لتحميل الحوار : حوار دافيد لوبروتون
تعريفٌ بالضيف
دافيد لوبروتون من مواليد 1953 بغرب فرنسا. وهو أستاذ السوسيولوجيا والأنثربولوجيا ومدير للبحث حاليًا بجامعة ستراسبورغ. منذ نشره لكتاب «الجسد والمجتمع» (1985)، توالت منشوراته عن الجسد وتمظهراته الاجتماعية. تندرج أبحاثه عن الألم والصمت والسلوك الخطر والوجه والحواس … في تقاطع بين السوسيولوجيا والأنثربولوجيا وعلم النفس. وهو يعتبر من أكبر المتخصصين العالميين في أنثروبولوجيا الجسد. تُرجمت له للعربية عدة كتب هي: «أنثروبولوجيا الجسد والحداثة»، «سوسيولوجيا الجسد: أنثربولوجيا الألم». كما ترجمتُ له تباعًا في السنوات الأخيرة، بعد أن استضفته لإلقاء محاضرات بجامعة الرباط في 2016، المؤلفات التالية: «تجربة الألم»، و«الصمت»، و«الضحك»، و«أنثربولوجيا الحواس» و«أنثروبولوجيا الوجه» (قيد الترجمة). ونظرًا للاهتمام الكبير الذي حظيت به قضايا الجسد مؤخرًا في المجال الأكاديمي والثقافي بالعالم العربي في السنين الأخيرة، ومع تنامي رصيد مترجماته للعربية، كان لي معه هذا الحوار الشامل.
1 – بدأتَ مشوارك باحثًا في سوسيولوجيا الجسد. لماذا اخترتَ الجسد موضوعًا لأبحاثك؟ ما هو المسير الذي قادك إلى بلورة أنثروبولوجيا للجسد؟ هل يمكنك أن توضح لنا كيف تولّد لديك هذا الاهتمام الحصْري بالجسد؟
لقد وُلدت وترعرعت في منطقة لومانس غرب فرنسا، وارتدت هناك جامعة مدينة تور. في تلك السنوات من نهاية السبعينيات، كانت هناك العديد من الجسور بين المباحث الأكاديمية، خلافًا لما هو عليه الأمر اليوم. التحقتُ بشعبة علم النفس، وعلم الاجتماع، واللسانيات. وأنا أتذكر بالأخص في تلك السنوات إحساسي بالخيبة، حتى بخصوص دروس علم النفس السريري التي كنتُ أنتظر منها الكثير. كانت الدروس التي نتلقاها حينها آليةً ولا طعم لها؛ إذْ كانت دروسًا باهتة تفصح عن أساتذة قليليّ الحضور في كلامهم، وفارغين من الشغف والفضول. هذه الدروس خيبت أملي كثيرًا. بالمقابل، كنت قارئًا نهمًا في جميع الميادين، كما أنا عليه اليوم.
كنت مهتمًا أيضًا بالتحليل النفسي المضاد البريطاني في ذلك الوقت. وكانت السينما إحدى مواطن شغفي الأخرى، وهو عشق لم أتخلَ عنه قط حتى اليوم. وقد كنت نشيطًا لوقت طويل في النادي السينمائي للحي الجامعي. دروس اللسانيات كانت أيضًا مثيرة للملل. كانت لسانيات مفرطة في طابعها التقني، تركز اهتمامها على البنيات أكثر من دلالة اللغة كما كنت آمل منها. ولم يكن أساتذة علم الاجتماع بأقل إثارة للملل لأنهم كانوا حينها منضوين تحت لواء ماركسية صارمة. بيدَ أن مناظرات ودروس عالم الاجتماع جان دوفينيو، الذي سيصبح مشرفًا على أطروحتي، صالحتني مع الجامعة؛ إذْ كان يفتح آفاق الفكر على مصراعيها.
كانت أولى أيامي في الجامعة مشوبة بالخيبة نظرًا إلى أن الفضول المعرفي العميق الذي كان يطبع علاقتي بالعالم، وإلى الأسئلة العديدة التي كنت أطرحها. كنت أشعرُ أنني في مأزق من غير سبب ملموس، ممزقًا بين شغفي العارم بالتهام الكتب وحياة محدودة في منطقة المانس حيث كان القدر ينذرني لكي أصبح مسؤولاً في معامل صناعة سيارات رونو التي كان أبي يعمل فيها. وذلك كان هو المستقبل الأفضل؛ لأن هذا المنصب كان يعتبر في ذلك الوقت ذا قيمة كبرى. كنت أتساءل بألم دفين عن معنى الحياة، وعن ضرورة العيش أو عدم ضرورته في عالم لم أكن أستطيع فيه التعرّف على نفسي. وقد عشت أنا أيضًا السلوك الخطر[1] الذي تحدّثت عنه في أبحاثي، وسعيت إلى القطع بشكلٍ جذري مع مجتمعي. ثم إني سافرت إلى البرازيل وكانت حينها في عزّ الدكتاتورية العسكرية، مفعمًا بإحساس مفاده أنني لن أعود مرّة أخرى إلى بلدي.
كنت في ذلك الوقت أميل إلى شيئين: الالتزام السياسي ضد الدكتاتورية العسكرية، والغياب إلى الأبد. كنت أحمل استيهامَ غابات الأمازون، حيث يمكن أن أتوارى وأُمحى بحيث لن يسمعَ أحدٌ خبرًا عن وجودي. كانت تلك ممهدات لكتابي: «الغياب عن الذات»[2]. كانت فتنة التوحش تسكنني؛ أيّ فتنة الزهد والانبعاث والبعد عن مواطن المرارة الكثيرة التي كنت أحسها في قلب مجتمعاتنا. ذهبتُ إذن إلى البرازيل في عزّ ضلالي. كانت تلك سنوات عشت فيها بشكلٍ عارٍ ومضنٍ مأزق الحياة والسلوك الخطر. لم أفكر آنذاك في لعبة الموت هذه من الخارج، وإنما أولاً من الداخل. وقد عاينتُ أيضًا وفاة أشخاص مقربين إليّ وأحسست لمدة طويلة بالذنب لأني بقيت على قيد الحياة. ولأختصر كلامي أقول إنّي اهتممت بالجسد لأني كنت أعيش الألم، وبالسلوك الخطر لأني عشته بنفسي.
2- هل يمكننا أن نعتبرك عالمَ اجتماع أم أنثربولوجيًا، أم الاثنين معًا؟
أنا أُوجد في الحدود، أو يصح أن تراني مثل المهرّب أو العبّار، لهذا أرى نفسي في الغالب أنني أنتمي للأنثربولوجيا أكثر من علم الاجتماع بمعناه الأكاديمي؛ ففي الأنثربولوجيا ثمّة الجذر الإغريقي: أنثروبوس الذي يحيل إلى الإنسانية وللشرط البشري. وعملي بأكلمه -الذي ينصب على الجسد والألم والضحك والبسمة والوجه والصمت أو السلوك الخطر- يندرج في هذا الإطار.
إنّي أُسائل الشرط البشري عن الدلالات التي يمسرحها الفاعلون الاجتماعيون. لكن الأمر يتعلق أيضًا بالسير في ما وراء ذلك؛ أيّ بالتعرّف على منطق المعنى في العلاقة مع العالم. والأمر لا يتعلّق مطلقًا بالفهم ابتغاء لمتعة الفهم فحسب؛ إذْ فيَّ الرغبة في الفهم، ومن ثمَّ في الفعل. وأنا أعرف مثلًا أن كتبي عن الألم يقرؤوها كثيرًا الأطباء والعاملون في مجال الصحة عمومًا، كما أن كتبي عن السلوك الخطر يقبل على قراءتها كثيرًا المساعدون الاجتماعيون المهتمون بالشباب. بهذا المعنى، فأنا أرى نفسي في سرب علماء الاجتماع الذين كانت مقاصدهم تتمثّل في تغيير شيء ما في العالم، تلك الإرادة التي كانت لدى دوركهايم وماكس فيبر، وبالأخص لدى علماء اجتماع مدرسة شيكاغو الذين أشعر إزاءهم بالقرابة. ذلك هو ما يقوم عليه مسعاي بكل تواضع. أنا لا أحب النزعة النضالية؛ لأن النضال يعني تحديد العالم. والأنثربولوجيا، في نظري، تعني فتح حدود العالم بشكلٍ لانهائي والتذكير بأن لا شيء مما هو إنساني ينفلت من البناء الاجتماعي والثقافي؛ وما فعلناه بحيواتنا، وحتى ما فعلته الحياة بنا يمكننا أيضًا أن نفكّكه، لكي نعيد بناء ذاتنا بشكلٍ أكثر ملاءمة. كما لا يمكننا أيضًا أن نظلّ حبيسيّ أصولنا؛ لأن البشر لديهم رجلان وليس لهم جذور.
وأنا قريبٌ جدًا من مدرسة شيكاغو ومن التفاعلية الرمزية، اللذين كتبت عنهما كتيِّبًا صغيرًا[3]، وبالأخصّ منهم إرفين غوفمان، وهوارد بيكر، غير أني أجترح لنفسي مسيري الخاص ولستُ تلميذًا لأحد. بالمقابل، أرى نفسي رفيقَ الطريق لأشخاصٍ أحببتهم كثيرًا، من قبيل جورج بالانديي، وروجي باستيد، وفرانسوا لابلانتين الذي ألاقيه بشكلٍ منتظم. بيدَ أن كل واحد منا اتبع سبيله الخاص. إنهم ليسوا أشخاصًا يرغبون في أن يكون لهم أتباع ملحقون بفكرهم مثلما هو أمر بعض الزملاء ذوي النرجسية المفرطة. فأنا أعتبر نفسي رفيق طريق للطلبة الذي يشتغلون تحت مسؤوليتي، لا موجهًا لوعيهم.
3- قلتَ في أحد كتبك بأن ليس ثمّة أنثربولوجيا واحدة وإنما أنثربولوجيات متعددة. ماذا تعني بذلك؟
ثمّة طرائق عديدة للتفاعل بين المجتمعات، ولبناء تصورها لعالمها ولعلاقتها بالجسد والموت والوجه، والضحك، والصمت، والألم … وأنا أتابع الاشتغال بدهشة إزاء عالم مركب وملتبس بشكلٍ لانهائي أسعى إلى فهمه. لا مراء في أنّ موضوعًا من قبيل السلوك الخطر أو التحمس للمخاطر يوجد في ملتقى العلوم الاجتماعية والسيكولوجية، بيد أني أسعى لتناول هذه المواضيع من وجهة نظر أنثربولوجية. وأحاول أن أفهم لماذا يعرض هؤلاء الشباب أنفسهم للخطر وهم على علم بذلك.
وبحثي لا يتغذّى من الحالات الإكلينيكية (فهو يمتح من القراءات والنقاشات مع الزملاء)، وإنما من اللقاءات العديدة التي أقوم بها مع الشباب في إطار التحقيقات، أو مع الطلبة ثم مع الآباء والمهنيين وأساتذة الثانويات والاعداديات. وأنا لا أزعم بأني أمتلك الحقيقة، بل أسعى للعمل بصرامة انطلاقًا من آليات صلبة للتحقيق، وأبحث بشكلٍ عميق وواسع في مواضيع بحثي، بحيث إن مراجعي تكون هائلة العدد، غير أني أعلم أنّ لا أحد يمكن أن تكون له الكلمة الأخيرة في موضوع أو تحقيقٍ ما. وهذا ما يفسر أن العنوان الفرعي لبعض كتبي يكون: «أنثربولوجيا». بالشكل نفسه، لا أختم أبدًا كتبي، وإنما أختمها بـ«منفتح»، وهو ما يعني أنّ على القارئ أن يتابع البحث.
4- تتناول أبحاثك الجسد في عموميته، كما في مكوناته وأفعاله. هل يتعلق الأمر باستكشاف موسوعي؟
نعم، فالجسد هو دومًا الخيط الناظم، وحتى كتابي عن الضحك يخضع لذلك. فالضحك ضرب من انفجار الجسد في التفاعل الاجتماعي، من خلال الحركات الفوضوية التي تخترق الجسد وتحول الوجه وتلوي اللغة. نعم، التشكيل الاجتماعي والثقافي للجسد هو الخيط الناظم لعملي. وهذا الجسد قد يكون أحيانًا عرضة للألم والعدوان والعنف والتضحية. الاهتمام يكون دومًا بالعلاقة مع الجسد، سواءً تعلّق الأمر باستئصال أو زرع الأعضاء أو بوضعية الوجه أو العلاقة مع الألم، أو حتى بالصوت، الذي خصَصْتُه بكتاب.
وبهذا الصدد يكون التحليل النفسي عبارة عن مجموعة أدوات رائعة لأنها تأخذ بعين الاعتبار الالتباس والازدواج ومساءلته للاوعي، الذي يقودنا إلى الفهم الأمثل لضروب السلوك التي تبدو معاكسة لمصلحة الفرد الذي يلجأ عن وعي منه إلى الألم والجرح، ويلعب مع الموت لكي يبني لنفسه هوية شخصية. فالتحليل النفسي، من دون شك، هو المبحث الذي قطع أشواطًا بعيدة في هذه المساءلة «للسلبي» اللصيق بالشرط البشري. لقد كان اشتغالي الأنثربولوجي كله يتمثّل في سعيي إلى ألا ننسى أبدًا هذه الحصة المظلمة من شرطنا البشري، التي تجعل سلوكنا يبدو أحيانًا متنافرًا مع ما يكون علينا فعله. الالتباس والازدواج هو شرطنا الأكيد. كلُ سلوكٍ متعددُ الدلالات والمعاني. فثمّة ما نقوله عنه وما يقوله عنه المحلل النفساني وما يقوله أيضًا الأنثربولوجي.
5- تعجّ كتبك بالإحالة إلى النصوص الأدبية. ما الذي تقدمه لك هذه النصوص بما يغني اشتغالك الأنثربولوجي؟
يقدّم لنا الروائي، كما الفنان السينمائي، سياقًا معينًا ووجهة نظر الفاعلين: إنه منهج هائل يمكن أن تمتح منه ميادين عديدة في البحث في مجال الألم، والضحك، والبسمة، والعواطف، والإدراكات الحسية، والصوت وغير ذلك. وفي ما يخصني، فأنا في أبحاثي، أعرف من الروايات ومن السينما، مقدار ما أعرفه بواسطة التحقيقات الميدانية والحوارات والنقاش مع الزملاء الذين كتبوا عن الموضوع نفسه في مستويات مختلفة. «العمل الميداني»، بخصوص العديد من كتبي موجود منذ عشرات السنين؛ لأني لا أكف عن الانتباه لظروف الحياة اليومية التي تسائلني، والتي أعلم أنني سأنتهي إلى تحليلها في يومٍ ما. وحين أقرأ رواية أو أشاهد فيلمًا، أمنح لنفسي مسارب للبحث وأسجل ملاحظات عنهما. كما أني أكوّن أحيانًا ملفات أو سجلات هامة في ذلك.
6- في كتابك وداعًا للجسد، هل يمكننا الحديث عن نهاية الجسد، مثلما تحدث بعضهم قبلك عن نهاية الإنسان؟ هل يتعلق الأمر برؤية تنذر بالقيامة؟ وهل يتعلق الأمر أيضًا بنهاية الأنثروبولوجيا؟
لا، أبدًا، فأنا لا أمارس هذا النوع من حكم القيمة أو هذا الضرب من النبوئية. في هذا الكتاب أحلل تغيّر الوضعية الاعتبارية للجسد بشكلٍ عميق في مجتمعاتنا منذ نهاية الثمانينيات. فهو لم يعد المجال المخصوص للشخص، وإنما أحد مكوناته ومقترحًا يلزم استعادته، ولم يعد الجذر الهوياتي للفرد. لقد تحول الجسد إلى مادة أولية، ولم يعد له قيمة أنطولوجية وإنما ظرفية. إنّ تبضيع الجسد، وتشكيله لم يعد يتم عبر مبحث يتطلب الصبر، والأناة، ومعرفة الذات، وإنما عبر فعل أكثر مباشرة. عديدة هي الإجراءات الخارجية للتغير التام للمظهر، من أنظمة غذائية، وأوشام، وثقوب piercings، وتنبيت، وجراحة تجميلية، وزراعة الشعر، وغير ذلك.
وفي سياق الفردانية والعولمة، ثمّة سوق هائلة للديزاين الجسدي يتطور، مقترحًا ورشًا مختلفة لتغيير الجسد، تدعو هجماتُ التسويق المتوالية إلى إعادة زيارتها للعثور على الصيغة الأجدّ والأكثر ابتكارًا. إن الفرد، وهو يغير جسده، يبتغي تغيير حياته، أيّ تعديل إحساس بالهوية يكون قد عفا عليه الزمن هو نفسه.
فالعالم المعاصر أضحى منفتحًا على توسُّع غير مشهود للرغبات الذاتية والرغبات في العالم، ولا تكف فيه التكنولوجيا عن تأجيج فعل الأفراد في الواقع والمتخيل؛ وهكذا غدا الجسد ضيقًا جدًا، يستبطن في داخله عوض أن ينفتح على كافة هذه الممكنات المحيطة به. لهذا يأخذه الفرد بيده قصد تغيير شكله ومظهره، كي يقترب مؤقتًا من رغبته. بيدَ أني لا أصدر هنا حكمًا، بقدر ما أسعى إلى الفهم.
7- العلاقة بين الجسد والصورة وطيدة ولا يمكن تفاديها، خاصةً منذ أن دخلنا عصر الصورة الرقمية. لماذا يبدو لي أنك تتفادى الصورة في علاقتها بالجسد؟
لا، أنا لا أتفاداها بالرغم من أنها ليست مركزية. لكنني كتبت بالأحرى مقالات عن الرقمية أو أدمجت تفكيري فيها في أجزاء من كتبي. وأنا مثلًا أتحدّث كثيرًا عن استعمال الرقمي لدى الأجيال الجديدة، كما أتحدّث عن ذلك أيضًا في وداعًا للجسد أو في أنثربولوجيا الجسد والحداثة، بيدَ أني لم أكتب أبدًا كتابًا في هذا الموضوع. ثمّة زملاء لي قاموا بذلك بموهبة فذة، لأن هذا الموضوع لا يدخل في مجالات اهتمامي التي تركز على موضوعات محسوسة وملموسة كالجسد والوجه والعواطف والإدراكات الحسية وما شابه ذلك.
8- هل يمكن لأنثروبولوجيّ الجسد أن يتحدّث عن الجمال والقبح والجنس؟
طبعًا، وهو ما قمت به مرارًا في فصول من كتبي. وأنا أفكر هنا في كتابي عن أنثربولوجيا الوجه[4] حيث ثمّة أجزاء منه عن الإحساس بالجمال أو القبح. كما في جوانب أخرى من كتبي حين تحدّثت عن الجراحة التجميلية مثلًا في أنثروبولوجيا الجسد والحداثة، وحين درست المعايير الاختلافية للجمال لدى النساء والرجال.
9- كتاباتك عن الألم مؤثرة، فهي بين الحكاية والتحليل الأنثربولوجي. والعديد من قرّاء كتابك عن الألم بالعربية لم يستطيعوا إتمامه إلى الآخر. كيف يمكننا تفسير ذلك؟
لقد ألّفت ثلاثة كتب عن الألم. وقد حاولت فيها أن أبيّن أن الألم ليس من الجسد وإنما من الشخص. وفعلاً، فالألم يمحو كل تمييز بين الفسيولوجيا والوعي والجسد والنفس، أو الجسماني والنفسي والعضوي، وهو يمزج بين هذه الأبعاد التي فصل بينها تقليد ميتافيزيقي طويل في مجتمعاتنا الغربية.
بهذا المعنى، يخلخل الألم ممارسة روتينية للطب تفضل أن تحصر نفسها في فحص الجسم العليل. حين يلم الألم بشخصٍ ما، فهو لا ينحصر في مقطعٍ ما من الجسد أو في مسار عصبي ما، بل هو يسم الفرد المفرد ويجاوزه ليمسّ علاقته بالعالم. والألم لا يمكن تصوره من غير صدى معنوي، فيصبح بذلك عذابًا. الألم هو غزو دلالة خاصة لدخيلة الذات، فهو يخضع تبعًا لانتمائه الاجتماعي والثقافي، للتغير بفعل الظروف وقدرة الشخص على مواجهة الألم؛ أيّ بالجملة بفعل فرادة قصة حياته. ومن ثمَّ تنوُّع المواقف لدى المرضى المصابين بالأمراض نفسها وبالأعراض ذاتها. لكن، ما يصوغ حدّة العذاب والألم هو السياق. العذاب ليس الترجمة الرياضية لجرحٍ ما، إنه دلالة، أيّ ما يتم الإحساس به تبعًا لجدول تأويل متأصّل في الفرد. ليست المسارات العصبية هي ما يحمل الألم إلى الدماغ وإنما إحساس يفترض وساطة المعنى.
إنَّنا لسنا دماغًا، وإنما نحن ما نفعله به من خلال تفكيرنا وحياتنا وقصتنا الشخصية. فإذا اختار الفرد الألم أو تقبّله، يكون العذاب أقل وطأة أو غير ذي أثر كما يكون الأمر في نشاط رياضي أو في «البودي آرت» مثلاً، حيث لا يشكو أحد من أنه يؤلم نفسه أو يصدم نفسه. التجربة نفسها نعاينها في تعليق الجسد؛ أيّ في رفع الجسد بدبابيس مغروزة فيه، من غير تخدير، وذلك قصد أن يعيش المعلَّق تجربة روحانية معينة ويستكشف هوامش الشرط الإنساني خارج أيّ سياق ديني. يكون الألم أيضًا مقبولًا وينجم عنه عذاب طفيف في ما يعيشه الصغار خلال طقوس الانتقال في المجتمعات التقليدية، التي تفترض أفعالًا تقع على الجسد (الندب، والوشم، والختان، وغير ذلك). إنّ الألم المختار والمتحكَّم فيه بثبات شخصي بهدف استكشاف الذات لا يتضمن سوى قسط طفيف من العذاب، حتى لو كانت التجربة مؤلمة. وفي حال التهجم على الجسد الشخصي، فإن الجرح كما الألم الناجم عن فعل يقوم به شخص عنوة ضد نفسه، يكون عبارة عن وسيلة مفارقة لحماية النفس من خطر رهيب لتدمير الذات.
ومفاد الأمر أن المرء يضرّ نفسه كي يخفف ألمه، وهذا ما نسميه اللعب بالألم ضد العذاب. بالمقابل، يجاوز العذاب الألم إلى ما لا نهاية في حال التعذيب مثلًا، أيّ في حال الألم الذي يصيب به الآخرون شخصًا من غير أن يكون بمقدوره أن يصدّه. فالألم الذي يُثار في شكل صدمة يترك أثر العذاب حتى حين ينمحي. إنه يبتر جزءًا من الإحساس بهوية الفرد، الذي لا يتمكن أبدًا من نسيان ذلك. إذا كان الألم كلمة مفردة لمن يحسّ به، فهو يتضمن العديد من الدلالات. وإذا كان هناك العديد من الآلام، فذلك لأن ثمّة أولا العديد من العذابات. وطبعًا، حين يتعلق الأمر بمرض عضال أو بآثار حادث، ينغمس الألم في عذاب هائل. لكن، حتى في هذه الظروف، يظل الألم مشبعًا بالمعنى. فالفرد يتوفر رغم كل شيء على تقنيات للمعنى تُخفف من عذابه، من قبيل التنويم المغناطيسي، والتنويم الذاتي، والاسترخاء والتأمل سوفرولوجيا[5]… فالتدخل في دلالة الألم يغير من أثره ومن حدّته وعذابه. وفي نظري، فإن العذاب يترجم مجموع الألم الذي يحسّ به المرء في سياق معين؛ فالمعنى يمنح مدى للعذاب. ومن ثم تأتي فعالية تقنيات المعنى، كما هو الحال في التنويم المغناطيسي، حيث التخفيف من الألم يتمّ من غير تماسّ جسدي ومن غير اللجوء إلى خلايا أو علاج آخر، بل فقط بفعل الكلام.
10 – ليس ثمّة كتاب لك لا تتحدث فيه عن الشُّواه (التنكيل الجماعي لليهود على أيدي النازية). هناك تجارب عالمية أخرى تميزت بالإبادة الجماعية، كما هو حال مجزرة صبرا وشاتيلا (1985)، التي كتب عنها جان جوني. فلماذا لم تجد مكانًا لها في أعمالك؟
أنا لا أضع تراتبية للعذاب، والشُّواه استمرت سنوات من خلال صناعة الموت وإنشاء خطاب بألمانيا يبرر التقتيل الجماعي، الذي قارب الستة ملايين قتيل. ثم إن هناك العديد من الحكايات بلغات مختلفة، قريبة من المسعى الإثنوغرافي، عن الحياة اليومية في معسكرات الموت وعن أشكال المقاومة. إنها منجم هائل للتحليل إذا نحن فكرنا في العنصرية والوجه بل والضحك أيضًا، مع تبلور فكاهة ناجمة عن اليأس، إلخ.
11- اشتغلت على الضحك، والصمت، والصوت، والألم، كما على العواطف باعتبارها سلوكًا للجسد. هل يمكننا الحديث عن الطابع المركب والمتعدد الأبعاد لهذه «التعبيرات»، وهل يمكننا تحديدها؟
صدقت، المهمة بالغة العسر. فنحن لم ننته من الدوران حول موضوعات البحث هذه. فهي متعددة بشكلٍ لانهائي، ودلالاتها تتغير حسب السياق. ليس هناك من حقيقة للضحك والصمت والصوت أو الألم، يمكنها أن تتبدى في المطلق. الظروف وحدها هي ما يسلط الضوء لنا على دلالتها. لهذا فهي موضوعات مثيرة حين نعلم أننا لن ننتهي أبدًا من دراستها.
12- يلاحظ القارئ أن الوشم والسلوك الخطر من الموضوعات العزيزة على قلبك وقلوب معاونيك. في العالم العربي للأسف ما زال الشباب يعانون من ضعف الاهتمام السوسيولوجي والأنثروبولوجي بقضاياهم، إلى ما يُعزى اهتمامك بالشباب؟
نعم، لقد اندهشت كثيرًا بعدم اهتمام الباحثين بالشباب في العالم العربي، لكن هذا الأمر أدهشني أيضًا لمدة طويلة بخصوص الشباب في أمريكا اللاتينية. واليوم لم يعد الأمر كذلك بأمريكا اللاتينية، حيث المختصون صاروا يلتفتون إلى مأزق الحياة لدى المراهقين. وأنا أعتقد أن بلدان المغرب ستنفتح شيئًا فشيئًا على هذا الضرب من الأسئلة. وأنا هنا أفكر في العمل الرائع لمريم السلامي عن المراهقين مثلًا بجامعة تونس، وفي أعمال جليل بناني بالمغرب. تنطلق كافة أبحاثي وكافة كتبي من ضرورة باطنة، وغالبًا من جرح حميم، ومن الرغبة في فهم الأشياء التي كانت تنفلت من إدراكي، ومن ثم التقرّب مما يُعاش، مع الرغبة في ملامسة القلب النابض للأمور. فأنا حين كنت شابًا، لو كنت أعيش من غير مشاكل عويصة في حياتي، ما اتجهت للاشتغال على الجسد وعلى السلوك الخطر الذي كنت قد عشته في شبابي، ولم أكن لأبحث أيضًا الصمت مثلاً. فإذا كنت قد كتبت عن الصمت فلأني إنسان بالغ الصمت حتى لو لم يتبدّ ذلك لكَ كثيرًا، وحين كتبت أنثربولوجيا الألم، كنت أريد أن أبرهن على أنّ الأنثروبولوجيا يمكنها أن تتناول بشكل مباشر موضوعات كانت بالأحرى حكرًا على الطب، ومن ثم تلتحق بالتجربة الحميمة للمرضى. كما أن حواري المتواصل مع الأطباء والممرضين والمرضى قادني إلى القيام بأبحاث أخرى عن الألم.
اشتغالي يقوم على هذه الحساسية بالآخر، وعلى الاندهاش بالحياة والرغبة في الفهم. لقد اشتغلت من غير تردد على حزّ المراهقين لبشرتهم، وحين كنت أتحدث عن ذلك كان كل الناس يعبرون عن رعبهم وصدمتهم. وكانوا يتساءلون عن فحوى علاقة عالم اجتماع بالأمر، مثلما تساءلوا قبل ذلك حين بدأت أكتب عن السلوك الخطر لدى الشباب. لقد كانت عمليات حزّ الجسم في نظري بالأحرى تقنيات للبقاء على قيد الحياة. كنت أشعر بأنني قريب جدًا من هؤلاء الشباب. بل إني في وقتٍ ما تساءلت لماذا لم أقم بالشيء نفسه حين كنت شابًا؛ في الأخير، أنا في عملي أسعى إلى بلورة أنثربولوجيا محسوسة، تكون في علاقة وطيدة مع ما يعيشه عدد كبير من المعاصرين لي.
13- هل كان للتقنيات الجديدة للاتصال، وخاصةً منها الهاتف الذكي، أثر على الجسد وأنماط وجوده؟
تعمل تقنيات الإعلام والتواصل على محو معطيات إدراك العالم، وتُكره على إشباع الحواس من خلال فيض الرسائل التي لا تنقطع، والموسيقى التي تسيل من الهاتف أو وسائل التواصل كما يسيل الماء من صنبور، ومن خلال ضرورة أن تكون عينا المرء في كل مكان من الشاشة حين يتصفح موقعًا على الإنترنت.
لقد صار العالم اليوم مليئًا ب«السمومبيز» (أشباح الهواتف الذكية). فقراءة صفحة داخلية تفترض تعبئة مستمرة للتعرف على كثرة المعلومات، وتقديمها وفرز الإشهار منها، والتعرّف فيها على مخاطر نقرة قد تدخل المرء في سلسلة من المشكلات ويصعب التراجع عنها، واختيار المعطيات المبتغاة في غمرة المعطيات المعروضة، والاستجابة لطلبات الهاتف بتحديث معطياته، إلخ. ثم إن المستعمل يغشاه إحساس بالانحصار والغضب حين يضطر إلى حذف فيديو إشهار أو إعلان ما. لم يعد الأمر يتعلق بالقراءة وإنما بفك شفرة المعلومات بالتعرف على قيمتها وبلزوم حيطة لا نهاية لها. يكون الشاب في «زابينغ» (تنقل بين الشاشات) مستمر، وفي حال أهبة لا نهاية لها. من ثم يكون من الصعب استثمار عمل أو مهمة ما؛ لأن الشاشة تفرض تقنيًا نوعًا من التشتت وضرورة لفرز فيض المعلومات للاحتفاظ ببعضها فقط.
