(سلسلة مقالات يكتبها البروفسور جون سيمونز لمنصة معنى)
- تجربة الوعي العادية
تنهض من النوم، وها أنتذا واعٍ. أما في حالتي، فإني لا أبلغُ الوعي التام إنْ لم أُشفعْ ذلك بمساعدةٍ كيميائية إضافية بكوبٍ من القهوة، ثم أنجح بعد ذلك في الانتقال إلى الوعي وأواجه صباحي. إنّ هذا الانتقال من النوم إلى الوعي نقطةُ انطلاقٍ مفيدة لنا عندما نُفكّر فيما يعنيه أن تكون واعيًا. كما أننا نعرف بجانب هذه الحالة ما نعدّهُ أحيانًا حالات وعي متمايزة؛ حيث يوجد وعي «حياة العمل والعائلة» المنهمك بأداء مهامه، وحالة وعي تجربة التركيز على إنجاز عملٍ يتطلب انتباهًا مكثفًا، وحالة وعي الإنترنت المشتتة والمتلاعب بها حينما ننكب على شاشاتنا، وتجربة الانغماس في سماع معزوفة موسيقية عظيمة أو قراءة كتابٍ أخَّاذ، وحالة الوعي العميقة والثقيلة لمن استغرق في صَلاتِه وتأمُّلِه، وربما حتى حالات الوعي البديل الناتجة عن استخدام المهلوسات. فكل ما سبق ذكره حالات مختلفة من الوعي يدركها العديد منّا ويميّزها. وبالرغم من أن الوعي مألوف لنا، إلا أنه شيءٌ يعسر علينا تفسيره.
- هل يُمكن أن يوجد علم للوعي؟
لم تبدأ الفلسفة ولا العلم في الاقتراب من مشكلة تفسير الوعي تفسيرًا جادًا إلا منذ منتصف الثمانينات، ففي معظم القرن العشرين اعتبرَ عديدٌ من العلماءِ وجلُ الفلاسفة مفهومَ الوعي مفهومًا مشبوهًا؛ إذْ يبدو «الوعي» -حسب هؤلاء- غامضًا؛ غموضًا لا أمل معه في استكناه غموضه، كما أنه مرتبط بالدين والتصوف إلى حدٍ لا يمكن اعتباره موضوع دراسة للعلم التجريبي؛ فعلى سبيل المثال، رفض عالم النفس الأمريكي «ب.ف.سكينر» دراسة الظواهر الذهنية كالوعي في عشرينيات القرن الماضي؛ بعلّة أن الجوانب التي يُمكن ملاحظتها وقياسها من السلوك الجسدي هي ما ينبغي دراسته دراسةً علمية حصرًا. إنّ هذا الموقف ما زال موجودًا إلى حد ما، ولكن بدرجة أقل بكثير مما كان عليه في الماضي.
سلوكيّة «سكينر» لم تكن في واقع الأمر طريقةً عمليّة في بحث علم النفس، وسرعان ما نبذها أغلب علماء النفس الذين استهلّوا التفكير بطرق مختلفة لقياس ما يجري داخل الإنسان حينما يلاحظ شيئًا ما، أو يتخذ قرارًا، أو يحل المشكلات.
ومع أن الوعي ما زال لغزًا ملحاحًا، إلا أن جوانب عدّة من حياتنا الذهنية قد أصبح فهمها أسهل من ذي قبل؛ إذْ استطاع العلماء تفسير جانبٍ معتبر مما يجري في الجهاز البصري البشري، وهم قادرون كذلك على بناء أجهزة صناعية تستجيب استجابةً مناسبة لبيئتها المحيطة باستخدام البصر الميكانيكي، ويمكننا أيضًا بناء أجهزة تشمّ الهواء من أجل تعقّب الكيماويات، ويُمكننا برمجة حواسيبنا بحيث تحل المهام الرياضية الصعبة بسرعة عالية. لقد تفوقت علينا الحواسيب منذ مدة طويلة في الألعاب التخطيطية مثل الشطرنج ولعبة قو، وأنظمة التعلّم الآلي ما فتئت تزداد ذكاءً بطرق جديدة وفي حقول مختلفة.
