مقالات

في الصداقة

«قيل لأرسطاطاليس الحكيم، معلم الإسكندر الملك، مَن الصديق؟
قال: إنسان هو أنت، إلا أنه بالشخص غيرك». – أبو حيان التوحيدي، الصداقة والصديق، دار الفكر، دمشق، 1998، ص69

«قلت: فما الفرق بين الصداقة والعلاقة؟ فقال: الصداقة أذهبُ في مسالك العقل، وأدخلُ في باب المروءة، وأبعد من نوازي الشهوة، وأنزه عن آثار الطبيعة، وأشبه بذوي الشيب والكهولة، وآخذ بأهداب السداد، وأبعد من عوارض الغرارة والحداثة».

فأما العلاقة فهي من قبل العشق، والمحبة، والكلف، والشغف، والتيتم، والتهيم، والصبابة، والتدانُف، والتّشاجي. وهذه كلها أمراض، أو كالأمراض بشركة النفس الضعيفة، والطبيعة القوية، وليس للعقل فيها ظل، ولا شخص». – التوحيدي، «الصداقة والصديق» ص101

[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]

يمكن أن نعتبر التعريف الذي يعطيه ديدرو ودالامبر في «الموسوعة» للصداقة من كونها «عادة إقامة تبادل شريف ومريح مع آخر» خاصية طبعت عهدًا لم يعد يعطي للصداقة معنى سياسيًا، كما كان عليه الحال عند قدماء الإغريق، إلا أنه كذلك عهد لم يضمّن الصداقة بعدُ معنى شخصيًا وجدانيًا كما هو الحال عندنا اليوم. لذا اِعْتَبر مؤرخو المفهوم أن البعد الجماعي الذي كان العصر الكلاسيكي يخوّله للصداقة، هو بمثابة توسط تاريخي بين السياسة والسيكولوجيا.

يرى نيتشه أن اليونان هم خير من عاشوا الصداقة وأعملوا فيها فكرهم. إلا أننا يمكن أن نعتبر أن أرسطو هو أول من بوأ الصداقة مرتبة الموضوع الفلسفي، فحدّد حقلها العملي، والسياسي والأخلاقي. ويكفي أن ننتبه إلى أنه يخصص لها بابين من الأبواب العشرة التي يشملها كتاب «الأخلاق إلى نيقوماخوس»، كي نتبين الأهمية التي كان يوليها إياها.

ليست الصداقة عند المعلم الأول همًّا سيكلوجيًا، وإنّما هي مسألة أخلاقية سياسية. إنها ليست نزوة ذاتية، وإنما فضيلة موضوعية. وهي أساس الحياة داخل المدينة. ذلك أن «وظيفة السياسة هي توليد الصداقة» كما نقرأ في «الأخلاق إلى أوديموس». معنى ذلك أن المعلّم الأول يجعل الصداقة تشمل ما نعنيه اليوم بالتآزر والتضامن والإخاء. فليست الحاجة إلى الصديق عنده علامة على نقص وعوز، وإنما هي رغبة في السخاء، رغبة في الانفتاح على الآخر. إنها ما يحتاجه الحكيم كي يمارس فضيلته.

الصداقة بين المواطنين، عند صاحب «الأخلاق إلى نيقوماخوس»، هي أحد الشروط الأساسية لقيام الحياة الفاضلة داخل المدينة. والحوار هو مجال تحقق هذه الصداقة، مجال تحقق «الفيليا». ذلك أن ماهية الصداقة عند الإغريق، كما بيّنت آرنت، ماهية «الفيليا» عندهم، تتمثل في الخطاب. لقد كانوا يعتقدون أن تبادل الكلام والحوار الدائم المتواتر كفيلٌ بأن يجمع المواطنين في المدينة ويوحّد بينهم. في الحوار تتجلى الأهمية السياسية للصداقة. فليس الحوار، كما نفهمه اليوم، هو المكاشفات الحميمة التي تتحدث فيها النفوس الفردية عن ذاتها وتكشف عن «دواخلها»، وما يجول في خلدها. ليس الحوار هو ميدان الخصوصي، وإنما مجال العمومي، ذلك المجال الذي لا يتخذ بعدًا إنسانيًا ما لم يتجادل حوله الناس، و«يتبادلون أطراف الحديث». يتضح ذلك أشدّ ما يتضح في التجربة السقراطية للحوار. فليست الوظيفة السياسية للفيلسوف في نظر سقراط إلا أن يساعد على تأسيس «هذا الشكل من العالم المشترك القائم على فهم الصداقة» كما تؤكد آرنت. لقد تبيّن سقراط في تلك التجربة، أن العلاقات التي نقيمها مع أنفسنا هي من المستوى نفسه للعلاقات التي نقيمها مع الآخرين. فالحوار هو الرابطة التي تجعل من مجرد التجمع مدينة وبوليس Polis؛ فترقى بالإنسان من الحيوانية إلى المدَنِية، وتجعل منه مواطنًا داخل المدينة. «إذْ إنّ العالم عند الإغريق، كما تؤكد آرنت، لا يصبح بشريًا إلا عندما يغدو موضع حوار وجدال عمومي». ففي الحوار يثبت الشأن البشري أنه شأن عمومي. أو قل بالحوار يوجد الشأن البشري؛ لأن لا وجود له إلا عموميًا.

