ترجمة: رضا زيدان – تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
يرى البعض أفلاطون على أنّه عقلانيّ خالص، ويعتبره البعض الآخر صانع أساطير خيالي. يخبرنا استخدامه الماهر للقصص عن حكايةٍ أكثر تعقيدًا.
أعلن فريديك نيتشه عن نفسه عام 1872، وهو في عُمر الثمانية والعشرين عامًا، من خلال كتابه “مولد التراجيديا”، وهو توصيف رثائيّ لانسلاخ الثقافة الغربية من أُسسها الروحية. ووفقًا لنيتشه، فإن اليونانيين القدماء قد أحسنوا تدبير توازن ثقافي صحي بين الدافع “الأبولّلي Apollonian” نحو السيطرة العقلانية، وبين الرغبة “الديونيسية Dionysian” في الاستسلام المنتشي. ومع ذلك، منذ القرن الخامس قبل الميلاد فصاعدًا، انحرفت الثقافة الفكرية الغربية باطِّرادٍ لصالح عقلانية أبولّلية إلى حدّ إهمال الديونيسية، وهو خلل لم تتعافى منه أبدًا.
كان الشرير الرئيس في هذه القصة هو أفلاطون؛ الذي اتهمه نيتشه بوضع الفلسفة على مسارها العقلاني. إن تخليد أفلاطون لمعلِّمه، سقراط، لم يكن أقل من هوسٍ مَرَضي بالموت الاستشهادي الفكري. لقد علَّمت نظريته عن المُثُل Forms أجيالًا من الفلاسفة البحثَ عن الحقيقة في التجريدات الميتافيزيقية، مع التقليل من قيمة الخبرات الحيَّة في العالم المادي. لقد وُلدت ثورة أفلاطون الفكرية، على وجه الخصوص، من تدمير الأسطورة. فبعد أفلاطون، تُركت الفلسفة «مجردةً من الأسطورة» ومحرومةً من الجذور الثقافية. ووفقًا لنيتشه، استمرت الثقافة الحديثة في الفتور في ظل إرث أفلاطون، وما زالت تتصارع مع «فقدها للأسطورة؛ إذ فُقد موطن أسطوري ورحم أمومي أسطوري».
بعد سبعة عقود، في نهاية الحرب العالمية الثانية، شنَّ كارل بوبر هجومًا سيصبح ثاني أشهر هجوم على أفلاطون في الفلسفة الحديثة بعد هجوم نيتشه. فقد اقترح بوبر في كتابه “المجتمع المفتوح وأعداؤه” (1945)، أنّ أفلاطون قد أمدَّ الفكر الغربي بمخططه الأوّل عن «المجتمع المنغلق». ففي كتاب “الجمهورية” تصوَّر أفلاطون مدينة مثالية تمنح الأولوية للتناغم الجماعي على حساب حرية الأفراد، وللحفاظ على الوضع الراهن على حساب الابتكار، ولسُلطة الحراس الفكريين على الديمقراطية والحقيقة. جادل بوبر بأن التأثير السَّام لرؤية أفلاطون السياسية يمكن تتبعه عبر تاريخ الفلسفة، وصولًا إلى ألمانيا النازية والأشكال الأخرى من الشمولية المعاصرة.
ألقى بوبر، مثل نيتشه، باللوم على أفلاطون؛ باعتباره مَن وضع الفلسفة الغربية على المسار الخطأ. ومع ذلك، فإنه قد قام بذلك للسبب المعاكس بالضبط. لم يكن أفلاطون بوبر عقلانيًا. وإنما اختزل بوبر الفرق بين المجتمع المفتوح والمجتمع المنغلق في الفرق بين ثقافة النقد وثقافة الأسطورة. لقد دعا أفلاطون، بصفته أوّل وأعظم أعداء المجتمع المفتوح، إلى قمع النقد الحُرّ من أجل إقامة «دولة معتقلة» تسندها الأساطير والمخادعة. وبالإشارة إلى السرد التأسيسي المثير للجدل الحاضر في “الجمهورية“، «أسطورة المعادن»، نسب بوبر لأفلاطون الفضل في كتابة «نظير دقيق» لـ«أسطورة “الدم والتربة” الحديثة». مَن كان على حقّ؟ هل كان أفلاطون عقلانيًا قصير النظر قاد الفلسفة إلى الانحراف بأن فكّ ارتباطها بماضٍ أسطوري أكثر أصالة؟ أم أنه كان صانع أساطير مخادع أدخل تيارًا مضطربًا من اللاعقلانية إلى قلعة العقل؟ كيف يمكن أن يكون كِلا الوصفين صحيحًا؟ بعبارةٍ أخرى: هل يقع اللوم على أفلاطون بسبب توجيهه الفلسفة بعيدًا عن الأسطورة أم بسبب تقريبها من الأسطورة؟
لا يُشتهَر اليوم “مولد التراجيديا“، و”المجتمع المفتوح” بسبب مراعاة كاتبيهما للدقة التاريخية بإخلاص. ومع ذلك، لا يزال الكتابين من الأعمال الخالدة، لأنّ نيتشه وبوبر بحثا واكتشفا شيئًا ذا صدى بشأن العلاقة بين الأسطورة والفلسفة، والدور الرمزي الغريب لأفلاطون في فهمنا الموروث لتلك العلاقة.
لقد أصابت انتقادات نيتشه وبوبر الحقّ إلى حدٍ ما، فعلى نحو جزئيّ يصيب الجميع شيئًا من الحقّ كما في الحكاية الرمزية عن العميان والفيل. لا يزال أفلاطون محلّ احتفاء كشخصية وضعت الفلسفة على أساسٍ عقلاني عن طريق عزل أسلوب للفكر نقدي وصارم على نحوٍ مميز عن براثن الأسطورة والحكمة المسلَّم بها. ومع ذلك، فإن حواراته تُجرى أيضًا بأساطير من اختراعه هو: “أسطورة المعادن”، وتوصيف أصل الحبّ (حوار “الندوة”)، والقصص المتعلقة بالحياة الآخرة التي تختتم حوار “فايدو Phaedo”، وحوار “غورغياس Gorgias”، و”الجمهورية”.
من الصعب التوفيق بين هذين الجانبين من فكر أفلاطون، لأننا نظلّ متشبثين بفكرتين مختلفتين، لكن مرتبطين، في إرثنا الفكري. الأولى هي فكرة أنّ الفلسفة تتعارض جوهريًا مع الأسطورة. والثانية هي أنّ أفلاطون هو أوّل من أشار إلى ذلك.
غالبًا ما ترتبط المخاوف المتعلقة بالأسطورة بالمخاوف المتعلقة بالمعلومات الخاطئة. لكن هذه المخاوف تتجاوز الشاغل المتعلق بالأخطاء الحقيقية التي تتطلب التصحيح. فعندما يصنّف الباحثون والمعلقون شيئًا ما على أنه أسطورة، فإنهم عادة ما يتصارعون مع تهديد وجودي أكبر: سردية قوية -رمزيًا- تبدو محصنة تمامًا من التصحيح، ولكنها، مع ذلك، لديها القدرة على أَسر خيالنا. فمثلًا، استُخدمت لغة الأسطورة مؤخرًا للحديث عن التصور الحدودي في سياسة الهجرة الأمريكية -“أسطورة الجدار الحدودي”-، بالإضافة إلى الدعوة المليئة بالحنين إلى نسخةٍ أكثر أصالة بشكلٍ ما من الأمّة: من أسطورة أمريكا “الحقيقية” إلى “أساطير الكينونة الإنجليزية”، التي انتشرت خلال حملة انسحاب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي Brexit.
أحد الأسباب التي تجعلنا ننزعج من الأساطير هو أننا نتوقع ألا يكون لها موضع في قلب الافتراضات والاعتقادات التي أسَّست الثقافة الحديثة. بمعنى أن هناك توقع مفاده أنه لا بد من أننا، كمجتمع، قد تخلّصنا من الأساطير.
ينبع هذا التوقّع من توصيف تطوري للثقافة يعود على الأقل إلى اليونان القديمة، عندما تبنَّى المفكرون السابقون لسقراط خطابًا يميز أساليبهم في التحقيق عن التقليد الشفهي المرتبط بالأساطير القديمة المتعلقة بالآلهة الأولمبية، بالتركيز على أنّ من طبيعة هذه الحكايات أنه لا يمكن التحقّق منها. ولكن في أوروبا في القرن الثامن عشر، أصبح يُنظر إلى الأسطورة على أنها بقايا ثقافية تتعارض جوهريًا مع الحياة الحديثة. وبينما هاجم التنوير بشدة التقاليد والخرافات، حوّل مؤلفون مثل بيير بايل Pierre Bayle، وبرنارد دي فونتنيل Bernard de Fontenelle انتباههم إلى تراث الأساطير اليونانية-الرومانية.
في القرون السابقة، تعامل هواة الباروكية مع الأساطير الكلاسيكية كجزءٍ من التراث الخالد، كمعجمٍ جمالي موروث يجب على المتعلّمين تعلّمه من أجل المشاركة في الثقافة الراقية. على النقيض من ذلك، حرص رواد التنوير على التشكيك في قيمة الأساطير التي اعتبرها أسلافهم جديرة بالتقدير، الذين ثمنوها في منحوتاتهم ولوحاتهم وعروضهم الأوبرالية، بل وفي زخارفهم للسقوف، أمَّا المؤلفون التنويريون فقد لفتوا الانتباه إلى السِّمات السخيفة، والمتنافرة في كثير من الأحيان، لهذه الأساطير نفسها. قام بايل، باستمتاعٍ ظاهر، بتفصيل أحداث الزنا وسِفاح القُربى وأكل لحوم البشر المتناثرة في الأساطير الكلاسيكية، وسَخر من المعلّقين القدامى، الذين حاولوا تفسيرها بتفسيرات مجازية. وحكم على هذه التفسيرات قائلًا: «لا يمكن قراءتها دون الشعور بالشفقة على هؤلاء الفلاسفة الذين وظفوا أوقاتهم على نحوٍ سيئ جدًا».
ومن جانبه، خمّن أنّ آلهة الرعد والبحار الأولمبية لم تكن إلا ما استحضره اليونانيون القدماء في تخيّلاتهم من أجل تفسير الظواهر الطبيعية التي كانوا يفتقرون إلى المعرفة العلمية اللازمة لفهمها.
مسَار الفلسفة يمكن فهمه على أنه مسَار يمتد «من الأسطورة mythos إلى اللوغوس logos»
كان هناك سبب آخر لإعادة تقييم التنوير للأساطير الكلاسيكية. فقد قدَّمت توصيفات الرحلات الآتية من آسيا وشمال أفريقيا والعالم الجديد إلى الجماهير الأوروبية التقاليد الأسطورية التي تتجاوز تلك الموجودة في اليونان وروما القديمتين. وعندما بدأ المشتغلون الأوائل بعلم الأساطير المقارن في اكتشاف أوجه التشابه بين الأساطير الكلاسيكية وتلك الآتية من الثقافات التي اعتبرها العديد من الأوروبيين في ذلك الوقت بربريَّة؛ فقدت الأساطير الكلاسيكية قدرًا كبيرًا من بريقها التقليدي. ففي النهاية لم تعد تلك الكلاسيكيات ذات تميز خاص.
ما انبثق عن عمليات إعادة التقييم الثقافية هذه كان صياغةً لتصور التقدم الحضاري كمسارٍ خطّي، ما يشير بقوة إلى البعد عن الأسطورة. وفي الوقت الذي أدرك فيه الأوروبيون في القرن الثامن عشر ذلك، انهمكت المجتمعات الغنية بالثقافات الأسطورية -مثل تلك الموجودة في العصور القديمة اليونانية-الرومانية، ولكن أيضًا مثل ثقافات السُّكان الأصليين المعاصرين في العالم الجديد وأماكن أخرى -في مرحلة “بدائية” من الثقافة. وبالمقارنة، نجح المجتمع المتنور لهؤلاء الأوروبيين في التخلّص من الأساطير والخرافات لصالح طرق فكريةٍ أكثر صرامة.
