التقى بورخيس رجلاً أمام نهر شارل شمال بوسطون بكيمبردج في فبراير عام 1969م، وجرى بينهما حوار حسمه بورخيس بقوله:
-في هذه الحال، أنت تُدعى خورخي لويس بورخيس· أنا أيضا خورخي لويس بورخيس!
وفي نهاية الحديث الطويل بينهما سأله:
-إذا كنت أنا، فكيف تفسر نسيانك سيدًا مُسنّاً لقيته سنة 1918، وقال لك بأنه هو أيضا كان بورخيس؟
ذلك الحدث من قصة لبورخيس بعنوان ” الآخر” حيث يصف بورخيس -بطل القصة- هذا الحدث ببالغ الغرابة حين يلتقي المرء نفسه ، غير أن هذه الغرابة هي التي صنعت قصصاً وأفلاماً أحبها الجمهور ، فمنذ بزوغ فكرة السفر عبر الزمن ، ووسائل السفر إلى المستقبل لم تهدأ ولم تسكن أبداً ، كسفر المعري في رسالة الغفران للآخرة ، وتنزه بطل رسالته على نجيبة من الإبل من نُجب الجنة، وتطور وسائل السفر باختراع هربرت جورج ويلز The Time Machine آلة السفر عبر الزمن روائياً عام 1895م ، وما عقبها من رحلات روائية وأخرى سينمائية لا تتوقف أبداً .
القطار
في عالم القطارات يلتزم القطار بسكة يسير عليها، لذا ترى القطار يسير في اتجاه واحد، وخاصة حين لا يمتلك محطات تبديل تمنحه خيارات مضافة، لذلك تظل القطارات المستقيمة تسير بوجهة لا تعكسها إلا إياباً كقطار الرياض – الدمام مرورا بالهفوف وبقيق، فلا خيارات أخرى لديه، ولا سبيل حينئذ عندما تفوتك المحطة إلا انتظار المحطة المقبلة، والعودة لاحقاً حيث يتجه القطار إلى هدفه، ويعود ثانية دون تبديل.
القاطرة
التقط الشاب علي الحسين الفكرة البورخيسية في التقاء الشخص ذاته، ولأنه من الأحساء ويدمن رؤية ذهاب القطار وإيابه ؛ وظفَّ فكرة السفر عبر الزمن في فيلمه ( حرق ) الذي شارك به في مسابقة الأفلام السعودية في نسختها الخامسة هذا العام 2019م ، وحصد به ثلاث جوائز في فئة أفلام الطلبة ( النخلة الذهبية ، وأفضل إخراج ، وأفضل ممثل ) ، وهو فيلم تجري أحداثه في مستشفى من بطولة (راشد الورثان وفيصل الدوخي) الأول في دور ستيني والثاني في دور شاب ثلاثيني ، يقابل صالح العبدالله الستيني ذاته، فيحاول جاهداً تبديل مسار القصة غير أن القطار المتجه في طريق لا يتبدل كما نعلم ، وهذا ما اصطدم به حين حسم الثلاثيني الأمر ، فلا تبديل ولا تحويل، وذلك حين قال جملته الحوارية متجهاً للستيني بنبرة واضحة : ” لازم تفهم إنّه ما في شي تقدر تغيره .. كل شي مكتوب ومنتهي “!
اختار المخرج لهذا الحدث المستشفى مكاناً ، فلربما يكون محطة تبديل قطارات، فيحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه، غير أن مجريات الأحداث تنحى باتجاه كلمة الثلاثيني بأن “كل شيء مكتوب ومنتهي”، فلا تبديل فيه على الإطلاق، وبذلك نعود لمحطتنا التي تضعك في نقطة لا تتبدل، وكما حدّد الحسين المكان حدّد الزمان أيضاً ، وانتقى حقبة تمثل النصف الأول من التسعينيات الميلادية ما بين ( 1992 – 1996م ) استناداً إلى إشارات منثورة في ثنايا الفيلم مثل : (جهاز البيجر، وصورة الملك فهد رحمه الله) ، وهي حقبة تعقب أزمة الخليج، وتُعدُّ بداية تنازع ما بين التحولات والثبات معاً في منطقة أشبه ما تكون ” كل شي مكتوب ومنتهي”، فالغلبة وقتها لقمع التحول .
