بعد «العمل الفني وتحوّلاته بين النظر والنظرية: محاولة في إنشائية النظر» (2018) يُطالعنا الباحث التونسي الدكتور خليل قويعة بكتابه الأخير «مسار التحديث في الفنون التشكيلية: من الأرسومة إلى اللوحة» (2020) عاملاً هذه المرّة على ترك مساحة مع التفكير الفلسفي المُجرّد والنزوع صوب كتابة أركيولوجية، تحفر في تاريخ ومُتخيّل فنّ شعبي تونسي عُرف داخل الأدبيات التاريخيّة ب «فنّ الأرسومة». وهو فنّ تراثي اعتبر خليل قويعة بأنّه فنّ كان مُمهّداً لبروز اللوحة المسندية من أجل بلورة حداثة اللوحة داخل تونس. مع أنّ الباحث لم يقف عند هذا الحد، وإنّما توغّل أكثر في تاريخ الأرسومة راصدًا مسارات التحديث وتقاطعاته داخل التجربة الفنّية التونسية بين فنّ الأرسومة واللوحة. لكنّ المُثير للدهشة، هو المنهج الذي ارتأى قويعة الاعتماد عليه في كتابه هذا، حيث اعتمد على نمط من الكتابة الحفرية التاريخيّة القادرة على ترميم هذا الفنّ وإعادة التنقيب فيه وفي معالمه وإبراز تضاريسه وخصوصياته وأهميّته التاريخيّة، بوصفه فنّاً يجمع بين الكتابة والصورة. من ثمّ، جاءت الكتابة ذات ميسمٍ تاريخيّ تقف عند تعرجات هذا الفنّ كامتداد عميق لمنظومة الفنّ الإسلامي، فكان هذا الفنّ بعبقريته وجماليّاته يُشكّل مرجعية فكريّة قويّة للأرسومة التي ظلّت بشكل أو بآخر أحد ألوانه وتمثلاته خلال الربع الأخير من الحقبة الحديثة. ما يعني أنّ طبيعة هذا الفنّ ومدى التحامه بقضايا الإسلام والتاريخ والذاكرة قد فرض نوعًا من المقاربة الخاصّة على الباحث خليل قويعة باعتماده على خطاب تاريخيّ يرصد السياقات التاريخيّة والبيئة الاجتماعية والمرجعيات الثقافيّة التي صاغت وبلورت أفق هذا الفنّ مع مطالع القرن العشرين داخل تونس. ومع ذلك فإنّ الخطاب التاريخيّ الحفري، لم يمنع خليل قويعة أحيانًا من تجاوز السياقات البرانية وانتقال الممارسة صوب فضاء اللوحة المسندية، وذلك بتفكيك هذه العملية من الداخل وفهم تدرّجاتها وملامحها وجماليّاتها.
هذا وتجدر الإشارة، بأنّ خليل قويعة هو أستاذ الجماليّات وعلوم الفنّ بجامعة صفاقس التونسية. وهو إلى جانب كونه من الباحثين العرب القلائل الذين خصّصوا مسارات تفكيرهم في الفنّ، يظلّ قويعة مُلتصقًا به من خلال الممارسة التشكيلية، حيث أقام العديد من المعارض داخل البلاد العربيّة وخارجها. كما أشرف على العديد من الندوات الفكريّة حول تاريخ الفنّ. وقد صدر: «تشكيل الرؤية: تأمّلات في تجارب تشكيلية من تونس» (2007)، «عمارة الرؤية في مدينة الرسّام نجيب بالخوجة» (2007)، «بنية الذائقة وسلطة النموذج في ظاهرة الاقتناء الفني العربي»(2013).
عن كتابه الأخير حول مسار التحديث في الفنون التشكيلية، التقت منصّة معنى بالباحث التونسي خليل قويعة، فكان لها معه هذا الحوار الخاصّ:
- «الأرسومة» فنّ تراثي ظهر في حقبة تاريخيّة من تاريخ تطوّر الحركة التشكيليّة في تونس، بل هي الوجود القبلي لظهور اللوحة المسندية وتجذّرها داخل الفنّ التونسي اليوم. خليل قويعة، لماذا العودة إلى هذا الفنّ التراثي الذي يُشكّل لا محالة سنداً في تأصيل الفعل الفنيّ داخل تونس؟
في تقديري، إنّ القيمة التي أنشدها من هذا الإصدار لا تكمن في الكتاب فحسب، بل في كونه بمثابة مختبر داخل مشروع نقديّ أسعى إلى أن يكون متواصلًا… فالكتاب يأتي للنّظر في تجارب فنيّة عربيّة بعينها، ضمن دراسة جماليّة مطبّقة، وذلك على خلاف آخر الكتابات السّابقة التي خضتها من أجل تركيز الجهاز النّظري والمفاهيمي والاصطلاحي انطلاقًا من تاريخ الفنّ الحديث والمعاصر في العالم، وخاصّة ما يتعلّق بالتّلقّي وكيفيّات الإدراك والنّظر إلى الأعمال الفنيّة عامّة وطرائق تأويلها.
