يلاحظ قارئ نيتشه أنّه دائمًا ما يلجأ إلى الاستعارة في مواجهة التحديّات الفلسفيّة.
جادل نيتشه بأنّ الاستعارة هي أساس اللّغة والمفاهيم والإدراك، الأمر الّذي يجعل منها الوسيلة الّتي يستعين بها البشر لوصف خبراتهم. في الواقع، لا تساعد الاستعارات المرء على وصف الحياة وفهمها بشكل أفضل، بل يمكن أن تكون مصدرًا للتشجيع أو التحفيز أو الامتنان، وحتّى مصدرًا لليأس والانكسار والقلق.
على سبيل المثال، قد يرى بعض الناس الحياة على أنّها معركة. في حالة كهذه، يتحوّل كلّ لقاء إلى صراع، وكلّ اختبار إلى ساحة قتال. وإذا لم ينتصر هؤلاء ولم تجر الأمور كما هم يريدون، فإنّهم يشعرون حتمًا بالخسارة والفشل. في المقابل، يرى آخرون أنّ الحياة مغامرة. كلّ يوم جديد يحمل فرصًا جديدة للاستكشاف والتعلّم، وإذا سارت الأمور بشكل سيّء، فهناك دائمًا يوم آخر.
عندما أدخلت المستشفى بعد نوبة حصى في الكلى، وجدت نفسي في غرفة وأمامي لوحة زيتيّة تشدّني بألوانها ورموزها. زورقٌ أزرق يرسو على شاطئ رمليّ، زورقٌ آخر خشبيّ اللّون مهترئ يعبر من الإطار نحو المجهول، وزهورٌ على شرفة منزل ظهر فجأةً عند الشاطئ.
ماذا يعني الزورق؟ «الزورق هو الجسد». ظلّت هذه الاستعارة – وهي استعارة مفهوميّة (Conceptual Metaphor) – ترافقني طول مدّة وجودي في المستشفى. هل لأنّي قرأت كتاب جورج لاكوف ومارك جونسون «الاستعارات التي نحيا بها» منذ مدّة؟ لا أعلم! أتذكّر أنّ هذه الفكرة كانت تطرق باب مخيّلتي بشدّة كما لو أنّها تحاول النجاة من معين الأفكار المشوّشة تحت تأثير المخدّر.
في الأسبوع الأوّل بدأت الأسئلة الوجوديّة تنهال عليّ كالصواعق: «ما هي الصحّة؟ ما هو المرض؟ ماذا تعني الصحّة بالنسبة إلى زورقي {جسدي}؟ هل تختلف بالنّسبة إلى الزورق الآخر {جسدك}؟ هل المرض هو النفي المطلق للصحّة؟».
الألَميّة والعزاءات: هيغل، نيشته والحتميّة العلميّة
إذا كان المرض هو تجربة حسيّة وعاطفيّة سيّئة متعلّقة بضرر ما أو موصوفة بمصطلحات تمثّل الإحساس السلبيّ بالمعاناة والألم والموت وانعدام السعادة، فإنّ المذهب الرومانسيّ – في نهاية عصر الأنوار – خرج عن هذا التصوّر حيث عبّر الفلاسفة والمفكّرون عن عدم اقتناعهم بالعالم المعاصر وبالتقاليد الاجتماعيّة مبرزين قلقهم المستمرّ في مواجهة الحياة. لذا شاع في المذهب الرومانسيّ التعلّق بالحزن والتلذّذ بالمعاناة، واعتبار «الأَلَميّة» فلسفةً تطهّر النفس (Psyche) في طقس – غريب عن الإحساس الجسديّ أو الفيزيائيّ – ينشد العظمة والسموّ ويصهر الخير والشّر معًا بدون تمييز بينهما.
ولكن التحوّل الحاسم في هذا المنظور أحدثه هيغل (1770-1831)، فلأوّل مرّة في تاريخ الفلسفة، أصبح للنفي كيانٌ يستمّد وجوده من الإثبات، من الحياة. كان هيغل يؤمن أنّ جوهر الإنسان هو القدرة على الخلق من الذات (Self-Creation). بعبارة أخرى، انتزاع المرء للحريّة الإيجابيّة (Positive Freedom)، حريّة أن يكون هو. وما المرض وكذلك الصحّة إلّا انعكاس لذلك الانتزاع، وكما أنّ الخطأ ينبثق من الصواب، فإنّ الشرّ هو لحظة من الخير.
تجد هذه الفكرة صداها في رائعة بوثيوس (Boethius) «عزاء الفلسفة» (The Consolation of Philosophy). تبدأ أشهر استعارة لبوثيوس، وهي عجلة الحظّ (The Wheel of Fortune)، برسم ملامح الواقع الخشن الّذي نحيا فيه. فمن دون سابق إنذار يهبط الحظّ بمن كان ذات يوم في قمّة النجاح والسعادة، ويعلو بمن كان ذات يوم فقيرًا وبائسًا. لقد سيطرت فكرة نزوة الحياة الدنيويّة على أدب العصور الوسطى حيث لم يعد يجد من اعتمد على الثروة أو السلطة أو المنصب عزاءً له، لأنّ كلّ هذه الحالات كانت مؤقّتة. وكان العلاج الوحيد هو تحويل الانتباه إلى العالم الإلهيّ، العالم الوحيد الّذي يتمتّع بالاستقرار والأمل.
في مواجهة القلق الّذي يشكّله اقتراب موت محقّق، تراءت لبوثيوس امرأة جليلة المظهر تحمل في يدها اليمنى كتبًا، وفي يدها اليسرى صولجانًا. إنّ المرأة في هذا العمل – والّتي تشبه الآلهة الإغريقيّة – هي تجسيد للفلسفة. من خلال هذه الشخصيّة، يؤكّد بوثيوس أنّ العالم تحكمه العناية الإلهية. كلّ شيء يحدث لخير الفرد، بغضّ النظر عن الطريقة الّتي يتجلّى بها. لذلك لا يوجد إلّا الخير والشرّ غير موجود. ولكن كيف لنا أن نقتنع بهذه الفكرة عندما نرى الشرّ من حولنا؟ يقول المؤلّف «الشرّ ليس ضررًا بقدر ما هو عدوى شديدة».
تستخدم الفلسفة استعارة «عجلة الحظ» لشرح طبيعة الحياة الدنيويّة. تذكّر بوثيوس الحزين بسبب خسارته لممتلكاته ولمكانته بأنّ هذه الأشياء لم تكن ملكه في المقام الأول. التغيير هو طبيعة الحظّ، وإذا كنت محظوظًا بما يكفي للوصول إلى القمّة، فانتظر قليلًا وستجد نفسك في القاع! والحظّ في تقلّبه وتبدّله إنّما هو حافظٌ لعهده وثابتٌ على مبادئه لا يفرّق بين غنيّ أو فقير، طيّب أو شرّير. لذا ينبغي للمرء أن يعلم أنّ الحياة مثل عجلة الروليت، إنّها مقامرة!
هذه أحكام اللّعبة، وفهمها، مجرّد فهمها، هنا يكمن العزاء الوحيد! تستخدم «فيلوسوفيا» المنطقَ، والقصصَ لتجعل بوثيوس يفهم أنّ طبيعته وطبيعة الكون إلهيّة. ومهما حدث، فلا يمكن أن ينتزع الخير منه. وتاليًا، فإنّ استعارة الشرّ-مرضًا تعني أنّ هذا الأخير حالة مؤقّتة وغير طبيعيّة. كما تشير أيضًا إلى وجود علاج لاستعادة الصحّة؛ إنّها نظرة متفائلة لطبيعة الكون، تصرّ على وجود نظام وانسجام أساسيّ مع الواقع المتغيّر باستمرار.
يقول هيغل: «تعقّل الحياة، تلك هي المهمّة». من هنا، تفهم الحياة على أنّها النضال البشريّ لجعل جوهر الإنسان واقعًا اجتماعيًا وسياسيًا. ونعني بالحياة، هنا، الجانب الأخلاقيّ منها، أي الحياة الأخلاقيّة (Ethical Life) وليس الحياة بالمعنى البيولوجيّ. ومع ذلك فإنّ ثمّة ارتباطًا بين المعنييْن.
على المستوى البيولوجيّ، يشكّل نفي الحياة، أي الموت نقطة العبور الإلزامية بين الفرد والنوّع. وبالرّغم من أنّ النضال سيقضي عليه في النهاية، وأنّ المرض، وتاليًا الموت، هو الضريـبة التي يدفعها الفرد لاستمرار الحياة، ولكنّه يكون قد أثبت – بالرغم من سوداويّة الواقع وماديّته الثقيلة – حريّته الفريدة ودوره في تحسين النّوع واستمراره.
