في مقولة «معنى الحياة»، يُفكِّر الناس غالبًا بـ«الغاية» عندما يُشيرون إلى «المعنى». والسؤال الحقيقيّ الذي يسأله الناس هو في الحقيقة: «ما غاية الحياة؟».
الأشياء التي لها غاية هي غالبًا أشياء خُلِقَت لهذه الغاية، كالأدوات التي يصنعها الإنسان. ويمكن للمرء أن يعقد مقارنةً بين الحياة والأدوات: غاية أداة ما توجد في أثناء أو قبل صنعها. شوكة الحديقة صُنِعَت لمساعدة البستاني في الحرث، والحنفية صُنِعَت للتحكُّم بتدفُّق الماء، وهكذا. صانع الأداة ومُستخدمها يعرفان غرضها، والاستخدام الصحيح لها ينظر له من خلال غاية الصانع. ولكن يمكن استخدام الأداة استخدامًا مختلفًا، يمكن أن تستخدم الحنفية كخُطَّاف تُعلَّق عليه الأشياء، وشوكة الحديقة يمكن أن تكون في يدَيْ قاتل مختلّ سلاحًا شنيعًا. لذا فإن «غايةَ» أداة ما تعني شيئين: استخدامها المقصود في أثناء مرحلة التصميم والخلق، واستخدامها في مرحلة الاستخدام. والاستخدام الأخير يمكن وصفه أيضًا على أنه سوء استخدام.
في هذه الأمثلة، نرى غاية الشيء على أنها الغاية المقصودة والواعية للمُصمِّم أو المستخدم. والسؤال هو ما إذا كانت هذه المقارنات تنطبق على حياتنا. هل حياتنا «أُعطيَت لنا» لتُستخدَم على النحو «الصحيح» في ضوء تعليمات الصانع، إن صحَّ القول؟ أم يمكننا أن نخلق غايتنا في «مرحلة الاستخدام»، أي في أثناء عيشنا حياتنا؟ مشكلة أخرى هي ما إذا كان لنا أن نُطبِّق لغة التعامل مع الأدوات والتصاميم على موضوع مختلف تمامًا، ألا وهو الحياة البشرية. هل نستخدم هذه المفاهيم استخدامًا خاطئًا؟ وأهمُّ من كل هذا، هل في تشبيه الحياة بالأدوات نفترض أننا نحاول إثبات أن للحياة «استخدامًا» ما، أيْ معنى؟ وإن أخذنا تشبيه الحياة حرفيًّا، هل نفترض وجود مُصمِّم بالضرورة؟ التشبيه قد ينتهي إلى أن يكون برهانًا دائريًّا على وجود الإله -«الحياة مصممة لغاية، إذن لا بدّ من وجود مُصمِّم»- ولكنَّ البراهين الدائرية لا تُثبت شيئًا، إذ إنها تفترض ما تحاول البرهنة عليه. لربما علينا أن نستخدم تشبيهًا مختلفًا.
الغاية الطبيعية
الأعضاء، من ناحية بيولوجية، توصف أيضًا من حيث غايتها، على الرغم من أننا أحيانًا نستخدم كلمة «الوظيفة»؛ كوظيفة العين أو الكبد. كذلك نتحدّث على نحو مشابه عندما نشير إلى الصِّلات بين النباتات والحيوانات، فنحن نقول: إن غاية النحل هي تلقيح الزهور، أو: إن غاية بعض أنواع البكتيريا هي مساعدة المادّة الميتة على التحلُّل، وهكذا. لقد كان المُشرِّح الإغريقي القديم جالينوس (129-200م) منبهرًا جدًّا بالحضور الكُلِّيّ للوظيفة أو الغاية في الطبيعة، إلى درجة اعتقاده أن هذا يُبرهن بصورةٍ ما على أن كل شيء يعمل وفقًا لخطّة كونيّة كبرى صممها الإله. وبالفعل، بقدوم العصور الوسطى في أوروبّا، انتشر هذ العزو إلى التصميم في المجتمع البشريّ، بحيث أن كل واحد رأى أن له مكانه المخصوص في النظام الاجتماعيّ، وأن لهذه المكانة قدسية لأنها من تصميم الإله. لذلك غاية الحياة للإنسان كانت تنطوي على قبولٍ للمنزلة (الوضيعة غالبًا) في المجتمع، مع وعد بجزاء أخرويّ في الجنة إن حقق البشر وظيفتهم المنوطة بهم.
ساهمت فكرة أنَّ كل ما في الطبيعة يتناغم في تفاعلٍ متبادلٍ في الوظائف والغايات، التي حدّدها المصمم العظيم، في «حجة التصميم» لإثبات وجود الإله. ولكن هذه الفكرة تلقَّت نكسةً كبرى عندما صاغ داروين فكرة التطوّر من خلال الاصطفاء الطبيعيّ في كتاب أصل الأنواع (1859) والنتيجة هي أن الأشياء في العالم الطبيعيّ لا تتناغم ولا تعمل معًا إلا لأنها إن لم تفعل لن تبقَى ولن تتكاثر. من هذا المنظورِ التصميمُ في الطبيعة وهمٌ من جهة انعدام المصمِّم؛ إذ لا توجد إلا عمليّة عمياء تُنتِج بالضرورة ظروفًا مؤاتيةً للكائنات الحية.
مع ذلك، ما زلنا نتحدَّث عن تصميم الكائنات الحية وعن أعضائها، والطريقة التي نفعل بها هذا تلقي ضوءًا مثيرًا بعض الشيء على الكيفية التي نتصوَّر بها الغاية، بما أن الطريقة التي ننظر بها إلى الغاية غالبًا ما تكون متصلة بأهمية مُتصوَّرة. على سبيل المثال، نقول: إن غاية النحلة هي تلقيح الزهرة، عندما تكون الزهرة هي اهتمامنا الرئيس. أما إن كنَّا مُربِّي نحل، فسنقول إن غاية النحلة هي إنتاج النحل لتغذية الخلية. هنا الغاية يمكن أن تُرَى بالنسبة للسياق الأكبر -حمل بذور الطلع إلى الأزهار أو إنتاج العسل للخلية- وتتصل باستغلال أو استخدام شيء لتحقيق غايات معينة. ولكن في الطبيعة ليس واضحًا من الذي يستخدم الآخر: هل الطائر الضئيل الذي يأكل القُرَاد من جلد وحيد القرن يستخدمه كبوفيه مفتوح كبير، أم أن وحيد القرن يستخدم الطائر وسيلةً للتخلُّص من القُرَاد المزعج؟ كلاهما يحتاج الآخر. لذا فالغاية نسبية، وتتصل بالأهمية النسبية للشيء أو الشخص. ومن ثَمَّ فوظيفة العيون هي أن تُمكِّن الكائن الحيّ من الرؤية، والعيون تخدم مصلحة شيء أهمّ منها: الكائن الحي.
لذلك، باستخدام هذه المماثلة، يمكننا أن نقول: إن لحياتنا غاية، وهي تتمثَّل في خدمة شيء أكبر مِنَّا. على سبيل المثال، غالبًا ما نشعر أنَّ علينا أن نخدم بلادنا في الحرب، بل ربّما علينا أيضًا أن نُضحِّي بحياتنا في سبيل الخير العامّ. ولكن خلافًا للأعضاء البيولوجية، نحن نملك الخيار: لنا أن نختار ما الذي نعدُّه أهمَّ منّا، أو قد نختار ما إذا كنا نريد أن نرى وجود شيء أهمّ منا.
الغاية باعتبارها هدفًا
غالبًا ما نفعل الأشياء لغاية ما، ولكن كلمة «غاية» هنا تعني «سبب» أو «هدف». نفعل (أ) لنحقق (ب): نُذاكر دروسنا لننجح في الامتحانات. لماذا نريد تحقيق (ب)؟ من أجل تحقيق (ج)، طبعًا. نريد النجاح في الامتحانات لنذهب إلى الجامعة. لماذا نريد تحقيق (ج)؟ لتحقيق (د) طبعًا، ثم (ه) و(و) و(ز)، وهكذا… نريد أن نلتحق بالجامعة لنحصل على شهادة مرموقة، فنحصل على وظيفة رفيعة…
التفكير على هذا النحو يقودنا إما إلى تسلسل لا نهائيّ، أو أن نتوقف عند نقطة ما ونقول: نريد تحقيق (ح) «لا لشيء سوى أننا نريده»، باعتباره غايةً بحدِّ ذاته. لماذا تريد شهادةً مرموقة؟ للحصول على وظيفة رفيعة. لماذا؟ المال. لماذا؟ لشراء الأشياء التي تريد. لماذا تريد الحصول على الأشياء التي تُريد؟ لأنك تُريدها. لماذا؟ يبدو من الغريب سؤال لماذا تُريد ما تُريد. نحن نريد الأشياء لنجعل أنفسنا سعداء، بطبيعة الحال. إذن يظهر أن الغاية النهائية، لجميع رغباتنا الثانوية، هي أن نصير سُعداء.
أهذه إذن غاية الحياة، السعادة؟ هنا لدينا غاية تخدم أغراضنا الخاصّة بدل أن تخدم شيئًا أهمّ منا. وهذا يجعل غاية الإنسان مُضمَّنة في الحاجات الإنسانيّة، لا باعتبارها جزءًا من خطّة شاملة. كل ما نفعله، وكل خياراتنا وتصرّفاتنا، تخدم غاية حياتنا: السعادة.
هذا يتصادم أيضًا مع الرؤية السابقة، من حيث إنه في هذا التحليل لا يمكننا أن نقول ما غاية الحياة بجملتها وإنما ما غاية أجزاء منها في سياقات مُعيَّنة. أيْ أنّ بمقدورنا القول: إن جميع رغباتنا وخياراتنا أداتية في جعلنا أسعد، ولكن ليس لهذا أثر على غاية الحياة بمجملها. وعندما نسأل: «ما غاية الحياة؟»، ألسنا نسأل عن غايتها كلها، وليس غاية أفعال معيّنة فيها؟ هذا السؤال تتزايد حدّته عندما نتذكَّر أن جميع أهدافنا وطموحاتنا ونجاحاتنا تنتهي معنا عند الموت.
ربما إذن نحن نخلط الأمور ونستخدم لغة البيولوجيا أو الأدوات لشيء -حياتنا- لا يُناسبها. لربما الأمر يشبه التحدّث عن أيام الأسبوع على أنها ألوان، أو التحدّث عن سرعة الجمال؛ كلام لا معنى له، وخطأ تصنيفي. وعلى نحو شبيه، قد يكون مما لا معنى له التحدث عن حيواتنا، أو عن الحياة بجملتها، كما لو أنها من نوع الأشياء التي يمكن أن يكون لها غاية. يبدو معقولًا أن نتساءل عن مغزى الحياة، ولكن قد يكون كالتساؤل عن توجُّه البلاستيك؟ البلاستيك ليس له توجُّه كما أن الحياة ليس لها مغزى. هكذا يمكن للغة أن تخدعنا، أو هكذا تقول الحجّة. وهذا من قبيل النقد الذي استخدمه لودفيغ فيتغنشتاين لتبيان كيف أن اللغة، إذا أُخرِجَت من استخدامها وسياقها المعتادَيْن تفقد معناها: لعبة اللغة متّصلة بغاية ووظيفة في جزئيَّات الحياة، ولا تنطبق على الحياة بمجملها.
مع أن هذه الحجّة تبدو منطقيّة، إلا أنها يفوتها أن هناك شعورًا قويًّا جدًّا أن سؤال «ما غاية الحياة؟» سؤالٌ حافل بالمعنى.
إذن… هل ثمة مغزى؟
النوع الأول من الغاية، الذي نظرنا فيه، ذلك الذي أصدره لنا مُصمِّم أو سلطة أخرى، سيكون ذلك النوع من الغاية التي تسبغ على حياتنا معنى، بما أنه مفروض عليها من خارجها. الدين والوطنيّة وشرف العائلة، أو أن تكون ذات نفعٍ للإله أو للمجتمع أو حتى لدولة توليتاريَّة، كلها يمكن أن تُرى على أنها غايات «فوقنا». وسيكون من المُطمئن أن تعرف أن هناك شيئًا تحققه حياتك بمجملها، وسيحوُّلنا هذا فعلًا إلى أدوات لمغزى أكبر منا. هنا المقارنة مع الأدوات بيِّنة. ولكن كونها فكرة جذّابة، لا يعني أنها صحيحة. كيف يمكن أن تُنقَد؟
- إن كنتَ لا تؤمِن بإله أو بدولة أو حاكم كُلّيّ القدرة، سيكون من الصعب رؤية كيف أن هذه الغاية المفروضة خارجيًّا يمكن أن تعمل علينا. لماذا يجب أن تقبل سلطة أي أحد في امتلاك غاية لحياتك؟
- الخضوع لسلطة أكبر ينطوي بعض الشيء على حرماننا من مسؤوليّة التفكير لأنفسنا في المسائل ذات الأهميّة الكبرى، كغايتنا في الحياة والقيم التي يجدر أن نعيش بها لتحقيق هذه الغاية. العديد من الفلاسفة (جون بول سارتر يأتي خصوصًا في البال) سيجادل أن هذا التنازل عن إرادتنا سيحرمنا من الصفة الإنسانيّة الأساسيّة لوجودنا؛ وهي أننا أحرار في الاختيار، ولا مفرَّ لنا من مسؤوليّة اختياراتنا.
- إن أكملنا هذه الغاية (إن حقّقناها) فمن حيث التعريف، لا تغدو لنا غاية. على سبيل المثال، شخصٌ يرى أن غاية حياته هي تحقيق الخلاص الأبديّ سيكون بلا غاية ما إن يحقّق هذا الهدف. هل الجنّة مملوءة بأناس بلا شعور بالغاية؟ علاوة على هذا، إن نظر المرء إلى مُجمَل حياته من خلال غايةٍ مُعطاةٍ وحقّقها، سيكفُّ أن يكون الشخص نفسه، من حيث إنَّ ما يعدُّه الهدف الأساسي لحياته لا يعود منطبقًا عليه. ويمكن القول إنه فقد هويّته الأساسيّة.
يمكننا أن نصوغ هذا القياس:
– إمّا أن غايتنا قابلة للتحقيق أو غير قابلة للتحقيق.
– إن كانت قابلة للتحقيق، فإننا لا نعود بعد تحقيقها نملك غايةً.
– ومن ثَمَّ فحياتنا ستكون عديمة الجدوى.
– إن لم تكن قابلة للتحقيق، فإن محاولتنا تحقيقها ستُمنى بالفشل، والاستمرار عقيم.
– إذن، في كلا الحالتين، حياتنا -في نهاية المطاف- عديمة الجدوى.
إحدى طرق تحاشي هذه الحجة هي في النظر إلى تحقيق الغاية على أنه ليس حدثًا بل عمليةً مستمرة. إن زعمنا أن غايتنا أن نكون لا أن نفعل، فلم نستطيع إنهاءها أو إكمالها أبدًا، ولذا سيكون عندك هذه الغاية دائمًا. على سبيل المثال، إن زعمنا أن غايتنا هي الحصول على أطفال يخلفوننا، فإنه من إن نحقق هذا لا يعود لنا غاية. أما إن زعمنا أن غايتنا هي أن نكون أخيارًا، فإن بمقدورنا أن نسعى في سبيل هذا دائمًا.
- إن كانت الطبيعة تستطيع أن تُسبِغ غايةً على البشر، فسيكون علينا أن نسأل في أيِّ سياق تعمل هذه الغاية؟ إن غاية النحلة تكون في سياق صنع النحل أو تلقيح الأزهار. هذه مسألة استخدام من منظور الإنسان. أو غاية العين في سياق كائن حيّ مُتكامل. هذه مسألةٌ معاطاة. أيّ هذَيْنِ النموذجَيْنِ يُناسب غاية الحياة؟ ما السياق الطبيعيّ هنا، وهل اختيار الأهمّيّة أمر عائد إلينا؟
- إن لم تكن مسألة اختيار، وقلنا: إن الطبيعة تُسبِغ غايةً علينا، يمكننا دائمًا أن نسأل ما غاية الطبيعة بحدِّ ذاتها. هذه الحجّة يمكنها أن تنطبق على العائلة أو الدين أو الدولة؛ إن كانت غايتنا هي خدمة إحدى هذه المؤسّسات، فيمكننا أن نسأل أيضًا: ما غاية المؤسّسات؟ يبدو لي أننا هنا نقع غالبًا في حجج دائرية، موضّحين أن هذه الأشياء موجودة لغايتنا. هناك حجج شبيهة بشأن الإله: إنه يسبغ غايةً علينا، ولكن يمكننا أن نسأل: لأيِّ غرض يفعل هذا؟
- علاوة على ذلك، قبول أن غايةً ما مُعطاةٌ يجعلنا بدرجة ما كالآلات ذاتيّة التشغيل التي تتصرّف بحكم تعليمات مُدرَكَة. مرّة أخرى، البعض سيجادل أن هذا ينتقص من كرامتنا وحرّيّتنا. وحقيقة أن كوننا قادرين دائمًا على التشكيك بالغايات المُعطاة، توحي بأننا نستطيع أن نتّخذ قرارًا بقبول الغاية المعطاة أو رفضها.
يظهر أن كل النقاط أعلاه تقترح أن فكرة وجود غاية مُعطاة لحياتنا تصبح فكرةً متهافتةً بعدم قدرتنا على استيعاب السياق الأكبر أو بقدرتنا على التشكيك بالغاية. وفي النهاية، يبدو أن الأمر رجع إلى اختياراتنا، ويمكن أيضًا المجادلة بأنه خيارٌ يُسبغ المعنى والغاية على حياتنا، وهذا ما يقوله العديد من الوجوديّين بالفعل.
بمَ تخبرننا التجربة؟
ربما نحن نرى المسألة على نحو خاطئ. بدل التساؤل عن غاية الحياة من منظور شخص لا يرى غايتها، ربما علينا أن ننظر إلى الوضع من منظور شخص يعتقد أن لديه غايةً.
يقول شتيفان تسفايغ، في روايته احترس من الشفقة (1939): «لا يشعر المرء بأن لوجوده هدفًا أو غاية، حتى يستيقن بأنه يعني شيئًا للآخرين». إن وضع حجّة للغاية قائمة على المشاعر ممارسةٌ مشكوك فيها؛ حيث إن بمقدورك أن تُجادل أن أيَّ شيء يُشعرك بالرضا يُعدُّ غايةً. وهذا قد يشمل حتى الهواجس المتوهّمة لشخص يشعر بالرضا بتقطيع قصاصات الورق تقطيعًا متساويًا بلا توقف، أو بتعذيب الحيوانات الصغيرة، أو البشر. إنه يجعل تحقيق غايتك موقوف على تحقيق إحدى النوازع النفسية. إذن لأجل الحِجاج انطلاقًا من التجربة، نحتاج إلى شيء يتجاوز مُجرَّد الشعور. تقرير تسفايغ يحمل بعض الصحة، من حيث أنه يُرَاد منه تعليقًا عامًّا على الحالة البشرية لا تقريرًا عن فرد مخصوص، وعلى الأرجح يوجد اتفاق عامٌّ عليه أيضًا. كتب الطبيب النفسي والفيلسوف فيكتور فرانكل في مقدّمته لمذكِّراته الإنسان يبحث عن المعنى (1946):
«لا تستهدف تحقيق النجاح؛ فكلما استهدفته أكثر، فوَّته أكثر. فالنجاح -كالسعادة- لا يمكن أن يُسعى إليه؛ يجب أن يترتَّب على شيء آخر، وهو يتأتَّى بوصفه أثرًا جانبيًّا غير مقصود لتكريس المرء نفسه لقضيّة أكبر منه، أو نتاجًا عرضيًّا لتسليم المرء نفسه لغيره. السعادة يجب أن تحدث، والأمر نفسه ينطبق على النجاح: يجب أن تجعله يجيء بعدم المبالاة به. أريدك أن تُنصت إلى ما يأمرك ضميرك بفعله، وأن تنطلق للقيام به على أحسن وجه. ومن ثَمّ ستعيش لترى -على المدى البعيد- أن النجاح سيتبعُك، لأنك نسيت أن تُفكِّر فيه».
الأثر المُترتِّب على هذا ليس أن سؤال «ما غاية الحياة؟» سؤال عديم المعنى، بل إن طرحه غير مُستحسن من الناحية العمليّة. في هذه الحجّة، الغاية والمعنى والسعادة جميعها نواتج فرعيّة للحياة، ولا تُكتسب باستهدافها. وتقع، ووفقًا لفرانكل وتسفايغ، لأن المرء يرى شيئًا أهمّ منه. هذا يمكن أن يكون أناسًا آخرين أو قضية ما. في حالة الأناس الآخرين، ظاهرة الوقوع في الحبّ تقدّم خير مثال، أو حبّ أمٍّ لطفلها. وفي حالة القضايا، كالقضايا الدينية أو الوطنية، هذه الأهمية المُعتبرة تفسّر ظاهرة الاستشهاد. ولكن نقيضًا لهذا سيكون إخلاص موهوم لشخص أو قضية. هل يمكننا أن نعُدَّ الهوس التامّ بجمع أغطية العلب -على سبيل المثال- هدفًا حقيقيًّا لحياة أحدهم؟ أم أننا سنقول إنه أخطأ الهدف؟ عمومًا، إن كنا نرى أن الإخلاص التَّامّ لشيء سوانا هو مفتاح إيجاد غاية للحياة، فكيف لنا أن نُميِّز بين الغايات التي تستحق وسام «مُجدية» من تلك التي لا تعدو أن تكون «سخيفة»؟ إن كانت المسألة عائدة إلى الحكم الذاتيّ، فكل شيء له قيمة.
من عدد “السعادة” من مجلة (الفلسفة الآن) حسب اتفاقية خاصة ترجمة خاصة لمؤسسة معنى.