الصبي الذي له أصدقاء كثر - توماس جورج ويبستر
الصبي الذي له أصدقاء كثر – توماس جورج ويبستر

ما أبعدنا إذن عن سيكولوجيا الحميمية و«الدواخل» وأخلاق الضمير والنيات. وهكذا، فعندما يتشبث سقراط بأن يكون «منسجمًا مع نفسه»، فليس ذلك إرضاء لضميره بقدر ما هو نقل للصداقة إلى علاقة مع الذات، فكأن سقراط يقول: «لن أكون صديقًا لغيري ما لم أكن صديقَ نفسي». لا مسافة بين ما يراه الآخرون مني وما أراه أنا عن نفسي. هذا ما يسمح لحنة آرنت أن توجز الدعوة السقراطية في هذه العبارة: «كن كما تتمنى أن تظهر للآخرين». ينبغي أن نفهم هذه الدعوة على هذا النحو: «اِظهر لنفسك كما تتمنى أن تظهر للآخرين». لا مسافة بين «من يَرى» و«من يُرى»، ولا حياة للّوغوس إلا داخل المدينة. وهكذا يمتزج مجال الشؤون البشرية بمجال الفكر، وتتحد حياة الفكر بحياة المواطن، فتختلط الأخلاق بالسياسة.

إذا كنا نقبل اليوم إمكانية صداقة بين المتخالفين في العقيدة أو الانتماء؛ فلأننا لم نعد نحمّلها هذا المحمل السياسي. «الصداقة المعاصرة، هي خارج الطقوس والشعائر، خارج المؤسسة، خارج التعاقد». لم تعد الصداقة تأبه بالسياسة أو العقيدة، وإنما أصبحت لا تتوقف إلا على العواطف الشخصية.

يمكن أن نذهب إلى القول إن أول شهادة على الصداقة بهذا المعنى موجودة في «مقالات» مونتيني، وتمجيده لصديقه الفيلسوف إيتيين دو لابويسي Étienne de La Boétie. غير أن صاحب «المقالات» يعترف بعجزه عن تحديد معنى الصداقة: «فإذا ما أرغموني على الإفصاح لماذا أحبه، فإنني أظن أن الأمر لا يمكن أن يجد تفسيره إلا في هذه الإجابة: لأنه هو، ولأنني أنا»، « كان يحيا، ويتمتع، ويرى من أجلي، وأنا كذلك من أجله … كنا لا نتمايز».

هذه الوحدة الوجدانية بين الأنا والآخر، وهذا الاستفراد بالعلاقة، ربما قد يتنافيان مع تعدد الأصدقاء. بهذا المعنى لا يمكن للصديق إلا أن يكون متفردًا. هذا هو المعنى الذي يحمله البعض لنداء أرسطو: «أيها الأصدقاء، ما من صديق». فلا صديق بصيغة الجمع. لعل ذلك هو المعنى الذي يشير إليه التوحيدي عندما يورد سؤال جعفر بن يحيى لأحد ندمائه: «كم لك من صديق؟ قال: صديقان. قال: إنك لمُثرٍ من الأصدقاء».

لن يقتصر فيلسوف الوجود مارتين هايدغر على هذا المعنى الوجداني للصداقة. فقد سعى إلى أن يطرح المسألة خارج ميتافيزيقا الذاتية. ليس الصديق امتدادًا للذات بالمعنى الذي أعطاه إياه مونتيني، وإنما هو بُعد بفضله أنفتحُ على الوجود. نقرأ في «الوجود والزمان»: «فأن يكون الوجود البشري على أهبة الإصغاء، هو أن ينفتح في وجوده على نمط الوجود مع الآخرين ومن أجلهم. يشكل هذا الإصغاء الانفتاح الأولي للوجود البشري على وجوده في أكثر تجلياته خصوصية، من حيث إن هذا الإصغاء يصيخ السمع إلى صوت الصديق الذي يحمله كل وجود بشري في جنبيه». ليست الصداقة صفة تنضاف عرضًا إلى هذا الوجود، وإنما هي في قلب الكيفية التي يكون عليها الوجود البشري. ليست الصداقة حالة عاطفية بين ذاتين، وإنما هي انفتاح الوجود البشري على ما يخصه هو، في الوقت ذاته الذي يكون هو آخر بالنسبة إليه. توضيحًا لهذه الفكرة، يورد هايدغر مثال الصداقة التي كانت تربط غوته بشيلر، حيث كان كل منهما ينفتح على عمله الخاص في «ولع بشيء يجمعهما معًا». بل إن الشاعر عند هايدغر هو الصديق «بالمعنى الراقي والواسع للكلمة»، إذْ بصوته ينكشف للبشر مقام مأواهم. أما نحن اليوم «فنتيه في عالم يعوزه الصديق».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى