أحاولُ تخيّل عالمٍ بلا فنّ، بلا أدب أو سينما، بلا موسيقى أو رسم أو عمارة، بلا متاحف أو معارض فنّيّة، كيف سيبدو؟ كيف سيشعرُ النّاس؟ بالتّأكيد لن يموت أحدٌ بدون فنّ؛ إذ هو ليس بمكانة الماء والطّعام والهواء، ولكنَّ العالم سيفقدُ لونًا مُبهجًا ورونقًا يمنحهُ جمالًا.
تخيّل معي، على سبيل المثال، تلفازًا بقنوات إخباريّة فقط، كلّ القنوات إخباريّة أو دينيّة أو تعليميّة، أو تخيّل أن تفتح الشّبّاك على مدينةٍ متشابهة البيوت الخالية من أيّ أثرٍ للفنّ، الّتي من الصّعوبة حتى تخيّلها، لا أدري إن كانت ستكون فقط مجرّد جدران وأبواب عشوائيّة بدون أيّ تنظيم هندسي معيّن ولا ألوان ولا تنسيقات داخليّة، يصعبُ على ذهني، صراحةً، تخيّل غرفةٍ خاليةٍ من الفنّ؛ إذ أتخيّلهُ داخلًا في كلّ تفصيلة: في الجدران والأثاث والأبواب والنّوافذ والمفروشات والملابس، سيكون منزلًا مُصمتًا صامتًا لا ينطق بشيء ولا حياة فيه. ثمّ لنتخيّل معًا أن العالم خالٍ من الرّسومات بأشكالها، جدار بلا رسومات، إعلانات بلا تصاميم، أو تخيّل أن تدخل مكتبةً ولا تجد إلّا كتبًا علميّة وبحوثًا ودراسات في الجوانب العلميّة، ولا وجود لشعرٍ ولا روايات ولا قصص لتستمتع بها، ولا تسمعها حولك أصلًا، لا تسمع غناءً حُلوًا ولا لحنًا يلمسُ روحك ويأخذكَ إلى خيالاتٍ بعيدة، أو أن لا تستطيع مشاهدة فيلمٍ كوميدي تضحك معه أو دراميّ تبكي معه. تخيّل أن ينقل النّاسُ الأخبار والحكايا والمعاني على شكل جملٍ خاليةٍ مِن لغةٍ أدبيّة، بدون دهشة ولا إثارة، لا قصص ولا أغاني قبل النّوم ولا تلك المنقولة عبر الجدّات! العالم بلا فنّ هو عالمٌ ناقصُ الجمال والإبداع والدّهشة، عالمٌ مملّ وحزين، بل ربّما أتجرّأُ وأقول إنّه عالمٌ مُخيف.
في اعتقادي أنّ الفنّ ضروريٌّ للوجود الإنسانيّ، لعدّة أسباب مثل المتعة والسّعادة، والمواساة والسّلوى ومُقاومة الحياة، والفهم الأعمق للحياة والنّاس، ما سأشرحه بالتّفصيل في هذه المقالة القصيرة.
قبل البدء، سأُعطي تعريفات بسيطة لمصطلحات العنوان وهي “الفنّ” و”ضروريّ” لكي ننطلقَ مِن أرضيّة مُشتَرَكة واضحة. الفنّ كما عرّفهُ أفلاطون هو ابتكار ما هو جميل أو حسن، أو ابتكار ما هو غير مألوف في عالم المحسوسات. والضرورة في اللغة العربيّة تعني الحاجة والشدّة الّتي لا مدفع لها.
أول حُجّة لدعمِ هذا الرأي هي أنّ الفنّ يمنحنا شعورًا بالسّعادة من خلال ما يقدّمهُ لنا من جمال، والّذي هو حاجة فطريّة، وما يُحدثه فينا من شعورٍ بالرّاحة والدّهشة والبهجة، وبالتّالي فهو يقلّل من الملل ورتابة الأيام وتكرارها؛ إذ الشّعور بالدّهشة النّاتجة عن الإبداع والابتكار والجِدّة في الفنّ من شأنها إضفاء متعة وسعادة على حياة الفرد وإخراجه من انخراطه في مشاكله وحياته إلى سعة الآفاق.
علاوةً على ذلك، الفنّ هو طريقة للمواساة والتّخفيف من الهموم اليوميّة الّتي يمرُّ بها الإنسان، حيثُ بوسعِ عملٍ فنّي كفيلم أو مقطوعة موسيقيّة التّسرية عنه لكي يكون أقدر على مواجهة الصّعاب. على سبيل المثال، مشاهدة فيلم كوميدي في نهاية اليوم قد تساعدُ على التّخفيف من الهموم، وحتى مشاهدة دراما حزينة سيُساعد على تفريغ مشاعر الحزن، إذ رؤية آخرين أشدّ معاناة منه يجعله يُقلّل من حجم معاناته أو تقبّلها. والفنّ أيضًا فعل مقاومة ضدّ التّحدّيات في اعتقادي؛ حيثُ قد تدعمُ الفردَ في مقاومته لوحةٌ فنية ذات معنى، أو كاريكاتير أو مسلسلٌ أو أغنيةٌ مُعيّنة تحمل مواقف مُشابهة لما يواجهه الفرد من صعوبات أو لما ينشدُه من غايات. أتذكّرُ هنا مثلًا الأغاني الوطنية الفلسطينية التي يسمعها الفلسطينيون الّذين يعيشون تحت الاحتلال أو الذين في الشّتات وهي تشدّ من أزرهم وتُثبّتهم على موقفهم في الدّفاع والتمسك بأرضهم. ولمّا كانت الحياة متقلّبة في ظروفها ولابدّ وأن تمرّ بالفرد صعوبات، كان الفنّ ضروريًّا سواء في وقت الأزمات أو حتى في الرّخاء والهدوء للتّزوّد منها برصيد مقاومة في وقت الصّعوبات.
بالإضافة إلى ذلك، أعتقدُ أنّ الفنّ يمكن أن يكون أداةً لفهمٍ أعمق للنّفس وللآخرين؛ إذ يُعبّرُ الفنّان عن نفسه ومشاعره من خلال فنّه ثمّ من جهةٍ أخرى فإنّ التّفاعل مع أعمال الآخرين الفنّية تمنحُ رؤيةً أوسع وأعمق لأفكارهم ومشاعرهم وظروفهم ما يجعلُ لدينا تفهّمًا وتعاطفًا أكبر معهم، وهو الأمر المهم في التواصل البشري لكي يكون بأفضلِ صورِه.
والفنّ بالتّالي هو أداةٌ للتّواصل بين الشّعوب والحضارات ومصدرٌ من مصادرِ معرفة التاريخ؛ إذ تُشير القطع الأثريّة والمواقع الأثريّة ذاتها بعمارتها وهندستها إلى خصائص زمن وشعب معيّن، وكذلك بالنّسبة للأعمال الفنية الأخرى الّتي يُقرأ من خلالها خصائص زمان أو مكان مُعيّن. وهو بذلك قد يُعتبر مصدرًا من مصادر المعرفة ليس فقط التاريخيّة، بل في مختلف المجالات كالجغرافيا والعلوم التطبيقيّة والتربية وهذا بالتّأكيد يعتمد على رسالة العمل الفنّي وقيمته وكيفيّة تفاعل المُتلقّي معه وإدراكه له. على سبيل المثال، رواية مثل ثلاثيّة غرناطة ذات قيمة فنّيّة جماليّة فائقة اتّفق الكثيرُ عليها بالإضافةِ إلى قيمتها التاريخيّة. أغنيات الأطفال أيضّا قد تُعتبر أعمالًا فنيّة وتربويّة رائعة. أفكّرُ أيضًا في بعضِ قصص وأغاني الأجداد الّتي ينقلونها إلى الأبناء والّتي تُعتبَرُ أعمالًا فنّيّة وتاريخية وتراثيّة وتربويّة إذ تعكسُ مظاهر الحياة في الماضي وثقافة العيش بالإضافة إلى حِكَم وعِبَر منقولة عبرها.
في مقابل هذه الحُجج الدّاعمة لضرورة الفنّ للوجود الإنساني، هنالك آراء أخرى تدعمُ الرّأي المُخالِف قد يدّعي مُؤيّدوها أنّ الفنّ ليس من الاحتياجات الرئيسيّة للإنسان كالطعام والشّراب والمسكن، أو بأنّ الحصول عليه قد يكون مُكلّفًا مادّيًّا ما يعني أنّه ليس في متناول أيدي الجميع وبالتّالي سيكون عبئًا بدلَ أن يكون وسيلة للرّاحة والسّعادة. كذلك فإنّ الفنّ قد لا يستهوي الجميع لذا فهم لا يعتبرونه ضروريًّا لهم. حُجّةٌ أخرى مُضادّة هي أنّ الفنّ يحتوي على الجيّد والرّديء، والأخير قد يؤثّر سلبًا على الجمهور.
بالرّغم من احترامي للآراء الّتي لا تتّفق مع ضرورة الفنّ للوجود الإنساني، إلّا أنّني مُتمسّكة برأيي المُؤيّد لضرورة الفنّ للوجود الإنساني إذ أنّني أعتقدُ بأنّ الفنّ هو مصدر أساسي للسّعادة والدّهشة والإبداع والتّفرّد وبأنّه مسكنٌ للرّوح تجدُ فيه المنفذ للتّعبير عنها والمواساة من خلاله.