وهكذا، كنت قد وجّهت فيه النّظر إلى مسائل تاريخيّة ومفصليّة حسّاسة في التّراث الفنّي العربي وخاصّة مجال الأرسومات الزّجاجيّة التي أعدها مفاتيح أوّليّة لفهم بوادر تحديث الشكل الفنّي في البلاد العربيّة.
ولا ريب، كان لزامًا على مسار التّحديث الفنّي في الثقافة العربيّة بُعَيد القرن التّاسع عشر أن يكون بمثابة معترك رياديّ، وهو الانتقال من منظومة «الرّسام الحِرفي» (الأرسومة) إلى منظومة الفنّان «المثقف والمبدع» (اللّوحة المسنديّة) وبالتّوازي، من دكّان الحِرفيّ إلى قاعة العرض الفنّي الإبداعي. ومن ثمّة، كان لا بدّ على جيل الرّيادة أن يخوض عمليّة الفصل المساريّ المتدرّج ما بين الفنّ وأشكال التّمثّل الرّمزي، بمختلف تجلّياته السّرديّة والأسطوريّة والملحميّة في بنية الثقافة الإجتماعيّة (كما في مواضيع «الخطوط والحروفيّة» و«الفروسيّة» و«المدينة العربيّة»)، نحو استقلاليّة العمل الفنّي وتسيّده الجمالي.
فليس الكِتاب مجرّد سرد أفقيّ لمسار تاريخيّ بل هو إعادة تفكير في مسار كتابة الذّات فنّا وأساليب إنشاء اللّوحة الحديثة نفسها ما بين وعي جمعيّ ووعي فرديّ مستقلّ. وذلك من خلال استثمار بعض النّظريّات والمناهج وآليّات الفهم وأبرزها النّظريّة الإنشائيّة التي تتعلّق بالإبداع الفنّي، بوصفه سيرورة حيّة في الزّمن، وكذلك نظريّة التّلقّي المطبّق على الفنون التّشكيليّة، حيث ينفتح مسار التّناول على إنشائيّة أخرى تخصّ مسار النّظر والتّأويل واستئناف إبداع العمل الفنّي ذهنيّا وهو ما أسميته بـ «الإنشائيّة المفتوحة».
ومن ثمّة، يضيء الكتاب أيضًا بعض المطبّات في مسار التّحديث، ذاك الذي ارتكز على حركة الإبداع دون أن يشمل حركة التّلقي، ممّا عطّل تعاطيها مع مسار التّحديث الفنّي، حيث إلى جانب معركة تحرير الشّكل الفنّي، يفترض أن تستمرّ معركة أخرى لتحرير طرائق التّذوّق والتّعامل مع الأثر من التّمثــــيل «الرّمزي» إلى التّمَثّل «الجمالي».
وهكذا، لم ينحصر الكتاب في تاريخ الشّكل الفنّي وإنشائيّته أفقيًّا، بل من خلال نظر نقديّ شامل يتطرّق إلى الأسس الثقافيّة لبنية الذّائقة الفنيّة نفسها وإلى شرط الذّاتيّة في الوعي الجمالي الحديث، كما ينفتح على سؤال كيف نكتب تاريخ فنّنا بأنفسنا بما يستجيب للخصوصيّات الثقافيّة وتنوّع الرّؤى بعيدًا عن المعايير المركزيّة التي شكّلت معايير الحداثة نفسها؟ هل يفترض الأمر أن نصوغ فهمنا لـ حَدَاثاتِـنا بأنفسنا، خارج الأقانيم الجيو- استراتيجيّة التي أصبحت تتحكّم في منطق اشتغال سوق الفنّ في العالم ومنظومات ترويج القيم والأفكار؟ إنّ الأمل من هذا الكتاب، أن يكون خطوة في هذا الاتّجاه التّاريخي النّقدي، خطوة تحثّ على مُراكمة الجهود في هذا المجال.
- يعتبر البعض أنّ انتماء «الأرسومة» إلى الفنّ «الحرفي» أو «الصنائعي» يجعلها امتداداً عميقًا لبنية ثقافية تقليدية غير قادرة على التأثير في مجريات الفنّ العربي المعاصر وفتح آفاق جديدة له على مستوى التخييل والمُمارسة. كيف تفهم طبيعة العلاقة بين الأرسومة والفنّ المعاصر؟
الأرسومة الزّجاجيّة هي امتداد لفنّ التّرقيم (زخرفة المخطوطات) وفنّ المنمنمات الشرقيّة (الفارسيّة والبغداديّة) وقد نشطت في البلاد العربيّة منذ منتصف القرن التّاسع عشر واستمرت إلى بداية القرن العشرين ثمّ تراجع حضورها مع انتشار فنّ اللّوحة الزّيتيّة بالبلاد العربيّة أي مع الفنّ الحديث. أمّا الفنّ المعاصر فيعود إلى ما بعد الحرب العالميّة الثانية وهو ردّ فعل إبداعي على أزمات ثقافيّة تخصّ منظومة القيم المعياريّة الحديثة التي رافقت الفكر الجمالي في العالم الغربي بمختلف تحوّلاته السّياسيّة والإجتماعيّة في عبوره إلى ما بعد الحداثة. أمّا إرهاصات الفنّ المعاصر الأولى فقد بدت ما بين الحربين مع الطّلائعيّين الجدد من أمثال مارسيل دوشمب. ومن خلال الفن المعاصر، عمل الفكر الإبداعي في الغرب على مراجعة مكتسباته الحداثيّة والحضاريّة. لكنّني في هذا الكتاب أتناول تحديدًا مسار التّحديث في العالم العربي أي كيف نشأت ثقافة اللّوحة الفنيّة ذات الملامح الحديثة. وحسبنا أن المرور إلى المعاصرة يقتضي تمثلًا مفاهيميّا وتاريخيًّا لمسارات التّحديث وتجديد طرائق التعامل مع التراث حتى لا تبقى رؤيتنا للرّاهن مرتهنة بالقيم السّرديّة والحكائيّة القديمة التي كانت تولي اهتمامٍا بالغٍا للمضامين الثقافيّة التقليديّة، على حساب الشكل الفنّي وأساليب معالجته إبداعيًّا. إذ الفنّ يزدهر مع أفق الحريّة والتّطوّر التاريخي للقيم ويأبى الانغلاق المعياري.
على أنّ الأرسومة نفسها كشكل تراثي، نمطي، قد خاضت لعبة المعاصرة في بعض التّجارب الإبداعيّة بعد تخليصها من هالتها القدسيّة والعجائبيّة والأسطوريّة والتّعامل معها بوصفها انزياحًا سيميولوجيّا عن سياقها القديم أو بوصفها شكلًا مخادعًا للصّورة أو خيانة إبداعيّة لحضورها الأيقوني (trahison de l’image)، أي تخليصها من قداستها الأيقونيّة وإحلالها في سياق راهن، غير سياقها لإثارة أسئلة مفاهيميّة وتسليحها باستشكالات ممكنة ومحتملة، وهو ما لاحظته مؤخّرًا في تجربة طريفة للفنان العراقي محمود شوبّر (رواق فادي سبايس آرت بأفيون) الذي استعاد أرسومات عنتر وعبلة داخل لوحة معاصرة، فمكّن هذين الشخصيّتين من العيش معنا في عصر العولمة وتمديد حياة هذه المدوّنة الشعريّة لتكون ثاوية في ثقافتنا اليوميّة المعيشة. وهي تجربة تستأهل التّقصّي، على الأقل لأنّها تؤكّد روحًا إبداعيّة طريفة من جهة الفنّان وكذلك خصوبة بالغة من جهة هذا التراث الإنساني الذي طالعنا به الشعر العربي القديم.
- ما المسار التاريخي والفكري والجمالي الذي قطعته «الأرسومة» في تاريخ الصورة ومُتخيّلها في تونس؟ وإلى أيّ حد استطاع هذا الفنّ التراثي أنْ ينسج علاقة قويّة مع جميع الفنون البصريّة، التي وجدها في طريقه صوب اكتمال حداثته وقوّته وذيوعه داخل الساحة العربيّة؟
هو مسار متنوّع من حيث طرائق النّظر إلى التراث وممكنات استحضاره. لكنّ الأرسومة ليست مجرّد غرض مادّي، بل هي بنية في النّظر والإدراك وهي شكل من تمثلات العالم والأحداث. وعلى الفنّان اليوم أن تكون له منطلقات مفاهيميّة ومقاربة فكريّة في التعامل مع التراث. ومن قوّة كلّ تراث عظيم أن يكون، في الفنّ، قوّة دافعة وليس قوّة جاذبة إلى الفيتيش الرّمزي حيث انغلاق دورة التاريخ. وأنا من الذين يعتقدون ألاّ يستقيم وجود فنّ دون حريّة في الرّؤية إلى العالم والزّمن والأشياء. ولكن مثلما أكّدت في الكتاب، إنّ معركة تحرير الشكل من التّراث التّصاويري الجاهز والمحتوى السّردي الذي كرّسته الأرسومة الزّجاجيّة استئناسًا بالمُنمنمَة الشّرقيّة، لم تكن متكافئة لدى أجيال روّاد التّحديث، في تونس كما في الفضاء المغاربيّ والعالم العربي بشكل عام، بل وقد كانت اللّوحة مرتهنة بنظام الأيقـَـنَة (iconisation)، حتّى تؤَمّن شرط التّواصل مع عموم النّاس. وهو ما ينسحب أيضًا مع المحفورة والنّحت والفوتوغرافيا. ولقد استوفى الفنّانون التّونسيّون الرّوّاد مفهوم اللّوحة الحديثة، بماهي «نافذة مفتوحة» أو بما هي «مساحة مطليّة بالألوان»، ولكن ذلك كان على المستوى الشّكلي بالأساس، حيث أبقى الفنّانون على جانب مهمّ من المضمون السّردي خلف ما يُعتمد من مواضيع مثل مواضيع «المدينة» وتجلّياتها في «السّوق» و«العرس» و«البطحاء» و«المقهى».
وإلى اليوم ما يزال موضوع المدينة العربيّة الإسلاميّة أو «المدينة العتيقة» يلقي بضفافه في لوحات الشباب، في الفوتوغرافيا الفنيّة والتصوير وحتى في الفيديو والتنصيبات وفن الأداء الحيّ؛ فيبدو أنّ المُشاهد العربي لم يتخلّص بعد من ثقل الذّاكرة المعيشة في صياغة الحكم الجمالي على الأثر وأنّ دلالة اللّوحة ما تزال مرتهنة بما هو راسخ في الكون الدّلالي من خارج اللّوحة نفسها. وفي الوقت الذي اجتهدت فيه أجيال الفنّانين وخصوصًا في النّصف الثاني من القرن العشرين باتّجاه تحرير النّظر إلى الشكل الفنّي وإكسابه استقلاليّة جماليّة، ما يزال المشاهد حبيس نظر أيقوني إلى اللّوحة الحديثة والمعاصرة.
- رغم انتشار مثل هذه البحوث المونوغرافية في تاريخ الفنّ العربي، إلاّ أنّها تبقى مُحتشمة داخل المؤسّسات والجوائز والجامعات ومختبرات البحث العلمي، بسبب تهميش هذه الثقافة لكلّ ما هو بصريّ. الدكتور خليل قويعة، هل تعتقد أنّه آن الأوان للثقافة العربيّة أنْ تنفتح بقوّة على المُتخيّل البصري من تشكيل وسينما وفوتوغرافيا من أجل إضاءة وإبراز معالم هذه الثقافة البصريّة في تاريخ العرب قديمًا وحديثًا؟
في تقديري، تكمن أهمّية الكتاب في سعيه إلى أن يكون ورقة عمل نقديّة للثقافة الجماليّة العربيّة من خلال إضاءة مقاطع تكاد تكون منسيّة لدى الباحثين ولكنّها مفصليّة، مثل الأرسومات الزّجاجيّة. كما يتّسع الأمل من هذا الكتاب ليشمل خدمة الثقافة المفاهيميّة المتعلّقة بالفنّ التّشكيلي وتركيز قيم جديدة في المجال التّربوي من أجل الاستئناس بثقافة التّلقّي في مجال الفنون والمصالحة مع الفنون البصريّة ودعم اجتماعيّة المعرفة الجماليّة، وذلك باتّجاه الانخراط في رهان تكوين جمهور عربي مواكب للإبداع الفنّي ومعاشرٍ للأعمال الفنيّة التّشكيليّة بما ينسجم مع ثراء المدوّنات الإبداعيّة التي يهديها الفنّانون العرب إلى الثقافة العربيّة الرّاهنة. فنحن في مجال ثقافة التّلقي وآليّاتها وكيفيّاتها، ما نزال في طور تأسيسيّ.
وهكذا، من بين القيم التي أنشدها من هذا الكتاب هو أن يسهم في فتح باب على مجال تبدو الحاجة إليه ماسّة وهو مجال جماليّة للتّـلقي مطبّقة على الفنون التّشكيليّة والبصريّة. وقد يكون ذلك حثّا لكُـتّاب آخرين من أجل مواصلة البناء جيلا بعد جيل. وما من شكّ، هناك تراث فنّي رفيع وهناك فنّانون مبدعون ما انفكّوا يشكّلون رافدًا مهمّا للثقافة العربيّة، ولكن، كم نحن في حاجة إلى جماليّة للتلقّي والحثّ على تذوّق الأعمال الفنيّة وقراءتها وتكوين «جمهور نشيط ومواكب»، يستمرّ من خلاله نبض الفنّ ويتوهّج. وبتعبير آخر، جمهور يعمل باستمرار على إحياء جذوة الحياة في الأثر.
ذلك بعض من خصائص الأهمّية التي أراها في هذا الكتاب الذي يقدّم تفسيرا لكيفيّة تحديث منظومة العلامات التّشكيليّة وتطوّرها وتحوّلها الإبداعي في الثقافة العربيّة من مجال الحِرف والصّنائع وصولًا إلى مجال التشكيل الإبداعي الحديث، إنتاجًا وتلقّيًا، من خلال بعض التّجارب العينيّة. هذا فضلًا عن أنّ الفنون التشكيليّة لم تحظ كثيرًا باهتمام النّقاد، بالمقارنة مع فنون أخرى، والكتاب هو خطوة جديدة باتّجاه وضع المنجز التشكيلي الصّامت تحت الإضاءة النّقديّة.
- ماذا عن الخطاب التونسي المعاصر، هل هو مُدرك تمامًا لهذا الإبدال المفاهيمي الذي شهدته الأرسومة، وكيف تمّ التفاعل معه نقديًا وعمليًا داخل لوحات تشكيليّة؟
نعم، لا بدّ أن نذكر في هذا السّياق بعض النّصوص التي تعرّضت للأرسومات الزّجاجيّة في تونس بماهي لحظة مهمّة في تاريخ الممارسة الفنيّة ومن ذلك ما ظهر في كتابات فريق من الأساتذة النّقاد والمؤرّخين والباحثين الذين استشهدت بهم في الكتاب وهم محمّد المصمودي والنّاصر البقلوطي والنّاصر بالشيخ وخالد الأصرم. كما وجدت مؤخّرًا لدى الأستاذ سامي بن عامر اهتمامًا بهذا الموضوع في معرض حديثة عن نشأة الممارسة التشكيليّة بتونس ضمن ندوة دوليّة التأمت في الغرض بمدينة العلوم، كنت من المشاركين فيها. أمّا من بين الفنّانين الذين تعاملوا مع هذا التراث الحرفي فأذكر من تونس علي بالآغا وعادل مقديش وإبراهيم الضّحاك وعلي النّاصف الطرابلسي كما أذكر من سوريا الفنان الحرفي صبحي التيناوي ومن العراق الفنان التشكيلي محمود شوبر.
- ما الخصائص والمميّزات التاريخية والفكرية والجماليّة لفنّ الأرسومة، والتي قادتك في النهاية إلى تخصيص كتاب شامل لهذا اللون الفنيّ الذي يُمثّل قفزة نوعية في تاريخ التصوير داخل التراث العربي الإسلامي؟
الأرسومات هي مفاتيح أوّلية للبحث ولكنّها ليست محور الكتاب، وإن كنت قد أسهمت في إضاءتها وتنزيلها وإعادة تأطيرها مفاهيميًّا، بل ما كان يهمّني هو رصد محطّات بارزة في مسار التّحديث وإشكاليّة الهويّة. فأنا من النّاس الذين يعتقدون أن الحداثة هي بنية وعي ذاتي ولا يمكن أن تكون برنامجًا معلّبًا مستوردًا على متن البواخر الاستعماريّة في نهاية التّاسع عشر. لذلك وكما ذكرت في الكتاب، كان النّظر في موقف روّاد التّحديث الفنّي بتونس (كمثال من العالم العربي) من هذه الممارسة التّراثيّة التي سادت فترة ما قبل ظهور اللّوحة الحديثة. هل قطعت رحلة الحداثة قطعًا نهائيًّا مع هذه الممارسة الثقافيّة الشعبيّة بمختلف إحالاتها الميتافيزيقيّة والعجائبيّة ومشاربها الجماليّة وأشكالها التّقنيّة واقتصرت على معانقة ما يدّعي البرنامجُ الثقافي الإستعماري أنّه جاء لتكريسه؟ وفي هذه الحالة، ألا تكون الحداثة انقلابًا على إحدى مظاهر الهويّة وإذعانًا كاملًا لوافدٍ أجنبيٍّ يدّعي الكونيّة؟ أم أنّ لمسار التّحديث من الشروط التّاريخيّة والجدليّة والفكريّة ما يتطلّب وعيا بضرورة مساءلة الذّات وفق مقتضيات المرحلة؟ وعندها، لنا أن نتدبّر ديناميّة إنتاج المواقف داخل بنية الوعي الحداثي تلك؟ وحسبي أن يكون هذا التّناول بمثابة مقاربة مطبّقة لما كنت قد طرحته في كتابي السّابق على مستوى نظري وهو «العمل الفنّي وتحوّلاته بين النّظر والنّظريّة، محاولة في إنشائيّة النّظر»، المركز العربي للأبحاث ودراسة السّياسات، الدّوحة-بيروت، 2019.
- فكرياً، تنتمي الأرسومة إلى الفنّ الإسلامي، فهي أخذت منه عناصر جماليّة كثيرة، بل إنّها تجاوزت ذلك في أحيان كثيرة، لا سيما حين حوّلت العديد من الرموز الشعبية والقصص النبوية والملاحم المحكية إلى ذاكرة شعبية بصريّة تُدرس بوصفها فكرًا مُجرّدًا ووثيقة تاريخيّة ترصد المراحل التي قطعتها الصورة في تاريخ تونس منذ منتصف القرن التاسع عشر إلى بداية القرن العشرين. كيف تمّ هذا التحويل من الكتابي إلى البصريّ؟ وما الصعوبات التي وجدها الفنّان الحرفي في عملية الانتقال، خاصّة في علاقة ذلك بالسُلطة المركزية؟
الأرسومة هي جمع بين النّص والصّورة في إخراج ملائم. تأتي الصّورة لتجسيد الخطاب المكتوب من حِكم وآيات وحكايا البطولات والمأثورات النصيّة، وهي ؤتحوّل من مدوّنة كتابيّة بالخط العربي إلى مدوّنة مرئيّة. وللنّص حضور مهمّ من جهة أنّه يثبّت مقوّمات المخيال الاجتماعي التي كان النّاس يتداولونها شفويًّا. إن الانتقال من الشفوي إلى المخطوط ثم إلى التّصويري قد فتح الباب أمام تطوّر الأرسومة. فهي مدينة لفن الخط العربي ولكنّها وسّعت من حضورها على الحيّز الزّجاجي على حسابه إلى أن اكتفت بذاتها فيما بعد، وخاصّة عندما تحوّلت إلى منظومة من العلامات البصريّة المشحونة بالرّمز وهاجرت إلى الفن الحديث من خلال بعض التّجارب التي بحثت في التّراث عن علامات بصريّة تخلّصها من ماهيّتها الأيقونيّة والرّمزيّة وتخوض بها لعبة التّحديث التي تقوم على استقلاليّة العلامة وتسيّد الشكل الفنّي دون تبعيّة إلى نظام الأيقنة في البنية الثقافيّة الجمعيّة. هكذا تدرّجت الأرسومة شيئا فشيئًا نحو تذويت خطابها وأسلبة مادّتها التصويريّة من خلال فنّ اللوحة المسنديّة أو الزّيتيّة، كما هو الشّان مع علي بالآغا أوعادل مقديش أو من خلال فنّ المحفورات الغرافيكيّة على الخشب مع إبراهيم الضّحاك.