- لغز التجربة الذاتية المِلحاح
ولكن حتى مع تقدّم علم النفس والذكاء الاصطناعي ما زال يُنظر إلى الوعي بوصفه لغزًا محيرًا، وهو كذلك منذ أربعين عامًا على أقل تقدير. فقد كتب الفيلسوف «توماس نيجل» في سبعينات القرن الماضي قائلًا: «من دون الوعي، ستفقد مسألة الذهن-الجسد كثيرًا من بريقها، ومع الوعي ستبدو مشكلةً ميؤوسًا منها.» في مقالته الكلاسيكية المنشورة عام 1974 «كيف يبدو أن تكون خفاشًا؟» حاجج «نيجل» بأن مشكلةَ الوعي مستعصيةٌ على الحل، وسبب ذلك أنّ العلم مَعْني باكتشاف تفسيرات صحيحة من ناحية موضوعية لظواهر غامضة، ومن المهم أيضًا أن نفهم هذه التفسيرات ونتشاركها، ولكن مع ذلك يبدو أن أي نظرية صادقة عن الوعي تتطلّب تضمين الجانب الذاتي من الوعي. إذ يظهر بأنه يستحيل تجنّب حقيقة أنّ ثمة حالة تبدو فيها واعيًا، حالة بالنسبة لذلك الكائن الواعي نفسه.
إن مشكلة الجمع بين الجانب الذاتي للتجربة مع منظور الشخص الغائب (منظور الشخص الثالث) في العلوم الطبيعية ليست مشكلة سهلة، فمنظور المرء الخاص -حسبما يذكر نيجل- غير متاح للآخرين بكل بساطة. قد أصِف لك كيف يبدو لي طعم الليمون عند تذوّقه أو كيف يظهر لي اللون الأحمر، لكنك لن تستطيع أبدًا معرفة كيف تبدو لي حدودَ أي تجربة من تجاربي الذاتيّة هذه. لقد كان ما ذكرته توًا ردًا مألوفًا على مشكلة الوعي، ويعتبر كذلك جانبًا مما سمّاه الفيلسوف «ديفيد تشالمر» لاحقًا بـ«مشكلة الوعي الصعبة» (The Hard Problem of Consciousness)، وهي صعبة قياسًا بمشكلات بناء نماذج حاسوبية للإحساسِ والتفكير التي تعتبر سهلة نسبيًا.
أخالُ أنه من الخطأ أن نتخذ موقفًا تشاؤميًا تجاه تفسير الوعي وفهمه، بل في واقع الأمر يمكننا أن نذكر قدرًا ليس يسيرًا عن الوعي، بما في ذلك ما يتعلق بأشد جوانبه ذاتيةً، إذْ إننا نُحسِنُ غالبًا إيصال ما تبدو عليه التجارب بالنسبة لنا بطرقٍ تجعلها قابلةً للمشاركة مع الآخرين. حيث طوّرت الفنون والآداب وسائل فعالة لإيصال التجربة الذاتية ومشاركة المنظورات بطرق تَهب تواصلًا أصيلًا بيننا. كما أعتقد بأننا بدأنا في معرفة ما يمُيز الوعي عن غيره من الظواهر، ولكنني أتفق مع «تشالمر» و«نيجل» في استبعاد العلم التقليدي من أن يلقي الكثير من الضوء على طبيعة الوعي، ومع ذلك أستدركُ قائلًا بأن العلم التقليدي لا يستأثر بمهارتيّ التفكير والفهم، فالعلم ليس كل شيء. هبّ أنك قابلتَ شخصًا يجادل بأنه ينبغي على المرء ألّا يعتقد إلّا بما يمكن التحقق منه علميًا، يمكنك أن تجيبه متسائلًا فيما لو كان هذا الادعاء نفسه نتيجة بحثٍ علميٍّ ما أم لا؛ فليس في وسع العلم أن يقول لك بأنه ينبغي عليك أن تصدق ما يقوله العلم فقط؛ إذْ إن تساؤل «هل أصدق العلم أم لا» نفسه ليس تساؤلًا علميًّا.
- رَجلُ ابن سينا الطائر
يهتم الفلاسفة بأسئلة أساسية عن المعرفة والوجود والقيم، والعلماء -عمومًا- ليسوا مؤهلين للإجابة عنها. إذ يستخدم الفلاسفة العقل والخيال لفحص الواقع بحثًا عن نتيجة ما؛ فمثلًا، عندما نحاول معرفة حقيقة الشيء قد نبتكر تجارب فكرية من أجل معرفة ماهية الجوانب الزائدة فيهِ بُغية تحديد الجوهري فيه، فإن أردنا التفكير في الذات الواعية -مثلًا- فلعلنا نتبع التجربة الفكرية التي قدّمها الفيلسوف الفارسي العظيم في القرن الحادي عشر «ابن سينا»؛ إذْ قاد «ابن سينا» قُرّاءَهُ عبر سلسلة من التأملات فيما نسميه الآن «وعيًا» في كتابه العمدة «كتاب الشفاء». ومع أن «ابن سينا» يُعد واحدًا من آباء الطب الحديث، إلا أن كتاب الشفاء ليس كتابًا في الطب، بل هو أحد العلامات الفارقة في الفكر الإسلامي عمومًا، إذْ قدّم فيه أحدث صور المنطق والرياضيات والميتافيزيقا في وقته. ونجد في هذا الكتاب تجربة الرجل الطائر الشهيرة؛ فعادة ما تتخذ التجارب الفكرية شكل حكاية أو سيناريو متخيل؛ بقصد تهيئة الذهن على الوصول إلى فهمٍ أوضح لطبيعة الأشياء. في تجربته الفكرية الرائعة التي عُرفتْ باسم الرجل الطائر، قادنا «ابن سينا» إلى رؤية كون الذات الواعية تمتاز جوهريًا عن جسدها المادي، بقولِه:
«يجب أن يتوهم الواحد منا كأنه خُلق دفعةً، وخلق كاملاً؛ ولكنه حجب بصره عن مشاهدة الخارجات، وخلق يهوى في هواء أو خلاء هويًا لا يصدمه فيه قوام الهواء صدمًا ما يحوج إلى أن يحسّ، وفُرّق بين أعضائه فلم تتلاق ولم تتماس، ثم يتأمل أنه هل يثبت وجود ذاته ولا يشك في إثباته لذاته موجودًا ولا يثبت مع ذلك طرفًا من أعضائه ولا باطنًا من أحشائه ولا قلبًا ولا دماغًا ولا شيئًا من الأشياء من خارج بل كان يثبت ذاته، ولا يثبت لها طولاً ولا عرضًا ولا عمقًا، ولو أنه أمكنه في تلك الحال أن يتخيل يدًا أو عضوًا آخر لم يتخيله جزءًا من ذاته ولا شرطًا في ذاته؛ وأنت تعلم أن المثبت غير الذي لم يثبت، والمُقرّ به غير الذي لم يُقرّ به؛ فإذن للذات التي أثبت وجودها خاصية على أنها هو بعينه غير جسمه وأعضائه التي لم تثبت.» [كتاب الشفاء: الطبيعيات، الفن السادس، المقالة الأولى، ص13 تحقيق إبراهيم مدكور[
يقدّم «ابن سينا» صورةً للنفس مستقلةً عن الجسد، فجوهر طبيعتنا -كما يراه- لا علاقه له بالجسد. لقد ألهمت هذه الرؤية فلاسفة لاحقين كان أشهرهم «رينه ديكارت» في المحاججة عن أن جوهر الوجود الإنساني هو الوعي، وعليه، فعلاقتنا بالجسد ليست إلا علاقة عرَضية.
