفكّر في الحضور من خلاله. إنّ الوجود يكتم حقيقته ولا يبوح بها، وهذا الكتمان هو الكيفية الأولى لانفتاحه الذي يرتسم عبر دروب لا تنفك تُختطّ.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] M. Heidegger. Chemins qui ne mènent nulle part, Gallimard, 1962. p. 274.
[2] Heidegger. La parôle d’Anaximandre » in Chemins, op. Cité. p. 295