- أناشيد الحنين الأبديّ
الأوذيسة نشيد عن العودة، وتتحدث عن عودة أوديسيوس لمدينته إيثاكا بعد انتهائه من حرب طروادة التي استمرت عشر سنوات والتي تناولها هوميروس في الإلياذة، ملحمته الأولى. تتحدث الأوذيسة عن أسفار أوديسيوس من بعد خروجه من طروادة حتى وصوله لمملكته إيثاكا. يتعرض البطل خلال هذه الأسفار إلى عدّة مِحَن، أهمها: سجنه في جزيرة الحورية كاليبسو، وقتاله مع العملاق بوليفيمس، ونزوله إلى العالم السفلي ولقاؤه مع الموتى من رفاقه في الحرب الطروادية، ثم وصوله أخيرًا إلى إيثاكا ومواجهة خاطبي زوجته بينلوبي. ما يميّز الأوذيسة عن الإلياذة هي تناولها لشخصية رئيسية في قصة لها بداية ونهاية، بالإضافة إلى جعل النسيج الاجتماعي للمجتمع الإغريقي رهينًا للسرد. تبتدأ الأوذيسة على عادة الملاحم القديمة من منتصف الأحداث، وبالتحديد، بعد سبع سنوات من نهاية الحرب الطروادية أو عندما كان أوديسيوس حبيسًا عند كاليبسو. نتيجةً لهذا، تذهب أثينا لتخبر والدها بسجنه، ثم تُلهم تليماخس ابن أوديسيوس الوحيد ليسأل رفاق أبيه في الحرب عما حلّ بوالده. تتحدث الأناشيد الأربعة الأولى عن قصة تليماخس مع المحاربين، وقصة أوديسيوس في بقيّة القصيدة. يسترجع البطل مملكته وزوجته في نهاية القصيدة بعد قتله لخاطِبيها.
- صراع الواقع والأسطورة
عندما كان هوميروس الأعمى يغنّي حرب طروادة ومصرع أبطالها، وأسفار أوديسيوس وما جرى له حتى عاد لمملكته ومنزله؛ لم يكن يحكي محض قصة خياليّة حدثت وانتهت من دون أن يقرّبها للأفهام ويجعلها واقعيةً كنصٍ تأسيسي للأجيال التي ستأتي من بعده. إنّ السمة المعروفة في الشعر الملحمي هو حضور الآلهة وتأثيرهم على النص وأحداث القصّة بشكل مباشر، من دون أن تملك الشخصيات الرئيسية أي نوع من التأثير على أقدارها الخاصّة. هذا صحيح؛ إن كنّا نتلقى النصوص القديمة كأساطير فقط من دون نقد أو تحليل أو فهم للظواهر التي تحدث فيها. هذا يقودنا إلى أن نأخذ بكلام الشاعر، أو صانع الأسطورة، على أن ما يشير إليه حقيقي بالنسبة له ولكنه يبقى بلا معنى بالنسبة لنا. لكننا نتناسى كونهُ بشرًا مثلنا، يبحث عن الحقيقة في جميع الأشياء، ويحاول أن يتصوّر عالمًا يستطيع أن يضع فيهِ الظواهر وينمّطها حسب منطقٍ خاصٍ به. لا أعني بالظاهرة الحدث الطبيعي كالبرق والرياح فقط، بل إنها تتجاوز الطبيعة وتضمّ الإنسان كمحور أساسي يثير التساؤل في محوريته في هذا العالم. هذا ما كان يفعله هوميروس في الإلياذة والأوذيسة، ولكنه لم يخلق عالمًا تكون فيه الآلهة حاكمة على كل حدث أو ظاهرة من دون أن يربطها بعالمنا الواقعي. لقد استخدم هوميروس تشبيهات مُستقاة من الواقع ليُعطي مستمعيه وقرّاء ملحمتَيه شعورًا عاطفيًا ليتصلوا بالحدث الحالي ويفهموا: لماذا كان الحدث بهذه الصورة وليس بتلك. لكنه لم يستطع أن يكتب؛ لأن الكتابة كانت أداة حديثة بالنسبة للإغريق. فعل الكتابة وحده مشير إلى واقعيّة شخص ما، بأنه كان يفكر ويركب منطقًا يستطيع القارئ تفسيره كما يحلو له، ولكن لغة الشعر والملاحم كانت لغة شفوية ولم تكن الكتابة أداةً للأدب بعد.لو كانت الكتابة متاحة لهوميروس لاستطاع بأن يوصّف واقعه وواقعيّته كما يشاء، ولكنه كان ينشد ويستعين بحواسه الخمس وبصيرته وملاحظاته في خلق عالمٍ حي طبيعي، مفسّرًا الظواهر في كلتا ملحمتيه عن طريق تسليط الضوء على ظاهرة معيّنة أو حدثٍ مفصليٍّ، وترك باقي الأحداث متخفية عن الادراك.
- ما بين الغضب والحنين
ما يميّز هوميروس كشاعر اتّصاله بالمشاعر الإنسانية، سواء كانت إيجابية كالحنين، أو سلبية كالغضب. فلا ننسى أن أول كلمة في الإلياذة هي لفظة “غضب” باليونانية. وهذا بالأساس ما ميّزه كصانع أسطورة بإبداعه هذه المشاعر نفسها للبانثيون[1] الإغريقي. إن الحنين إلى الوطن شعور واقعي يحسّه أي إنسان افترق عن وطنه لأي سبب من الأسباب. سيعرف أي قارئ للأوذيسة اشتياق بطلها لمدينته وتكراره لاسمها في مواطن متفرقة. لنرجع إلى بداية الأوذيسة لنرى أين يتجلّى الشعور بالحنين. يبدأ هوميروس قصيدته بالتكلم عن سجن أوديسيوس في جزيرة الحوريّة كاليبسو بعد انقضاء سبع سنوات على نهاية الحرب. لكنه لا يبدأ من نهاية حرب طروادة، بل من منتصف الأحداث، كأنه يؤسس لأمر ما، فيقول بأن ما يُعرف بهِ أوديسيوس رجلٌ “كثير الحِيَل”[2]، وهي مقدمة لأسلوب هوميروس الواقعي في التعريف عن شخصياته، فبصفة واقعية يُعرف شخص معين. إن أول شعور وسمه هوميروس في بطله شعوره بالحنين إلى مدينته. يعرض هوميروس في افتتاحية قصيدته سَجنَ أوديسيوس كحدث طبيعي متّسق مع واقعه المحيط. عندما نذهب إلى البحر وننظر إلى الأفق يتخللنا شعور بالبعد ورغبة في الوصول. نجد أوديسيوس سيقوم بالشيء نفسه بل ويشعر الشعور ذاته، فنراه جالسًا عند الشاطئ ينظر إلى الأفق ويحنّ إلى إيثاكا الحبيبة. أعاد كثير من الفنانين خلق هذا المشهد للإفصاح عن عدم انتماء أوديسيوس لهذا المكان. كان شعوره بالبعد عن مدينته وزوجته فائضًا، ويمكن للقارئ الشعور بكآبة أوديسيوس في هذه الأبيات من النشيد الخامس:
“فانطلقت الحورية الجليلة إلى أوديسيوس العظيم القلب، بعد أن علمت برسالة زوس، فوجدت أوديسيوس جالسًا على الشاطئ، يذرف الدموع من عينيه بلا انقطاع، وقد أخذت حياته الحلوة تذوي، إذ كان يتحرّق شوقًا للرجوع إلى وطنه…”[3]
وهذا الشعور يتعارض مع الشعور الذي شعر به بعد نهاية الحرب، أو بالأحرى بداية الأحداث الفعليّة. لقد خرج أوديسيوس منها منتصرًا، ولكن القدر جعله يتغرّب وصولًا إلى هذه النقطة. يقطع هوميروس دورانيّة الأحداث في حديثه عن جزيرة كاليبسو، فمن المنطقي أن أوديسيوس لن يظل حبيسًا لها إلى الأبد، بعد تحرك أثينا مخبرةً أباها بضرورة رجوع أوديسيوس إلى وطنه. يجب على البطل الرجوع إلى نقطة البداية، هذا ما تعلمناه مرارًا وتكرارًا فيما نقرأه في الأدب والملاحم القديمة، أو حتما نشاهده في السينما. استطاع هوميروس بحديثه أن يعطي تفسيرًا لانكسار هذه الدورانية في الأحداث، فوجوده جليّ في ملحمته وقوله بأن إلهة أرادت كسر هذه الدائرة، مشيرٌ جيد لتفسير إرادة أوديسيوس الداخليّة للعودة إلى منزله. يعود البطل في نهاية القصيدة إلى إيثاكا ولكن يتضمن هذا الوصول مقدمة تضفي إلى ما سوف يحدث مستقبلًا في لقاء أوديسيوس مع مربّيته.