لو حاولنا أن نتصور ما الذي يبدو عليه أن تكون لا واعيًا فسنكتشف -بلا شك- بأنه لا يمكننا تصور ذلك؛ فبمعنى من المعاني، أن تكون لا واعيًا لا يبدو مثل شيء يمكننا تصوره. بوسعنا أن نتصور انعدام النظر، وانعدام السمع، وانعدام التذوق، وانعدام حاسة استشعار الحركة، لكن يمتنع علينا أن نتصور كيف يبدو انعدام الوعي بإطلاق.
ولكن مع ذلك ثمة أحيان لا نكون فيها واعين: عندما نستغرق في نوم عميق إثر مخدر ما -أو حتى حينما نقود سيارتنا قيادةً روتينية مملة- فجسدنا حاضر، لكن يبدو أن وعينا الذاتي غائب. خذ مثلًا ظاهرة تنويم الطريق ((road hypnosis، وهي حالة مألوفة لأغلب سكان الولايات الأمريكية الغربية حيث يمكن للشخص أن يقود سيارته عمدًا وبكل أمان لفترات طويلة دون تذكر أنه فعل ذلك. توجد سبل مختلفة يُمكننا أن نفهم ظاهرة تنويم الطريق عبرها، فلعلها ليست إلا ظاهرة تتعلق بالذاكرة، إذْ إننا كنا في واقع الأمر واعين بقيادتنا بين مدينة «سالينا» ومدينة «مانهاتان» عبر طريق «كانساس» الطويل والممل؛ فنحن لم ننم آنئذ، كل ما في الأمر أن أذهاننا لم تتكبد عناء تسجيل التجربة في الذاكرة. أما التفسير الآخر فهو لعل ما يمكن تسميته وظيفة الوعي العليا لم تكن مطلوبة أثناء قيادتنا في زحام مروري ممل في طريقٍ مستقيم طويل. حيث من الواضح بأننا لا نحتاج أن نكون وُعاة من أجل إنجاز بعض المهام؛ كما لا نحتاج أن نكون وُعاة بتنفسّنا وجهازنا الهضمي لكي تؤدي هاتان العمليتان دورهما، وعلى نحو مماثل، لعل قيادة السيارة على طريق ممل قليل السيارات لا تتطلّب وعيًا. وبغض النظر عن تفسيرنا لظاهرة تنويم الطريق وما شابهها من الظواهر، فقد تبين بأننا أثناء هذه الاختلالات في التدفق العادي لتجربة الوعي قادرون على إنجاز الكثير من الأمور، فعلى ما يبدو يمكننا أن نقود سيارةً بكل أمان على سبيل المثال.
ولكن لاحظ ما يحدث حينما تواجه زحامًا مروريًا خانقًا، أو عندما يقفز غزالٌ عبر الطريق السريع، أو عندما يضع ركاب السيارة هواتفهم النقالة جانبًا ويتحدثون معنا؛ فجأةً، حينما يتباطأ المرور وعندما يتبادل الناس معنا أطراف الحديث، نعود إلى تدفق تجربة الوعي الكاملة.
يبدو بأن ثمة أشياء لا نقوى على فعلها دون أن نكون وُعاة وعيًا تامًا؛ فمن دون الوعي وعيًا تامًا لعلنا نسمع ما يقوله المرء لكن لا يمكننا أن ننصت له، وقد نستجيب لمؤثرات خارجية جذابة دون أن نعي ذلك، لكننا لن نقدّر الجمال حق قدره بهذه الحالة، وقد نتصرف اتباعًا للعرف ونقول تلقائيًا «من فضلك» و«شكرًا» دون إدراك، لكن لا يمكننا أن ندرك الجوانب الأخلاقية للأحداث والأفعال دون أن نكون وُعاة إلى حدٍ ما. إذ يبدو أن الوعي يسمح لنا بدخول مجالات القيم التي لا تستطيع الكائنات اللاواعية -أو حتى نحن أنفسنا في لحظاتنا اللاواعية- أن تبلغها.
- الزومبي
التفكير في كائنات لا وعي لها كان أسلوبًا مفيدًا للفلاسفة في فهم السمات الجوهرية لتجربة الوعي. خذ مثلًا الزومبي: حاجج الفيلسوف «ديفيد تشالمر» بأنه يمكننا تصوّر كائنات لها نفس حالاتنا الجسدية لكن دون وجود تجربة الوعي؛ فتوأمي الزومبي سيتحدث كما أتحدث، وسيمشي كمشيتي، وسيضحك ضحكي ويبكي بكائي، لكنه سيفعل كل ذلك دون تجربة الوعي. سيصرخ متألمًا في حال أصاب ركبته، لكن لن يسعه أن يُخيّل له شعورًا مثيلًا كهذا الألم؛ فالأمر شبيه بأن تكون كل المصابيح مُنارة لكن لا يوجد أحدٌ في المنزل. يُبين ذلك -حسب تشالمر- بأنه لا يُمكن ربط الوعي بالحالات المادية للجسد، ولهذا السبب حاجج بأن الوعي لا-مادي في جوهره. لقد وصل إلى نفس نتيجة «ابن سينا» مستخدمًا تجربةً فكريةً مختلفة اختلافًا بيّنًا. إنّ الزومبي في تجربة «تشالمر» الفكرية ليسوا كـ«الزومبي» في القصص الخيالية؛ فلو حكمنا عليهم بناءً على مظهرهم الخارجي -مثلًا- فلن نُميّز بيننا وبينهم.
على النقيض من ذلك، عندما نفكّر في «الزومبي» ثقيلي الحركة في الأفلام، فعادةً ما يُصوّرون على أنهم مخلوقات ميكانيكية بطيئة الحركة. في رواية «جورج روميرو» الكلاسيكية «فجر الموتى» يشق العديد من الزومبي طريقهم إلى مجمّع التسوق ضاربين رؤوسهم بالأبواب الزجاجية اتباعًا لعاداتهم وأنماط معيشتهم في حياتهم بوصفهم مستهلكين. حيث يشير «روميرو» إلى فكرةٍ أيديولوجية ليست خافية تمامًا، مفادها بأننا نحن المستهلكون نعيش حياة فارغة كحياة الزومبي.
إنّ فكرةَ الزومبي هذه -كائنات مثلنا لكن دون وعي- موحية إيحاءً دالًّا.
يعود أصل الفكرة إلى أيام العبودية في جزر الكاريبي، وهي مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتقاليد غرب أفريقيا الدينية. نظرًا إلى الأوضاع المزرية التي عاشها العبيد آنذاك؛ فقد ترقّب العديدُ منهم الموتَ مخلِّصًا من تلك الأوضاع. في «هايتي» -على سبيل المثال- كانت إحدى المخاوف أن الموت قد لا يعني الخلاص من العبودية؛ فثمة مجازفة أن البوكور (الساحر) قد يعيد إحياء جسد الميت ويخضع إرادته ويستعبده مجددًا. يمثّل الزومبي الإمكانية المرعبة لحالة استعباد لا تنقطع، ومن أجل تفادي ذلك، وضمانًا بكون الموتُ طريقًا حقيقيًا للتخلص من العبودية، كان ممارسو «سحر الفودو» في «هايتي» يصلّون لكائن يسمّى «بارون صاميدي» الموجود على نقطة التقاء الأحياء بالأموات، والذي يصاحب الأرواح إلى أرض الموتى. كان أحدُ أدواره ضمان أن جسد الميت يتحلل في القبر بحيث لا يكون متاحًا للاستعباد؛ كزومبي يُبعث مجددًا.
ما عسى ردّة فعل ممارس «سحر الفودو» أن تكون على ما يقوله الفيلسوف الأمريكي «دانيال دينت»، إذْ كتب هذا الأخير قائلًا: «إن الوعي الإنساني ليس إلا إيهام الدماغ لنفسه». فالوعي يبدو حقيقيًا ومهمًا بالنسبة لنا، لكن في واقع الأمر هو ليس كذلك، إذْ الوعي ليس إلا شيئًا أفرزه نظامٌ معقد مكون من مليارات من آلات متناهية الصغر تسمى العَصبونات. إنّ الوعي قصةٌ يقصّها الدماغ على نفسه عن نفسهِ، لكنها ليست قصةً مهمة طالما أن الأدمغة لا تحتاج أن تفهم كيفية عمل الأدمغة لكي تقوم بمهامها. فمن وجهة نظر «دينت» فإنّ الوعي الإنساني مجرد رفيق في الرحلة، جالسٌ على قمة نظام معقد وعملاق للعمليات البيولوجية، لكن لا دور له في هذه العمليات البتة. إنّ رؤية «دينت» عن الوعي مستفزةٌ وجذابة من عدة جوانب، فهو -حسب رؤيته- ظاهرة زائدة أو ظاهرة مصاحبة (epiphenomenal) يرتبط بالدماغ كارتباط الزبد بموج المحيط. فـ«دينت» لا ينكر وجود الوعي، بل لا يراه مهمًا حقًا في فهمِ طبيعة النظام ككل.
بمعنى من المعاني، يبدو أن مقولة الأهمية نفسها لا معنى لها بمعزلٍ عن كائنات تهمّها الأشياء؛ فلو أننا لم نكن وُعاة قط فلن يعنينا ذلك التساؤل فيما لو كان الشيءُ مهمًا أم لا. فعلى الأقل بالنسبة للبشر؛ فإننا نحتاج إلى أن نكون وُعاة من أجل بلوغ الأسئلة الخاصة بما هو مهم وما لا يهم. بالطبع، إن «دينت» لا يقصد الأهمية بمعنى القيمة أو المعنى أو المغزى، بل هو يفكر من حيثية السبب والمسبب. إنّ الذاتَ الواعية أثرُ عمليات سببيّة تجري في المستوى المادي، فلا أثر لها على مستوى الواقع المادي مطلقًا. وإن أردت صياغة ذلك بمصطلحات فلسفية، أقول: لا يمتلك الوعي قوةً سببية نازلة تؤهله لأنْ يكون شيئًا حقيقيًا؛ فتجربة الوعي لا تؤثر على الجسد الذي أحدثها. فلا وظيفة للوعي بحسب «دينت»، إذ هو ظاهرة مصاحبة -كما قلنا-.
ومما يلفت النظر، كما رأينا أعلاه مع ثنويين (dualists) أمثال «تشالمر» و«ابن سينا» و«ديكارت»، فإن الوعي أيضًا لا دور له في العالم المادي بالنسبة لهؤلاء. لعلنا قادرون على أن نفهم الوعي بوصفه ذا وظيفة ما، لكن ما عسى هذه الوظيفة أن تكون؟ في نظري، إنّ الوعي هو تلك القدرة على التفاعل مع بُعد القيم. حيث لا يوجد ضرورةٌ تحتّم أن تبدو الأشياء كما تبدو عليه، فثمة طرق أخرى يمكن أن تكون عليها، فقد تكون صحيحةً أو خاطئة، وقد تكون جميلةً أو قبيحةً، أو محمودة أو مذمومة، أو عادية أو استثنائية.
المقدرة على الدهشة، وملاحظة متى انحرفت الأمور عن مسارها الصحيح، والانتباه إلى المحادثات والالتفات للمبادئ، وأن تقدّر الجمال، وأن تلاحظ الاستثنائي، وأن تتبع المبدأ، وأن تحب، وأن تلاحظ بأن بعضَ الأمور أكثر أهميةً من غيرها. فهذه هي جوانب الواقع التي يجعلها الوعي متاحة لكائنات مثلنا.
إنّ هذه السمات لما يمكن أن نسمّيه بـ«المعيارية» ليست غريبةً عن الطبيعة، بل لعلها سمات جوهرية للواقع، ربما ستبدو غريبة عليك إن اعتقدتَ أن ما هو حقيقي حقًا هو ما تذكره لنا آخر مستجدات علم الفيزياء، لكنّ هذا ليس خيارًا متاحًا لأسباب سأتحدث عنها في مقالةٍ لاحقة على منصة معنى.