وقد أجاد المخرج في تجربته الأولى بسعودة الفكرة البورخيسية، لولا بعض السقطات الحوارية اليسيرة التي يلحظها السعوديون دون غيرهم مثل اختيار وظيفة معلم جغرافيا لصالح دون غيرها، كما أخبرنا صالح الستيني حين حرق الأحداث انطلاقاً من عنوان الفيلم، وذلك حين استسلم للحرق وذكر بأن صالح الثلاثيني لن يترقى، وهذا ما يتنافى مع سُلم التعليم في السعودية، إذ هو من السلالم الثابتة التي لا ينتظر فيها المعلم ترقية ابتداءً، ولذلك يدحض الترقب الذي يحكيه الستيني ، فضلاً عن كون شريحة المعلمين من المغبوطين في الأرض، فهم من أكثر شرائح المجتمع دخلاً، لذلك كان على المخرج أن يختار شريحة أخرى؛ ليتقبلها المشاهد دون تمحيص.
وحسب هذا الفيلم أنه من فئة الأفلام التي تُفتش عن معايبها؛ لكثرة ما أحسن على صعيد الصورة والأداء والقصة، فالفيلم من المفاجآت الطلابية التي جعلت من اسم المخرج أحد الأسماء التي نترقب نتاجها بحماس؛ لتأكيد ما ابتدأ أو دحضِه.
المحطة
تحتل محطات القطار الحديثة مكانة في نفوس روادها، وبها تجري كثير من الأحداث ، ويمتاز بعضها بإمكانية تغيير مسار الرحلة، وتبديلها من محطة لأخرى، وباتجاه آخر على خلاف ما سبق ، وكذلك يحدث في عالم السفر عبر الزمن ، حيث يفتش المخيال على محطات تبديل الرحلات، ولا غرابة حين تكون الرحلة في مخيال الروائيين والسينمائيين، ولكن حين يركب الفيزيائيون القطار، فلا شك أننا نقترب أكثر من الواقعية لا الخيال، فإن كان السفر عند نيوتن مرفوض ؛ نجد أينشتاين في القطار بعد أن قطع تذكرته للسفر عبر المستقبل، إذ يرى أينشتاين أن السفر عبر الزمن من المتاح، بينما يتباحث الفيزيائيون -كما ينقل ج.ريتتشارد جوت في كتابه السفر عبر الزمن في كون أينشتاين عام 2001م- إمكانية السفر عبر الزمن إلى الماضي فقط .
الرحلة
بعد اكتشاف ج.ريتتشارد جوت لمبدأ كوبرنيكوس عام 1969م تنبأ بمستقبل حائط برلين وفق معادلة رسمها ، وأخبر أصدقاءه خلال محادثاتهم على الغداء، ولم ينشره إلا بعد أن حثه الجدار ذاته بسقوطه فعلاً عام 1989م بعد عشرين عاماً من تنبؤه .
يبدو أن جدار برلين محط نظر الرحالة عبر الزمن، ولذلك جاء الفيلم الأسباني Mirage سراب 2018م، وتجري أحداثه في التاسع من نوفمبر 1989م موعد سقوط الجدار، حيث يفتح الفيلم على صبي في الثانية عشرة من عمره اسمه نيكو يعزف جيتار ويقوم بتسجيل وصلته بكاميرا شخصية، بينما تضرب عاصفة مدينته.
لا وقت للمقدمات
بينما يحاول كثير من الأفلام التمهيد خلال دقائق تتراوح بين 10-15 دقيقة؛ نجد هذا الفيلم يبدأ مبكراً في دقائق معدودة يمزج فيها الأحداث ابتداء بمقتل جارة الصبي نيكو على يد زوجها ومشاهدة الصبي للحادثة، ومحاولة دخوله فيلا جاره، حتى حدوث المفاجأة بموته في حادث سير بعد هروبه من المنزل فزعاً.
هذا التسارع في الأحداث جرى خلال 6 دقائق بالتحديد، ولذلك يعود الفيلم ثانية بهدوء لشرح ما يجري للمشاهد المشدوه مما حدث، فتأتي الأحداث بنزول أسرة مكونة من 3 أشخاص (زوج وزوجة وطفلتهم) منزل هذا الصبي بعد 25 عاماً، وتتوالى الأحداث وصولاً إلى الكاميرا الشاهد على الدقائق التي تسبق موت الصبي.
آلة السفر عبر الزمن
اخترع كل محاول للسفر عبر الزمن آلته، فمنذ هربرت جورج ويلز وآلات السفر عبر الزمن تختلف وفق تصور صانعها، أشار جوت إلى رواية Timescape لجريجوري بنفورد Gregory Benford التي تقع أحداثها عام 1998، عندما استخدم البطل حزمة من التاكيونات، وهي جسيمات افتراضية تتحرك بسرعة أعلى من سرعة الضوء، حين أطلقها إشارة إلى عام 1963 مُحذّراً العلماء من كارثة بيئية تجتاح العالم سنة 1998م.
