
1
في البحوث التي اهتمت بأسواق العرب الموسمية قبل الإسلام، اهتم الباحثون بالبيع والشراء والشِّعر والشعراء. فقد تحكمت مثلاً الفكرتان التجارية والثقافية في نشاطات سوق عكاظ بعد إعادته إلى التاريخ عام (2007)، بعد انقطاع دام (12) قرنًا، ولا يبدو أن الفعاليات ستتجاوز هذا المستوى التجاري والثقافي، بالرغم من أن هناك ما هو أكثر تاريخيًا في نشاط السوق إلى الحد الذي تغدو فيه النشاطات التجارية والثقافية ثانوية مقارنة بنشاطاتٍ أخرى غير مفكر فيها كالنشاطات الدينية والسياسية والقانونية والأخلاقية.
لذا يبدو لي أن دراسة هذه النشاطات غير المفكر فيها تساعدنا على أن نفهم تاريخ تطورنا الاجتماعي الذي سمح بالانتقال من مرحلةٍ اجتماعية إلى أخرى، لاسيما في القانون والأخلاق. وقد يفسر لنا تحليل هذه النشاطات غير المفكر فيها ما حافظ عليه مجتمعنا من تلك المرحلة التاريخية لاسيما ما يتعلق بالأخلاق الاجتماعية التي نعبّر عنها بالصدقة والزكاة والهدية[1] والعقود المكتوبة، ومفاهيم كالشرف. من ناحيةٍ أولى، ورد في القرآن: «ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم[2]». والمعنى عند الطبري في تفسيره هو لا حرج عليكم في البيع والشراء قبل أن تحرموا وبعد الإحرام. فالعرب كانت تحج ولا تتاجر حتى ينتهي الحج؛ فقد كانوا يتأثمون من التجارة[3]، وحين سألوا الرسول عن هذا نزلت هذه الآية.
نشأ سوق عكاظ في هذا السياق؛ أعني بسبب أن قريش لم تكن تبيع ولا تشتري في موسم الحج، ونشأ معه سوقان آخران هما المجنة وذو المجاز القريبان من مكة. وبالتوازي مع نشوء هذه الأسواق الثلاثة نشأ في مكة نظام للخدمات الكلية[4] قبل الإسلام؛ وهو نظام يتضمن خدمات تطوعية تفترض التعاون بين أسر قبيلة قريش، ويتجسد نموذج هذا النظام في مؤسسة السقاية التي توفر الماء للحجاج من قبل بني هاشم، ومؤسسة الرفادة حيث تجمع قريش الأموال لإعداد الطعام للحجاج، وقد كانت في بني نوفل ثم انتقلت إلى بني هاشم.
هكذا تجري الحياة المادية والأخلاقية في السقاية والرفادة بوصفهما نظاميّ خدمة كلية بدون أي فكرة نفعية، وفي الوقت ذاته، وكما يبدو لنا، بشكل إلزامي، لكن من دون أن يأخذان شكل الهبة كما حللها مارسيل موس ضمن مفهوم شامل هو (البوتلاش). فضلاً عن ذلك فإن فكرة التبادل أو فكرة المقايضة غير موجودتين في السقاية والرفادة، وبذلك لا يوجد الأخذ والعطاء الذي يميز التبادل والمقايضة. من هذا المنظور يبدو لي أن الدراسات التي تتحدث عن غنى قريش بفعل التجارة في الحج حديث غير دقيق، وحتى لو أن هناك تجارة في موسم الحج، فهي تجارة يغلب عليها الكرم. فضلاً عن ذلك فإن فكرة الربح غير مفكر فيها. إنها تجارة نبيلة إذا ما استخدمنا مفهوم مارسيل موس لوصف مثل هذه التجارة[5].
أتت ثروة قريش من تجارة قريش في هذه الأسواق الثلاثة؛ فهي أسواق قريبة من مكة مكانًا، ومن الحج زمانًا. يبدأ سوق عكاظ من بداية شهر ذي القعدة إلى اليوم عشرين منه، ثم ينتقلون من سوق عكاظ إلى سوق مجنة من العشرين من ذي القعدة إلى أن يروا هلال ذي الحجة، ثم ينتقلون إلى سوق ذي المجاز فيمكثون فيه إلى الثامن من ذي الحجة؛ حيث يبدأ زمن الحج الفعلي من اليوم الثامن من ذي الحجة (يوم التروية). أبعد هذه الأسواق عن مكة هو سوق عكاظ، ثم سوق مجنة، ويأتي بعد ذلك سوق ذي المجاز على بعد فرسخ من عرفات. يلخص جواد علي رحلة هذه الأسواق إلى مكة قائلاً:
- يذهب الناس بعد سوق عكاظ إلى سوقٍ أخرى، هي سوق مجنة ويبقون فيها عشرة أيام. فإذا رأوا هلال ذي الحجة في نهاية هذه الأيام العشرة قصدوا ذا المجاز… وكان العرب لا يتبايعون في يوم عرفة ولا في أيام منى.
إذن هناك شبكة من الأسواق متتالية زمنيًا، وبقدر ما تتالى تقترب من مكة، وكما يبدو لي فإن قريشًا ليست وراء إنشاء هذه الأسواق الثلاثة وحسب، بل إنها كذلك وراء إنشاء شبكة أسواق الجزيرة العربية الموسمية التي تبدأ شمال الجزيرة العربية بسوق دومة الجندل في بداية شهر ربيع الأول، ثم تتجه حركات الأسواق شرقًا نحو هجر والبحرين، ومن هناك تتجه جنوبًا إلى عمان وعدن وتصل صنعاء نهاية شهر رمضان، ثم من هناك إلى سوق عكاظ ومجنة وذي المجاز إلى أن يدخل زمن الحج الفعلي، ثم تبدأ من جديد[6]. وإن صحّ هذا فإن كلمة (إيلاف)، في «لإيلاف قريش. إيلافهم رحلة الشتاء والصيف[7]»، تعني المعاهدات التي أجراها القرشيون لإنشاء هذه الأسواق الموسمية في الجزيرة العربية كأسواق دومة الجندل والمشقر وصحار وعدن وحضرموت وصنعاء. وبهذا المعنى نتجنب اختلاف اللغويين والمفسرين في معنى (الإيلاف).
فضلًا عن ذلك فإن رحلتيّ الشتاء والصيف لا تعنيان ما تعنيانه في كتب المصادر العربية القديمة من أنهما رحلتان إلى الشام واليمن، بل تعنيان شبكة هذه الأسواق الموسمية المنتشرة في أنحاء الجزيرة العربية شمالاً وجنوبًا وشرقًا وغربًا. وهذا الفهم يجعلنا ندرك طبيعة العلاقات القانونية التي أنشأت هذه الأسواق من جهة، ومن جهةٍ أخرى يساعدنا على أن نبني تصورًا شاملاً عن تجارة قريش؛ فقد أصبح من الواضح أن تجارة قريش لم تكن تجارة محلية؛ أعني أن تكون مكة مركزًا تجاريًا كما اعتادت قوله المصادر القديمة. فمكة لم تكن مركزًا تجاريًا بقدر ما كانت مجتمعًا استثماريًا تجاريًا، وقد سمحت علاقات هذا المجتمع الاستثماري ببناء علاقاتٍ تجارية مع القبائل في الجزيرة العربية تتمثّل في تلك الأسواق.
2
يتحدث جواد علي عن هذه الأسواق العربية الموسمية في العصر الجاهلي قائلاً:
- والظاهر من روايات أهل الأخبار عن هذه الأسواق، أنها كلها كانت في الأصل، مواضع مقدسة، لها أصنام تعبدها القبائل، وتأتي للتقرب إليها في مواسم معينة، هي مواسم حجها، فتتحول تلك المواسم إلى أسواق للبيع والشراء[8].
ليس في مقدوري أن أتفق مع هذه النتيجة؛ فخبرة المكان المقدس، على الأقل في أول نشأة تلك الأسواق، وفي تلك المرحلة من التاريخ البشري، لا تسمح بالبيع والشراء. ففي المكان المقدس «يتجلى القدسي في المكان، ويسفر الحقيقي عن وجهه، والإنسان الديني لا يستطيع أن يعيش إلا في عالم مقدس. إن إرادة الإنسان الديني أن يقيم في قلب الحقيقي، في مركز العالم: من حيث بدأ الكون بالوجود والامتداد نحو الآفاق الأربعة، وحيث توجد إمكانية الاتصال مع الآلهة، وحيث يوجد أقرب مكان إلى الآلهة[9]».
يمكن القول إن البيع والشراء في تلك الأسواق مرحلة متأخرة من نشأتها. وعلى الأرجح أن العرب لم تكن تبيع ولا تشتري إبان نشأتها إنما تمارس نشاطات مشبعة بالفكر الديني والقانوني والأخلاقي، وهي نشاطات ترضي الآلهة من جهة، ومن جهة ثانية ترضي الناس. فضلاً عن ذلك هناك سلسلة من الحقوق والواجبات تجاه الآلهة أولًا، وتجاه الناس ثانيًا، وجواد علي نفسه يذكر:
- كانت (الأسواق) مجتمعات تعقد فيها العقود والمعاهدات والاتفاقات القبلية والعائلية، ومواضع يعلن فيها عن التبنّي والخلع، أيّ خلع الأفراد، لجرائم يرتكبونها، وهي ساحات محاكم، يجلس فيها المتخاصمون للاستماع إلى قرار حاكم مهيب، اتفقوا على تحكيمه في نزاعهم[10].
تعبّر كل هذه الفعاليات المتعددة عن أن الحياة المادية والأخلاقية بعيدة عن النفعية، وأن تلك الأسواق لا يمكن أن نختزلها في بعدٍ واحد هو التجارة. هناك أولا بعد ديني واضح كون هذه الفعاليات تجري في مكان مقدس، وهناك بعد اجتماعي حيث تجتمع القبائل والعشائر والعائلات، وهناك بعد احتفالي يتولد عنه حالات من الهياج والإثارة يعبر عنها الشِّعر، وهناك بعد قانوني في الاتفاقات والتبني والخلع، وهناك بعد أخلاقي في التآلف والتعاون بين القبائل، وفي هامش هذه الأبعاد يمكن أن نتحدث عن البعد التجاري.
نحن نرجح أن هذه الأسواق نشأت أولاً لتلبية نشاطات دينية وأخلاقية وقانونية تحت إشراف الآلهة التي تتخذ من تلك الأمكنة سكنًا كما هو مفهوم المكان المقدس. في هذه الأثناء تزايدت مكانة الكعبة لاسيما بعد أن فشل أبرهة في هدمها فاتخذتها القبائل وجهة مقدسة نقلت إليها أصنامها ونصبتها بجوار الكعبة. وبهذا النقل تحولت تلك الأسواق إلى أسواق دنيوية للبيع والشراء، وهذا ما فقدته مكة بعد أن أصبحت الكعبة المكان المقدس لكل العرب، وأصبح من الواجب على القرشيين أن ينشؤوا نظامًا للخدمات الكلية كما كانت في تلك الأسواق، ومن هنا بدأت فكرة السقاية والرفادة والسدانة، وغيرها في الأسر القرشية داخل مكة. وبالتوازي مع ما حدث شكلت شبكة تجارية من أجل تجارتها التي تعطلت لاسيما في أهم فترات السنة حيث تتوافد القبائل إلى مكة. وما يدعم هذه الفرضية هو أن سوق عكاظ نشأ بعد خمسة عشر عامًا من عام الفيل، ويرجح جواد علي أن السوق أنشئ عام (585م)؛ أيّ أنه ليس بعيد عهد عن الإسلام[11].
