
يمثّل كتاب «الاضطراب، كيف تتكيّف الأمم مع الأزمات والتغيرات»، الصادر سنة 2019، جزءًا ثالثًا من سلسلة «صعود وانهيار الحضارات»، للمؤرخ الأمريكي جارد دايموند، والتي صدر الجزء الأول منها سنة 1997 بعنوان: «أسلحة، جراثيم وفولاذ، مصائر المجتمعات البشرية» – حصل الجزء الأول على جائزة بوليتزر المرموقة وحوّل إلى سلسلة وثائقية قدّمها المؤلف بنفسه، ترجمه إلى العربية مازن حماد، وصدرت الترجمة عن الدار الأهلية للنشر والتوزيع سنة 2007 – فيما صدر الجزء الثاني من السلسلة سنة 2004 م بعنوان: «الانهيار، كيف تحقّق المجتمعات الإخفاق أو النجاح» – ترجمه إلى العربية مروان سعد الدين، وصدرت الترجمة عن دار العبيكان للنشر سنة 2011م –
سؤال يالي
في مقدمة كتابه الشهير: «أسلحة، جراثيم وفولاذ، مصائر المجتمعات البشرية»، يروي لنا دايموند قصة الكتاب مبتدئًا بوصوله سنة 1972 إلى غينيا الجديدة، كان دايموند حينها عالم أحياء شاب وقد اختار هذه البقعة المعزولة من العالم لدراسة نشوء الطيور وتطوّرها، غير مدرك أن مساره العلمي واهتماماته المعرفية على وشك التغيّر وإلى الأبد، بدأ هذا التغيّر بسؤال بريء سأله إياه أحد سياسييّ غينيا الجديدة يدعى يالي، التقى دايموند بيالي في إحدى نزهاته على الشاطئ الاستوائي، وأثناء حديثهما الطويل سأله يالي سؤالًا لم يستطع دايموند الإجابة عليه وقتها، كان سؤال يالي المحيّر هو: لماذا طوّرتم أنتم البِيض كل تلك الشحنات، وجلبتموها إلى غينيا الجديدة، بينما لا نملك نحن السود شحنات خاصة بنا؟
كلمة شحنات التي استخدمها يالي – Cargos بالإنجليزية – يمكن ترجمتها أو فهم مقصده منها على أنها المخترعات، وهذا ما يجعل سؤال يالي يصبّ في صميم علوم الإنسان والتاريخ والإرث الحضاري، ما هو السِّر الذي جعل البِيض الأوروبيين يتوصلون إلى كل هذه المعارف والمخترعات، ويخرجون من قارتهم لغزو العالم والسيطرة عليه، بحيث يصلون إلى غينيا الجديدة ويجلبون معهم كل هذه المخترعات «الشحنات»؟ لماذا لم يحدث العكس؟ لماذا لم يكن يالي وقومه هم الذين توصلوا إلى كل هذه الاختراعات «الشحنات»؟
للإجابة على مثل هذه الأسئلة يقفز الناس عادة لإجابات ناقصة أو عنصرية تفترض تفوق عرقيّ ما، أو تفضيل إلهي، وهذه التفسيرات الدينية والعرقية قديمة بقدم الإنسان نفسه، ولكن دايموند احتاج إلى خمسة وعشرين عامًا من الدراسة والبحث ليقدّم إجابة على سؤال يالي.
كرّس دايموند الكتاب الأول لدراسة الفروق الحضارية بين الأمم مستعيدًا لحظة تاريخية شهيرة وهي لحظة لقاء الفاتح الإسباني هيرنان كورتيز بموكتيزوما إمبراطور الأزتيك: كيف اصطدم في تلك اللحظة عالم قديم متمرس بعالم جديد ساذج، كيف استطاع قائد إسبانيا بحفنة من الجنود السيطرة على إمبراطورية ضخمة وتدميرها، يعيد دايموند الفروق الحضارية إلى فروق مادية بين العالمين، فروق في أنواع النباتات التي دجّنها العالم القديم فصنعت له تفوقًا غذائيًا، والحيوانات التي دجّنها للأكل والركوب فصنعت له تفوقًا غذائيًا وعسكريًا، كان العالم القديم يتصارع ويتسلّح ويتطوّر ويكتسب مناعة من الجراثيم لآلاف السنين، شوط حضاري طويل قطعه العالم القديم توصل خلاله إلى معارف وأسلحة وفولاذ وقوة مادية لم يتوصل إلى مثلها العالم الجديد، هذا ما جعل هزيمة موكتيزوما وأتوالبا وكل الحضارات ما قبل الكولومبية حتمية وقاسية.