كان التركيز على النماء الإدراكي للعقل البشري جزءًا مهمًا من هذا التوصيف للتطور الثقافي. من المفترض أن المسار الذي يبدأ بالبربرية وينتهي بالحضارة ينطوي أيضًا على تحول في طبيعة الفكر نفسه – من العقلية الساذجة والخرافية التي يتطلبها خلق الأساطير والإيمان بها إلى العقل التنويري القادر على النقد وتقييم الحجج. كانت لنموذج التطور الإبستمولوجي هذا آثارٌ دائمةٌ على الهُويّة الذاتية للفلسفة. إذ يمكن فهم مسار الفلسفة، باستعارة صياغة عالِم الكلاسيكيات فيلهلم نسله Wilhelm Nestle (ت 1959)، على أنها مسار يمتد «من الأسطورة إلى اللوغوس». ووفقًا لهذا الرأي، فإن الفلاسفة يواصلون فعل الابتعاد عن الأسطورة، وتحديد تلك الأساطير التي لا زالت فاعلة في تفكيرنا وثقافتنا وإخضاعها للفحص النقدي وإحلال المعرفة التي تصمد أمام التدقيق النقدي محلها.
خلال القرن الثامن عشر أيضًا، نُظر إلى أفلاطون على أنه البطل الأصلي لمعركة الفلسفة الطويلة والمستمرة ضد الأسطورة. في القرون السابقة، كان الأوروبيون أكثر دراية بأفلاطون بصورة مختلفة إلى حدٍّ ما. وما قدَّم هذا التوصيف لفكر أفلاطون هو الأفلاطونية المحدثة. فلقد رأى أتباع هذا التقليد الفلسفي الواسع النطاق، الذي ازدهر لأول مرة في أواخر العصور القديمة ثمّ انتعش في عصر النهضة بإيطاليا، في كتابات أفلاطون المتناثرة منظومة ميتافيزيقية متماسكة جذريًا، ومرتبة حول مثال الخير Form of goodness الأعلى والموحد. كثيرًا ما كان للتفسيرات الأفلاطونية المحدثة لفلسفة أفلاطون نزعة صوفية، التي اكتُسبت، جزئيًا، لأنها وضعت لنفسها تدريجيًا مكانًا بجانب الأرثوذكسية المسيحية. فمن أجل طمأنة المسيحيين، الذين كانوا قلقين من التسليم بقدرٍ كبيرٍ من النفوذ الوثني، أصرّ الأفلاطونيون المحدثون على أن أفلاطون قد أُلهم إلهيًا كأداة نبوية من أدوات تصميم الإله للتاريخ البشري. وجادلوا، بالإشارة إلى أوصاف أفلاطون للإلهام الشِّعري الإلهي في حوار “أيون Ion”، وحوار “فيدروس Phaedrus”، بأن أفلاطون نفسه كان مدركًا لدوره كوعاءٍ لقوة أعلى. وقد اكتسبت هذه القراءات لأفلاطون صبغة فئوية. ووضعت دور الإلهام فوق دور العقل، وكانت تميل إلى التركيز على موضوعات مثل الحماسة أو الحبّ أو -خاصة في سياق إنسانوية النهضة- موهبة البلاغة الإلهية.
عندما توجه مفكروّ عصر التنوير مثل فولتير ورفاقه إلى أفلاطون، فإنهم غالبًا ما فعلوا ذلك بروح تقليد تفسيري أقدم بكثير، وهو التقليد الذي سبق الأفلاطونيين المحدثين، ألا وهو الشكوكية الأكاديمية، المدرسة الفكرية التي سادت في أكاديمية أفلاطون من القرن الرابع قبل الميلاد – حوالي ثلاثة أجيال بعد وفاة أفلاطون- واستمرت حتى القرن الأول قبل الميلاد. وبينما كان تماسك النظام الميتافيزيقي لأفلاطون عقيدة مركزية للتقليد الأفلاطوني المحدث، نفى الشكوكيون الأكاديميون أنّ أفلاطون كان لديه أيّ نظام فلسفي على الإطلاق. وإنما كان أفلاطون، في تصورهم، مناهضًا بامتياز للنظامية، ومقاومًا للاعتقاد الوثوقي dogma مهما كان الثمن من أجل التعليق النقدي للحكم. أكد مفسِّرو أفلاطون الشكوكيون على الطبيعة الصارمة القاسية للاستجواب السقراطي والنهايات غير الحاسمة لبعض الحوارات المبكرة، التي بدت وكأنها تمثّل إنكارًا للمعرفة اليقينية.
تصوير أفلاطون للإلحاح السقراطي ساعد على صياغة نموذج مثالي تنويري للمواطنة الفلسفية
كان التصوير الشكوكي لأفلاطون جذابًا على نحوٍ خاص لقرّاء أفلاطون التنويريين، الذين تبنَّوا بالمثل برنامجًا مبدئيًا لتحدي المرجعيات والتشكيك في المعرفة المسلَّم بها عمومًا. لقد أحدث نقد أفلاطون للتقليد الأسطوري اليوناني، على وجه التحديد، صدى حديثًا. إذ أشاد فولتير بتصوير أفلاطون لسقراط على أنه فيلسوف علمي-أوّلي اضطهده الآخرون لإثباته أنّ «القمر لم يكن إلهًا، وأنّ عطارد لم يكن إلهًا».
كان أبطال أفلاطون التنويريون غير مستعدين، في نفس الوقت، لقبول الاستنتاج الشكوكي تمامًا القائل إن المعرفة اليقينية مستحيلة. وفي النهاية، حقَّقوا حلًّا وسطًا بين التوصيف الأفلاطوني المحدث لأفلاطون والتوصيف الشكوكي لأفلاطون. فقد قبلوا أن أفلاطون كان لديه نظام فلسفي متماسك، وأن المعرفة البناءة واليقينية كانت ممكنة بالفعل، لكن سبيل المعرفة لم يكن هو الوحي أو الإلهام، وإنما نوع من العقل النقدي الذي يثمّنه الشكوكيون الأكاديميون للغاية.
كما اعتُبر أفلاطون، من قِبل قرّائه التنويريين، تجسيدًا لقيمهم السياسية. وقد ساعد تصويره للإلحاح السقراطي في وضع نموذج مثالي للمواطنة الفلسفية – أيّ للمواطنين كمفكرين نقديين، رافضين التسليم بالأعراف الاجتماعية، وساعين إلى فضح المزاعم المعرفية التي لا أساس لها وأساطير المجتمع الغامضة والمحيرة.
كانت همينة وشعبية التصوير التنويري لأفلاطون تعني أنّ التفسيرات السابقة له سوف يُغَض النظر عنها إلى حدٍّ كبير، وبطبيعة الحال أغفلت هذه الهيمنة تلك الجوانب من فكر أفلاطون التي لا تتسق مع التصوير التنويري له. كانت هذه هي العملية التي خُلق بها أفلاطون العقلاني، الذي احتقره نيتشه بشدة.
لم يكن أفلاطون على وجه الدقة بطل الحِجاج العقلاني كما رسمه التنوير؛ فقد احتوت حواراته، على نحوٍ معتبر، على أساطير: فواصل سردية مبنية بعناية، ومنسوجة في التحقيق الفلسفي، مثَّلت إعادة صياغة أو محاكاة للمادة الموجودة من التقليد الأسطوري اليوناني. لنأخذ على سبيل المثال “أسطورة المعادن” -الأسطورة التي قارنها بوبر بالأيديولوجيا النازية-، التي تروي قصة جنس من المواطنين صُنعوا تحت الأرض. وحسب هذه الأسطورة، فإن إلهًا قد مزج بين المعادن بما يناسب تركيبهم: فالذهب لمن هُم أكثر استعدادًا على نحوٍ طبيعي ليكونوا حكامًا، والفضة لمساعديّ الحكام، والحديد والبرونز فللمزارعين والحِرفيين. كان قرّاء أفلاطون الأوائل قد أدركوا هذه الأسطورة على أنها إعادة ابتكار أصلية لأسطورة العصور الهسيودية (عن انحطاط البشر في الشخصية خلال عبورهم لعصور الذهب والفضة والبرونز والحديد)، وأسطورة تأسيس قدموس Cadmus لطيبة (عن ولادة جنس بشريّ من الأرض).
تميل أساطير أفلاطون للتميز الأسلوبي عن التحقيقات الحِجاجية المحكمة التي تشكّل بقية حواراته. فغالبًا ما تُحدَّد هذه الأساطير بأنها في عوالم خيالية -مثل ورشة الإله الجوفية في أسطورة المعادن، أو المشاهد الأخرويَّة في أساطير أفلاطون حول الحياة الآخرة-، ولا يُتقيَّد فيها بالمعايير الحِجاجية التي نصرها أفلاطون في نصوصه. فالأساطير مجرد قصصٍ ببساطة، وتُقدَّم دون أيّ محاولة لتبريرها بأسبابٍ أو وقائع.
