«ستار تريك» مسلسل تلفزوني، وسلسلة أفلام مشهورة حول سفينة فضائية يموت ركابها انتحارًا بين فترة وأخرى. إذ اعتاد طاقم سفينة «ستارشيب إنتربرايز» الدخول إلى آلة تفككهم، وتعيد بناء نسخة مطابقة تمامًا لأحد أعضاء الطاقم الميّت في كوكب آخر. ويعيش هذا الدخيل بعد ذلك مغامرات قبل أن يفكك نفسه في الآلة، وتحل محّله نسخة مطابقة أخرى في السفينة.
مما يثير الرعب أنَّ أفراد الطاقم لا يدركون أي شيء حتى ما يفعلونه؛ إذْ يظن المساكين أنهم يسافرون؛ بل ويسمّون آلة الموت هذه «ناقل». لو أنَّ اتحاد الكواكب الفيدرالي وظّف بضعة فلاسفة لصححوا غلطهم، ولكن كما سنرى أدناه، ربما لن يساعد ذلك في حل الإشكال.
في نظر منتجي «ستار تريك»، بدأ «الانتقال الآني» كطريقة ذكية لتوفير المال، وذلك بتفادي الحاجة إلى تصوير لقطات باهظة الثمن لهبوط السفن الفضائية على الكواكب. كما أنَّ الحوادث الناتجة من «الناقل»، وما حملته من نتائج غريبة ومأساة في بعض الأحيان، كانت أداة متكررة لسرد القصة. وفيما يخص الفلاسفة، قد طرح «الناقل» سؤالًا مذهلًا – وإنْ كان كئيبًا -: ما الذي يجعل الشخص الذي نُقل إلى الكوكب البعيد هو أيضًا عضو طاقم السفينة الذي دخل إلى «الناقل»؟
إنْ تعجب فالعجب أنَّ الفلاسفة المتخصصين في مسألة الهوية الشخصية بدأوا باستعمال سيناريوهات الخيال العلمي هذه لاستكشاف طبيعة الهوية الشخصية قبل زمن بعيد من وجود شيء اسمه خيال علمي؛ فقد ناقش جون لوك قصة تبدّل جسد الإسكافي والأمير تبدُّلًا سحريًا، وذلك قبل زهاء ثلاثمئة عام من بدء فيلم «الجمعة الفظيعة» (1976م) وعلاقة هوليوود مع نوعية أفلام تبدّل الجسد الكوميدية. وفي القرن الثامن عشر، تخيّل الفيلسوف الإسكوتلاندي توماس ريد أنَّ دماغه يُعاد تركيبه، ويعاد إلى الحياة بعد قرون من موته؛ فيما يشبه الانتقال الحالي المتأخر زمنيًا.
لم يُبين مسلسل «ستار تريك» حقًا كيفية عمل نسخته من الانتقال الآني، هل ينقل معلومات عن الشخص عبر الفضاء؟ أم أنه ينقل ذراته بطريقةٍ ما؟ يبدو الخيار الثاني مستبعدًا؛ إذْ لا وجود لتتابع جسدي يجمع بين كيرك في السفينة الفضائية وكيرك الذي قذفه سكوتي إلى حيث ألقى. إنّ المنتقل الآني ليس كالمزهرية التي تتحطم ثم تُلصَق من جديد؛ بل هو أشبه بنسخة مطابقة دقيقة مبنية على صورة للمزهرية اُلتقِطت قبل تحطمها بثوانٍ معدودة.