- بهذا المفهوم هل يُمكن الحديث عن تعانق وتزاوج بين الكتابة والصورة في مرحلة مُبكّرة من تاريخ تونس الثقافي؟
نعم، في البدء كان الخطّاط والمزخرف ورسّام المنمنمات وكان بمثابة حارس لمنظومة القيم الاجتماعيّة التي تشكّل مجمل الأعراف والمواثيق. وقد كان الخطاط الحرفي بمثابة موظّف لدى سلطة النّص بما يتضمّنه من قيم معياريّة. أمّا إنّ المرور من الأرسومة إلى اللّوحة، كما أوردت في الكتاب، يختزل مخاض حركة التّحديث الفنّي التي لا تزال مستمرّة في رحم الثّقافة العربيّة. بدأ هذا المخاض منذ ما يناهز قرنًا من الزّمان، وهو مسار الخروج من منظومة إنتاج حِرفيّة، داخل سوق المدينة، إلى منظومة الإبداع الفنّي الذي يعبّر عن تطلّعات الذّات، ومن جماليّة تقليديّة حارسة لمنظومة القيم الإجتماعيّة إلى جماليّة مجدّدة؛ فنحن بإزاء مسار تأكيد الذّات الفرديّة المبدعة في نقلتها من سُلطة النّصّ السّردي والقيمي (المكتوب والمخطوط) إلى تدبّر أفق إبداعيّ تاريخيّ في مفردات عصر الصّورة الفنيّة المرئيّة. إنّ التّمييز بين الجميل والقبيح في نظام الأرسومة خاضع لمعايير الفصل بين الخير والشّر، الذي يعود بدوره إلى ثنائيّة الحلال والحرام. يرجع الحلال إلى الحقّ ويرجع الحقّ، ومنه الحقيقة، إلى المُطلق. ونحن وفق الحقّ نعدّل سلوكاتنا وأحكامنا القيميّة ونصوغ كلّ الحقائق ونُـقصي رغباتنا وبالحقّ نتّجه ونسترشد وإليه نعود راجعين. أمّا في نظام اللّوحة، فكلّ الحقائق ليست معطاة سلفًا ونحن مدعوّون إلى اكتشافها ونسعى إلى تذويت كلّ ما يربطنا بالعالم. إذ الذّات هي التي تشرّع نظام القيم الجماليّة فضلًا عن القيم الأخلاقيّة والعمليّة والمعرفيّة. إنّها نقلة شقيّة ومحمومة، متفرّعة الأطوار ومتنوّعة الأساليب، وهي ليست مجرّد نقلة من شكل في التّعبير إلى آخر أو من مهارة تقنيّة إلى أُخرى. إنّها عبور إلى منطق الحداثة نفسها وعقل التّاريخ (رغم أنّ الذّات نفسها لم تكن بغريبة في التّراث الفلسفي والصّوفي العربي والإسلامي وإن تجلّت في تسميات أخرى).
- اتّصالاً بالاستعمار، إلى أيّ حد ساهم الآخر في ذيوع أو تقزيم صورة فنّ «الأرسومة» داخل مجال التداول اليومي داخل البلاد العربيّة؟
في أحد أعداد مجلّة فنون (أبريل 2018) تطرّقنا إلى موضوع «كتابة الذات فنًّا» وقبل ذلك تطرّقنا إلى ملف «الفنّ بوصفه مقاومة»، وفعلًا، إن الفنّ طريقتنا ليس لكتابة الذات بل وكذلك للسّكن في العالم من خلال موطئ قدم يمكّن من الفعل والإسهام والمشاركة. ومن حيث أنّه تأكيد على الهويّة وتجسيد لنداءات الحرّية والسلام فإنّ الفن شكل للمقاومة. بل إن الثقافة الإبداعيّة مفترق للطرق لمساءلة موقع الذات العربيّة في عزّ تأزمّها في المرحلة الأخيرة من التاريخ المعاصر. إذ الفنان ضمير الأمّة وصوتها النّابض ووجدانها المعبّر ويفترض أن يكون أحد صنّاع المستقبل، حيث يتحتّم تشريكه في ما يتعلّق بالشأن العام وصياغة صورة المشترك الذي نجتمع حوله. وذلك وجه للملتقيات والنّدوات التي ننخرط فيها هذه الأيّام. ولا ريب، لدينا تجارب رياديّة ارتقت إلى العالميّة انطلاقا من استثمار المدوّنات التراثيّة، من فسيفساء وخط عربي ومعمار وتصميمات… ونحن مطالبون بأن تكون لنا إسهامات فاعلة في المعترك العولمي باتّجاه تأكيد الذات. ولا بدّ من خدمة مسالك الترويج والتّسويق لنشر الثقافة الفنيّة التي ينتجها الفنانون العرب وتكوين أرصدة وتأسيس متاحف وحفظ المرجعيّات، وإلاّ سيقتصر دورنا على الاستهلاك السلبي. لا بدّ من منح الثقافة الإبداعيّة والجماليّة حظها في التبادل وفي السياسات التنمويّة بالبلاد العربيّة والإشتغال على دور المؤسّسات من داخل تفكير استراتيجي.
كما أن النّمو الاجتماعي والاقتصادي يمكن ان يثمر على مستوى تقدم الفنون. فكما أننا ننتظر من الفن أن ينفتح على محيطه الاجتماعي فإننا ننتظر العكس ايضًا، أي أن ينفتح المحيط الاجتماعي والاقتصادي على الفن وينشّط ديناميّة التّرويج. أمّا على مستوى البنى الفوقيّة، فيتطلّب الأمر اشتغالًا على مستوى المفاهيم. إذ الفنّ لم يعد مجرّد زينة للبيوت أو «برارغا» بالمفهوم اليوناني أو «زِواقة» كما لدى ابن رشد في تلخيص كتاب الشعر لأرسطو؛ إن الفنّ التشكيلي اليوم طريق لتمهية الذات من جديد (Auto identification) وصياغة لإدراك العالم على نحو متجدّد، إنّه فكر محايث ومشارك في الحدث التاريخي إبداعًا وقراءة وتأويلاً، بل وخلق للمواقف والقيم وإسهام في التّجديد المعرفي. إنه ترميم لصورة الإنسان واستشراف لممكناته باتجاه تأكيد حيويّة الحياة وطبيعيّة الطبيعة ومدينيّة المدينة. فيقتضي الأمر إيلاء الجانب التّنظيري في الفنّ ما يستحقّة من مكانة. وكنت في تأسيس الرّابطة التونسيّة للفنون التشكيليّة صحبة الفنان إبراهيم العزابي وبعض الأصدقاء قد طرحت جملة من الإشكاليّات ذات الصّلة، هي محاور للنّدوات السنويّة والدّوريّة منذ سنة 2011 إلى اليوم ومن ذلك ما يتعلّق بـ«التأسيس والتشريع في الفنون» و«الفنّان المواطن» و«الفكر النّقدي في الفنّ» … بتشريك الفنّانين والباحثين والنّقاد والإعلاميّين وخلق الحوار متعدّد المرجعيّات.
فالفنّان لم يعد مقتصرًا على حذق التقنيات والصّناعات والمهارات بل أصبح صاحب خطاب وقادر على المفهمة والإستشكال، وذلك خطوة مهمّة ليباحث موقعه من حركة التّاريخ ويتدبّر قدراته على المشاركة ومراكمة المواقف وفهم التّحوّلات الصّاعقة التي تلامس البعد المفاهيميّ ومنظومات القيم والافكار التي تحرّك الخارطة الكبرى لتاريخ الفنّ والتي يتوجّب علينا فهمها والإسهام فيها من خلال أدوار فاعلة ومؤثرة أيضًا.
هذا، ويتوجّب علينا اليوم أن نكتب تاريخ فنّنا بأنفسنا، حتى لا نظلّ مرتهنين بالمقاربات الاشتشراقيّة. وفي هذا السّياق، أعاضد جهود زملائي من العالم العربي. ويا ليت توجد رابطة عربيّة أو مؤسّسة علميّة أو أكاديميّة تعنى بالتّنسيق بين الجهود من أجل هذا الغرض.
- إلى جانب التأليف في تاريخ الفنّ وفلسفته، تُمارس الفنّ التشكيلي وأقمت في هذا المضمار العديد من المعارض الفنيّة داخل البلاد العربيّة. كيف يستطيع المرء أنْ يمزج في ذاته بين صنوف شتّى من الفنون والتأريخ لها في آن واحد؟
كل من الشعر والتشكيل الفني والفلسفة هو في النهاية وجه من ممكنات العقل الانساني الصانع لقيم الحقيقة والخير والجمال. وفي تجربتي الشعرية التي نشرت بعضها منها سنوات الثمانينات كنت أباحث قدرة الصورة الشعرية على تمثل الفنون الأخرى أو على الأقل التفاعل معها. وعندما حملت شهادة الأستاذية في الفلسفة من جامعة تونس الأول كنت أنوي من خلالها أن أفتح بابًا للدخول إلى تجربة النقد والنظرية الجمالية. أليست الفلسفة مؤسسة النقد المنهجي بامتياز؟! أليست كذلك فن ابتكار المفاهيم كما قال الفيلسوف والرسام والناقد الفرنسي جيل دولوز في كتابه: «ما الفلسفة» صحبة زميله فيليكس غاتاري! أما شهادتي في الجماليات وعلوم الفن من المعهد العالي للفنون الجميلة بتونس فهي امتداد لتكويني النظري وتطبيقاتي الفنية، وفي نظري، أن الناقد الفني ليس كائنًا ينزل فجاة من السماء. فهو قادر من خلال خبرته المعرفية واللغوية والتقنية على تصريف الشعري والفلسفي والتاريخي والتقني تصريفًا بنّاءً لخدمة الأثر الذي بين يديه. كما أن أغلب نقاد الفن الذين عرفهم التاريخ هم فلاسفة في الأصل من أفلاطون إلى جاك داريدا. ودون أرضية مفاهيمية فلسفية (أوسوسيولوجية أو سيكولوجيّة أو سيميولوجية) يقع الفعل النقدي في التسطيح أو في التوصيف التقني أو في السرد التاريخي والتقريري.
وكنت في أبحاثي الاكاديمية ومشاركاتي الثقافية والإعلامية قد ركزت على «جمالية التلقي» التي طبقتها في المجال التشكيلي وذلك محاولة مني لربط قنوات التواصل القرائي والإبداعي بين الجمهور والعمل الفني. وكان هذا المشروع بمثابة مغامرة على الصعيد الجامعي حيث كان الاهتمام السّائد مقتصرًا على «جمالية الإنتاج». فالإشكالية التي تراودنا اليوم سواء على مستوى الإبداع التشكيلي العربي أو المعاصر، بوجه عام، ليس كيف ينتج الفنان لوحته بل الأحرى كيف نقرأ لوحة الفنان وكيف يستمر مسار الابداع من لدى الجمهور. فهذا الأخير قادر على أن يكون في قلب العملية الإبداعية نفسها بأن يكون متلقيًا فاعلًا عوض أن يكون متلقيًا منفعلًا فحسب … بهذا الأفق يمكن أن نخدم مسألة علاقة الأثر الفني العربي اليوم بجمهوره وبراهنيّته التّاريخية، ويمكن بنفس القدر أن نساهم في تنشيط القراءات على الصعيد النقدي ايضًا. ومثل هذا الترابط البنائي بين التلقي والنقد كنت قد شرحته من خلال مساهمتي في كتاب «النقد والابداع» أو كتاب «تحولات الراهن» حول مستقبل الخطاب النقدي (الشارقة 2008).
وكان رائد جمالية التلقي وعميد جامعة كونستنس الألمانية الاستاذ هانز روبرت ياوس بعد اطلاعه سنة 1994 على بعض هذه المشاريع البحثية والنّقدية، قد حثني على مزيد الاشتغال في مجال تلقي الفنون التشكيلية والبصرية، خصوصًا وإنْ جامعة كونستنس قد تخصصت في جمالية التلقي في المجالات الأدبية والحقوقيّة منذ سنة 1966، دون التّطرّق الى فنون التشكيل.
لكن هذا الهاجس لم يبق على صعيد البحث النظري والنقدي بل حاولت تطبيقه في المجال الإعلامي من خلال كتاباتي وأعمالي بالصحافة المكتوبة التونسية والعربية منذ سنة 1985 والتلفزيون التونسي منذ سنة 1997 والسينما الوثائقية منذ سنة 2000 والإذاعة الوطنية التونسية منذ سنة 2002 وإذاعة تونس الثقافيّة منذ سنة 2010 وإلى اليوم. مثل هذه المساهمات وغيرها، كذلك تلك التي أقدمها بمجلة الحياة الثقافية بتونس، أو بمجلّة فنون التي تصدرها وزارة الثقافة بتونس والتي أترأس تحريرها، هي جانب أعتز به من هواجسي وشواغلي الثقافية والابداعية؛ فالأثر الإبداعي إن لم يرتبط بتجربة تواصلية (ذهنية نصية مناخية سمعية-بصرية) لا يمكن له أن يحظى بدورة حياة خصبة. مثلما أن الفعل النقدي هو ما يؤسس القيمة الجمالية للعمل الفني ويخصب فيه المعنى وليس العكس!
- هل تجد أيّة صعوبات عملية في الانتقال من الكتابي إلى البصري رحلة حياتك الإبداعية اليوميّة، وهل تُؤثّر النظريات الفلسفية في عمل إبداعك اليومي، أم أنّ الفنّان ينبغي له التخلّص من هذه التراكمات المعرفية لحظة معانقة اللوحة؟
الخطاب النظري والنقدي شيء، وتجربتي الفنية شيء آخر؛ فلا أعمد إلى فنّ اللوحة لأجسّد رؤية تابعة لمعطيات أو منظومات جاهزة ومسبقة أو من طبيعة اخرى غير اللغة التشكيلية. بل أكثر من ذلك، أحاول من خلال الشكل الفني ان أتعاطى مع مجالات اخرى منسية قد تكمن في المناطق اللاّمغزوّة بين تضاريس الوجدان الإنساني التائه. إنها تجربة تنهل مقوماتها من سجل آخر غير التسجيل اللغوي والمنطقي والنصي والمنهجي، لعله مجال الحلم أو اللحظة الشريدة في الزمن البصري غير المرسم بعد، أو لعله مجال اللاّمنقال (Indicible) الذي ينزاح عن كل إدراك عقلاني، منهجي، نقدي. فمن خلال العبارة التشكيلية أبحث عمّا لم تقله النظريّة بعد، أو عمّا يغازل العين في لحظات انخطاف خصب يفلت عن البصيرة النقدية، التي اشتغل بها على الأقل. وعندما أصبح قادرًا على قول تجربتي التشكيلية قولا نقديّا سأكفّ عن فن التّصوير الزّيتي. بل عندما يتبين لي أنني من خلال لوحاتي «أجسّد» خطابًا نظريًا، سأكون أول من يعمل على إتلافها.