يمكن القول إن نظام الخدمة الكلية كالضيافة والصدقة والهبات والهدايا إلخ هو الاقتصاد الأول لأسواق العرب الموسمية قبل الإسلام، وقد كانت الأخلاق ممتزجة بالتجارة، وبقدر ما يكون التمازج فإن الأخلاق هي الطاغية؛ لذلك لا يوجد إرادة فردية لكي تنشأ الأخلاق من داخل الفرد، بل من قوة خارجية كلية هي الآلهة المتضمنة في المكان التي تفرض قوانين ملزمة. ثم تطورت الأخلاق تبعًا للتطور الاجتماعي، ثم انفصلت عن الاقتصاد، لكن ليس انفصالًا تامًا، فمازال له أثر حتى في فترةٍ متأخرة كسوق عكاظ.
3
من سوء الحظ أننا لا نعرف على وجه الدقة ما بقي من نظام الخدمات العامة التي بقيت من مرحلة الأسواق الأولى في سوق عكاظ، ولا نعرف ما إذا كان هناك هبات أو هدايا متبادلة، لكن الراجح أنها موجودة من أجل التحالفات بين القبائل، والشراكة بين سادات العرب ووجهائهم، ولو أردنا أن نلخص هذا لقلنا نحن في سوق عكاظ إزاء حركة أخذ ورد مستمرة، لكننا لا نعرف ما إذا كانت هذه الحركة ناتجة عن تبادل الهبات والهدايا، لذا لا نستطيع التوصل إلى خلاصات اجتماعية تخص المجتمعات العربية القديمة.
لكننا نستطيع أن نؤكد على جزءٍ من تلك الخدمات العامة؛ نعني الصدقة، وأن نرى تشكلها الأولي في نظام الخدمة الكلي، وبالرغم من عدم وضوح نظام الهبات إلا أننا نتوقع أن الصدقة هي ثمرة فكرة أخلاقية عن الهبة كما في مجتمعات أخرى درسها مارسيل موس[12]. وإذا صح هذا فنحن أمام فكرة أخلاقية قديمة تحولت إلى مبدأ من مبادئ العدالة في سوق عكاظ يعطي فيها الأغنياء والسادة وأشراف العرب من أموالهم للفقراء والمحتاجين. ينقل لنا جواد علي عن مصادر مختلفة[13].
- يتوافد إلى سوق عكاظ أشراف العرب من كل أوب. وهذا يعني أنه يختلف عن الأسواق الأخرى في الجزيرة العربية التي يقتصر فيه كل شريف على حضور سوقه.
- لا يوجد فيه عشور ولا خفارة. وهو في هذا يختلف عن الأسواق الأخرى التي عشرها الملوك إن وجدت تحت ملكه، أو أشراف العرب التي تقام الأسواق في أراضيهم.
يعلل جواد علي هذه الإجراءات بأن سوق عكاظ سوق حرّة، وأنها إجراءات جاذبة للتجارة لكي يجتمع أكثر جمع ممكن من التجار، ولأن السوق قريب من مكة، وفي شهر ذي القعدة فهو تشجيع على مجيء التجار إلى مكة، لاسيما أن شهر ذي القعدة من الأشهر الحرم فيتاجرون وهم مطمئنون. ومن الصعب ألا نوافق جواد علي على هذا، ومع ذلك فإننا نرى أن هناك ما هو أهم فيما لو وسعنا حقل ملاحظاتنا ليأخذ سوق عكاظ معنىً أوسع من المعنى التجاري والثقافي، وجواد علي نفسه ينقل لنا:
- أن موضع عكاظ في الأصل موضع مقدس، فالعرب تطوف بصخور كانت هناك ويحجون إليها، وكانوا يذبحون وينحرون لتلك الأصنام والأنصاب.
لكي نفهم هذه القدسية من المناسب أن نعرف أن المكان ليس متجانسًا عند الإنسان الديني؛ «ففيه أجزاء تختلف اختلافًا نوعيًا عن الأجزاء الأخرى[14]». ورد في القرآن: «إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى[15]»، وفي التوراة: «لا تقترب إلى ههنا. اخلع حذاءك من رجليك. لأن الموضع الذي أنت عليه أرض مقدسة[16]». هناك إذن مكان مقدس وهناك مكان آخر غير مقدس (دنيوي/ عادي)، وهذه تجربة دينية بدائية، وسابقة على التفكير في العالم، وهو مكان يسمح بالحصول على «نقطة ثابتة» لتأسيس العالم.
يمكن أن نفهم في ضوء هذه القدسية لسوق عكاظ ما يضيفه جواد علي:
- يطعم الناس آلهتهم في سوق عكاظ، ويطعمون الفقراء، ويضيّفون الناس.
تقودنا هذه الملاحظة إلى أمرٍ في غاية الأهمية لاسيما حين نربط هذا الإطعام بقدسية سوق عكاظ؛ وهو الطابع الديني لهذه الخدمات، وكذلك الطابع المجاني كالصدقة من حيث هي إطعام للفقراء، والضيافة من حيث هي نزول الفرد عند غيره. وكما نلاحظ فلا يوجد هنا رياء ولا مصلحة اقتصادية؛ مما يمكننا من القول إنها جرت قبل ظهور مؤسسة التجار، وقبل أن يظهر الابتكار المتعلق بالبيع والشراء، وما يتعلق بهما من مفاهيم كالتثمين والعقد والعربون. فضلاً عن ذلك فإننا نلاحظ تلازمًا بين الأخلاق والاقتصاد[17].
يمكن أن نضيف إلى الصدقة بوصفها بقية من بقايا نظام الخدمة الكلي، الضيافة من حيث هي بقية من بقايا ذلك النظام في الجزء القديم من الإنسانية، وهو نظام خدمة كلي موجود تقريبًا في كل الثقافات القديمة. يضيء لنا هذا الوجود لفكرة الضيافة تقريبًا في كل الثقافات الإنسانية أفكارًا مهمة أهمها أن الكرم ليس أخلاقًا تخص العرب، وشيوع الكرم أو خفوته لا علاقة له بسمات معينة كبخل بعض الشعوب وكرم بعضها الآخر، بل يتعلق الكرم أو البخل بحضور نظام الخدمة الكلي في المخيال الاجتماعي.
يمكن من هذا المنظور أن ننقد الفكرة الشائعة في مجتمعنا أن البدو أكثر كرمًا من الحضر، وقل مثل ذلك عن القرية والمدينة، والقبيلي وغير ذلك. فالأمر لا يتعلق بكرم هؤلاء وبخل أولئك، بل يتعلق بحضور نظام الخدمة الكلي في مخيال البدو والحضر الاجتماعي. ويمكن أن نضيف أن البخل ليس سمة أخلاقية كما تعبّر عنه الثقافة العربية، ويعبّر عنه في مجتمعنا، بل البخل سمة اجتماعية لها علاقة بخرق نظام الخدمة الكلي للمجتمع، وتجاهله، ومن ثمّ فهو وجهة نظر المجتمع في فرد يرفض نظام خدمته الكلي. لقد رأى مارسيل موس أن الصدقة والكرم ثمرتان للهبة[18]، وهما انتقام الفقراء والآلهة من إفراط الأغنياء بالسعادة والثروة، وعليه ينبغي على هؤلاء أن يخلوا ذمتهم من ذلك، ومن الصعب ألا نفكر في هذا الاتجاه كما قلنا أعلاه، غير أننا لم نجد في الأسواق العربية القديمة ما يشير إلى الهبات والهدايا، لذلك فضّلنا نظام الخدمات الكلية الواضح، وهو النظام الذي اقترحه موس نفسه.
4
ورد في القرآن: «إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم[19]». ومعنى (الصدقات) هنا هو الزكوات الواجبة. والفرق بين الصدقة وبين الزكاة هو أن الصدقة مستحبة، وهي ليست خاصة بأحدٍ دون أحد، بينما الزكاة اختصت بالمذكورين في الآية. وما هو مهم لموضوعي هو أن الصدقة هي الخلفية الاجتماعية والأخلاقية للزكاة، وإذا ما قلنا إن الصدقة هي ثمرة من ثمرات نظام الخدمة الكلي، وأنها فكرة أخلاقية نشأت منه فإن الزكاة ثمرة من ثمرات الصدقة، وفكرة أخلاقية نشأت منها لتتحول الزكاة إلى مبدأ من مبادئ العدل.
لا تحتاج الصدقة إلى التبادل، بينما تحتاج الهدية إلى التبادل (هدية تُرد بهدية). وبالمقارنة بين الصدقة وبين الهدية، نجد أن الصدقة أخذ من دون رد، وهي حالة من حالات عدم الندية بين المتصَدِق وبين المتصَدَق عليه، بينما الهدية أخذ ورد، مع إمكانية أن يكون الرد أفضل، وهذه من أخلاق السادة، وفي هذا السياق يمكن أن نفهم أن الرسول الكريم محمد لم يكن يقبل الصدقة، لكنه كان يقبل الهدية.
يساعدنا هذا الفهم على التفسير التاريخي لما هو عليه مجتمعنا في جزءٍ من أخلاقه، ومن مبادئ عدله. فقد احتفظ بممارسات من نظام الخدمة الكلية الذي كان شائعًا في المجتمعات القديمة، وهي ممارسات تحولت بعضها إلى مبدأ أخلاقي كالصدقة، أو مبدأ من مبادئ العدل الاجتماعي كالزكاة. ولإحياء هذا النظام كلي الخدمة في سوق عكاظ يمكن التفكير في يومٍ مخصص للصدقة يشرف عليه مسؤولو السوق، يتصدق فيه كل من أراد الصدقة؛ بحيث يعود الريع بالنفع على الجمعيات الخيرية في محافظة الطائف وقراها. فضلاً عن ذلك يمكن التفكير في يومٍ مخصص للضيافة؛ بحيث يجلب فيه ساكنو الطائف وقراها ما يستطيعون من طعامٍ محليّ مصنوع في البيوت ضيافة لمرتاديّ السوق.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] – انظر، موس، مارسيل، بحث في الهبة، شكل التبادل وعلته في المجتمعات القديمة، ترجمة: المولدي الأحمر (بيروت، المنظمة العربية للترجمة، 2011).
[2] – البقرة/ 198
[3] – علي، جواد، المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (بغداد، جامعة بغداد، ج7، 1993) ص 385.
[4] – عن نظام الخدمات الكلية انظر موس، مارسيل، مرجع سابق، ص 40.
[5] – نفسه، ص 123.
[6] – هذا نموذج لحركة هذه الأسواق كما وردت في كتاب الأزمنة والأمكنة للمرزوقي: ربيع الأول (دومة الجندل)، جمادى الآخرة (سوق المشقر)، رجب (سوق دبا أو دبى)، شعبان (سوق صحار) ، رمضان (سوقا عدن من 1-20، وصنعاء من 20 إلى آخر الشهر)، ذو القعدة (سوق عكاظ ، سوق المجنة)، ذي الحجة (سوق ذو المجاز) . هناك نماذج أخرى لهذه الشبكة لليعقوبي والهمذاني والقلقشندي والبغدادي والألوسي ، لا تخلف سوى في بعض التفاصيل. انظر الأفغاني، سعيد، الأسواق العربية (دمشق، المطبعة الهاشمية ، 1937) ص 185-190.
[7] – قريش، 1، 2 .
[8] – علي، جواد، ص 383.
[9] – إلياد مرسيا، ص 61.
[10] – علي، جواد، ص 383-384.
[11] – علي، جواد، ص 380.
[12] – موس، مارسيل، ص 70.
[13] – علي، جواد، ص 328 وما بعدها.
[14] – إلياد، مرسيا، المقدس والدنيوي، رمزية الطقس والأسطورة، ترجمة نهاد خياطة (دمشق، العربي للطباعة والنشر والتوزيع، 1987) ص 23.
[15] – سورة طه، آية 12.
[16] – خروج 3:5 ، نقلا عن إلياد، مرسيا، مرجع سابق، ص 23.
[17] – عن هذا التلازم، وأقدميته على مؤسسة التجار انظر موس، مارسيل، مرجع سابق، ص 35-36.
[18] – موس، مارسيل، ص 70-71.
[19] – التوبة، 60.