هذه الإجابة حفزت دايموند لدراسة وفهم الوجه الآخر للسؤال، فما دام تطوّر الأمم والحضارات مرتبط في جزء منه بالعالم المادي المحيط بها وتفاعلها معه، فما سِر انهيار الحضارات؟ هل له علاقة بالعالم المادي كذلك أو بالبيئة بشكل أدقّ؟ طرح دايموند هذا السؤال وحاول الإجابة عليه في كتابه التالي: «الانهيار، كيف تحقّق المجتمعات الإخفاق أو النجاح».
تماثيل جزيرة الفصح
في الانهيار درس دايموند عدد من الحضارات التي انهارت واندثرت مرجعًا سبب انهيارها واندثارها إلى طريقة تعاملها مع البيئة المحيطة بها، كيف أدّى قطع الأشجار لإقامة التماثيل الضخمة في جزيرة معزولة مثل جزيرة الفصح إلى تدهور الحياة فيها وانكماش عدد السكان من عشرات الآلاف إلى بضعة مئات، يتتبع دايموند أمثلة مختلفة حول العالم من مونتانا المعاصرة، والأناسازي المندثرة في أمريكا الشمالية، إلى المايا في أمريكا الجنوبية، فالفايكنج في جزر شتلاند وفارو، وإسكندنافيي غرينلاند؛ كل هذه الأماكن تضم بقايا مستعمرات أو مدن دُمّرت وهجرها البشر عندما صارت الحياة فيها أصعب مع انكماش الغطاء النباتي، وانجراف التربة الخصبة، فالانهيار لا يأتي مفاجئًا وسريعًا؛ وإنما ببطء وعلى مدى أجيال، ولكنه عندما يأتي يكون حاسمًا ونهائيًا ولا يمكن تغيير نتائجه الوخيمة.
كتاب الانهيار ليس سوداويًا تمامًا، فدايموند يقدّم أمثلة على أمم تنبهت مبكرًا وتجنبت الانهيار بوضع حلول وقوانين تجرم قطع الأشجار وتدمير البيئة، ويمثّل على هذه الأمم بيابان القرن التاسع عشر، وفنلندا وأستراليا المعاصرَتين، وكلتاهما لديها أكثر القوانين البيئية تشدّدًا وهي قوانين تهدف إلى الحفاظ على التوازن البيئي الهشّ فيهما.
في الكتاب الثالث: «Upheaval: How Nations Cope with Crisis and Change»، والذي يمكننا ترجمة عنوانه إلى «الاضطراب، كيف تتكيف الأمم مع الأزمات والتغيرات»، يفتتح دايموند الكتاب بمحاولة تعريف الأزمة «Crisis»؛ إذْ يرى دايموند أن الأزمة هي نقطة تحوّل تكون الأشياء بعدها ليست كما قبلها، ونقطة التحوّل هذه تضغط – على الفرد أو المجتمع – للبحث عن حل، والحلول المقدمة للأزمات قد تكون حلول ناجعة وقد تكون مؤقتة تحمل في باطنها أزمات قادمة تنفجر في وقت لاحق وتحتاج بدورها إلى حلول، ولكن كل هذه الحلول تفرض تغييرات معينة على الفرد أو المجتمع، هذه التغييرات قد تكون حاسمة ومصيرية ويمكن أن تكون انتقائية تستهدف جوانب معينة.
أزمة دايموند
في الفصل الأول يحدّثنا دايموند عن أزمة شخصية مرّ بها عندما كان في الواحدة والعشرين من عمره، كان قد وصل لتوه إلى جامعة كامبريدج العريقة في إنجلترا لمواصلة دراساته العُليا في «علم وظائف الأعضاء» بتوصية من جامعة هارفرد، ليجد نفسه في بيئة علمية وعملية مختلفة تمامًا عما تعود عليه؛ حيث كانت متطلبات البروفيسور الذي وصل دايموند الشاب للعمل تحت إدارته تفوق قدرات دايموند وتجاربه، ولخيبته وخيبة المشرف عليه حوّل دايموند إلى معمل آخر ليبحث لنفسه عن مشروع علمي يناسبه. فشل دايموند في البداية في استخلاص نتائج علمية من مشروعه الجديد، وهذا ما فاقم أزمة الثقة التي كان يمرّ بها ووجد نفسه يتساءل إن كان يجب عليه أن يواصل مشواره العلمي أو يستسلم ويبحث له عن حياة عملية أخرى بعيدة عن العلم والمختبرات. استمرت أزمة الثقة هذه لفترة، ولكن وفي زيارة لوالديه إلى إنجلترا صارحهما دايموند بأزمته، وطلب نصيحتهما فاقترح والده عليه أن يؤجل اتخاذ قرار الرحيل وأن يجرب من جديد، ويعطي مشروعه العلمي فرصة. نجحت المحاولة الجديدة بمساعدة علماء شباب تعرّف عليهم دايموند وساعدوه في تجاوز المشاكل التقنية التي كان يواجهها، قاد هذا دايموند إلى استخلاص نتائج علمية مرضية، جعلته يقرر في النهاية البقاء في كامبريدج لأربعة أعوام توج فيها مسيرته بالحصول على شهادة الدكتوراة.
من هذه التجربة أو الأزمة الشخصية يضع المؤلف عدّة نقاط مهمة، يرى أنها تفيد الأشخاص والدول في التعامل مع الأزمات:
- الإقرار بوجود أزمة.
- الإقرار بالمسؤولية الشخصية (أو الوطنية) في البحث عن حلّ للأزمة.
- تحديد واضح للمشاكل التي تحتاج إلى حلّ.
- الحصول على الدعم المادي والنفسي من الآخرين (أو من الأمم الصديقة).
- الاستفادة من تجارب الآخرين (أو الأمم الأخرى) في التعامل مع الأزمات المشابهة.
- القوة والصمود.
- تقييم صادق للنفس (أو للأمة).
- الخبرات المكتسبة من الأزمات السابقة، تفيد في التعامل مع الأزمات الحالية.
- الصبر والتحمّل للشخص (أو الأمة).
- المرونة في البحث عن حلول وتقبّل الصعب والمرّ منها.
- وجود قيم أساسية للفرد (أو للأمة) تساعد في وضع حدود للتغييرات المقترحة.
- التحرّر من بعض القيود التي تكبل الفرد أو الأمة.
حرب الشتاء وأزمات أخرى
من خلال هذه النقاط يدرس المؤلف أزمات مرّت بها بعض الأمم ويعرض كيف تعاملت معها ونجحت في تجاوزها، مبتدئًا بالأزمة الوجودية التي تعرضت لها فنلندا سنة 1939؛ ففي تلك السنوات الصعبة حيث تستقبل أوروبا والعالم الحرب العالمية الثانية، وحيث تتسلح كل الدول وتتسابق في حشد رجالها ونسائها في الجبهات والمصانع؛ كان على الفنلنديين أن يواجهوا جارًا شرسًا وضخمًا هو الاتحاد السوفييتي. كان الاتحاد السوفييتي المتوجس من الآلة العسكرية الهتلرية، يحاول تأمين حدوده لذا تقدّم في تلك السنة بطلبات لدول البلطيق (فنلندا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا). يتضمن هذا الطلب التخلي عن أجزاء من أراضي هذه الدول لصالح الاتحاد السوفييتي، وكانت فنلندا هي الدولة الوحيدة التي تجاسرت على رفض الطلب السوفييتي، واستعدت لمواجهة جيشه الذي يفوق في قوته الجيش الفنلندي بخمسين مرّة.
خاضت فنلندا حربين ضد الاتحاد السوفييتي في تلك السنوات، خسرت في نهايتها جزءًا من أراضيها، وخمسة بالمئة من رجالها، ولكنها حافظت على استقلالها ولم يستطع الاتحاد السوفييتي ضمّها إليه، ولكن الأزمة الفنلندية تتعدى الحرب ونتائجها. تتلخص أزمة فنلندا – ودول أخرى مشابهة – في وجود جار ضخم وقوي، وفي حالة فنلندا متوجس من المعسكر الغربي؛ لذا كان على السياسيين الفنلنديين أن يراعوا في سياساتهم مخاوف موسكو، ويُظهروا حسن النوايا في كل تصرفاتهم وكل قراراتهم. لقد كانت هذه الحرب المؤلمة درسًا لكل الساسة الفنلنديين في الثمن الباهظ الذي يمكن دفعه لو استفزوا جارتهم العملاقة. يمكننا التفكير بأمثلة كثيرة لدول أخرى لم يراع ساستها الأمر الواقع وانتهى الأمر بغزو أوطانهم وتقسيمها ودفعها إلى حروب أهلية لا يسهل إيقافها.
ينتقل المؤلف من فنلندا إلى أمثلة أخرى عديدة: من أزمة يابان القرن التاسع عشر، عندما اكتشف اليابانيون تخلّفهم عن الركب العالمي، فبدأ عصر الإمبراطور ميجي الذي صنع اليابان الحديثة ودفعها إلى مصافّ دول العالم الأول، إلى تشيلي السبعينات والأزمة التي بدأت مع وصول أييندي للسُّلطة، وتفاقمت مع انقلاب بينوشيه، والأزمة الأندونيسية والتي تفاقمت ووصلت ذروتها مع الانقلاب على سوكارنو ومقتل مليون إندونيسي؛ يعرض المؤلف في هذه الأزمات كيف كان يمكن تلافي الأزمة وتجنب الصدامات المجتمعية، والتي لازالت آثارها ظاهرة إلى اليوم.
يعرض المؤلف كذلك تعامل الألمان مع ماضيهم في أعقاب الحرب العالمية الثانية: كيف نجحوا في إقناع الدول الأوروبية بالسماح بتوحيد ألمانيا، مركزًا على دور المستشار الألماني ويلي براندت والذي ركع في بادرة شهيرة سنة 1970 أمام نصب يخلد قتلى جيتو وارسو والذين قتلهم النازيون سنة 1943، مقدّمًا بذلك اعترافًا بالمسؤولية الجمعية للألمان عن خطايا الفترة النازية، وبالمثل تعامل الأستراليين مع تاريخهم العنصري ضد السكان الأصليين، وتغير السياسات الأسترالية بعد الحرب العالمية الثانية والتي كانت تحاول الإبقاء على أستراليا للبِيض فقط.
بعد استعراض كل هذه الأزمات وكيف تعاملت الأمم معها، إما بنجاح وتجاوز للأزمة أو بفشل قاد إلى كوارث، ينتقل المؤلف إلى أزمات مستقبلية تطلّ في الأفق، وكيف يمكن للأمم أن تتعامل معها.
أزمات قادمة
يبدأ المؤلف باستعراض المجتمع الياباني وأزماته، من أزمة الدين العام، ووضع المرأة في اليابان، وانخفاض الخصوبة، وشيخوخة المجتمع ومشكلة المهاجرين وتقبلهم في المجتمع الياباني، والعلاقات التاريخية المتأزمة مع كوريا والصين بعد جرائم الحرب اليابانية، وشحّ الموارد الطبيعية؛ كل هذه الأزمات تضغط على المجتمع الياباني اقتصاديًا وسياسيًا وتحتاج حلول عاجلة، تقي المجتمع الياباني من الانفجار الداخلي أو الانهيار البطيء.
كما يستعرض المؤلف الأزمات الأمريكية، والتي تطلّ برأسها في كل جيل أمريكي من الأزمات الاقتصادية، والحركات الاجتماعية، والعنصرية المبطنة، والعدالة الاجتماعية، وانكماش القوة الأمريكية عالميًا، كل هذه الأزمات تحتاج حلولًا تحافظ على تماسك القارة الأمريكية الضخمة واتحادها.
يختتم دايموند كتابه بفصل يخصِّصه للأزمات التي تواجه العالم ككل، وهي أزمات بعضها قديم متجدد، مثل أزمة الأسلحة النووية التي تهدد البشر بشتاء نووي قد يقضي على البشرية، وأزمات الصراعات والحروب، إلى أزمة التغير المناخي، وأزمات الطاقة والغذاء والمياه؛ كيف يمكن للعالم مواجهة كل هذه الأزمات ووضع حلول لها؟ وهي مهمة أعقد بكثير من حل أزمات أمة واحدة ذات قيادة موحدة، فالمشاكل العالمية لا تلبي الشرط الأول في التعامل مع الأزمات وهو الاعتراف بوجود أزمة، فما بالك بالاعتراف بالمسؤولية الجماعية لدول العالم لحلّ الأزمات قبل فوات الأوان.