واستثمر فيلم ( سراب) مثل هذه الإشارة ، لذلك جاءت الآلة في الفيلم السينمائي متوافقة مع اللعبة السينمائية ، إذ جاءت الكاميرا لتلعب هذا الدور دون كثرة تعقيدات ، حيث تواصلت فيرا روي التي تؤدي دورها Adriana Ugarte أدريانا أوجارت مع الصبي نيكو بعد مشاهدتها تسجيله لوصلته الغنائية على الغيتار ، ومعرفته بما حدث له ، لذلك حذرته من الخروج ، وأعطته بعض الإشارات مصداقاً لقولها ، ومنها حدوث العاصفة التي كانت أداة توصيل عبر الزمن عوضا عن التاكيونات من خلال الكاميرا، وبرهاناً للصبي بإغلاق مدرسته كما أخبرته فيرا ، فاستطاعت فيرا بذلك أن تُبدل في رحلة القطارات ، وأبقت نيكو حياً حين لم يركب قطار الزمن وقتها ويمضي باتجاه منزل جاره .
مبرمج القطارات
لا بد لكل رحلة من موعد محدد واتجاه، ولذلك معرفة المواعيد، وعدد الاحتمالات مهم في مثل هذه الحالة، وهذا ما استطاعه المخرج Oriol Paulo أوريل باولو حين أمسك بمواعيد الرحلات، فهو القادم من حقل السيناريو إلى عالم الإخراج، مُمسكاً بخيوط الحبكة، ومقدّراً ما سيكون ابتداء في لعبة الاحتمالات خلال الـ 72 ساعة المتاحة لهذه الرحلة، وهي ساعات حدوث العاصفة، لذلك كانت إمكانية تبديل الاحتمالات متاحة خلال هذه الساعات فقط، انطلاقاً بما يحدث من تغيير بموت الصبي وعودته للحياة.
يتلو ذلك الحدث ما يمكن أن يكون في الطرف الآخر، فلكل رحلة ضريبة، وهذا ما على فيرا إدراكه، فهي من ضحت بمستقبلها الطبي مقابل حياتها الزوجية التي توجتها ببنت جميلة، فأصبحت ممرضة وقتها بدلاً من طبيبة.
إن مسألة ضريبة كل موقف هو ما يدركه باولو واستثمره من خلال السيناريو، فباولو يدرك أهمية السيناريو لذلك ينظر إليه كبذرة يضعها في الأرض، ومنها تنمو الشجرة ، وهذا ما حدث بتشابك أغصان الحكاية ، وتشذيب ما يمكن تشذيبه، فابتدأ باولو بالمساحات القابلة للتغيير، وسيّر عربات قطارات السيناريو بفواصل أشبه ما تكون بفواصل الأكورديونات، فجعلها تتموسق بتشابك الأحداث ، فطبيعة الأكورديون حين يتسع من الأعلى مُصدراً موسيقاه ؛ يضيق في الأسفل ، وهذا ما حدث حين منح المخرج بطلة فيلمه فيرا فرصة عظيمة ، وهي الحياة الطبية بكل مزاياها ومكانتها الاجتماعية ، فحياة مثل هذه ربما تجعل المشاهد يغبط فيرا عليها ، غير أن المبرمج يتنقل بين المفاتيح البيضاء والسوداء في الأكورديون، ويأتي على الجانب المظلم من القمر حين حرم فيرا من ابنتها ، وهنا يبدأ العزف، ويصدر أنين الأكرديون، ويشتد تشابك الأغصان.
سقوط قطع الدومينو
تبدأ اللعبة بسقوط أول قطعة ولا تنتهي إلا بختام لوحة متناسقة ؛ لأنها وُضعت بعناية فائقة في أماكنها الصحيحة، فباولو مؤمن بأن السيناريو أهم جزء في العملية السينمائية، ولا ريب في ذلك فهو كاتب قبل أن يكون مخرجاً ، وهذا ما جعل من ترابط الأحداث، وتواليها في حلقات متسارعة باتساع الدائرة، وانتقالها من البنت إلى الزوج ديفيد الذي يؤدي دوره Álvaro Morte ألفيرو مورتي، حيث تكتشف فيرا في الرحلة الموازية أن زوجها ما هو إلا مريض من مرضاها أجرت له عملية، ويعود باولو للربط منذ مشهد سابق برؤية صورة لزوجها مع سيدة أخرى اسمها أورسولا، تظهر مع تساقط قطع الدومينو أنها زوجته في الرحلة الموازية، وبسقوط قطعة ثانية يعود لذات المشهد السابق برؤية أعواد ثقاب تحمل شعار ( أرابيسكو) ؛ للكشف الآخر بخيانة زوجها ديفيد أو زوج السيدة الأخرى أورسولا في هذه الحادثة مع صديقتها الممرضة مونيكا !
أين الصبي ؟!
ينشغل المشاهد بتشابك الأحداث وإيقاعها السريع ، ولكنه يعود مفتشاً عن الصبي بين قطع الدومينو التي تتساقط دون توقف، ويأتيه وقتها الحدس أن يكون المفتش ذاته مثلاً من قبيل التخمين لا أكثر، وربما يصدق الحدس أو يكذب حين تتكشف قطع الدومينو، لذلك يظهر الصبي في حياة موازية راحلاً، ومظهراً جانباً آخر من القصة في الكشف عن الجار القاتل، ودوافعه ابتداء بعزم زوجته على السفر إلى ألمانيا حيث الجدار الذي بسقوطه تسقط قطع الدومينو، وحين منح باولو الجار -القاتل صاحب مجزر بريتو- مساحة لممارسة خيانته مع جارته أيضاً؛ لتعود لنقطة البداية حيث مقتل الزوجة، وتورط الجارة الخائنة والدة صديق الصبي، ورمي ساعتها في مسرح الجريمة، ربما للعودة لها لاحقاً، وهكذا في دوائر تتصل وتنفصل.
المخرج / المخرج
بحركة واحدة فوق الميم والراء يبدو أن لا مخرج لفيرا إلا حين يتدخل السيناريست/المخرج باولو في الأحداث لتعود ابنتها، لذلك وضع لها عقبات تتجاوزها واحدة تلو الأخرى كوضع قطع الدومينو تماماً لتصل إلى ابنتها، ابتداء بكشف الجريمة، والإفصاح عن مكان الجثة، والوصول إلى المفتش/ البطل المساعد؛ للهرب ومواصلة رحلة الكشف، واكتشاف هوية المفتش، والرهان ما بين التفريط في حبه المكتشف في خط موازٍ وحلقة متقاطعة، أو العودة إلى ابنتها؛ لتنتصر البنت في آخر المطاف، وتواصل رحلتها، ولكن ما الثمن؟!
ثمن التضحية
يقفز سؤال حول البنت، فهل هي قربان فرضه المخرج على فيرا من أجل أن يحيا نيكو؟! هل حياتها تقابل حياته، فلا يحيا إلا واحد منهما؟
إن رحلة الفيلم في هذا القطار تبدو من ركوب فيرا في منتصف الرحلة بحثاً عن ابنتها سعياً لاستعادتها، ولا شيء سوى ذلك، فهل سيعود الشريط وتعود السيارة لدهس الصبي حتى تعود ابنتها؟ أم أن لدى باولو عدداً من القطارات التي يمكن أن تركبها فيرا ويركبها نيكو دون فقد؟!
أم أن نظر القربان البديل في ذهن باولو للتضحية بآخر، ويحيا من يريد، ولكن السؤال الذي يقفز: هل كانت فيرا ستقبل بتقديم ابنتها قرباناً لو علمت؛ ليحيا صبي لا تعرفه؟ هل تملك هذه الشجاعة؟ وما الذي سيفعله باولو؟ هل يملك قرباناً آخر؟ أم أن نظرية القرابين ليست شرطاً في حياة أحد؟
أمام باولو حلقات كثيرة، وافتراضات أكثر، وما دامت الرحلة على ورق، فله أن يضع المحطات التي يفترضها، ويُركب أبطاله القطارات التي يريد.
الحقيقة أم الحلم
يبدو أن الأمر عسير جداً حين يتعلق بحياة وممات، ولذلك لا بد من التحقق من حقيقة ما يحدث، فالمشاهد بين أمرين: إما التصديق، وإما إحالة الأمر إلى الحلم، فهو البوابة الأيسر دوماً لتأويل ذلك.
إن شريحة من المشاهدين يجدون أمر السفر عبر الزمن محط دراسة العلماء، ويفترضون أن العلماء لا يقبلون إلا بالحقائق والبراهين فقط، فينعطف الأمر حينذاك إلى طريق شك في تكذيب موضوع الحلم، وإحالته إلى الحقيقة، ومن هنا تبدأ رحلة التشكيك عندما ذكر نيكو لأمه أنه حلم دون أن ينام، وأعقبه بسؤال صديقه إتور:
هل تؤمن بالسفر عبر الزمن؟
يبدو السؤال منطقياً، فهو من كبر وعاين ونجا بعد أن مات، فحري به أن يؤمن، بخلاف منظور الستيني صالح العبدالله الذي وصف الحالة تماماً في فيلم (حرق) للثلاثيني بحلم السقوط الذي تصدقه، ولكنه نكص بقوله “خَلْ نعتبر الليلة حلم ونصدق اللي فيها “.
إذا هي دعوة لكل مشاهد مؤمن بالسفر عبر الزمن أو غير مؤمن بالتصديق بما يحدث ولو على استثناء لليلة واحدة.