Photo by Laszlo Balogh/Reuters
ترجمة: كمال المصري
ما تحتاج إلى معرفته
كلير طالبة ذكيَّة وطموحة في جامعة تولين في ولاية لويزيانا. كانت في طريقها للتسجيل بإحدى كليَّات الحقوق، لكنَّها قرَّرت أنَّها ترغب أولًا في أن تكتسب بعض الخبرة العمليَّة وتحظى ببعض المتعة في نيوأورليانز؛ لذلك عملت بوظيفة مساعد محامٍ، حيث كانت تقضي أيامها في البحث عن خبراء للاستعانة بشهاداتهم في قضايا شركات الأدوية الكبرى. وهنا تحديدًا ظهرت أزمة كلير، فلطالما أحبَّت ممارسة الطهي وتعلُّمَ أمور شتَّى عن الإنسانيَّة من خلال المطبخ. لقد كانت أشبه بنسخة نسائيَّة من «أنتوني بوردان» لكنَّها حبيسة وظيفة مساعد المحامي المرهقة، وهو ما كان ينشر البؤس في جوانب حياتها ببطء.
بدأت في التفكير في ترك مكتب المحاماة والعمل في مطبخ أو مقهى حتى تتمكَّنَ من معرفة كيفيَّة بناء مستقبل مهني ذي صلة باهتمامها المُستمر بالطعام، لكنَّ الشكوك كانت تطاردها. ما الذي سيعتقده الآخرون عنِّي؟ “ربما تفتقد إلى العزيمة؛ ربَّما ليست بالذكاء الكافي؛ أو ربَّما تكون كسولة”. ما حدث هنا هو قيمتها الذاتيَّة بدأت تتحدَّد بما يتوقع الآخرون منها أن تفعله؛ ومن ثَمَّ قدرتها على تلبية تلك التوقعات.
كثير من الناس يُواجِهون مُعضلات مثل تلك التي واجهتها كلير؛ فأحيانًا تتنافس بداخل المرء العديد من الرغبات المتعارضة مثل: أقبل عرض العمل (أ) أم عرض العمل (ب)؟ أبدأ علاقة جديدة أم أبقى أعزب؟ أشترك في سباق الماراثون أم أستمتع بعدم الاستيقاظ مبكرًا للتدريب؟ لكنَّ الحياة مليئة بسباقات الماراثون وهي لا تنطوي على الركض بالضرورة؛ لذلك حريٌّ بك أن تعرف أي الرغبات يجب أن تسعى وراءها وأيها يجب أن تتركه وراءك؛ أي أن تعرف أي سباقات الماراثون تستحق الركض! وأنا أسعى في هذا الدليل لإرشادك إلى كيفيَّة القيام بذلك.
الرَّغبات تختلف عن الاحتياجات اختلافًا جوهريًّا
من الصحيح أنَّه عندما يرغب الناس بشدة في شيءٍ ما، كشراء قميصٍ جديدٍ مثلًا، قد يشعرون أنَّهم «بحاجةٍ إليه» – لكنَّهم لا يحتاجون إليه بالطريقة نفسها التي يحتاجون بها إلى الماء أو الطعام؛ فبقاؤهم ليس على المَحَكِّ.
والرَّغبة (على عكس الحاجة) هي شهيَّة فكريَّة للأشياء التي ترى أنَّها طيبة، ولكن لا يكون لديك أساس جسدي غريزي للرغبة – وهذا صحيح سواء كانت هذه الأشياء طيبة بالفعل أم لا.
قد تشمل شهيَّتُك الفكريَّة أمورًا مثل: معرفة حلِّ مسألةٍ من الرياضيات؛ الرضا بتلقي رسالة نصيَّة من شخص أنَّه معجبٌ به؛ أو الحصول على عرض عمل يُعجبك. وهذه الأشياء لن تُسبِّب بالضرورة لذة جسديَّة. صحيح أنَّها قد تمتدُّ إلى المتعة الجسديَّة لكنَّها لا تعتمد عليها، بل تكون المتعة فكريَّة في المقام الأول.
وقد كتب الفيلسوف واللاهوتي «توما الأكويني» في القرن الثالث عشر أنَّ هذه الشهيَّة الفكريَّة جزء مِمَّا كان يسمى تقليديًّا «الإرادة»، فعندما يشاء الشخص شيئًا ما، فإنَّه يسعى إليه. حتى إذا امتلك موضوع رغبته، فإنَّ إرادته تجد الراحة فيه – ويكون بوسعه امتلاك الفرح طالما كان بوسعه الراحة في موضوع رغبته.
لكن هذه الفرحة عابرة بالنسبة لمعظم الناس، فهناك دائمًا شيء آخر نسعى لتحقيقه، وهذا هو ما يُبقي معظمنا في حالة مستمرة، وأحيانًا مؤلمة، من السعي غير الراضي. هذا السعي وراء شيء لا نملكه بعدُ يُسمَّى الرغبة. والرغبة لا تجلب لنا الفرح لأنَّها، بحكم التعريف، تكون دائمًا في شيء نشعر أنَّنا نفتقر إليه. ومع ذلك، فإنَّ فَهْم الآليَّة التي تتشكَّل بها الرغبات يمكن أن يساعدنا على تجنُّب عيش حياتنا في دوامة لا نهائية من الرغبات.
الرغبة عمليَّة اجتماعيَّة – الرغبة محاكاة
عندما نحاول فَهم لُغز الرغبة، نجد أنَّ واحدًا من المفكرين المعاصرين يَبرُز فوق الجميع في هذا السياق، وهو المُنَظِّر الاجتماعي الفرنسي «رينيه جيرار»، وهو مُؤرِّخ تحوَّلَ إلى عَالِمٍ موسوعي انتقل إلى الولايات المتحدة بعد فترة وجيزة من الحرب العالميَّة الثانية ودرَّسَ في العديد من الجامعات الأمريكيَّة ومن بينها جامعة «جونز هوبكنز» وجامعة «ستانفورد». وبحلول الوقت الذي تُوفِّي فيه في عام 2015م، كان قد تمَّت تسميته في الأكاديميَّة الفرنسيَّة، كما كان يعتبر أحد أعظم العقول في القرن العشرين.
لقد أدرك «جيرار» سمة مميزة للرغبة إذ يقول: “نحن نودُّ أن تأتي رغباتنا من أعمق ذواتنا، من أعماقنا الشخصيَّة، ولكن إذا حدث ذلك، فلن تكون رغبة؛ فالرغبة دائمًا تكون في شيء نشعر أننا نفتقر إليه.” وأشار «جيرار» إلى أنَّ الرغبة ليست شيئًا نتحكَّم فيه بأنفسنا تمامًا كما نتخيَّل دائمًا، فهي ليست شيئًا يمكننا توليده أو إنتاجه بمفردنا، بل هي في الغالب نتاج عمليَّة اجتماعيَّة.
وكتب «جيرار» يقول: “الإنسان هو المخلوق الذي لا يعرف ماذا يرغب، ويلجأ إلى الآخرين ليقرر رأيه”. وقد أطلق على هذا الرغبة المُحاكية أو المُقلدة. وكلمة «مُحاكاة» (Mimesis) مأخوذة من الكلمة اليونانيَّة التي تعني “التقليد” وهي أصل الكلمة الإنجليزيَّة (mimic). والرغبات المُحاكيَّة هي الرغبات التي نُحاكيها من الناس والثقافة المحيطة بنا، فإذا كنت ترى مثلًا أنَّ عملًا مُعينًا أو نمط حياة مُعينًا أو إجازة ما هي أمور طيبة، فذلك لأنَّ شخصًا آخر قد صاغها بطريقةٍ تبدو طيبة بالنسبة لك.
عرفت «جيرار» لأول مرة خلال فترة البحث عن الذات، حيث كنت قد تنقلت بين التخصصات في الجامعة، ثم تنقَّلت بين الوظائف، وفي النهاية تنقلت بين إنشاء شركات مختلفة. لكنَّني لاحظت شيئًا غريبًا وهو أنَّه: سواء نجحت مشاريعي التجاريَّة أم لا، كنت دائمًا أشعر بالملل بسرعة.
وكنت قد ذهبت في معتكف صامت بناءً على إلحاحٍ من صديق. وهناك أوصاني مدير المنتجع بقراءة «جيرار» لمساعدتي في فَهم سبب وصول الرغبات المختلفة إلى وعيي ثم تلاشيها كما لو كانت موسيقى بعيدة أسمعها في غابةٍ كثيفةٍ ولكن لا يمكنني تعقبها والاستمتاع بها بنفسي.
وعندما بحثت عن «جيرار» في جوجل، وجدت مقطعَ فيديو له في برنامج حواري فرنسي في السبعينيات وهو يدخن سيجارة في البثِّ التلفزيوني المباشر، ويشرح أفكاره أمام لجنة من المحاورين. في البداية رفضته باعتباره أكاديميًّا فرنسيًّا غريبَ الأطوار ليس لديه الكثير ليعلمني إيَّاه، لكنَّ الأفكار الواردة في كتابه «أشياء مخفيَّة منذ تأسيس العالم» (الصادر عام 1978م) بدأت تطاردني حيث رأيت الرغبة المحاكية تتجلَّى في كل مكان حولي وداخلي.
علمت أنَّ «جيرار» قضى الأربعة عشر عامًا الأخيرة من حياته المهنيَّة وهو يشغل أستاذ كرسي «أندرو بي هاموند» للغة الفرنسيَّة والأدب والحضارة في جامعة ستانفورد، حيث كان المرشد الفلسفي للملياردير «بيتر ثيل»، المُؤسِّس المُشارك لشركة المدفوعات (باي بال (PayPal وشركة الذكاء الاصطناعي (بالانتير للتكنولوجيا (Palantir Technologies والذي كان أيضًا أول مستثمر رئيس في شركة فيسبوك. وقد نسب «ثيل» الفضل إلى «جيرار» في مساعدته على رؤية قوة فيسبوك قبل معظم الناس، كما يعترف أيضًا بمساعدته على ترك عمله في قانون الشركات والتمويل الذي لم يحقق نفسه فيه. وبمجرد أن أصبح «ثيل» قادرًا على التحرر من سطوة القطيع المُقلد، استطاع أن يبدأ التفكير لنفسه بشكلٍ أكبر والقيام بمشاريع لم تكن مجرد نتاج لرغبات الآخرين.
عندئذ بدأتُ أدرك أن فَهْمَ رغبةِ المُحاكاة أمرٌ بالغُ الأهميَّةِ إذا أردت التحرر من الحلقة التي كنت عالقًا فيها. فإذا كنت ترغب مثلي في فَهم احتياجاتك ورغباتك بشكلٍ أعمق، والسيطرة عليها بدرجةٍ أكبر واصِل القراءة.
فَكِّرْ في الأمرِ مَليًّا
حَدِّد الأشخاص الذين يؤثرون في ما ترغب به
الخُطوة الأولى هي تحديد قُدْوَات الرغبة الذين يؤثرون في ما ترغب به، وهؤلاء هم الأشخاص الذين يكونون لك بمثابة قُدْوَات أو وسطاء يُشكِّلون ما تعتبره مرغوبًا فيه.
في مرحلةٍ ما من عمري، كنت أرغب في شراء سيارة من طراز (تسلا موديل S)، وقد كدت أن أقنع نفسي بشرائها وبكل الأسباب «الموضوعيَّة» التي اعتقدت أنَّها تجعلها مرغوبة، مثل: أنَّها تنتقل من سرعة صفر إلى 60 ميلًا في الساعة في مدة أقل من ثانيتين.
لكن كان من الأفضل لي أن أسال نفسي “مَن الذي ولّد وشكَّلَ رغبتي في السيارة؟” وليس “ما الذي شكَّلَّ تلك الرغبة؟” وهو السؤال ذاته الذي ينطبق على رغباتك أنت أيضًا، سواء فيما يتعلَّق بالمشتريات الماديَّة أو المسارات التعليميَّة أو الاختيارات المهنيَّة أو حتَّى الاهتمامات الرومانسيَّة. أمَّا فيما يتعلَّق برغبتي في شراء السيارة (تسلا موديل S) فقد أدركتُ فقط عندما فكَّرت في الأمر بجديَّة أنَّني أتابع شخصًا على «تويتر» مهووسًا بعرض مقاطع فيديو لنفسه وهو يقود سيارته من هذا الطراز عينه في أماكن رائعة، وأنني لم أرغب أبدًا في امتلاك سيارة من هذا الطِّراز حتى شاهدت تلك المقاطع، وبعدها بدأتُ في جمع كل الأدلة التي من شأنها أن تدعم الرغبة التي تشكَّلت بالفعل بداخلي كنوعٍ من المُحاكاة لذلك الشخص؛ فالرغبة تأتي أولًا من المؤثرات الاجتماعيَّة، وغالبًا ما يمضي وقتٌ طويل قبل أن ندرك ذلك أو حتى قبل أن نفهم السبب وراءه.
ولكي تُعزِّز وعيك بالقُدوات التي تؤثر على رغبتك، اسأل نفسك هذه الأسئلة:
- عندما أفكر في نمط الحياة الذي قد أرغبه أكثر من غيره، من الذي أشعر أنه يُجسِّده أكثر من غيره؟ في الواقع، يكاد يكون من المؤكد أنَّ هذا الشخص لا يعيش نمط الحياة الذي تتخيَّل أنَّه يعيشه، ولكن يظل من المهم أن تحدد الأشخاص الذين تركز عليهم بشكل أكبر عندما تفكر في نوع الحياة التي تريدها.
- إلى جانب والديَّ، مَن هم الأشخاص الذي كانوا أكثر تأثيرًا عليّ في طفولتي؟ ما “العالم” الذي ينتمون إليه – أهو عالم مألوف أم لا؟ هل كانوا قريبين منِّي (كالأصدقاء أو أفراد العائلة) أم بَعِيدِين عنِّي (كالرياضيين المحترفين أو نجوم الروك)؟ هذا مهم لأنَّ درجة قرب قُدوات الرغبة منا يُحدد كيفيَّة تأثيرهم علينا، كما سأشرح لاحقًا.
- هل هناك أي شخص لا أرغب في رؤيته ينجح؟ هل هناك أشخاص مُعيَّنون تجعلني إنجازاتهم أشعر بالانزعاج أو الخجل؟ هذا هو أول دليل على أنَّه قد يكون “نموذجًا سلبيًّا للرغبة” – أي شخص تقارن نفسك دائمًا به.
صَنِّف قدواتك في فئتين: قدوات داخليَّة وقدوات خارجيَّة
بعد ذلك، من المُفِيد التعرُّف على نوع القدوة التي تُؤثِّر عليك. حَدَّدَ «جيرار» نوعين رئيسين: أولئك الموجودون داخل عالمك وخارجه.
القدوات الموجودة داخل عالمك (قدوات الرغبة “الداخليون”) هم الأشخاص الذين قد تتواصل معهم حقًّا: الأصدقاء أو العائلة أو زملاء العمل أو أي شخص يمكنك التفاعل معه واقعيًّا بطريقةٍ ما – وقد يكون من بين هؤلاء الشخص الذي يحلق لكَ شَعرك مثلًا. هؤلاء هم الأشخاص الذين تتشابك رغباتهم إلى حدٍّ ما مع رغباتك؛ إذ يمكنهم التأثير في رغباتك كما يمكنك أيضًا التأثير في رغباتهم.
القُدوات من خارج عالمك (قدوات الرغبة “الخارجيون”) هم أشخاص ليس لديك إمكانيَّة جادَّة للتواصُل معهم ومنهم: المشاهير والشخصيات التاريخيَّة والكثير من وسائل الإعلام القديمة لدينا. (على سبيل المثال، لا يستطيع معظمنا التواصل مع «ستيفن سبيلبرغ» بعد مشاهدة أحد أفلامه، أو مناقشة كاتب مقال في صحيفة «نيويورك تايمز» تختلف مع ما ورد فيه). القُدوات الخارجيَّة عبارة عن تيارات رغبة أحاديَّة الاتجاه، إذ يمكنهم التأثير في رغباتك لكنَّك لا تستطيع التأثير في رغباتهم. على سبيل المثال، كان «كونت مونت كريستو» – بطل رواية «ألكسندر دوما» التي صدرت تحمل الاسم نفسه عام 1844م – قدوة قويَّة لرغباتي (بغضِّ النظر عن نتائج ذلك) بعد أن قرأت الرواية لأول مرة عندما كنت طفلًا. لكن الكونت شخصيَّة خياليَّة، لذا فهو بالضرورة قدوات الرغبة “الخارجيون” بالنسبة لي. لكنَّ هذا لا يعني أنَّه لا يمكن أن يكون ذا تأثير كبير للغاية في رغباتي؛ إذ لا يلزم أن تكون القدوة شخصًا حقيقيًّا بل وغالبًا لا يكون كذلك.
وتقع مواقع التواصل الاجتماعي في منطقة رماديَّة غريبة، حيث يندرج العديد من الأشخاص الذين تصادفهم في مواقع التواصل الاجتماعي في فئة قدوات الرغبة “الخارجيون”، بمعنى أنَّك ربَّما لن تقابلهم أبدًا وقد لا “يتابعونك” على هذه المواقع حتى. ولكن في مواقع التواصل الاجتماعي يشعر كل شخص على الأقل أنّه في متناول أي شخص آخر، إذ لا تعرف أبدًا متى سيهتمُّ شخصٌ ما بشيءٍ تغرّده أو تنشره. وهذا جزء مما يشكل جاذبيَّة وسائل التواصل الاجتماعي: فهي تُمثِّل تقاطعًا لعالمي وسطاء الرغبة الداخليين والخارجيين. (عندما تكون على وسائل التواصل الاجتماعي، اسأل نفسك: هل هؤلاء الأشخاص حقيقيون؟ هل يريدون حقًّا الأشياء التي يمثلون نموذجًا للرغبة بها، أم أننا جميعًا أطراف في لعبة تمثيل؟)
سواء عَبْرَ الإنترنت أو في الواقع، كلَّما بدا أنَّ شخصًا ما أقرب إلى مثلك، زاد ارتباطك به وزاد احتمال اهتمامك بما يريده. مَن هو أكثر شخص يغار منه معظم الناس؟ هل هو «جيف بيزوس»، أغنى رجل في العالم؟ أم هو زميلك الذي حصل على تعليم مُماثِل لتعليمك ووظيفة مُماثِلة ويعمل في الساعات نفسها تقريبًا، ولكن يكسب 5000 دولار إضافي سنويًّا؟ كل الناس تقريبًا يغارون من الشخص الثاني، ويرجع تفسير ذلك إلى الفرق بين وسطاء الرغبة الداخليين والخارجيين.
من الواضح أنَّ الإعلانات أيضًا تُشكِّل رغباتنا، ولكن لاحظ أنَّ الآليَّة التي تعمل في العادة هي: أنَّ الشركات التي تُقدِّم الإعلانات عادةً لا تُظهِر لك الشيء نفسه بل الأشخاص الآخرين الذين يريدون الشيء. وهكذا يلعب المُعلِنون مباشرة على طبيعة البشر التي تميل إلى المُحاكاة.
لا بُدَّ أن تعي أنَّ القُدوات الداخليِّين تؤدي إلى مزيدٍ من تَقلُّبِ الرغبة في حياتك لأنَّ عالم القدوات الداخليِّين غزير التفاعل، حيث يمكنهم التأثير في رغبات بعضهم بعضًا، وهو أمر غير ممكن في عالم القدوات الخارجيِّين.
سيساعدك تحديد مَن هُم قُدوات الرَّغبة الداخليون والخارجيون لديك (وأي منهم في المنطقة الرماديَّة) على التحكُّم بشكلٍ أكبر في رغباتك. وهنا أوصيك أن ترسم الدائرتين المتداخلتين أعلاه على ورقةٍ فارغة وأن تحاول ملء المجالات الثلاثة بأكبر عددٍ مُمكِن من الأمثلة المُحدَّدة من حياتك الخاصة.