يبدو أنّ «تعقّل الحياة» هو بمنزلة إخضاعها للكليّة العقلانيّة. يريد هيغل أن يعقلن الواقع، بكل ما فيه من ثنائيّات متعارضة، بما في ذلك العوامل المأساوية كالمرض والألم والفقدان والعذاب والموت الّتي يـبرزها ويشدّد عليها. التراجيديا والنفي محرّكًا الحياة والتاريخ، إذًا للمرض وظيفة بيولوجيّة وأخلاقيّة وهي ضرورة الصحّة.
يعيش الإنسان على حافّة الموت لذلك يرفض خصوصيّته ويأبى أن يكون كائنًا محدودًا. هذه «اللّاءات» هي ما تجعل الإنسان كائنًا حرًّا، بحسب جدليّة هيغل. ولقد قوبل المنظور الغائيّ في الجدليّة الهيغليّة بعدّة انتقادات، ومن أبرز المعترضين فريديريك نيتشه (1844-1900). تمثّل أعمال نيتشه قطيعة راديكاليّة مع الفكر اليهودي المسيحي (Judeo-Christian)، ومثالية أفلاطون، وثنائيّة ديكارت، والتمييز الّذي أقامه كانط بين الكينونة والظهور (Noumenon/Phenomenon).
يكمن عزاء نيتشه في «الإنسان المفرط في إنسانيّته». لم تقف الأديان السماويّة، بحسب نيتشه، موقفًا منسجمًا مع الواقع الطبيعيّ للحياة. فقد سعت إلى ترويض الإنسان بحجّة إصلاحه فجعلته مريضًا مثيرًا للشفقة، كارهًا لجسده ولطبيعته الفيزيولوجيّة. الإنسان بوصفه حيوانًا يحتاج إلى تدجين، هي أكثر استعارة تعبّر عن الموقف النيتشويّ من الأديان. تتجاهل الماورائيَّات الكلاسيكيَّة ما هو إنسانيٌّ حقَّا بانحيازها إلى عالم متخيّل، عالم يتأسّس على «إنتاجيّة وهاميّة» تدّعي بأنّ الحياة موجودةٌ في مكانٍ آخر، منفصلةٌ عن الجسد، وخاليةٌ منه.
نقرأ في «هكذا تكلّم زرادشت» أنّه يكره «محتقري الجسد». ويسمّي نيتشه هؤلاء المؤمنين والمهتدين الّذين ينكرون أجسادهم بـالـ «مفتونين بالعالَم الآخر». إنَّهم مرضى، موتى أحياء، يحيَون لأجل الموت، غارقون في المادّة ويريدون التحرّر منها بطرق ملتوية، مثلَ سقراط في «غسق الأوثان».
يريدُ نيتشه قطعَ كلِّ صلة بهذا التَّشويه من خلال مفهوم «حبّ القدر» (Amor Fati) الذي يعني القبول بكلّ ما قد نواجهه في حياتنا. لذلك فإنّ تأكيدنا أو نفينا مرهونان بنظرتنا إلى الواقع، وسيطرتنا على علاقتنا بالعالم، وهذا ما يسمّيه نيتشه «إرادة القوة» (Wille zur Macht)، فهما (النفي والإثبات) يدخلان ضمن أحكام الرفض أو النبذ أو التماهي مع الواقع.
ظهر مفهوم حبّ القدر في كتاب «هذا هو الإنسان» (Ecce Homo). يستعدّ القارئ في هذا الكتاب للمواجهة الأخلاقيّة الّتي ستعترضه حين سيقرأ «نقيض المسيح» (The Antichrist). في الأقسام الأربعة الأولى من الكتاب، نقرأ اعترافات نيتشه، وسيكون علينا الاختيار بين طريقين؛ إمّا طريق ازدراء الجسد وإمّا القفز على متن السفينة والوقوف إلى جانب نيتشه.
هذه العلاقة القضائيّة بين المؤلّف والقارئ تقود إلى إشكالية الحداثة المنحلَّة والمريضة بسبب نفيها للجسد. إنّها مصابة بالانحطاط (Decadence) هذا المرض، الذي لم يسلم منه أحد حتّى نيتشه نفسه. في تأمّله يزعم نيتشه أنّ كلّ تجربة تشقّ طريقها نحو تعزيز الذات والقوة، وما يسمّيه «الصحّة الكبرى» (Supreme Health)، وطريقًا آخر يسير نحو الضعف والعدميّة والنفي. ما يعني أن الصحّة الكبرى لا وجود لها في ذاتها، لأنّ المرض وجهة نظر حول الصحّة، والعكس صحيح.
تشير استعارة الانحطاط-مرضًا إلى انحلال القيم، الذي هو أمر لا مفرّ منه، بحسب نيتشه، لأنّ تلاشي القيم هو سبب منطقيّ للوجود، وبما أنّه لا توجد حقيقة موضوعيّة، فلا يمكن أن تكون الحقيقة صحيحة ذاتيًّا إلّا لأناس معيّنين وفي زمان معيّن. وعندما تصبح الحقائق غير صحيحة، فإنها تتحلّل.
وفقاً لهذا التصوّر، يرفض نيتشه ثنائيّة (الصحّة\المرض)، فليس هناك حالة طبيعيَّة للصحّة، بل هناك فقط ظروفٌ تبدو لنا جيّدة بالنّسبة إلى جسدنا. بتعبيرٍ آخر، علينا أن ننزع من أذهاننا أنَّنا جميعنا سواسية أمام المرض والصّحّة. يقولُ في «العلم المرِح» (فقرة 120): «]… [لأنّه لا توجد صحّة بذاتها وكلّ المحاولات لتعريفها قد باءت بالفشل على نحو محزنٍ وما يهمّ هنا لتحديد ماذا ينبغي أن تعني الصِّحَّة بالنِّسبة إلى جسدك، إنَّما يعتمدُ على هدفك، وأفقك، وقواك، ودوافعك، وأخطائك، ويعتمد بشكلٍ خاصٍّ على مُثُلِ روحك وخيالاتها. هكذا توجد حالات صحّة لا حصر لها؛ وكلما سمحنا للفرد المتفرّد، والّذي لا شبيه له، برفع رأسه، كلّما نسينا معتقد «مساواة الناس»، وكلّما وجب على أطبائنا أن يستغنوا عن مفهوم صحّة عاديّة ]…[ وعن السير العاديّ للمرض. إذ ذاك سيكون الأوان قد حان للتفكير في صحّة الروح وفي مرضها ولمقارنة الفضيلة الخاصّة بكلّ واحد مع صحّته الخاصّة».
وموقف نيتشه هنا ليس ميتافيزيقيًّا أو نظريًّا، بل هو استراتيجيّ، ينمّ عن منظور عضويّ جدًّا للحياة. ادّعى نيتشه أنّ الانحطاط هو المشكلة التي تشغل باله بشكل أعمق من أيّ مشكلة أخرى، لأنّ هذا الانحلال الحتميّ للقيم كان تهديدًا للثقافة، وتاليًا للجنس البشري. القيم أو الأسباب المنطقيّة للوجود مهمّة جدًا لأنّه من أجل البقاء، ومن أجل الازدهار، يُطلب من البشر «ابتداع القيم». بدون هذه القيم، رأى نيتشه أنّنا سنكون في حالة من العدميّة الّتي من شأنها أن تودي إلى الانتحار الجماعيّ. وعلى الرّغم من أنّه لم يميْز صراحة بين أنواع الانحطاط، إلّا أنّ كتاباته تشير إلى تسلسل هرميّ من الانحطاط مشابه للتمييز الّذي أقامه بين محتقري الجسد وسالكي مذهب إرادة القوّة.
المنحطّون الّذين اعتبرهم نيتشه الأكثر إشكاليّة أسماهم المنحطّون الضعفاء. يميل هؤلاء إلى تقدير الحياة بوصفها شيئًا سلبيًّا مدانًا. من أجل تحقيق هدفهم المتمثّل في الحفاظ على النّوع – بخاصّة الأغلبيّة الضعيفة – يحاولون إلقاء اللّوم على شخص ما أو على شيء بوصفه المسؤول عن المعاناة في الحياة، ثمّ ينزعون إلى إزاحة مصدر المعاناة هذا من الوجود. والمثير للاهتمام أنّ أحد الأعراض الأخرى للانحطاط الضعيف هو الحاجة إلى تبنّي منظور شخصيّ للحياة، والادّعاء أنّه حقيقة موضوعيّة، ثم جعله عن طريق الحجاج، قانونًا كلّيًّا (Universal Law).
يمكن أن يكون المنحطّون الضعفاء إمّا أشخاصًا متفائلين وإمّا متشائمين. يطلب المتفائلون دين الراحة ويميلون إلى إنكار تلك الأجزاء من الوجود المسمّاة «شرًا». بعبارة أخرى، يجب أن ينفوا تجاربهم من أجل جعل الحياة ممكنة. جادل نيتشه بأنّ هذا التفاؤل الكلّيّ خطير للغاية، لأنّ أتباعه غير قادرين على مواجهة قسوة الوجود.
أمّا المتشائمون، وفقًا لنيتشه، فهم أقلّ إشكاليّة لأنّهم على الأقلّ اعترفوا بالمعاناة التي لا يمكن تفسيرها في الحياة، لكنّهم استسلموا لمشاعر غامرة بالعجز في مواجهة ما لا يمكن تفسيره، وعانوا من الآثار الناتجة عن «الغثيان». وما هو مشترك بين هؤلاء هو ذلك الاستياء من الأقوياء والقادرين على خلق القيم بالرّغم من انعدام المعنى المتأصّل في الحياة.
في المقابل، ينشد المنحطّون الأقوياء الحياة بقطبيها (الخير والشر)، وعلى عكس الجمود الّذي يتمثّل في غياب النشاط بسبب الافتقار إلى الحقيقة الموضوعيّة، فإنّهم يستمتعون بخلق القيم التي تساعدهم على الازدهار. ولأنّ الازدهار هو هدفهم ولا شيء آخر، فهم على استعداد للمخاطرة من أجل الشعور بفرحة الوفرة (Überfluss) التي تصاحب تعبيرات المرء عن إرادة القوّة.
إنّهم قادرون على حبّ أقدارهم بإيجابيّة، لأنّهم يدركون مشكلة الانحطاط ويعرفون أنّ أي قيم سيبتدعونها ستنحلّ في النهاية. لذلك، لكي يكون المرء منحطًا قويًا، يجب أن يخوض معركة مع مرض الانحطاط: يجب على المرء أن يواجه حقيقة الوجود، ويقاوم آثار التشاؤم المشّلّة.
لا أرمي إلى الدخول في مناقشة موسّعة حول فلسفة نيتشه، ما يعنيني هنا هو ذلك الانفتاح الشرس على التعدّد والاختلاف من خلال الاستعارات المفهوميّة الّتي يتوسّلها هذا الأخير لمواجهة «الألميّة» وانتزاع لذّة الحياة من نقيضها. هل ثمّة نهاية تلوح في الأفق؟ يبدو أنّ هذا السؤال المؤرق هو محرّك البحث عن العزاءات سواء أكانت في عالم غيبيّ أم في عالمنا الماديّ.
فالقلق الأبوكاليبسيّ دائمًا ما يدفعنا إلى الإيمان بأنّه وراء عشوائيّة «عجلة الحظّ»، ثمة شخصٌ ما يمسك بزمام الأمور، يدير هذه المؤسسة الكونيّة. صحيحٌ أنّه قد يستعصي علينا فهم الخطّة التي تسير بها الأمور، لكنّنا نثق بأنّ هذا الكيان على علم بما يفعل.
في المقابل، تسير الفلسفة الحتميّة جنبًا إلى جنب مع قوانين الديناميكا الحراريّة في زعمها أنّ واقعنا ماديّ صرف، وأنّ كلّ طاقة ستتبدّد في النهاية، وتتحوْل إلى حرارة عديمة الفائدة، ومن ثمَّ سيصل الكون إلى حالة من الموت الحراري، حيث لا مكان للعدل ولا للحبّ ولا للجمال.
