مقالات

مونتيني: أن نتعلّم كيف نحيَا

بيير مانان - ترجمة: عبد السلام بنعبد العالي

مونتيني: أن نتعلّم كيف نحيَا*

غالبًا ما نختزل تأملات مونتيني (1533-1592)، في التربية في بعض العبارات التي تشجب التعلّم عن ظهر قلب، وتسخر من التحذلق. وهي عبارات تروقنا وتغرينا لأنها تبدو كما لو أنها تدقّ جرس الاستراحة. إلا أنّ القارئ المتنبّه بعض الشيء سرعان ما يلاحظ، مع ذلك، أن مونتيني لا يكتفي فقط بالإشارة إلى صعوبات التّربية، وإنّما حتى تعذّرها إن أمكن القول. وبالفعل، فإنّ ما يجعل مسار التربية أكثر تعقيدًا هو المسافة التي تتولّد عن الإعجاب بالكلام الطيّب والأفعال الخيّرة. يبعث هذا الإعجاب الرّغبة في التقليد التي ترسّخ في نفس من يتعلم، وفي ذهنه، نماذج تثير إعجابه وتثبّط عزمه في أغلب الأحيان. وكلما حاول الاقتراب منها ظاهرًا، ازداد عنها ابتعادًا.

يبيّن الفصل المعنون «في تعليم الأطفال»[1] من كتاب «المقالات» مصدرَ كل عمل جديّ في التربية: إنه الإحساس الذي يتراوح بين الألم واللذة، بله النّشوة، بالمسافة التي تفصلنا عن العقول التي تثير إعجابنا. يستعمل مونتيني استعارة الجبل: عند قراءته لمؤلف قديم يقع على مقطع صعب إلا أنّه مثير: «إنها هوة هي من شدة الاستقامة والانفصالإلى الحدّ الذي جعلني أحلّق طائرًا نحو العالم الآخر». من هنا يعي مونتيني نقاط ضعفه، الأمر الذي يدفعه نحو السّير قدمًا في دراسته: «اكتشفت المستنقع الذي جئت منه وهو من الانحدار والعمق بحيث لم أعد قادرًا أن أغرق فيه من جديد». عن هذا الإحساس تتولّد أيضًا موهبة المربّي الذي يشبه دورُه دورَ مرشد أعالي الجبل: إنه «يرتقي» بتلميذه مجاريًا ميله الطّبيعي للارتقاء من غير أن يضغط ولا ألاّ يأخذ بعين الاعتبار العوائق التي يلاقيها في طريقه.

في الوقت الذي كان مونتيني يحرّر فيه مقالاته، كان التّعليم يتميّز بالعودة إلى المتون القديمة باعتبارها نماذج حياة وفضيلة وكتابة وفكر. لم يشذّ مونتيني عن هذه القاعدة، إلا أنّه يشير إلى تناقض يمكن أن يصاغ على هذا النحو:  تتمّ التربية بفضل القدماء، إلاّ أن بلوغ هذه الأعمال يقتضي التعلّم الطويل والمضني للّغتين الإغريقية واللاتينية، الأمر الذي يستنفد طاقات هائلة غير متناسبة. يحول هذا الجهد دون أن يقترب إنسانيوّ عصر النهضة أو «متحذلقوه» من الميل إلى الطبيعة والبساطة الذي طبع الإغريق والرومان. إن أداة اللغات القديمة أمرٌ لا محيد عنه، إلا أنّه، في الوقت ذاته، عائق من المتعذّر تخطّيه. ينبغي إذن تعلُّم اللغتين اليونانية واللاتينية للولوج إلى المتون، لكن، لكي نستفيد منها أمورًا نافعة للحياة، ينبغي أيضًا التخلّص منها بالدّرجة نفسها التي تفانَيْنا بها في تعلُّمها!

كتاب المقالات - ميشيل دو مونتيني

لتجاوز هذا التّناقض، يحيل مونتيني إلى التّرجمات الفرنسية لبلوتارخوس التي أنجزها جاك آميوت Jacques Amyot الذي يعلّم القرّاء الحُكم الحصيف على أفعال القدماء وعلى النّاس عامة. تنحصر كل جهود مونتيني، والحالة هذه «في تجريب حُكْمه» على الموضوعات جميعها، الرفيعة منها أو الدنيئة، في لغة تسمح بولوج مباشر وباستعمال لغة فرنسية أو حتى لهجة غاسكونية، لما هو بصدد الحكم عليه، سواء أكان الأمر متعلقًا بالموقف الذي ينبغي اتخاذه إزاء الموتّ أم الكيفية التي ينبغي وفقها تنظيف الأسنان … ليست مهمة التربية أن تشحن المرء بالمعارف، الأمر الذي لا يعمل إلا على تشجيع تفاهة عقيمة. بل عليها أن تمكّن من الارتقاء بالحسّ الأخلاقي والحسّ العملي والحسّ النّقدي. إنها لا تستهدف العلم (الذي ينظر إليه مونتيني على أنه «عبء»)، وإنما الحياة السّعيدة الحرّة والفاضلة.

لبلوغ حرية إصدار الأحكام، لا يمكن للتّلميذ أن يكتفي بدراسة التاريخ والفلسفة القديمين. عليه أن يتخطّى الإحباط الذي تثقل كاهله به الحظوة التي تتمتع بها «النفوس العظيمة» للماضي. إن السبب الرئيس لتفوّق القدماء هو أن «تواريخهم» وأعمالهم الفكرية بصفة عامة، غالبًا ما كانت قد كتبت من طرف «أولئك الذين يديرون الشؤون، أو الذين كانوا من المساهمين في تسييرها، أو، على الأقل، الذين حالفهم الحظّ أن يديروا أخرى من النّوع نفسه»[2]. وهذه ليست حال المحدثين كما يلاحظ مونتيني متحسّرًا. فهل حُكم علينا بالرّداءة ما إن غادرنا وضعية سياسية وأخلاقية كانت فيها الكلمات لا تنفصل عن الأفعال، حيث كان الكلام الطيّب لا ينفصل عن الأعمال العظيمة، فكان مرهونًا بها؟ في هذه النقطة بالضّبط يقوم مونتيني بانقلاب حاسم. ففي البداية يفصح عن انشغاله بإعطاء العظماء المعاصرين له حقّهم، والتّنبيه «لأكثر الناس نبلًا» من الذين عرفهم، مشيرًا إلى أنه من بين الشعراء فإن رونسار Ronsard ويوهاشيم دوبلايJoachim du Bellay ، على الأقل في بعض أعمالهما الشّعرية، «ليسا بعيدين عن الإتقان القديم»[3]. لكنه ينبّه، على الخصوص، أن «حياة مكتملة» لا تتطلب «الأعمال العظيمة» ليوليوس قيصر أو اكسانوفون: «إننا نربط الفلسفة الأخلاقية بحياة شعبية خاصة مثلما نربطها بحياة من مستوى أكثر غنى: كل إنسان يحمل الشكل المكتمل للوضعية البشرية»[4]. لا يعني هذا أن النّاس جميعَهم متساوون، وأن كل الحيوات مُشرّفة، وإنّما، بالأحرى أنّ كل حياة، إذا ما عيشت ونُظر إليها كما ينبغي، تتيح الفرصة وتوفّر المادة لممارسة قدرات التّمييز وإصدار الأحكام بكل أصنافها.

[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]

* بيير مانان  P. Manentفيلسوف فرنسي، من مؤلفاته: مونتيني، الحياة من غير خضوع لقانون، فلاماريان، 2014

Les grandes Dossiers des sciences humaines N45

[1] Montaigne, Essais, L1, ch26

[2] Montaigne, Essais, L2, ch10

[3] Montaigne, Essais, L2, ch17

[4] Montaigne, Essais, L2, ch2

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى