دافع مونتيني عن الرجل النبيل، وقصد به الرجل الذي جعلته معارفه حسن الخلق، وطيب النفس، ورفيع السلوك، فهو يتشرّب المعرفة، وينطق بالحكمة، وذو تأثير نافع في المجتمع الذي يعيش فيه، ويختلف عن غير النبيل؛ فالأخير يحوز المعارف من دون أن تُحدث أثرًا في سلوكه، ولا تغييرًا في أخلاقه، فالنبالة، والحال هذه، نتَاج التحصيل المعرفي، والكدّ الشخصي، وغايتها تهذيب طباع صاحبها، فإن لم يقع تفاعل مثمر بين المعرفة والحائز عليها، فسوف ينهار رهان المعرفة في تغيير أحوال الناس، وكما ذاد مونتيني عن النبلاء من الرجال ازدرى الغشماء منهم، الذين حسبوا أن حَمل المعرفة قد رفعهم رتبة فوق أقرانهم، وهم في الحقيقة دونهم، فهم كالقِرب المنفوخة بالهواء لا يمتخّض عنها شيء نافع. ولم يأتِ على ذكر النساء في هذا السياق.
لا عِبرة في استجلاب معارف شتّى من كلّ حدب وصوب، وتجميعها، وخزنها، من دون أن تتفاعل مع حاملها، فيصح مالكًا لها أكثر من كونه حاملًا لها، فذلك عبء لا فائدة ترتجى منه، كما يفتخر المرء بأملاك غيره، ويتغنّى بأمجاد سواه، فـقيمة المعرفة في تملّكها، وفي إعادة بعثها، وهذه هي صيرورتها، فلا تلبث خاملة في عقلٍ كسول لا يرتشفها، بل يحوز عليها من دون تصريفها، كالعملة الصدئة التي لا يُباع بها ولا يُشترى، وبهذا المعنى قال: «إننا نتخذ آراء الآخرين ومعارفهم، ودائع كالأمانات نحتفظ بها، وقد كان الأجدى أن نتملّكها، فتصبح آراؤنا ومعارفنا نحن، نحن في ذلك كالذي خرج يقتبس نارًا من عند جاره، ووجد لديه نارًا عظيمة موقدة، فجلس إليها يستدفئ ناسيًا أنه قد جاء يقتبس منها قبسًا لبيته»؛ ذلك «إن المعرفة لا يمكنها أن تنير من كان عقله مظلمًا، ولا أن تجعل من الأعمى بصيرًا؛ فدورها ليس أن تمنح المرءَ البصرَ بل أن تُربّيه فيه».(1)
دافع مونتيني، في سائر مقالاته، عن المعرفة المهذّبة لأخلاق الناس، وحذّر من معرفة توهم صاحبها بغير ما هو عليه، وتحول من دون أن يهضم شيئًا منها، فهي كالنبع المتدفق لا كالآبار المالحة التي يمنح ماؤها بدلاء مهترئة، «المعرفة عن ظهر قلب ليست بالمعرفة، بل هي احتفاظ بما استودعناه الذاكرة، أما ما نعرفه فعلًا، فإننا نستطيع التصرّف فيه دون حاجة للإحالة على أنموذج، ولا لإلقاء نظرة على كتاب».(2)، ولما كان الناس قد عهدوا التعبير عن المعرفة بالأقوال لا بالأفعال، فقد ظنّوا أنه بفصاحة التعبير عنها ترجّح كفتها، فالعالِم هو مَنْ أجاد التعبير عن معارفه بالقول البليغ، وليس بالفعل السليم، ولذلك، دافع مونتيني عن البداهة في التعبير عن الأفكار، ومن أجل إبطال ذلك الوهم، استخفّ بالتفاصح، واستهان به، ونهى عنه، وقد أسعفه تراث اليونان والرومان بما أراد لإثبات حجّته، ومن ذلك الأحاديث التي أمست أشبه بالأقوال المأثورة: «الحديث الذي يخدم الحقيقة، ينبغي له أن يكون بسيطًا خاليًا من التصنّع»، و«الكلام البليغ يسيء إلى الأشياء الحقيقية؛ لأنه يصرفنا عنها» (3). تكفّ المعارف المفيدة عن أداء وظيفتها إذا ما جاءت بقوالب متصنّعة، وتحجم عن تحقيق غايتها إذا ما وردت بصيغ متفاصحة.
ثمّة مفترق طُرق بين معرفة سطا عليها صاحبها، واختزنها، للإعلان عنها وقت الحاجة، لـيُشار إليه بالبنان على أنه عليم، وهي ترتبط بالقوالب اللغوية، وبالعلم بقواعدها، وهو النحو، والعاملون في هذا الحقل هم النُحاة، وبين معرفة تحصّل عليها صاحبها بمشقّة البحث، والتحقيق، ليهذّب بها نفسه، ويثقّف طباعه الأولى، ويهتدي بأعرافها في علاقته بالمجتمع الذي يعيش فيه، وفي إثراء معرفته بنفسه وبغيره، وفي النظر إلى العالم الذي يعيش فيه، وتشكّل الفلسفة جوهر هذه المعرفة، والعلم الناظم لها، هو المنطق، والمشتغلون بها هم المناطقة. ولا يجهل أحد الشِقاق العميق بين أصحاب هاتين المعرفتين: النحوية، والمنطقية. ولو وضعت الأولى في خدمة الثانية، بحسبها وسيلة لتنظيم التعبير، وهدفت الثانية إلى تحقيق سعادة الإنسان باعتبار تلك غايتها من دون تمحّل، لتحقّق ضرب من الكمال بين الوسيلة والغاية.
ومن أسف أن ذلك نادر الحدوث في الماضي، كما هو في الحاضر؛ فقد بالغ النُحاة في قواعدهم؛ حتى انتهوا إلى قوالب جامدة لا تفيد في إبلاغ الرأي، فحسب، بل تعيق صيرورة اللغة، وفاتهم أن النحو غايته تنظيم المعاني، وليس الانشغال المفرط بمواقع الألفاظ، وأحوالها الإعرابية، وبالغ المناطقة في ألاعيبهم الافتراضية، وقد أغراهم ذهول الناس من قدرتهم على جعل بواطن الظواهر وجوهها، ومكنتهم من جعل أعالي الأشياء أسافلها. ما حدث أن أدّى التفاصح غايته إلا على سبيل اللهو والتسلية، وما نجح المنطق الصوري في استيعاب حركة الحياة، وتنظيم شأن الواقع الاجتماعي، وكلتا الطريقتين تعتمدان على مهارة لا فائدة ترتجى منها، كحاوي الأفاعي، وجامع العقارب. وعلى الرغم من ذلك فـللنحوي، وللمنطقي، شأن جليل، في كثير من الثقافات، وكلّما أفرطا في عملهما زادت شهرتهما، وحرّي بهما مراعاة أعراف التعبير والتفكير، وعدم المبالغة في ذلك.
وقبل أن أمضي في بيان أشكال التغالب الثقافي بين النحو، ومادته اللغة، والمنطق ومادته الفلسفة، أدرج مثلًا ذكره مونتيني على التفاوت في موقف قُدامى الإغريق من الاثنين، إذ بحسب منظورهم، كانت اللغة أمّ النحو، وهو وسيلة سلامتها، أما الفلسفة فأمّ المنطق، وهو قالب تنظيمها، ودارت وقائع الحكاية في مدينة دلفي، أيّ في سُرّة العالم القديم كما اعتقدوا، وفيها كانت ترسم مصائر أمة اليونان بالنبوءات؛ إذ رأى أحد كبار النُحاة، ويُدعى ديمتريوس، جماعة من أهل الفلسفة جالسين براحة بال، يتبادلون الأحاديث، فبادرهم بالقول: «إمّا أنّي على خطأ، وإمّا أنكم لستم داخلين في نقاش مهم، كما يبدو من جلستكم الهادئة، وهيئتكم المرحة»، فأجابه أحدهم، وهو هيراقليون الميغاري، قائلًا: «إنّ الذين يخوضون في تصريف الأفعال، وأصول الكلمات، وقواعد الكتابة، هم مَنْ يتجعّد لهم الجبين متى تحدّثوا في علمهم، أما المواضيع الفلسفية فهي، في العادة، تدخل السرور على قلوب مَنْ يعالجونها، فلا يحزن لها منهم قلب، ولا يكفهرّ لها وجه».(4)
وزاد مونتيني على ذلك بمثالٍ يؤكد الانقسام في الثقافة الإغريقية بين الأقوال والأفعال، فقد كان القدماء «يبحثون عن علماء البلاغة، والرسامين، والموسيقيين في المدن اليونانية الأخرى، لكنهم يتّجهون إلى إسبارطة متى احتاجوا مشرّعًا، أو قاضيًا، أو إمبراطورًا. فإذا كان أطفال أثينا يتعلّمون كيف يجيدون الكلام، فإنهم في إسبارطة يتعلّمون كيف يجيدون الفعل والتصرف، وإذا كانوا في أثينا يعلّمونهم كيفية حسن التخلص من برهنة سفسطائية، وكيف يكشفون عن الخدعة تحت ستار الكلمات المتعانقة في نفاق، فإنهم في إسبارطة كانوا يعلّمونهم كيف يتخلّصون من إغراءات الحسّ، وكيف يتغلّبون بفضل الشجاعة الفائقة على مخاوف القدر والموت، فهناك كانت الناس تشتبك بالكلام، وهنا بالأشياء، هناك استعمال متواصل للغة، وهنا تمرين أبدي للروح».(5)
أراد مونتيني أن يضرب الأمثلة الدالّة على أنّ المعرفة عند النحوي علامتها السِجال، والخلاف، والتمادي في الحجّة ونقضها، ولم يكن هذا في وارد فلاسفة الإغريق، فمعرفتهم مرِحة، وعملية، تفرح بها القلوب، وتُطرب لها العقول، فلا ينشب حولها خلاف، لأن غايتها بثّ الائتلاف. وبعبارةٍ بديلة تؤدي المعنى نفسه: يكتم علمُ النحو بداهةَ النفس، فيما تغذيها الفلسفةُ بالعافية، فحيثما تكون الحكمة يكون الانبساط والمرح؛ لأن غايتها الفضيلة التي تبدو مبهجة كقبة السماء، وتبعث الحبور في النفس، وللحدّ من نفوذها في إشاعة الفرح، فقد جعلها خصومها مكفهّرة الوجه، عابسة، صعبة المراس، لينفضّ الناس عنها، فيما هي ترياق العالم، وأشبه ما تكون بـ«العلم المرح» الذي دعا إليه نيتشه. أما النحو، والتدقيق في قواعده، وإلزام المتحدّثين التقيّد بها من دون مراعاة مضامين أقوالهم، ومن دون إيفاء حقّ المعاني التي يقصدونها، فتنفخ في النحوي وهمًا أنه أسمى من الآخرين في أقواله، وإن كان في الحق أدناهم في أفعاله. حدث انشقاق بين معرفة شكلية غايتها التفاصح، ومعرفة عقلية هدفها بلوغ الحقيقة. وكلما مضى الزمن زاد الشقاق، بدل أن يحلّ الوفاق. وهذا ضرب من التغالب الثقافي المشين بين المعارف يقوم على قوالبها وأشكالها، وليس على مضامينها ووظائفها.
تعلّم الفلسفةُ المرءَ كيف يعيش، ويعلّمه النحوُ كيف يقول، والفرق جسيم بين الفعل والقول، غير أنّ معظم الناس يعجبون بالأقوال المنمّقة، ويعرضون عن الأفكار النافعة، وكان أفلاطون قد ميّز بين طباع الأثينيين، وطباع الإسبارطيين، باعتبار أن أهل أثينا مغرقون في الجدل، وأهل إسبارطة منهمكون بالعمل، فأصدر حكمًا مفاده، أنّ الأثينيين يتوخّون، في كلامهم، الإسهاب، في حين يتوخّى الإسبارطيون الاقتضاب. وكلّ يحسب أنه على صواب، ويفوق الآخر منزلة، ويعلوه مقامًا. وكان ذلك الشقاق معروفًا في القرن السادس عشر، القرن الذي عاش مونتيني فيه، وجعل مقالاته مرآة عاكسة لأحواله، فساقَ المثل الآتي عن انشقاق المعارف، وعن الرجل النبيل: كان صاحب المقالات قادمًا، في يومٍ ما، من مدينة أورليان، فقابل في الطريق اثنين من المعلّمين قادمين من جهة مدينة بوردو، ولفته أنّ أحدهما يتقدّم على الآخر بحوالي خمسين خطوة، وخلفهما، على مسافة ليست بعيدة، ظهرت كوكبة من الفرسان تحيط برجل نبيل، فسأل أحد أتباع مونتيني المعلم الأول عن هوية ذلك «الرجل النبيل»، إلى الخلف منه، ولمّا لم يكن ذلك المعلم قد رأى النبيل وفرسانه، فقد حسب أن السائل يقصد المعلّم الآخر خلفه، فأجاب: «إنه ليس رجلًا نبيلًا، بل هو نحوي من النحاة، وأنا منطقي من المناطقة».(6)
تهكّم مونتيني من ذلك التفريق السطحي، وناجى نفسه: «أما نحن الذين لا نتوخّى تكوين نحويٍّ ولا منطقيٍّ، بل تكوين رجلٍ نبيلٍ، فما علينا إلاّ أن نتركهم يُضيعون وقتهم كما يشاءون» (7). وبصرف النظر عن دفاع مونتيني عن «الرجل النبيل»، والدعوة إلى النبالة الثقافية المسؤولة، فقد لفتتني التراتبية في أحوال المعلمَين الفرنسيّين، وهما يمشيان في طريق واحد؛ فمعلّم المنطق يسبق معلم النحو بخمسين خطوة، فلا يقبل أن يلازمه في الطريق ذاته، فـالأفضلية ينبغي أن تكون للمنطق علمًا ومعلّمًا، وإزاء هذا التفاضل فينبغي إزراء النحو ومعلّمه، ودفعه إلى الوراء، فهو أدنى مكانة، فلا تجوز المساواة بين حاملي علم شريف وعلم مرذول، وحينما سئل معلم المنطق عن سؤال لا صلة له بالمنطق، ولا بالنحو، ميّز نفسه بأنه منطقي من المناطقة، أما الآخر الذي يدبّ في أثره، فهو نحويّ من النحاة.
استدعى المشهد الكاشف عن التغالب الثقافي في فرنسا القرن السادس عشر إلى ذاكرتي مشهدًا نظيرًا في الثقافة العربية القديمة، أتى أبو حيّان التوحيدي على ذكره في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»، وخصّه بليلةٍ كاملة من لياليه، وهي الليلة الثامنة(8)، حيث جرت مناظرة بين معلّم نحو، ومعلّم منطق، بين اللغوي أبي سعيد السيرافي، والمنطقي متّى بن يونس القنّائي، وذلك في مجلس الوزير ابن الفرات، في بغداد، في نهاية الربع الأول من القرن الرابع الهجري، ورواها التوحيدي في كتابه المذكور ضمن أحاديثه الممتعة في بيت الوزير أبي عبدالله العارض. وبدل أن تكون الأفضلية للمنطقي كما هي الحال عند الفرنسيين، كانت الغلبة للغويّ عند العرب. غلب اللغوي المتفاصح، خصمه المنطقي ركيك التعبير، الذي انتهت إليه، كما ذكر ابن النديم «رياسة المنطقيين في عصره» (9). لم يتوفّر ظرف مناسب لمناظرة عادلة، فقد كان مجلس الوزير عربّي اللغة والثقافة، وفي مقدمة ذلك النحو الذي برع السيرافي فيه، ويعرف به سائر الجالسين، فبدت الفلسفة اليونانية يتيمة، لأنها غريبة عن محفل عربي، وبدل إنصافها، ومراعاة أحوال الرجل الناطق بها، جرى التنكيل به، والاحتفاء بخصمه.