إن تغيّر الواقع الحاضر يصحبه جهل، حتى وإن كان -في مضمونه- هو هو. فعندما يصل أوديسيوس إلى جزيرته، تحجب أثينا عنه الرؤية مبدّلةً ملامح الجزيرة حتى أنه لم يعد يعرفها. فكما لا يستطيع الإنسان تفسير ما حوله، إن كان “حوله” محجوبًا، لا يستطيع هوميروس أيضًا تفسير الظواهر الطبيعة إلا بأنسنة الواقع. على سبيل المثال، إن رحلة البحث عن الحقيقة وعن تفسيرات لظواهر معيّنة تمثلت في شخصية تليماخوس، ابن أوديسيوس الوحيد، عندما أراد البحث عن أبيه. من المنطقي بالنسبة له هو سؤال المحاربين الراجعين من الحرب عن والده. يرسم الشاعر هنا حدودًا واقعيّة لأحداث الملحمة، وفيها يصف تليماخوس رحلة بحثه عن والده بفعل مضارع: “أنا أريد…”، “تتملكني الدهشة…”، “إنني أتوسّل إليك…”. إن استخدام الفعل المضارع عند هوميروس في حدثٍ ماضٍ يخلق فصلًا معينًا بين ما يحدث الآن (البحث عن الحقيقة)، والذي لا يحدث (ما عداها)، ما إن ينتهِ هوميروس من فعله المضارع حتى يرجع إلى حدثه الماضي، وهي قصة أوديسيوس (سجن كاليبسو)، فيصبح مضارعًا وهكذا. يدور سرد هوميروس بوصف الحدث (أ) ثم الانتقال إلى حدث (ب) والفصل بين الأحداث فصلًا تامًا، فلا نجد نوعًا من التفاعل بينها، وكأن هوميروس أثناء نشيده نسيَ ما كان ينشده تمامًا.
يلتقي تليماخوس بمحاربَين: نسطور ومنيلاوس. يرحب كلا المحاربين به وينشداه أغنية عودتهما إلى وطنيهما. يبتدئ هنا الماضي بالتشكّل ليصبح مضارعًا، وسيصبح هذا الحدث الماضي هو الحاضرَ الوحيد لدى هوميروس ومُتَلَقِّيه، سواء كانوا قرّاءً أم مستمعين. لم يكن يعرف هوميروس أي خلفيّة قصصية (فلاشباك)، بل لم يكن يعرف ما هي الخلفية القصصية. لقد كانت الأوذيسة باختلاف أحداثها خلفيّته القصصية الوحيدة، فكأنها عدد لا متناهٍ من الأوذيسات تنتظر الشاعر يلقي عليها الضوء فقط وينشدها[4].تفصل رغبة تليماخوس -في البحث عن إجابات- عن الحدث الورائي وهو زيارة المحاربَين، وقد تبدو إشارتي بديهية فيما يتعلّق بالارتجاع الفنّي (الفلاشباك) لدى هوميروس ولكنه هو الذي جعلها بديهية أصلًا، فلقد كانت الملاحم شفوية ولم تكن -كما الآن- مطبوعة على ورق، فلم يكن هناك تفاعل بين نص وآخر، بل كان هناك ما سمعه الحاضرين فقط.
- الندبة ذريعة وهوية
يدخل أوديسيوس-في النصف الثاني من الأوذيسة- مدينته متسولًا. لن يكون بمقدور الناس التعرّف عليه؛ لاختلاف هيئته الملكيّة. يستخدم هوميروس الفعل المضارع مجددًا، ولكن لوصف أوديسيوس وأفعاله داخل المدينة، محوّلًا الأوذيسة -في تلك اللحظة- من نص يحكي أسفار أوديسيوس الماضيَة إلى نص يتتبعه القارئ كلمة كلمة. لا يزال كل من زوجته ووطنه وابنه ومربيته باقين على واقعهم مع ثبوت القصة، ما لم يمثّل هوميروس الواقع في أوذيسته ويكون حاضرًا بنفسه داخل شعره، كما فعل مع أوديسيوس في سجن كاليبسو، ومع تليماخوس عند سؤاله عن أبيه. إنّ تدخل هوميروس في الملحمة ضروري، لكسر دورانيّة الأحداث وجعلها كأحداث الحياة اليوميّة الواقعية التي يعيشها كل إنسان ليستمر في سرد القصة.
ثمّ يدخل أوديسيوس فقيرًا غريبًا في بيته، طالبًا إحسان زوجته التي لم تتعرف عليه، فيرى كلبه أرغوس الذي أصبح خاملًا وكبيرًا منتظرًا لقاء سيده ليستطيع الموت. يراه كلبه ويتعرّف عليه ويقوم نشيطًا وكأنما تقدم العشرين سنة الفائتة التي غاب فيها أوديسيوس ومن ثم يموت على مرأى سيّده. يقدّم هوميروس الموت هنا كمؤشرٍ على حدوث تغيير داخل القصيدة كما حدث أيضًا في سجن كاليبسو.
لكن إبداع هوميروس يتجلّى في مشهد يحدث في النشيد التاسع عشر، عندما يلتقي أوديسيوس المتسول مربيته العجوز. يخلق هوميروس المشهد بجعل المربية يوريكليا تغسل قدمي الضيف، وهذا فعل واقعي يحدث لأي شخص عاد من سفر بعيد. يكرم اليونانيون الضيف لاعتقادهم بأنه من المحتمل أن يكون إلهًا قد نزل من جبل إيذا متنكرًا بهيئة بشر. ينقل هوميروس صورة المربيّة وهي تخلط الماء البارد والساخن في إناء، وبغمسها قدمي الضيف فيه. تقع عينَي المربيّة على فخذ أوديسيوس وتتعرف على ندبة أُصيب سيّدها بها عندما كان فتىً في رحلة صيد خنزير بري مع أقاربه. سيتحمّس أي قارئ بهذا اللقاء وسيريد معرفة ما سيحدث بعد هذه الملاحظة، لكن هوميروس لا يفعل هذا. يتعمد هوميروس نسيان الحدث ويدخل في ماضي الندبة ويجعله واقع النشيد الوحيد، مسترسلا بذلك إلى ذروة الأحداث[5].
“أخذت العجوز إناءً مسوّما تستخدمه لغسل الأقدام، فصبّت فيه ماء باردًا منعشا قبل أن تخلطه بماء حار. كان يجلس أوديسيوس حينها وجسده يسبح في ضوء النار… وعندما لمسته -المربية- كشفت عن ندبته. الآن ستنجلي كل الحقيقة. ثم اقتربت وبدأت بغسل سيدها وفي لحظة عرفت هذه الندبة -هذا الجرح القديم الذي أصيب به أوديسيوس من ناب خنزير أبيض عندما ذهب إلى بارناسوس…”[6]فكما قلت، لا يتكلّم هوميروس مباشرةً عن ردة فعل المربيّة، بل عن الحدث الذي خلق هذه الندبة.
ينقلنا هوميروس إلى أوديسيوس الفتى عندما زار جده وكيف جاءت ندبته عندما هاجمه خنزير بري أراد اصطياده وبطريقة تتبعه لآثار الخنزير وبهجوم الخنزير عليه وجرحه في فخذه وفي النهاية صيده لهذا الوحش. إن النُدبة هنا شيء من إبداع هوميروس وحده ممثلًا الواقع والأشخاص بصفة معيّنة تميزهم عن غيرهم، سواء كانت خَلقية أم خُلقية[7]. أخذ هوميروس جرحًا صغيرًا وأعطاه واقعًا وبُعدًا حقيقيين، لتصبح الندبة خاصة بأوديسيوس وحده. لا يمكن لهوميروس البقاء في قصة ندبة أوديسيوس للأبد فيعيدنا للمربية بعدما تعرّفت إلى أوديسيوس من خلال ندبته بتركها لقدمي الضيف وهي في حالة ذهول تاركة مياه الإناء تنسكب على الأرض.
“تلك الندبة! عندما كانت تعتني المربية القديمة بساقيّ الضيف عرفتها، شعرت بها. وفجأة أوقعت قدمه في الإناء فقعقع النحاس وانقلب وانسكب الماء على الأرض. تملّكت السعادة والفرحى قلبها. سقطت الدموع من عينيها. انحبس الصوت في فاهها. اقتربت إلى وجه أوديسيوس وهمست بسرعة «نعم! نعم! إنك أوديسيوس -يا طفلي العزيز- لم أعرفك حتى لمست جسم سيّدي.»”[8]
تغيب الندبة عن النص، ولا يذكر هوميروس هذا المشهد في الأوذيسة مجددًا. إن الندبة شيء حقيقي و واقعي، فمحاولة هوميروس التي تبدو بدائية لنا من المحاولات الأولى في أخذ العناصر الواقعيّة التي تتواجد في محيط الشاعر وتمثيلها في الأدب. -لنأخذ مثالًا حديثًا، لمن قرأ سلسلة هاري بوتر أو شاهد أفلامه يعلم بأن لديه ندبة على جبينه وهي في مشهد من المشاهد ما يُعرف به هاري بوتر حتى لو تنكّر مع اعتبار أن عالم الكاتبة المتخيّل يتكلم عن السحر والتعويذات ولا شيء من موضوعه يمكنه الارتباط في عالمنا الواقعي ما عدا الندبة-.
- مهارة هوميروس في استلهام الواقع والخيال
يجب القول إن استخدام العنصر الإلهي في ملحمتَي هوميروس عبارة عن تفسير ذاتي لظاهرة تُشكل على الشاعر. على سبيل المثال، استنجاده بربّة الشعر والإلهام كاليوبي للإنشاد بقصائد ملحميّة، فلم يستطع تفسير الإلهام النابع من وَجْده إلا بربّة الشعر هذه.
لا تقتصر التوصيفات الواقعيّة لدى الشاعر على الأحداث البشريّة -مثل ندبة أوديسيوس- بل تشمل آلهة الأولمب أيضًا، فقبل أن يستحضر هوميروس إلهًا ما، يقول ما كان يفعل، أو من يحب ويكره، مكملًا بأوصاف جسديّة وأحاديث بينه وبين آلهة أخرى لا تكون إلا بين البشر. لهذا يمكننا القول أن صنّاع الأساطير يدينون إلى هوميروس أنسنته لآلهته، فزيوس الأب الآمر والناهي، وهيرا المرأة الغيور، وأبولون الشاب اليافع، وأثينا المرأة الحكيمة وهذا في الحقيقة تخليد إلى ملاحظة واقعية يوميّة.
على سبيل المثال، يصف هوميروس أثينا بـِ “ذات العينين النجلاوين”[9]. وأيضًا في وصف حركتها: “… ثم ربطت في قدميها صندليها الجميلين، الذهبيين، الخالدين، اللذين اعتادا أن يحملاها فوق مياه البحر، وفوق الأرض الشاسعة، في سرعة الريح”[10]. ولهذا يقول المفكر فينلي: «وبعد أن جعل هوميروس من الآلهة بشرًا، بدأ الإنسان يتعرّف على ذاته.»[11].
بعد أن نقرأ قصّة الندبة نرجع إلى المربية، وهي تهم بالصراخ من شدة الفرح بعودة سيدها، لكنه أقفل فاهها بيده اليمنى لئلّا تفضحه متوعّدًا فيها بالقتل إن فعلت ذلك. وهنا ينقل هوميروس تسلّط بطلٍ واستعماله العنف والتهديد مع المرأة التي ربّته وهو صغير كحالٍ تعيشه النساء آنذاك وتعاني فيه من الاضطهاد والتشيئ[12]. بالإضافة إلى الأوصاف المكانية، دائمًا يصوّر هوميروس الفجر بأنه ورديّ الأنامل، ولو فتحنا نوافذنا في بداية الفجر ونظرنا الأفق لاستطعنا رؤية هذه الأنامل الوردية.
صحيح أن هوميروس يعمد إلى التكرار لئلا يملّ مستمعيه وألا ينسوا ما حدث ولكن سرده المنطقي يتجدّد كل حين. لم يستعمل هوميروس الندبة لكشف هويّة أوديسيوس لزوجته، بل تطلّب ذلك استعمال أداة سردية أخرى وهي معرفة الشخصيّة بمعلومة سريّة أو بما سمّته بينلوبي “سر الزواج” ولم تتأكد من هويته إلا من بعد أن قال لها هذا السر وهو صنعه لسريرهما الزوجي من أغصان زيتونةٍ بيدَيه. لم يتطلب تطمينها قصة من أسفاره الخياليّة، أو ثناءً على إلهة نزلت من السماء لتعينه، بل تطلب شيئًا واقعيًا، وكأن بينلوبي رمزية لنا (القراء والمستمعون) وأوديسيوس هوميروس نفسه (الشاعر)، فنحن بحاجة إلى شيء واقعي ما بين الحين والآخر لتطمئنّ قلوبنا.
- امتدادات التحفة الأبدية
يعد تمثيل الواقع في قصائد هوميروس إحدى محاولات الإنسان الأولى في الأدب للتعرف على ذاته: من حيث توصيف العلاقات التي تدور بين عالمنا الواقعي وعالمنا المكتوب. عندما أراد هوميروس تفسير ظاهرة معرفة المربية لسيدها لم يجعلها تسأله هل هو سيدها أم لا؛ لأن لا نفع في السؤال إذ لا أحد يعرف الإجابة. لكن هوميروس كان منشدًا ومن واجبه جعل شخصياته حقيقيةً في فضائه الأدبي بإعطائهم علامة تجعلهم معروفين. بالنسبة لأوديسيوس، فإن هوميروس دعّم هذا بإعطاء الندبة قصة وتاريخًا وظروفًا جعلتها واقعية ومؤثرة على الأحداث، بل وأنها تمكّن المستمعين والقراء التفاعل مع أحداث الملحمة. لقد تمكنت بصيرة هوميروس من توصيف واقعه والاستفادة منه في قلبِ قصيدتيه، فكانت العقلية الغربية متأثرة بهوميروس وشخصياته حتى صارت القصيدتين مثالًا لكمال الأدب الغربي في العالم القديم. لا عجب أن يحمل الإسكندر نسخةً من الإلياذة في كل مكان يذهب إليه، ومن شدّة إعجابه بها زيارته لقبر أخيليوس وبحثه الدؤوب عن هكطورٍ ينافسه؛ لأنه كان يعلم بأن الإلياذة والأوذيسة واقع وأن كل شخصيات هوميروس تمثّلات لنا، فنحن غضب أخيليوس، وحنين أوديسيوس، وعشق هيلينا، وشجاعة هكطور، وحزن بينلوبي. مَن غير هوميروس يحمّسنا في تصويره للحرب والمجد ومن ثم يقطع الموقف بالتكلم عن فتاةٍ جميلة تشير إلى المحاربين لتعلّم ملكًا عجوزًا عن أسماء من سيُحِيلونَ مدينته الحصينة إلى رماد؟
