يختلف البشر عن باقي الحيوانات، فهم يتمتعون بخيال خصب وقادرين على نسج المعاني من الصخور والأحجار، فيتركون خلفهم الكثير من الآثار التي تعكس نظرتهم للوجود آنذاك، ورغم اختلاف الثقافات وتنوعها، إلا أن البشر القدماء اشتركوا جميعهم باختراع طقوس مختلفة للموت. يشكل الموت صدمة وجودية للبشر فهو قد يأتي بشكل مفاجئ أحيانًا ولا نعلم إلى أين قد يأخذنا بعد موتنا، فيتحول إلى لغز مرعب مما يدفع البشر لتعامل مع هذا المجهول بطرق مختلفة تعكس هلعهم وانفعالهم. فالموت يظل محطة للتأمل والتساؤل، وكل فرد أو مجتمع يبحث عن طريقة خاصة به لفهم هذا المجهول. احتل الموت مساحة كبيرة من تاريخ البشر، بل ويشكل العصب الرئيسي لكل الفنون والأديان والثقافات. اختلفت الفلسفات في تفسير الموت فهناك فلسفات ترى أن الموت هو خروج الروح من الجسد وبالغالب تؤمن بخلودها، وهناك فلسفة تعتقد أن الجسد والروح شيء واحد بينما ترى بعض الفلسفات أن الموت كامن في القوام الفيزيائي للكون فلا تجد اختلافًا بين موت الإنسان أو الحيوان. انطلاقا من هذه التصورات تنوعت طرق البشر في وضع خاتمة لقصص موتاهم فأصبحت تلك القبور كنوزاً مدفونة وتراثًا يتجسد في صمت الضريح ونقوشه. في هذا المقال سوف نكتشف ما يمكن أن تقوله المقابر عن البشر وماذا يعكس من أفكار وتقاليد وتاريخ؟ هل يمكن أن تعكس تلك التصورات مستوى وعي الشعوب؟ وهل لاتزال تلك التقاليد تحمل منفعة ما؟
تاريخ فكرة الدفن
لم يكن أسلافنا من البشر يمارسون أسلوب الدفن، وليس هناك تاريخ دقيق لتتبع هذه العملية، ولكن على الأرجح أنهم كانوا يتركون الجثث في الكهوف أو في البحار أو حتى على الأغصان الأشجار؛ فهم غير مستقرين في بقعة معينة، ربما بدأ الأمر بتخبئة الجثث حماية لها من الطيور الجارحة أو لتخلص من رائحتها وصعوبة مشاهدتها تتحلل، ولكن فكرة القبر لم تكن واضحة بعد. قبل عشرات آلاف من السنين وحينما بدأ البشر يستوطنون بعض البقاع بشكل دائم ظهرت فكرة القبور. القبر عبارة عن مكان مخصص لوضع جثة الشخص المتوفى فيه لغرض تكريم الميت وحفظ ذكراه لأسرته وقد تشير الطقوس والأغراض الموضوعة بداخل القبر إلى اعتقاد البشر بالروح أي بالارتباط بالحياة الآخرة. تشير كتب التاريخ وبالخصوص في كتاب ويل ديورانت “قصة الحضارة” أن بلاد ما بين النهرين وبالتحديد في سومر القديمة ظهرت الطقوس الجنائزية لأول مرة، فلقد كان الناس آنذاك يؤمنون بالحياة الآخرة ولهذا السبب كانوا يدفنون الموتى في الأرض لتسهيل وصولهم للعالم السفلي أي أرض الموتى بحسب تصورهم. رغم تنوع الثقافات والطقوس، ولكن ما تشترك فيه كل الحضارات أن هناك حجرًا يحمل اسم الشخص المتوفى أو صورة له. اهتمت الثقافات بطريقة الدفن لأسباب عديدة أولها، أن الدفن إن لم يكن بشكل صحيح فسوف تعود روح الميت لتطارد الأحياء. كانت الشعوب القديمة تؤمن أن الأرواح قادرة على التدخل في الحياة اليومية للأفراد وربما قد تسبب فوضى للأحياء، بينما الأسباب في مصر تختلف؛ إذْ كان الفراعنة يؤمنون بالخلود لذلك تم إنشاء معالم أثرية ومقابر مليئة بالنقوش ليتأكدوا أن الأحياء لن ينسوا حاكمهم، وبالتالي سيستمر الحاكم في الوجود على الأرض حتى بعد موته ولن ينسى الاحياء فضائله.
إنّ محو ذاكرة المرء على الأرض يعني محو خلوده بالنسبة للمصرين. بينما في حضارة اليونان والتي لم تختلف كثيرًا عن المصرين يرون أن أحياء ذكرى الموتى واجب مدني وديني. رغم تنوع الأسباب واختلاف الطقوس، ولكن جميع الثقافات تقريبًا اشتركت في الفصل بين النبلاء والعامة بأساليب طقوس الدفن، فكان النبلاء يتمتعون بفخامة في الأضرحة، بل وأحيانًا يحصلون على تعويذات أو أدعية خاصة من رجال الدين وبالتأكيد حضور جموع غفيرة في جنائزهم، بينما حينما يموت العامي تحتل البساطة كل مرحلة من مراحل الدفن. إن هذه التفاصيل تكشف الكثير عن الوعي البشري وتجعله موضوعًا شائقًا للتأمل، فلا نجد مثل هذه الفروقات الطبقية في المجتمع الحيواني، فليس الدفن بحد ذاته هو ما يميز البشر عن الإحياء إنما طقوسه وتخصيص بقعة جغرافية كمسكن خاص بالموتى.
كيف أثرت أدوات الإنتاج على فكرة الدفن
نلاحظ أن أساليب الدفن تعكس مستوى الوعي لدى الأفراد، وهذا يجعلنا نستحضر كارل ماركس حينما شرح مفهوم الوعي ودرجاته وربطها بالوجود الاجتماعي. عندما كانت المجتمعات بدائية وغير مستقرة لم تلق بالًا لمصير موتاها فقد كانت درجة وعيها منخفضة تقتصر على المحيط والآخر فقط، فكانت تلقي بالجثث في البحار أو تخفيها عن أعين الطيور الجارحة. تطور وعي البشر حينما بدأوا يستوطنون بقاعًا محددة في الأرض مما سمح باختراع فكرة القبرة التي توازت مع ظهور ديانة الطبيعة وهي الديانات التي نتجت عن عجز في تفسير الظواهر الطبيعية فيقوم الأفراد بتحويل هذه الظواهر إلى ظواهر فوق طبيعية كوجود الأرواح والآلهة والاشباح. عندما بدأت تتطور أساليب الإنتاج بدأت المجتمعات بتقديس حكامها وظهرت فكرة الخلود التي حاول الفراعنة غرزها في ذاكرة شعوبهم عن طريق قبور ضخمة ومراسم دفن فاخرة حتى يتجاوز بعض الشعوب هذه المراسم بإحياء ذكرى سنوية للحاكم الراحل.
انعكست قوة الإنتاج التي تملكها طبقة معينة من المجتمع على طقوس الدفن، فتدخل العامل الاقتصادي في تفرقة البشر حتى في مكان دفنهم. أصبح للعوام قبورهم وللنبلاء قبورهم، ثم في مرحلة ما في التاريخ تم فصل مقابر البيض عن السود وهو ما يعكس الحقبة الاقتصادية التي جعلت السود عمالًا أو عبيد لدى البيض. نفس الشيء يحصل حينما تمنع النساء في مناطق معينة من الدخول للمقابر وهو الذي يعكس أصلاً رتبتها الاجتماعية والاقتصادية لدى شعب معين، حتى الطوائف المذهبية ترفض أن تدفن موتاهم بجانب المذهب المضاد، يمكن لفكرة بسيطة مثل الدفن أن تخبرنا الكثير عن الوعي المجتمعي، فالوعي مثلما يقول ماركس ليس هو الذي يحدد وجود الناس، إنما وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم، فعلاقات الإنتاج وأدوات الإنتاج تؤثر على العلاقات الاجتماعية والسياسية فتعكس درجة الوعي الذي تتسم به كل فئة من المجتمع. نتيجة للتطور العمراني والحضاري في مدن مثل لندن ونيويورك وهونج كونج، أصبحت فكرة المقابر عائقًا أمام الفلسفة النفعية الرائجة الآن، فدفن الناس في بقعة معينة من الأرض يعني منع زراعتها أو تطويرها بطرق أخرى، بالإضافة لهدر مواد مثل المعدن والحجر والخرسانة مما يعني تلويث التربة والمياه الجوفية فأصبح كثير من الناس في هذه البلدان يلجؤون إلى حرق الجثث أو تحويل بقايا الرماد الى مجوهرات أو ربما حتى التبرع بالجثة لأغراض طبية أو بحثية.
كيف يختلف تصور الموت في المجتمعات الأوربية والمجتمعات الشرقية؟
نلاحظ فارقًا جوهريًا بين المجتمعات الأوروبية والشرقية في التعامل مع فكرة الموت، حيث تلقي المجتمعات الشرقية والمسلمة اهتمامًا شديدة بفكرة الموت ولا يزال هذا الحقل معقدًا جدًا لم تطله التغيرات الاقتصادية أو البيئية أو الاجتماعية. إن أكبر مقبرة في العالم هي مقبرة وادي السلام والتي تقع في النجف في وسط العراق ومازال يدفن الأموات فيها منذ ١٤٠٠ عام ويرجّح مؤرخين بأن أكثر من ستة ملايين شخص يرقدون في المقبرة، غالبيتهم الساحقة من العراقيين، إلى جانب أجانب من الإيرانيين والباكستانيين الذين يطلبون في وصاياهم ترحيل رفاتهم من أوطانهم لهذه البقعة المخصصة في الأرض.
تمتلك بعض الشعوب تصورًا مفاده أن أرضًا ما مقدسة وطاهرة لأن شخصًا فضيلاً دفن بها أو مر منها، فيمكن لهذا الشخص أن يكون مصدر اطمئنان فهم يعتقدون أن روح ذلك الشخص أو قدسية الأرض تزيد من فرص وصول موتاهم إلى النعيم. إن فكرة القداسة أو الإجلال من الأفكار المهمة التي يقوم عليها كل دين، فالمقدس هو كل مالا يمكن تلويثه أو تدنيسه ولا تختص بالأشخاص فقط، بل تشمل الأماكن مثل الكنائس أو المساجد أو الأراضي التي يعتقد بها جمع غفير من البشر. نلاحظ مثلا أن الجالية المسلمة التي تعيش في بلاد الهجرة مثل إيطاليا تعيش تناقضات بين معايير الدولة التي تسكن فيها والتقاليد التي تؤمن بها الجالية فيما يخص نهاية الحياة وما بعد الموت. يتسم وعي المسلم بشكل عام بالوعي بحتمية الموت نفسه كقدرة معيارية ناظمة للحياة تعكس نوعا من الشعور المسبق بالوحدة مع الإله من خلال الصورة المثالية للمسلم. وبهذا المعنى، فإنّ الموت يعتبر معطى أساسيًا في حياة المسلم، ومسألة التفكر في الموت محورية في حياة المسلم لأنّها تعلمه بفناء الحياة وعدم خلودها ويسعى الكثير من المسلمين في جميع بقاع الأرض لما يسمى “بحسن الخاتمة” والذي قد يتمثل بشكل من الاشكال في دفن الموتى في أرض أوطانهم لأنهم يمتلكون اعتقادًا أن دفن موتاهم في مكان بالقرب من المخالفين لهم في الدين قد يؤثر سلبًا على موتاهم. ” يقول مسؤول اتحاد الجمعيات والمنظمات الإسلامية في إيطاليا، وردا عن سؤال وجه له حول هذا الموضوع، بأنّ نسبة الجثث المرسلة للوطن الأصل تقدر بـ ٩٥ بالمائة وهي الفئة التي ترى أن عودة رفات الموتى من بلدان الاستقبال إلى بلدان الأصل أمر أقرب إلى الواجب الديني”. رغم أن المنظمات الإسلامية تنزع أي شرعية عن هذه الممارسة وتصدر تصريحات بانقطاع المتوفى عن الحياة الدنيوية وأن أعماله الصالحة وحدها قادرة على نفعه وعدم تأثره بالدفن في أي بقعة في الأرض، ولكن الوعي المجتمعي لم يتأثر بهذا الموقف وأضحت عادة إرجاع الجثث للأوطان عادة وممارسة قوية متجذرة.
من خلال تأملنا حول طقوس الدفن عند البشر وجدنا أن الموت يشكل قلقًا مزمنًا لدى البشر، تنوعت أساليب البشر في التعامل مع هذا الهاجس بحسب درجة قلقهم، فمنهم من يراه انفصال الروح عن الجسد، ومنهم من يراه مجرد واقعة طبيعية تدخل في قوام الكون ومنهم من يرى بخلود الروح والتحامها بالمطلق. مع تطور أساليب العيش لدى البشر سواء في صيد الأسماك وصنع الأدوات وخلق الفن كان دفن الموتى هو ما يميز البشر عن باقي المخلوقات، فبدلاً من رمي الجثث في البحار أو تركها على أغصان الأشجار بدأ البشر بتخصيص بقع جغرافية معينة لدفن موتاهم وتخليد لذكراهم. عكست هذه المدافن الكثير من سلوكيات البشر التي تعكس مستوى وعيهم وتحضرهم وتصورهم نحو الوجود، بل كانت أشبه بمكتبات بشرية تحكي خصائص كل شعب وكيف يتعامل مع بعضه بحسب المقاربة الماركسية التي ترى أن الوعي نتاج اجتماعي، أي ظاهرة اجتماعية تطورية تاريخية. إن تاريخ الوعي البشري هو انعكاس لتاريخ العلاقات الاقتصادية والاجتماعية وهو ما يفسر اختلاف طقوس الدفن لدى الشعوب، فنرى المجتمعات الأوروبية لا تلقي بالًا لحياة ما بعد الموت بينما لا زالت هذه المنطقة محظورة ومعقدة عند العرب عامة والمسلمون خاصة. التصور الإسلامي لحياة ما بعد الموت في ذهن المهاجرين المسلمين أفرز ظاهرة إرسال الجثث لأرض الأوطان الأصل لاعتقاد مفاده تأثر الموتى بالدفن قرب أشخاص مخالفين للدين الإسلامي. يتجاوز الدفن الفكر الديني ليصبح له وظيفة اجتماعية يعكس هوية الأشخاص وتاريخهم الأسري ورغم معرفتنا العلمية واختلاف فهمنا للروح، ولكن تظل المقابر أكبر مواساة بشرية ابتدعها الإنسان. إن تحديد بقعة معينة للراحلين عنا تجعل فكرة وجودهم وذكراهم شيئًا أصيلًا وليس ابتداع من مخيلتنا، فتشكل زيارتنا لمدفنهم وسيلة لاستحضار ذكرهم والحنين لهم. يمكن للمقابر أيضًا أن تشكل وسيلة لتذكيرنا بعدم خلودنا على هذه الأرض، فتساعدنا على العيش بطريقة أكثر ثراء ومعنى حينما نستغل كل دقيقه ممنوحة لنا عليها. إن عقول البشر تتميز بالخيال الذي لا يسمح لها بالنسيان بالسهولة وكذلك بالتعاون الذي يسمح لنا بالمشاركة في ذلك الخيال الجمعي والتعاطف مع آلام بعضنا، فنحن نختلف عن باقي المخلوقات فخيالنا هو مصدر أوجاعنا وأفراحنا بذات الوقت، فمثلما يقول نيتشه لقد اخترعنا الفن لكيلا نموت من الحقيقة.
المصادر
- الموسوعة الفلسفية العربية.المجلد الأول. معن زيادة. معهد الانماء العربي،مكتبة مؤمن قريش.الطبعة الأولى.١٩٨٦
- The fascinating history of cemeteries by Keith Eggener,30-10-2018,Tde-ED
- Burial-world History encyclopedia by Joshuna Mark published 2-9-2009
- الوعي نتاج اجتماعي، ماركس و انقلس، الإيدلوجيا الألمانية ١٩٩٨
- العراق مقبرة النجف من أكبر مقابر العالم و مثوى الملاين ٢٤-٢-٢٠٢٣ Made for Mind
- محمد خالد غزالي, أرض الميعاد في ” الحياة الأخرى: الموت و عودة الجثث إلى الوطن في تصور المهاجرين المسلمين في أيطاليا، إنسانيات. ٣٠-٩-٢٠١٧
- When did human ancestors start burying their dead? By Elizabth Yuko,A&E Televison Networks,6-9-2023