والحال أن المناظرة لم تجرِ في جوٍّ من الحياد الثقافي، ولا الموضوعية العلمية، فالحاضرون من أهل البيان، فأُفرد القنائي دخيلًا، وغير مرغوب فيه، واحتُفي بالسيرافي، الذي ظفر بالكلام، واسترسل فيه، فيما أطبق الصمت على خصمه؛ لأنه لم يُعط فرصة للحديث، فقد كان المجلس في منأى عما سينطق به، فأهمل ذكره، حتى صاحب المجلس، الوزير ابن الفرات، أهمل ضيفه المنطقي، وأثنى على ضيفه اللغوي، قائلًا: «عينُ الله عليك أيها الشيخ، فقد ندّيتَ أكبادًا، وأقررتَ عيونًا، وبيّضت وجوهًا، وحُكت طِرازًا لا يبليه الزمان، ولا يتطرّق إليه الحدثان». أشفى السيرافي غليل المجلس العربي من ثقافة يونانية وافدة، فقوبل بالاحتفاء، وذُكرت مناقبه، وأثني عليه، فقد كان، وهو في الأربعين من عمره، يوصف بأنه «أجمع لشمل العلم، وأنظم لمذاهب العرب»، وكان «يصوم الدهر، ولا يصلّي إلاّ في جماعة، ويتألّه، ويتحرّج، وغيره بمعزل عن هذا».(10)
خُلعت على السيرافي مهابة دينية تحول دون الطعن فيه، فهو الناطق بلسان العرب، أما القنّائي فعومل بازدراء صريح، حتى أنّ التوحيدي لم يذكره في ختام المناظرة، بل، وامتد الإزراء به إلى ما بعد المناظرة، فقد اتهمه أبو حيّان بأنه كان يملي مؤلفاته، وهو «سكران لا يعقل، ويتهكّم، وعنده أنه في ربح، وهو من الأخسرين أعمالًا الأسفلين أحوالًا» (11). تنوسي أن القنائي لم يكن نحويًّا، بل ولم يكن أديبًا بالمحمول الذي ينطوي عليه مصطلح أديب، فشغله الشاغل كان الفلسفة اليونانية، ومنطقها الأرسطي، عبر اللغة السريانية، ولذلك أشيع أنه جاهل العربية، وجاهل بأرسطو، المعلّم الأول في فلسفة الإغريق ومنطقهم، أيّ أنه جاهل بالحامل والمحمول، ولم يقتصر الأمر عليه بل شمل الذم سلالته، بعد ذلك، وانخرط في الذم جملة من الخصوم، منهم: ياقوت الحموي، والخطيب البغدادي، والذهبي، فهو وسلالته المنطقية منبوذون في ثقافة بيانية تحتفي بـالناطقين بها، والصائنين لعلومها، ولا تأبه بسواهم. ولم يسلم المناطقة من الذم، لأنهم جاءوا بمعرفة لا توافق سليقة العرب في الكلام. والحال أن القنائي أدخل معرفة مستعارة من سياق منطقي، وزجّ بها في سياق بياني، سياق لا يتوفر على استقبال ما حمله من الثقافة اليونانية إلى العربية، فجاءت ترجماته لها مستغلقة، ولا تستجيب لمقتضيات العربية، ولا توافق مفاهيمها مفاهيم العرب. ولم يخرج السيرافي منتصرًا من المناظرة، بل حالفه الانتصار إلى الأبد.
وإذ انشقّت علاقة الناس بالمعرفة شقين: شق ينتفعون به، ويرعونه، ويتبادلونه، لترقية أحوالهم، وشق يتباهون به، ويتساجلون، ويتخالفون، ويخطّئ بعضهم بعضًا بذرائع جدلية، فلا تحدث فيهم إلا الفرقة، والتناحر، فالسبيل إلى ذلك له مدخل يعيد الاعتبار لحامل المعرفة ومحمولها، فلا انفكاك بينهما، حتى لينسى المرء المكان الذي أودع المعرفة فيه، فقد تغلغلت في نفسه وفي عقله، وفي وجدانه، وفي مشاعره، وتجسدت في أفكاره، وفي أعماله، وفي علاقاته بالآخرين، فذلك يخلع شرعية على المعرفة، بمقدار ما يخلع قيمة على العارف بها، حتى تتوارى، فما تعود ظاهرة للتباهي بها، والانشغال بمظاهرها.
وبصرف النظر عن القوالب الصياغية للمعارف، المنطقية أو النحوية، فالمهم في حياة الناس مضامينها، فلا يصح تقديم القالب الصياغي على المحمول الدلالي للمعرفة، فإن وقع ذلك التقديم، فسوف يشغل مدّعو المعرفة بالأشكال الفارغة للجدل الذي يروم إثبات حجة أو إفحام خصم، فليس غاية الناس الانهماك في حدود المعارف، وفي أسانيدها، وأشكالها، إنما في فعلها، وقدرتها على تغيير أحوالهم، ولهذا انحبس الخلاف في إطار الأشكال المحض للمعارف، ولم ينفتح على الأفعال الخالصة لها، فلا ضير في لغة سليمة تبلغ عن مقاصد الناس في أقوالهم، ولكن يأتي الضرر من إرغامهم على الأخذ بقوالب نحوية فارغة غايتها بيان التفاضل بين من يعرفها ومن يجهلها، وعلى منوال ذلك، فلا عبرة من قوالب منطقية يقع فيها إثبات القضية ونقيضها بغاية إظهار الأغاليط، وإبراز براعة الحيل الذهنية، إنما العبرة في بلوغ درجة من التفكير السليم الذي يعصم صاحبه من الوقوع في الخطأ، أو إلحاق الضرر بالآخرين، فتلك غاية المعرفة أيا كانت.
وعودًا على بدء، ذمّ المنطق في هذه الثقافة، وتقريظه في تلك، من جهة، وإطراء النحو في هذه الثقافة، وثلبه في تلك، مرجعه ليس ذمّ عِلمين نافعين في تحسين أفعال اللسان وأفعال العقل، إنما يعود إلى تنازع المعلّمين حول الأشكال التي تتلبسها تلك العلوم، فشيوع سياق حامل للغة، ومفسّر لها، ينتج عنه تغليب لصالح النحو على المنطق، وشيوع سياق حامل للفلسفة، ومفسّر لمقولاتها، يفضي إلى تغليب لصالح المنطق على النحو، وليس يجوز الانخداع بما يشاع عن أن قيمة المعارف تقتصر على أشكالها، فذلك يبطل قيمتها، ويستأصل الغاية منها. والجمع في ما بينهما، بطريقة صحيحة، يأتي به الرجل النبيل.
الهوامش
- ميشيل دو مونتيني، المقالات، ترجمة فريد الزاهي، الرياض، دار معنى للنشر والتوزيع، 2021، الكتاب الأول، ص268-269، ص272
- المصدر نفسه، ص293
- المصدر نفسه، ص322
- المصدر نفسه، ص306
- المصدر نفسه، ص277
- المصدر نفسه، ص 317
- المصدر نفسه، ص317
- أبو حيان التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، القاهرة، لجنة الترجمة والتأليف والنشر، ج1، الليلة الثامنة.
- ابن النديم، الفهرست، تحقيق ناهدة عثمان، الدوحة، 1985، ص534
- الإمتاع والمؤانسة، الليلة الثامنة
- المصدر نفسه، الليلة الثامنة