وفي عصرنا الحديث هناك امتدادات للملحمتين في الأدب والفكر والفنون الجميلة وإذا كان تمثلها المعاصر قد نجح في بعض النتاجات الادبية إلا أنه أخفق في السينما لأن قصور فهم دلالات هوميروس وحضوره في نصّه والحاجة في ذلك أدّى إلى صنع أفلام فقيرة، مثل (Troy (2004، والتي تدور أحداثه في إطار أُحادي، معالجًا القصيدتين، على أنهما مجموعتان من الأحكام المقولبة في نص غابر، وكأن هوميروس ليس له وجود أصلًا. أحكامٌ مقولبة كرغبة أخيل في القتال على أنها رغبة في الخلود فقط. علينا أن ننظر إلى معالجة المخرج للواقع الهومري[13] لفهم افتقار الفيلم. ينظر المخرج إلى كون المجد يعني بالضرورة الشرف أو حتى الخلود، بالإضافة إلى تفسيره للأحداث على أنها معروفة ومفهومة مسبقًا وليس كونها واحدة من محاولات الإنسان القديم في فهم عالمه المحيط.لا ألوم التفاسير الحديثة على إنتاج هذا الفيلم ولا أقول بعدم وجود شخص يفهم هوميروس، بل على العكس. على سبيل المثال، الكاتب الأرجنتيني بورخيس فهم هوميروس فهمًا حقيقيًا، حتى أنه وضعه شخصية في واحدة من قصصه ووصّفه بأوصاف السلام والسكينة ووهبه خلودًا حقيقيًا حاضرًا، ليس في ألسن البشر وحسب، بل في التاريخ كلّه.
[1]مجموعة آلهة رئيسية لديانة معيّنة
[2]أمين سلامة، أوديسة هوميروس (1960)
[3]أمين سلامة، أوديسة هوميروس (1960)
[4] Calvino, I. (2009). Why Read the Classics? London: Penguin Classics.
[5] Auerbach, Erich. Mimesis: The Representation of Reality in Western Literature. Fiftieth Anniversary Ed. Trans. Willard Trask. Princeton: Princeton University Press, 2003.
[6]ترجمتُ هذا المقطع من ترجمة روبيرت فاگـلز عن الإنگـليزية لعدم توفر ترجمة أمين سلامة
[7]Auerbach, Erich. Mimesis: The Representation of Reality in Western Literature. Fiftieth Anniversary Ed. Trans. Willard Trask. Princeton: Princeton University Press, 2003.
[8]ترجمتُ هذا المقطع من ترجمة روبيرت فاگـلز عن الإنگـليزية لعدم توفر ترجمة أمين سلامة
[9]أمين سلامة، أوديسة هوميروس (1960)
[10]أمين سلامة، أوديسة هوميروس (1960)
[11]فينلي، م. اي. (1954). عالم أوديسيوس. المركز القومي للترجمة.
[12] Lerner, G. (1986). The creation of patriarchy. New York: Oxford University Press.
[13]نسبة إلى هوميروس: (1100 – 750) قبل الميلاد، وتسمى أيضًا بالعصور المظلمة اليونانية