هذا المنظور الجاف ينزلق بهدوء نحو العبث ويجعلنا أكثر ميلًا إلى الاستسلام اعتقادًا منّا بأنَّ موتنا قدرٌ مكتوب. تخيّل أنواع المصائب الّتي قد تقضي عليك في أيّة لحظة! مثلًا، قد تصدمك شاحنة في أثناء عبورك الطريق وذهنك شاردٌ بالتفكير في وجبة الغداء الّتي ستتناولها، قد يقع انفجارٌ على مقربة من مكان عملك، أو قد يصادف أن يظهر فجأةً فيروس مُتحوِّر قاتل من حيث لا ندري ليتسبّب في مصرع ملايين من البشر! أين العزاء في كلّ هذا؟
إذا كانت الحتميّة العلميّة تنظر إلى الكون على أنّه قطار يسير بلا مكابح نحو مصير مجهول أو نحو مزيد من الفوضى (القصور الحراري)، بخطى ثابتة ومسار زمنيّ محدّد لا يحيد عنه، فإنّي أرى – وستتفاجأ عزيزي القارئ – في هذه الاستعارة المخيفة جانبًا مشرقًا. إذ حسبك أن تلزم مقعدك في القطار مستمتعًا بكلّ لحظة من هذه الرّحلة؛ فكلّ شيء يوجد حيثما يجب أن يكون.
إذا كانت «العزاءات دائمًا في مكان آخر» كما تقول الروائيّة ناتالي خوري غريب، فإنّ هذا المكان هو في عالم البلاغات، في الاستعارات الّتي نحيا ونموت بها.
الحياة هي رحلة، رحلة استكشافيّة. الواقع هو المشهد الذي تقع فيه رحلتك. إنّه المحيط، والطقس، والريح…إلخ. جسدك هو الزورق أو السفينة. وأنت، أي حضور الأنا، قبطان السفينة. حالتك الذهنيّة والعاطفيّة هي أشرعة السفينة. هل يمكننا التحكّم في الطقس أو الرياح أو المشهد؟ ربّما.
ربّما يكون الواقع تشاركيًا ونشترك في إنشائه جميعًا، مثل لعبة فيديو متعدّدة اللّاعبين متطوّرة للغاية وقابلة للتخصيص بالكامل. ولكن حتّى نتأكّد من ذلك، يقدم هذا الاقتباس من مقدّمة «العلم المرح» تصوّرًا مقنعًا:
«الفيلسوف الذي اجتاز وما يزال يجتاز حالاتٍ صحِّيَّة مختلفة، هو فيلسوفٌ اجتاز العديد من الفلسفات: لم يكن في وُسعه إلَّا أن يحوّل كلّ قول من أقواله إلى الشَكل والأفق الأكثر روحانيّة؛ فنُّ التحوُل هذا، هو الفلسفة».
يبدو أنّ المهمّ في الرّحلة هو الانفتاح والتغيير والتعدد والتقبل التحوّل وكلّ المشاعر المتناقضة التي تصاحب أقاليم الحياة. الأمر لا يتعلق إذًا بالوجهة، بل بالرّحلة نفسها. لذلك، فإنّ إهمال أيّ عنصر من عناصرك سيؤدّي حتمًا إلى رحلة أقلّ متعةً.
إذا أهملت جسمك الماديّ، زورقك، فسوف تغرق قبل الأوان. الزورق التالف يغرق تدريجيًا، مهما كان الطقس لطيفًا أو مدى كفاءة القبطان. وقبل أن يغرق، سوف يتحرّك ببطء وهو يتطلّب صيانة مستمرّة، ما يترك لك القليل من الوقت للاستمتاع.
إذا أهملت أشرعتك، فستكون دائمًا تحت رحمة الطقس. سوف تكون ضحيّة الظروف. الرياح سوف تشقّ طريقها معك. ولكن اعلم أنّه سيكون لديك مشكلة في تجنّب الطقس المضطرب، بغض النّظر عن مدى مهارتك أو مدى قوّة زورقك.
إذا أهملت روحك، أيّها القبطان، فإنّك تصبح سفينة بدون بحّار. ستكون بلا وعي يختبر جمال الرّحلة. فعدم وجود قبطان يجعل الرّحلة بلا معنى.
استعارة الزورق جسدًا لا تعني أنّ عليك أنّ تبقى متفائلًا على نحو يتجاهل الواقع، التجربة نفسها، الرّحلة. ولا تعني أيضًا أن تستسلم عند هبوب الريّاح. لست بحاجة إلى أن تكون القبطان المثالي، أو أن يكون لديك قارب مثالي أو أشرعة مثاليّة. لكن لا يمكنك إهمال أيّ من هذه الجوانب إذا رغبت تحقيق أقصى استفادة من رحلتك.