لكن ماذا لو قلنا: إنَّ الاحتفاظ بهوية شخصية يتعلّق بوجود الذهن نفسه في زمنين مختلفين، ولا يتعلق بوجود الجسد نفسه؟ -كما يقول بذلك لوك، وتفترضه جميع الأفلام المبنية على حبكة تبدّل الأجساد؟- فحجة لوك في تسعينات القرن السابع عشر، وقصة فلم «الجمعة الفظيعة»، تقومان على حدس شائع مفاده أنه لو افترق الجسد عن الذهن بوجه ما؛ فالهوية سترافق الذهن، وليس الجسد. إذا سلمنا بما يقوله لوك في كون الاستمرارية النفسية تجعلنا الشخص نفسه باختلاف الأزمان؛ فلعلنا نعتقد أنَّ الانتقال الآني عمليةٌ أنيقة في الانتقال من النقطة أ إلى النقطة ب؛ إذ الشخص الذي يظهر في الطرف الثاني من عملية الانتقال يتمتع بجميع الخصائص النفسية التي يتمتع بها الشخص المتفكك حتى ذاكرته لحظة دخوله في جهاز النقل الآني، والضغط على زر «انطلق».
لكن ليس بهذه السرعة؛ إذ يطلب منا الفيلسوف الإنجليزي ديريك بارفيت أن نتخيل سيناريو يتعطل فيه الناقل الذي “ينقلك” من الأرض إلى المريخ في أحد طرفي العملية؛ حيث يصنع نسخة منك في المريخ، ولكنه لا يفَكك ذراتك في الأرض. وعليه، فَثَمَّ شخص مطابق لك تمامًا في المريخ، لكن هذا الشخص لا يمكن أن يكون أنت؛ لأنك ما زلت هنا في الأرض، ثم نقوم بـمحادثة غير معتادة مع نسختك المريخية عبر ناقل فيديو. لكن كيف تقوم هوية ذلك الشخص في المريخ على تفكك ذراتك وهي لم تفكك بعد؟ الهوية لا تعمل إلا حين يموت شخص آخر، مثل الملك؛ أيْ، لن تنال اللقب إلا حين يموت الملك السابق؛ فأنت أنت، بصرف النظر عمن صادف أن كان حيًا حينها. أي، إنْ لم يكن الشخص في المريخ هو أنت عندما تعطّل الناقل؛ فكذلك لن تكون أنت الشخص في المريخ لو اشتغل الناقل دون عطل. فأنت لم تقرّب من المريخ، بل شخص آخر مطابق لك تمامًا أطلق رجليه للريح في المريخ؛ أما أنت، فقد مُتْ.
رغم ذلك، لو تبين أنَّ الانتقال الآني على هذا النحو ممكنٌ في الواقع، أكان ذلك سيغيّر من الأمر شيئًا؟ لو أصبح التنقل الآني جزءًا من حياتنا اليومية، فهل سنعده وسيلةَ سفر معتادة، وليس موتًا؟ يظن بعض الفلاسفة ذلك؛ فنحن عادةً نتعقّب هوية الأشخاص كل يوم، دون أن نلتفت للفلسفة؛ حيث نحيّي أصدقاء قدامى، ونحتفل بأيام الميلاد، ونطارد المديونين، ونشير إلى المجرمين في صف الأشخاص المشتبه بهم، ونفي بالوعود؛ ولا تتطلب أيًّا من هذه الممارسات أن يكون لدينا نظرية مُفصّلة للهوية الشخصية. ولما كان الأمر كذلك، سواء اعتبرنا الانتقال الآني موتًا أو نقلًا؛ فقد يتعلّق ذلك بدواعٍ عملية أكثر من دواعٍ نظرية.
هاك قصة خيال علمي أخرى: تم تحميل ذهن شخص ما على الحاسوب. قد يبدو ذلك خيالًا، لكنه لم يمنع جماعات مختلفة من تحقيقه على أرض الواقع. يرى بعض أنصار ما بعد الإنسانية – وهي حركة كرّست نفسها لتجاوز الحدود البيولوجية للبشر عبر التقنية – أنه قد يكون تحميل الأذهان سبيلًا في هزيمة الموت نفسه.
من عدد (الهوية) لمجلة (الفيلسوف الجديد) حسب اتفاقية ترجمة خاصة لمؤسسة معنى.