احذرْ من أن تصبح شديدَ التركيز على ما لدى جيرانك أو ما يريدونه
لأنَّ الرغبة تتصف بالمُحاكاة، ينجذب الناس بشكلٍ طبيعي إلى الرغبة فيما يريده غيرهم. وهنا كتب «جيرار» يقول: “عندما تتلاقى رغبتان في الشيء نفسه فلا بُدَّ أن تتصادما”. هذا يعني أنَّ الرغبة المحاكية غالبًا ما تقود الناس بلا داعٍ إلى تنافس مع بعضهم بعضًا في لعبة قلق المكانة البغيضة. والرغبة المحاكية هي السبب الذي يجعل فئة من الطلاب يدخلون الجامعة بأفكارٍ متباينة جدًّا عمَّا يريدون القيام به عندما يتخرَّجُون (وهي أفكار تشكَّلَت بفعل جميع المؤثرات والأماكن المختلفة التي جاءوا منها) ولكن بحلول الوقت الذي يتخرَّجون فيه يتلاقون في مجموعة من الفرص أصغر بكثير من عددهم – وهذا التلاقي تَعَزَّزَ بسبب مُحاكاة بعضهم بعضًا.
لذلك اعلم أنَّه من المُمكِن اختطاف رغباتك عبر عمليَّة الجذب المحاكي هذه؛ إذ من السهل أن يُركِّز المرء بشدة على ما لدى جيرانه أو ما يريدونه، بدلًا من أن يُركِّز على مسؤولياته والتزاماته المباشرة، فنحن البشر مخلوقات اجتماعيَّة نعرف الآخرين حتى نتمكَّن من معرفة أنفسنا أيضًا، وهذا أمر طيِّب – ولكن إذا لم نتوخَّ الحذر، فقد نُفرِط في الاهتمام بالآخرين.
ويتضمَّن الحلُّ تعلُّمَ طريقة جديدة للدخول في عَلاقات غير تنافسيَّة مع الآخرين – عَلاقة من نوعٍ جديدٍ لا تستمد فيها إحساسك بقيمتك الذاتيَّة من الآخرين (وسوف نشرح المزيد حول هذه النقطة لاحقًا).
حدِّد أنظمة الرغبة في حياتك
بعد تحديد القُدوات التي تُؤثِّر في رغباتك، من المُفيد أيضًا أن تُفكِّر فيما إذا كنتَ قد أصبحت مدمجًا من نظام رغبات مُعيَّن. على سبيل المثال، انظرْ إلى الشيف «سيباستيان براس»، صاحب مطعم «لو سوكيه» في بلديَّة «لاجوليه» جنوبي فرنسا، الذي حصل لمدة 18 عامًا على نجمات ميشلان الثلاث، وهو أعلى تقييم في الطهي لمطعم فرنسي، لكنَّه في عام 2018م اتخذ خطوة غير مسبوقة بمطالبة «دليل ميشلان» بالتوقُّف عن تقييم مطعمه وعدم العودة إليه أبدًا.
لقد أدرك «براس» أنَّ السعيَ الجادَّ للحفاظ على نجمات ميشلان الثلاث عامًا بعد عام قد منعه من تجربة أطباق إبداعيَّة جديدة قد لا يحبها مفتشو ميشلان. لقد جعله تصنيف ميشلان عالقًا في “نظام الرغبة”، بحيث كان المبدأ التنظيمي لجميع اختياراته بسيطًا، وهو: إسعاد هيئة ميشلان.
عندما استرجع «براس» سبب تحوله إلى طاهٍ بالأساس، أخبرني أنَّ السبب كان هو أنَّه يُحبُّ مشاركة مكونات الطعام الموجودة في منطقة «أوبراك» في فرنسا مع بقيَّة العالم، لا أن يصبح عبدًا لنظام تقييم.
عندما فهم «براس» الطريقة التي خلق بها دليل ميشلان نظامًا للرغبة حُوصِر فيه، وجد الشجاعة لإخراج نفسه من هذا النظام.
هل تتذكر «كلير»، مساعد المحامي التي أرادت احتراف الطهي؟ لقد كانت هي الأخرى مُحاصَرة داخل نظام للرغبة؛ ففي العالم الذي نشأت فيه والذي تُهيمن عليه المكانة الاجتماعيَّة، لم يكن الناس يَرَوْن أنَّه من الطموح والنجاح أن ترغب «كلير» في الحصول على وظيفةٍ بسيطة في الطهي بعد التخرج من الكليَّة، لذلك ظلت لفترةٍ من الوقت تسير في المسار “الأكثر شهرة” بفعل الجاذبيَّة المغناطيسيَّة للمُحاكاة. وهكذا يتَّضِح ببساطةٍ أنَّ «كلير» كان لديها نظام نجمات ميشلان الخاص بها. كلنا لدينا الشيء نفسه.
ولكي تتحكَّم في رغباتك بشكلٍ أكبر، اكتشفْ كيف تبدو نسختك الخاصة من دليل ميشلان؛ فقد لا تحتوي نسختك تلك على نظام النجوم على الإطلاق، بل تنطوي على كسب استحسان أشخاص معيَّنِين، أو تلبية توقعات أصدقائك أو عائلتك، أو إعلام الآخرين بأنَّك أردت دائمًا القيام بشيء لا يفهمه الكثير من الناس.
بعد أن تُحدِّد نظام الرغبة الذي كنت عالقًا فيه (وربَّما طوالَ حياتك)، يمكنك البدء في الابتعاد عنه جذريًا وسوف يسمح لك ذلك بالتوقف عن قبول القيمة الظاهريَّة لرغباتك المُسيطرة حاليًا، كما سيخلِّصُك من التعثُّر في خيارات الحياة المُهِمَّة بدلًا من اختيارها عن قَصد.
الأهمُّ من ذلك كلِّه أن تعرف من أين جاءت رغباتُك، فرغباتُك لها تاريخ، ولا يمكنك معرفة ما هي الرغبة “الحقيقيَّة” أو “الأصليَّة” ما لم تفهم من أين جاءت – وهذا يعني أن تغوص في عُمق ماضيك، وأن تفهم كيف تطوَّرْتَ كشخصٍ، وأن تعرف أي الرغبات كانت معك لفترةٍ طويلةٍ وأيها جاء وذهب مثل الريح.
خذ بناصية رغباتك هل يُوجَد شيء اسمه الرغبات غير المُحاكية؟ هذا أمر محلُّ جدل حتى بين الباحثين في نظريَّة «جيرار»، لذلك من الأفضل أن ننظر إلى الرغبات باعتبارها طَيفًا:
في أقصى الجانب الأيسر من هذا الطَّيف تُوجَد رغبات غير محاكية على الإطلاق، ومنها على سبيل المثال، حبُّ الأم لطفلها الرضيع. وعلى الجانب الأقل محاكاة قد تكون هناك أيضًا رغبات ليست غير محاكية تمامًا، ولكنها رغبات قد نسميها “كثيفة” – فهي تكون مُتجذِّرة بعمق في تربية الشخص، أو منطبعة في خياله بشكلٍ عميق. ويُمكِن للشخص الذي يتمتَّع بحسٍّ ديني أن يعتبر هذه الرغبات منحة من الله بعدها جزءًا من “الهداية”. وهذه الرغبات أقلُّ محاكاة بمعنى أنَّ لها جذورًا أعمقَ، ولا يمكن تغييرها بسهولة بناءً على لقاءات أو جلسات أو تجارِب جديدة.
وفي أقصى اليمين، هناك رغبات محاكية بدرجةٍ شبه تامة، ومنها مثلًا الرغبة في امتلاك سهم في البورصة لمُجرد أنَّ الجميع يريد امتلاكه. (وهي تُحفِّز الخوف من تضييع الفرصة، وهو في الحقيقة مُجرَّدُ شكلٍ من أشكال الرغبة المحاكية).
قد تتضمَّن الرغبات المُحاكية الأقل تطرفًا الرغبة في الالتحاق بجامعة مُعيَّنَة لأنَّ جميع أصدقائك يريدون الالتحاق بها. ولكن يمكن أن يكون لتلك الرغبة أيضًا علاقة بالسمعة الأكاديميَّة للجامعة. وهكذا يمكن أن تتأثر الرغبات بمؤثرات عديدة مختلفة، بعضها مُحاكٍ وبعضها غير مُحاكٍ. المِفتاح هنا هو فَهم القوى المُؤثِّرة في رغباتك وعدم خلط الصالح بالطالح.
فهل هناك رغبات “أصيلة”؟ أحد جذور كلمة “أصيلة” (authentic) هو “مؤلف” (author). فهل يُعتبَر أيٌّ منَّا مؤلفًا لرغباته؟ نعم يمكن أن نكون هكذا. قد لا تكون المؤلف الوحيد لرغباتك، ولكن يُمكِنك بالتأكيد أن تتملك تلك الرغبات وتضع بصمتك على التأليف عبر حريتك الإبداعيَّة.
انظرْ مثلًا شخصًا يريد تأليف كتاب عن موضوعٍ مُعيَّن. من أينَ جاءته الرَّغبة في تأليف كتاب بالأساس؟ من المُعلوم أنَّه لم يكن الكثير من الناس يألفون كتبًا منذ 1000 عام، ولكنَّ الأرجح اليوم أن يكون للرغبة في تأليفِ كتابٍ بُعدٌ اجتماعيٌّ – فربَّما يكون هناك مُعلِّم أو صديق أو ندٌّ له قد ألَّفَ كتابًا، ويريد هذا الشخص أن يحاكيه. وغالبًا ما تكون الرغبة في تأليف كتاب نتاجَ تفاعُلاتٍ اجتماعيَّةٍ، شأنها شأن تأسيس شركة أو الشروع في تغيير مهني.
ولكن سواء كانت لديك رغبة في أن تصبح مؤلفًا أم أن تفعل شيئًا آخر، فإنَّ النقطة الحاسمة هي ألَّا تجعل المُؤثِّرات المُنتشِرة في كلِّ مكان والتي ستشكل تلك الرغبة تمنعك من ترك بصمة إبداعك الخاصَّة عليها؛ إذ يُمكِن لعَشرة أشخاص أن يرغبوا في تحقيق ذات الهدف أو عيش نمط الحياة نفسه، ولكنَّهم يُحقِّقُون ذلك بعشر طرائق فريدة تمامًا، بعد أن يكتشفوا الفروقَ الدقيقة في رغباتهم والطريقة التي يسعون بها لتحقيق تلك الرغبات.
من المُمكِن أيضًا أن تبدأ الرغبة كمُحاكاةٍ بدرجةٍ كبيرة ولكنَّها تصبح أقل مُحاكاة تدريجيًّا عندما تترك بصمتك عليها؛ فلقد خطرت لفيروتشيو لامبورجيني فكرة توسُّع شركته من تصنيع الجرارات إلى تصنيع السيارات بسبب تنافس شخصي مع «إينزو فيراري»، الذي كان يقود سيارات من إنتاج مصنعه. وكان ذلك عندما واجه مشكلة في نظام التعشيق في إحدى سيارات الفيراري التي يملكها، حيث زار «إنـزو» ولكنَّه لقي معاملة غير لائقة. في ذلك اليوم، ولدت بداخله الرغبة في صنع رياضيَّة أفضل وهي الرغبة التي لم تكن موجودة لديه في السابق.
فهل هذا يعني أنَّ رغبته كانت مجرد رغبة مُشتقَّة؟ بالطبع لا. بمجرد أن شرع في صنع سيارة لامبورغيني، جعل تلك الرغبة ذاتيَّة حيث صنع سيارات جميلة من تصميمه الخاص واستفاد من البراعة الهندسيَّة التي تميَّزَت بها شركته.
قصة «لامبورغيني» هي مثال رائع على عدم بقاء الرغبات في مكانٍ واحدٍ على طَيف الرغبات؛ فالرغبات تنتقل من طَرَفٍ إلى طَرَفٍ، إذْ يُمكِنها الانتقال إلى اليمين (لتصبح أكثر مُحاكاة)، ويُمكنها أيضًا الانتقال إلى اليسار (لتصبح أقل مُحاكاة).
فَكِّرْ في الرغبات التي تريد حقًّا امتلاكها وتنميها بداخلك. ولا يهم ما إذا كانت في الأصل مُحاكاةً أم لا، فالقصديَّة التي تسبغها على تلك الرغبات تسمح لك بأن تصبح صاحبَ ابتكارٍ جديدٍ.
عِشْ حياةً غيرَ مُحاكية
أن تكون شخصًا غيرَ محاكٍ يعني أن تتحرَّرَ من اتباع الرغبات والنوازع لا شعوريًّا دون معرفة مصدرها؛ هو أن تتحرَّرَ من عقليَّة القطيع الجمعي، وأن تتحرَّرَ من النمط “الافتراضي” الذي يجعلنا نسعى إلى أشياء دون النظر في الأسباب.
من المُمكِن أن تطور بين حنايا صدرك آليَّة مُضادَّة للمُحاكاة – الأشياء التي جرت العادة على تسميتها بالفضائل، أو عادات وجوديَّة مثل الحذر والجَلَد والشجاعة والصدق – تجعلك مُرتكزًا على شيءٍ أعمق حتى أثناء دوران الأمواج المُحاكية حولك. بعبارة أخرى، هناك بعض القيم والرغبات الإنسانيَّة الدائمة التي تستحق السعي خلفها مهما كانت لأنَّها أثبتت أنَّها لا تُخيِّب الأمل أبدًا.
عادةً ما يكون الشخص الذي لديه قيمٌ مؤسسة قويَّة، سواء كانت دينيَّة أو فلسفيَّة أو لها أساس آخر، أقل عُرْضَة لرياح الرغبات المُحاكية المُؤقَّتَة أو الضارة التي تفتقر إلى أي جوهر.
إذن، ربَّما استنتجت بالفعل أنَّ هناك بُعدًا دينيًّا لكل هذا؛ فقد كتب القديس أوغسطين في كتابه الشهير «الاعترافات (397- 400) رسالة إلى الله حول بداية إدراكه أنَّ حياته السابقة قد هيمنت عليها الرغبات الوهميَّة قائلًا: “قلبنا لا يهدأ حتَّى يستقرَّ فيك”.
وفي المسيحيَّة، كلُّ رغبة هي رغبة في الوجود أي هي رغبة في الله؛ فهو التعبير الأكمل عن الوجود. بينما كل الرغبات الأخرى هي مُجرد انعكاسات أو علامات إرشاديَّة لتلك الرغبة الأكبر والأعمِّ والأشمل.
ولكن بالنسبة لشخص غير متدين، تظل كلمات القديس أوغسطين تحمل بعض الحكمة. اسأل نفسك: أين يمكن أن تستكين رغباتي دون الشعور المستمر بالتململ، أَفي شخص أم في شيء؟ لماذا قد يحدث ذلك؟ وما الشيء الذي قد يجلب لي سعادة تدوم طويلًا، دون الحاجة إلى “المزيد”؟
ولكن تململ الرغبة وعدم استكانتها ليس بالضرورة أمرًا سيئًا، فهو ما يدفع الناس للسعي نحو المزيد. بيد أنَّ الشعور المستمر بالتململ قد يكون علامة على أنَّ الرغبات التي تطاردها تفتقر إلى القدرة على إشباعها.
أصبحت «كلير»، مُساعِدة المحامي المُحبَطة التي تكلمنا عنها في صدر المقال، زوجتي؛ حيث استقالت من وظيفتها في مكتب المحاماة وشَرَعَتْ في مسارها المتفرد غير المحاكي لأحد، فالتحقت ببرنامج الماجستير في الدراسات الغذائيَّة بجامعة نيويورك وأصبحت في النهاية مديرة تنفيذيَّة في شركة طعام ناشئة سريعة النمو. التقينا في حانة أيرلنديَّة في روما بينما كانت في رحلة هناك لإجراء أبحاثٍ عن الطعام وكنت حينها أدرس للحصول على شهادتي الجامعيَّة. وفي لحظة من الإدراك المتأخر، أيقنت أنَّ زيجتنا كانت غير تقليديَّة بالمرة: لم يكن أحدٌ منَّا يسعى لإيجاد الآخر أو حتَّى تتاح له الفرصة لمقابلة الآخر إذا عِشنا وفقًا للأعراف الاجتماعيَّة السائدة. حيث كانت المُحاكاة في عوالمنا ستمنعنا من اللقاء أو الوقوع في الحبِّ. ولحُسنِ الحظ، استطعنا الخروج من تلك العوالم في تلك الليلة.
ربَّما يكون الموقف الأكثر مُناهضة للمُحاكاة هو الانفتاح على التساؤل، والرغبة في ترك الواقع يُفاجِئك. وهو نادرًا ما يُخيِّب الآمال.
النقاط الرئيسَة – كيف تعرف ما تريده حقًّا؟
- تختلف الرغبات اختلافًا جوهريًّا عن الاحتياجات. الرغبة هي شهيَّة فكريَّة لأشياء ترى أنَّها طيبة، على عكس الاحتياجات الفسيولوجيَّة كالجوع والعطش.
- الرغبة هي عمليَّة اجتماعيَّة؛ الرغبة مُحاكاة. كما أشار المُنَظِّر الاجتماعي «رينيه جيرار»، فإنَّنا لا تنبع رغباتنا من الداخل؛ بل بالأحرى نحن نحاكي ما يريده الآخرون.
- حَدِّد الأشخاص أو “القُدوات” التي تُؤثِّر في ما تريده. لكي تتحكَّم في رغباتك بشكلٍ أفضل، فإنَّ الخُطوة الأولى هي تحديد الأشخاص الذين يُؤثِّرون فيك.
- صنِّف هؤلاء القُدوات. إنَّ معرفة مَن يُؤثِّرون فيك من داخل عالمك، ومَن يُؤثِّرون فيك من خارجه، سيساعدك على اكتساب سيطرة أكبر على رغباتك.
- احذرْ من أن تصبح شديدَ التركيز على ما لدى جيرانك أو ما يريدونه. الرغبة المُحاكية غالبًا ما تقود الناس بلا داعٍ إلى تنافس مع بعضهم بعضًا.
- حَدِّد أنظمة الرغبة في حياتك. ليس الأفراد وحدَهم مَن يُؤثِّرون فينا، ولكنَّ الأنظمةَ الاجتماعيَّة بأكملها ذات تأثير فينا – لذا فإنَّك بتحديد تلك الأنظمة تستطيع التخلص من تأثيرها.
- خُذ بناصية رغباتك. كونك لست المؤلف الوحيد لرغباتك لا يعني أنَّك لا تستطيع البَدء في امتلاكها.
- عِشْ حياة متفردة غير مُحاكية. حَرِّر نفسك من عقليَّة القطيع الجمعي وذلك من خلال جعل حياتك مُتجذِّرة في شيءٍ أعمق.
لماذا الأمر مُهِمٌّ؟
الرغبة المُحاكية هي جزءٌ من حالة الإنسان، لذلك فهي تتقاطع مع جميع مجالات الحياة، وفيما يأتي بعض الأمثلة المُوجَزة وكيفيَّة التعامل معها:
العَلاقات
لا يُدرك الكثير من الناس أنَّهم يعيشون في تنافُس مُحاكٍ مع الشريك العاطفي أو الزوج. يقول عالِم النفس «جان ميشيل أوغورليان»، المتبنِّي لأفكار «رينيه جيرار»، في كتابه «نشأة الرغبة» (2007م)، إنَّه يرى أنَّ هذه العلاقة ديناميكيَّة طوالَ الوقت، وقد أطلق عليها نموذج العَلاقات المُتأرجِح.
وكتب أوغورليان يقول: “إنَّ الأزواج المقيدين بالغيرة من بعضهم بعضًا هم دائمًا سجناء للآليَّة نفسها: تتأرجِح رغباتهم الانعكاسيَّة باستمرار بين مواضع الهيمنة والخضوع – وهو نمط العَلاقة الذي يطلق عليه تحليل المعاملات (واحدًا أعلى) و (واحدًا أسفل). وقد يبدو من الغريب الاعتقاد بأنَّ الزوجين قد يشعران بالغَيرة من بعضهما بعضًا أو ندَّان يُقلِّدان بعضهما بعضًا، ولكنَّ هذا يحدث كثيرًا.
قالت لي إحدى النساء ذات مرة: “إذا اقترحت على زوجي قراءة كتاب مُعيَّن، فهذه أوثق طريقة للتأكُّد من أنَّه لن يقرأه أبدًا”، فالندُّ المُحاكي ينظر إلى الآخر بوصفه تهديدًا لاستقلاليته.
قُم بفحص هذا الجانب من علاقاتك بجديَّة – العاطفيَّة وغيرها – واسألْ نفسك ما إذا كنت تلعب لعبة لا غالب فيها ولا مغلوب، وتأكَّدْ من أنَّك لست جالسًا على أرجوحة.
إذا كنت تشكُّ أنَّك على هذه الحال، فلا بد أن تكون مهمتك الأولى هي إيجاد طريقة للقيام بشيء سخي سخاءً غير عاديٍّ تجاه الشخص الآخر دون توقُّع لأي شيء في المقابل، وهو أمر صعب لأنَّه ينطوي على التخلِّي (التخلِّي عن الحاجة الطبيعيَّة للحصول على شيء في المُقابل)، لكنَّه يكسر تلك الدائرة.
وسائل التواصل الاجتماعي
وسائل التواصل الاجتماعي هي آلة مُحاكية، فما نطلق عليه عادةً “وسائل التواصل الاجتماعي” هو بالفعل نوع من الوساطة الاجتماعيَّة – وساطة الرغبات، حيث تتشكَّل الرغبات لنا يوميًّا وعلى مدار اليوم عبر أناس لا نعرفهم. والرغبة المُحاكية هي المُحرِّك الخَفِي لهذه المنصَّات.
قد يكون الابتعاد عن وسائل التواصل الاجتماعي تمامًا أمرًا مُثيرًا للإعجاب، لكنَّه ليس واقعيًّا بالنسبة لمُعظم الناس. ومع ذلك، هناك شيء واحد يمكنك القيام به، ألا وهو توخِّي الحذر الشديد – عن قصد – بشأن مَن “تتابعهم”. قُم بإجراء تقييم صادق لأنواع الرغبات التي يزرعها فيك الأشخاص الذين تتابعهم، اسألْ نفسك: هل الشخص الذي أتابعه يقودني في الواقع إلى تطوير أي رغبات إيجابيَّة، والتطلع إلى أشياء أعظم؟ أم أنه يسبب لي المزيد من القلق؟ ولكن عليك أن تدرك أن كل ما تقوله أو تفعله هو نموذج للرغبة لدى شخص آخر.
التطوير الوظيفي
إنَّ الوظائف المُستقرة طويلة الأمد نادرة في عصرنا هذا. يتَّخذ كثيرٌ من النَّاس مسارات وظيفيَّة، إلا أنَّ معرفة الاتجاه الذي يجب اتباعه لا يكون أمرًا سهلًا على الدوام. لذلك قد يكون من المُفيد تحديد بعض الرغبات “العميقة” الأساسيَّة التي تُحفِّزك وأن تعمل على تطويرها، بدلًا من التفكير في مُسميَّات وظيفيَّة أو وظائف أو مؤسسات مُحدَّدة.
إذن، ما هو دافعك الأساسي؟ ما الذي يقودك حقًا، وربَّما كان يقودك طوال حياتك؟ من المُهِم أن تحدده بدقة لأنَّك ستستطيع بعدها تطبيق دافعك التحفيزي الأساسي هذا عبر مختلف أنواع العمل. على سبيل المثال، يكون لدى بعض الأشخاص رغبة أساسيَّة في “الفهم والتعبير”، وهو يكون دافعًا دائمًا وتحفيزيًّا لفعل هذا الشيء بصرف النظر عن السياق. وهذه هي إحدى رغباتي الأساسيَّة، ولهذا السبب أستمتع بكتابة الكتب. بيد أنَّ الفهم بالنسبة لي يكون مُرْضيًا فقط إذا وجدت أيضًا متنفسًا للتعبير. وبما أنني أعرف ذلك عن نفسي، فلا بُدَّ أن أتأكَّد قبل القيام بأي مشروع طويل الأمد أنَّه ينطوي على فرصة بالنسبة لي لفهم الأشياء والتعبير عنها باستمرار. وهكذا، إذا تمكَّنت من تحديد رغباتك الأساسيَّة تلك، فستكون لديك أداة قويَّة للتغلُّب على الارتباك المهني، لأنَّك تتخطَّى أيضًا المُحاكاة.
المُمتلكات
كتب الفيلسوف الرواقي «إبيكتيتوس» يقول: “ليست الأشياء نفسها هي التي تُزعِج النَّاس، بل أحكامهم عن تلك الأشياء”. تعطي الرغبة المُحاكية أهميَّة للأشياء بسبب الأشخاص الآخرين الذين يريدونها. وعندما يختفي قدوتنا في الرغبة في الشيء يزول اهتمامنا به.
إنَّنا نهتمُّ بالأشخاص أكثر مِمَّا نهتمُّ بالأشياء، فإذا استطعت تحديد مدى الأهميَّة التي تُولِيها لشيءٍ ما لمُجرَّد عَلاقة شخص آخر به، عندئذ يمكنك البدء في تحرير نفسك من قبضته.
كرَّسَ صديقاي جوشوا فيلدز ميلبورن ورايان نيكوديموس، مُقدِّمَا البودكاست (The Minimalists)، نفسيهما لاستكشاف كيفيَّة العيش بالحدِّ الأدنى من الأشياء الماديَّة، فهما يقولان: “أحبوا الناس، واستخدموا الأشياء”. وهذه نصيحة حكيمة، لأنَّ كلَّ شيءٍ نملكه، من أجهزة التلفزيون إلى تقنية الرموز غير القابلة للاستبدال (NFTs)، غرضه الوحيد الاستخدام. ووفقًا للرغبة المُحاكية، الأشياء الماديَّة هي أيضًا طلاسم لرغبةٍ أعمق. وبحسب ما كتبه «جيرار»، كل رغبة هي رغبة في الوجود.
لذا، قبل السعي وراء نوع مُعيَّن من الامتلاك المادي، اسألْ نفسك عن نوع الشخص الذي ستصبح عليه بعد امتلاكه، وإذا لم تعجبك الإجابة ربَّما يكون عليك إعادة النظر في الشراء.
نمط الحياة
بدا هاشتاج VanLife# على الإنستجرام ساحرًا للعديد من الأشخاص في عام 2020م، فلقد كانت تلك إحدى الموضات العابرة للهروب إلى الطريق المفتوح في منازل مُتنقلة مُزخرفة ومُشاركة الصور المُنسقة للتجرِبة على وسائل التواصل الاجتماعي. ولكن أصبح من الواضح الآن أنَّ الصور كانت تخفي المصاعب الخطيرة التي ينطوي عليها السفر مع شخصٍ آخر لفترات طويلة، ونعني بذلك كل شيء بدءًا من مخاوف المرور المُؤقَّتة إلى انعدام الاستقرار الدائم.
بدأ بعض الناس هذه الرحلة دونَ التفكير في التكاليف النفسيَّة. نحن نعلم الآن أنَّ العديد منهم ندموا على هذه الخُطوة، بل إنَّ بعضهم فقد حياته بسبب مرض عقلي، ولكنَّهم يقدمون للعالم طوال الوقت صورة عن الحريَّة.
وبالمثل فيما يخصُّ حياة المزرعة؛ حيث يبني الكثير من الناس أفكارًا خياليَّة عن العَيش في مزرعة ورعاية الحيوانات، إلا أنَّهم يتجاهلون حقيقة الاضطرار إلى تنظيف روث البقر أو إطعام الخنازير كل صباح.
من المُعتاد أن يفكر الناس بالطريقة الآتية: “إذا عِشت في تلك المدينة (أو المنزل/ الحي/ البلد…) فسيكون كلُّ شيء أفضل.” ولكن عندما يتعلَّق الأمر بأسلوب الحياة، فإنَّه لا يوجد هناك شكل مُعيَّن يكون بمثابةِ حلٍّ لجميع مشاكلنا، أو مفتاحٍ للسعادة.
من المُحتمَل أنَّك إذا لم تكن سعيدًا في المكان الذي توجد فيه الآن، فلن تكون سعيدًا في أيِّ مكان؛ وذلك لأنَّك تُعلِّق سعادتك دائمًا بشيءٍ مجهول “خارجي”، وستستمر الرغبة المُحاكية في مُمارسة سيطرة ضارّة عليك.
من ناحيَّةٍ أخرى، هناك بعض القيم الثابتة – مثل الصحة والإبداع أو فرصة مشاركة الوجبات مع أشخاص آخرين – التي لا يمكن أن تختفي أبدًا، وهناك العديد من الطرائق لاستخدمها على الدوام طالما هناك حياة على هذا الكوكب، فأسلوب الحياة هو شيءٌ ينبثق من قيم الفرد وانضباطه، وليس شيئًا تجده في رمزٍ بريديٍّ مُعيَّن أو عبر مفاتيح منزل أو شاحنة أخرى.
لا يُوجَد نموذجٌ مثاليٌّ للحياةِ التي تريد أن تعيشها لأنَّك شخصٌ فريدٌ وغيرُ قابلٍ للتكرار، والأثر الذي تتركه في هذا العالم سيخصُّك وحدَك. وقد يجد أولئك الذين يأتون من بعدك فيك مصدرًا للإلهام ويَسعَوْن لتصميم أجزاء من حياتهم أو رغباتهم على أثر نموذج حياتك، لكنَّهم أيضًا سيحتاجون إلى الشروع في مغامرتك ذاتها وهي كونك قائدًا مُتفردًا بذاتك في عالمٍ يضجُّ بالمُحاكاة. إنَّ فرصتك وإرثك الحقيقيين يَكمُنَا في رؤية الأنماط الموجودة في حياة ورغبات الآخرين، ثُمَّ ابتكار شيءٍ جديدٍ وجميل يخصُّكَ وحدَك.
الروابط والكتب
فيديو مُدَّته خمسُ دقائقَ يحمل عنوان (كيف تعرف ما تريده حقًا؟) “How to Know What You Really Want” (2021) سجلته لصالح منصة Big Think، وأشرح فيه الفرق بين الرغبات “الكثيفة” والرغبات “الدقيقة” وكيفيَّة التمييز بينهما.
فيديو مُدَّتُه دقيقتان بعنوان “رينيه جيرار يشرح الرغبة المحاكية” (2018م) من إنتاج شركة Imitatio، وهي مُؤسَّسَة أُنشئت لتبسيط ونشر أفكار «جيرار» على نطاقٍ أوسع.
مقال “أسرار حول الأشخاص: مُقدِّمة قصيرة وخطيرة لرينيه جيرار” (2019م) كتبه أليكس دانكو، مُوظَّف في Shopify وأحد عشاق جيرار.
مقطع الفيديو “اختراع اللوم (آليَّة كبش الفداء)” (2017م) من قناة Vsauce2 على YouTube الذي تحدَّث فيه كيفن ليبر يُوضِّح الجانب المُظلِم من نظريَّة المُحاكاة: كيف تنتشر المُحاكاة الطليقة بفعل العدوى إلى أن تؤدي للصراع والعنف داخل المجتمع بعدّه وسيلة للسيطرة على أزمة المُحاكاة.
مقطع فيديو بعنوان “الرغبة” (Wanting) (2021م) وهو الحلقة رقم 290 من سلسلة بودكاست The Minimalists الذي يقدمه جوشوا فيلدز ميلبورن وريان نيكوديموس، وكنتُ أنا ضيف الحلقة، ونناقش فيه: لماذا نريد ما نريد وكيف يُمكِننا تحرير أنفسنا من الرغبات المحاكيَّة؟
مقدمتي القصيرة «الرغبة المُحاكية 101» (2021م) في نشرتي (مكافحة التقليد) على مَنصَّة Substack، المُخَصَّصَة بالكامل للبحث في الأسئلة المُتعلِّقَة بالرغبة المُحاكية وخاصَّةً كيف يُمكن للمرء أن يعيش حياة مُضادَّة للمُحاكاة أو حياة خالية من الآثار الخفيَّة الضارة والسلبيَّة للمُحاكاة.
كتاب «المُحاكاة والعلم» (2011م) (Mimesis and Science) تحرير عالم النفس الإكلينيكي سكوت جاريلز في كاليفورنيا يعرض بحوثًا تجريبيَّة حول التقليد، ويضمُّ كلَّ شيء بَدءًا من دراسات تنمية الطفولة المبكرة وحتى التطور المُحاكي في الطبيعة. أوصي بشدة بهذا المُجلَّد لأيِّ شخصٍ يرغب في تأسيس نظريَّة المُحاكاة في العلم.
كتاب «أرى الشيطان يسقط كالبرق» (1999م) بقلم رينيه جيرار. إذا كنتَ ترغب في قراءة مادّة مصدريَّة أساسيَّة، فهذا هو كتاب جيرار الأكثر يُسرًا وهو الكتاب الذي يُفكِّك التبعات اللاهوتيَّة للأفكار الواردة في هذا الدليل.
يُعدُّ كتابي «الرغبة: قوة الرغبة المُحاكية في الحياة اليوميَّة» (Wanting: The Power of Mimetic Desire in Everyday Life) (2021) بمثابة مقدمة غير أكاديميَّة لفكر جيرار. يُقدِّم النصف الأول من الكتاب نظرة عامة مُتعمِّقَة لأفكاره الرئيسَة، والنصف الثاني يساعد القُرَّاء على تطبيقها في حياتهم الخاصة.
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومنصة سايكي).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.