المستعمل لا يكون دومًا في المكان الذي يعتقد أنه فيه، بل هو في أمكنة متعددة متزامنة، أو بالأحرى لا يوجد في مكانٍ معين ما دام حضوره دومًا متحللًا وذائبًا. أما الزمن فلا يغدو سوى متوالية من اللحظات الفورية. لكن هذا الضرب من الوجود في كل مكان في الآن نفسه، الذي تخلقه التكنولوجيا، تبعد الفرد من أقربائه، بحيث إن حضوره يغدو سائلًا في كل مجال يوجد فيه. من ثم تأتي صعوبة تركيز التلاميذ التي يشدّد عليه المعلمون والمربون. ونحن نتفهم أن الطُّوِيَّة في نظرهم تكون بمثابة هاوية وعبارة عن بطء وزمن متخلخل لا يحتمل. كما أن القدرة على أن يكون المرء لوحده تضيع، فقد كانت في السابق مرتبطة باكتساب الاستقلال الذاتي والطُّوية الخصبة. لكن، من اليوم، لم يعد ثمّة من وقتٍ فارغ أو ميت أو اختلاء بالذات لا تقطعه رنات الهاتف والعودة إليه باعتباره شيئًا انتقاليًا ملازمًا لليد.
صحيح أن ما نقوله له أيضًا التباسه لأنه يحمل رؤية للعالم. قد ينوه آخرون بانبثاق أجيال لها هذا القدر من الشغف بالاستعمال المكثف للتقنيات التي تُغيّر بشكلٍ متسارع العلاقة بالمحيط، في عالم مترابط hyperconnecté بشكل مفرط، يكون المطلوب فيه قدراتهم واستجابتهم أكثر من ثقافتهم العامة أو قدرتهم على الفهم العميق للنسيج الاجتماعي والثقافي الذي يعيشون فيه. الرغبة في الحياة أمرٌ متأصل في كل فرد، وهي تتغذى من طموحات جيل كامل وآماله.
لقد أصبح «الزابينغ»، و«السورفينغ» (الإبحار في الإنترنت) اليوم صيغًا جوهرية للعلاقة بالعالم، وطريقة للتلاعب بالسطح لتفادي اختيار التجارب ومضاعفتها من غير أيّ التزام مسبق. فالفرد الذي لا يجد سنده إلا في نفسه، يواجه باستمرار عددًا من القرارات والمتطلبات. إنه يخضع لانسحاق الزمن في الحاضر بما أنّ الزمن لم يعد معطى في المدة. إنّ دكتاتورية الحاضر تمنع من أيّ مسافة رمزية بالنظر إلى التوالي المستمر للأنشطة التي يلزم القيام بها وللأجوبة التي يلزم تقديمها.
لقد استبدلت المجتمعات الغربية ندرة الخيرات الموجهة للاستهلاك بندرة الوقت. إنه عالم البشرية المتسارع أو بالأحرى الذي يستحثه الوقت. بيدَ أنّ رابطًا اجتماعيًا يقوم على الارتباطات المؤقتة والالتزامات على المدى القصير التي تكون دومًا قابلة للتغيير، تمنع الفرد من أن يتشكل كليًا كذات وأن يندرج في الزمن الآتي بشكل تام. إنه يؤدي أيضًا إلى مشكلة الثقة في الآخرين أو في العالم.
كما يطرح مسألة الاعتراف الذي لا يكون متصلًا بالزمن الفوري أو بالظروف وإنما يكون حميمًا وراديكاليًا أكثر، ويمكنه ضمان شرعية ما للوجود. كما أن تسارع التغيير الاجتماعي يفترض، بالموازاة مع ذلك، تقادم التجارب وبطلان الذاكرة، والدخول في مجتمع فاقد للذاكرة. فالسرعة لا تترك للوقت والزمن تسجيل الأحداث، بل هي تنتج النسيان. إنها توفر حدة وكثافة مؤقتة لا تترك أيّ أثر، على خلاف البطء الذي يكون ملائمًا لتملك الأماكن أو الوضعيات. السرعة تؤول بالجسد إلى العجز من خلال الأجهزة الاصطناعية التي تأخذ مكانه كي يساير الدفق المحيط به. التواصل عبارة عن سباق استعمالي يمتص كل إمكان للعطالة.
14- لقد كرّست أكثر من كتاب للمشي. هل لنا أن نعرف العلة وراء ذلك؟
الكتابة عن المشي لديّ تعني أيضًا أن أتملك مفتاح البراري؛ أيّ أن أغير من قوانين الكتابة وأمنح لنفسي حرية أكبر، وأن أستذكر اللحظات الجميلة التي عشتها وأنا أتمشى. المشّاء يعيش في المسالك قوة جسده الوحيدة في اكتمالها، وهو مبتهج بالشعور بذلك في كل لحظة، وهو يرى نفسه واقعيًا في الخطوات التي يقوم بها. لكنه هو وحده من يقرر حدة الجَهد الذي عليه بذله. فلا أحد يفرض عليه أن يمشي بإيقاع أسرع أو بالإبطاء في مسيره. إنه ينصاع جسدًا وروحًا للفضاء المحيط به، إذ يتذوق الشمس أو المطر والريح والثلج أو البرَد. وهو يسبح في فضاء كامل من الروائح، ويواجه عالمًا لم يستشعره قطّ إلى هذا الحدّ.
كما أنه يرى الفجر ينبلج أو غروب النور مع التقدم في النهار. إنها تجربة للأوَّلي، وعودة للجسد عبر عالم متحرر من قوقعته التكنولوجية. المشّاء سيسكن أخيرًا البيئة المحيطة به، منغمرًا في اتساع الخارج، متوحدًا في ذاته وفي حريته. فهو يتجرّد من كافة الأمور السهلة وأيضًا من كل ما يثقل وجوده. المشّاء وهو يمارس المشي يغير جسده وإدراكاته الحسية وعواطفه وزمنه وفضاءه. إنه يستعيد البعد الأرضي للشرط البشري.
15- نحن نلاحظ أنك تحيل مرارًا إلى ميرلوبونتي وجورج باطاي، ما هي أسباب هذه المرجعية؟
أميلُ جدًا لأعمال ميرلوبونتي ولكتابته أيضًا. فهو قد بلور مقاربة للبدن لا للجسد، باعتباره محفلًا منفصلًا عن الشخص. إنه ليس مؤلفًا ذا منزع ثنائي، إذ هو يتحدث عن بدن العالم. إنه مؤلف أجد نفسي دومًا في حوار معه. أما جورج باطاي فإن بعض مؤلفاته تجعلني أشعر بالملل، غير أني أحب تأمله عن الموت والخرق ومذاق الخسران، وهذه المؤلفات هي التي أستشهد بها في تحليلاتي.
16- يلاحظ القارئ أن العديد من كتبك تصدر لها طبعات مزيدة ومنقحة ومُحيَّنة. فهل هذا يعني أن واقع الجسد يتغير؟
نعم، ولا. فكتبي، نظرًا لمسعاها الأنثربولوجي، تشيخ بعض الشيء. وهي تستمر في استقطاب القرّاء حتى وإن قدُمت. بيد أني أحب تحيينها لأنني طبعًا لا أكف عن اكتشاف معطيات ونصوص جديدة؛ ثم إن العالم يتعرض للتغير في بعض جوانبه، ويغير مركز التحليل. مثلًا، تعود الطبعة الأولى لكتابي «أنثروبولوجيا الجسد والحداثة» إلى 1990، غير أنه من طبعة لأخرى يبدو مختلفًا بعض الشيء في طبعته الحالية عن الطبعة الأولى. فقد تخليت عن مواضيع كانت هامة في الثمانينيات غير أنها لم تعد ذات راهنية اليوم. المثال الآخر يتعلق بأن الفرق الزمني بين الطبعة الأولى لكتابي «أنثربولوجيا الوجه» التي تعود لعام 1990، وطبعة 2022، يصل إلى ثلاثين عامًا. وبين الزمنين ظهر طب زرع الوجه، والتعرف الوجهي، وكمامة كوفيد. علينا تتبع نبضات العالم، وإدماجها في الطبعات الجديدة المتوالية حتى تظل الكتب راهنة.
17- ما هي الموضوعات المتعلقة بالجسد غير المدروسة التي تنوي تناولها في المستقبل؟
بصراحة لا أدري في هذه اللحظة. فأنا أرغب في تقويم أبحاثي، وتحرير كتاب عن الجسد في الحياة اليومية.
18- أنت اليوم أحد الأنثروبولوجيين المعاصرين الذين تُرجم لهم بكثرة للغة العربية، وتُقرأ كتبك بالعربية على نطاق واسع. ما الذي يمثله هذا لك، علمًا أنك أيضًا مُتَرجم للغات أخرى عديدة؟ ما الذي يعنيه لك عمل المترجم؟
إنه لامتيازٍ كبير أن تترجم كتبي وأن أحظى بالاعتراف في غير لغتي أيضًا. كتبي تترجم كثير بالأخص للإسبانية، والبرتغالية (البرازيل خصوصًا)، والإيطالية، والألمانية، والتركية، ولغات أخرى. وأنا فخور جدًا بأن تترجم كتبي إلى العربية وأعبّر لك عن امتناني العميق لذلك. فمنذ أن دعوتني إلى جامعة الرباط قبل بضع سنوات، أصبحتَ مترجمي الرسمي للغة العربية. إنه شرف لي أن أسير إلى جانبك.
[1] يعني المؤلف بالسلوك الخطر تلك الممارسات العنيفة على الجسد التي يتوخى من خلالها الشباب استعادة هويتهم.
[2] David Le Breton, Disparaître de soi, une tentation contemporaine, Paris, Métailié, 2015.
[3] D. Le Breton, L’interactionisme symbolique, PUF, 2004/2016.
[4] نحن بصدد ترجمته للعربية وسيصدر في أواخر السنة (المحاور).
[5] هي مجموعة من التقنيات والممارسات التي تستهدف التحكم في الألم والتخفيف منه (المحاور).