في بعض التقاليد الأفلاطونية المحدثة التي احتفت بالجوانب الصوفية لفكر أفلاطون، اعتُبرت هذه الأساطير جانبًا مهمًا لعمله. في المقابل، لم يكن إعادة تفسير مفكريّ التنوير لأفلاطون طريقة جيدة لتفسيرها. فإذا كان أفلاطون هو المحرِّر الأصلي للفلسفة من الأسطورة، فإن استخدامه للأساطير يبدو نفاقًا في أسوأ الأحوال، وفي أحسن الأحوال فشلًا في الارتقاء إلى معيار الصرامة النقدية الذي اخترعه هو نفسه للفلسفة. عندما تأسَّس تصوير القرن الثامن عشر لأفلاطون العقلاني، بدأ التعامل مع الأساطير بتجاهلٍ مربك، أو رُفضت باعتبارها بقايا تقليدٍ قديمٍ في عمل الفيلسوف الذي مهّد الطريق النهائي لعصر التنوير، دون أن يكون هو نفسه متنورًا بالكامل.
إنّ أفلاطون التنوير هذا هو الشخص الذي ورثناه اليوم إلى حدٍ كبير، الذي يتواجد على نحوٍ مزعجٍ في خيالنا مع أفلاطون صانع الأساطير الذي نلتقي به عندما نقرأ نصوصه. وهذا التوتر الذي لم يُحَلّ هو تذكيرٌ بما فاتنا عندما نسلّم فقط بأفلاطون الأكثر إتاحيّة في تراثنا. وغالبًا ما تعمينا السردية التنويرية القديمة عن القيمة الفلسفية لأساطير أفلاطون. على سبيل المثال، اتهم بوبر أفلاطون بنشر الأساطير لأغراضٍ سياسيةٍ ودعائيةٍ بحتة، والتي كانت في النهاية متعارضةً مع قيم الفلسفة نفسها.
كان أفلاطون شاهدًا على قوة الأسطورة في إعادة تشكيل القصص التي نسلِّم بها
لكن ما لم يدركه بوبر هو أنّ أفلاطون غالبًا ما يتحوّل إلى الأسطورة على نحوٍ تكاملي، وليس على نحوٍ متناقض؛ ليتجه إلى نوع التفكير النقدي المعروض في الأجزاء الأكثر حِجاجية من كتاباته. ومن ثمّ يؤول الأمر بأساطير أفلاطون إلى أن تكون شكلًا متميزًا من الخطاب الفلسفي في حدّ ذاتها، حيث تستكشف جوانب من رؤانا العالمية الراسخة بعمق بحيث يصعب التقاطها بالعقل النقدي فقط. لا تُقدّم أسطورة المعادن ادعاءات شاملة حول ماهية الأفراد المناسبين وغير المناسبين بطبيعتهم فقط، وإنما تدفع أيضًا إلى إعادة تصوّر فلسفي لمفهوم الطبيعة ذاته.
تظهر أسطورة المعادن عند منعطفٍ معينٍ في وصف سقراط لتعليم مواطنيّ المدينة المتصورة في “الجمهورية”. إذ كان المقصود منها أن تُروى للمواطنين بعد إكمال التعليم الأوّلي الأساسي في الموسيقى والجمباز، وعندئذٍ يُصنَّفون في الطبقات المهنية المختلفة في المدينة. لطالما قُرئت الأسطورة، بموازاة الخطوط البوبريّة، كجزءٍ من الدعاية السياسية التي تنادي بفكرة أن الأفراد لديهم طبائع، مثل العِرق، محددةٌ منذ الولادة، وتجهزهم على نحوٍ أفضل من غيرهم لأدوارٍ معينةٍ في المجتمع.
لكن إذا كانت الأسطورة تحكي قصةً مبنيةً على فكرة أنّ طبيعة الأفراد ثابتةٌ بصرامةٍ منذ الولادة، فإنها قصةٌ أيضًا تتضمن إعادة فهمٍ كاملٍ لما تعنيه الولادة في المقام الأوّل. تدعو الأسطر الافتتاحية للأسطورة المواطنين إلى التفكير في تربيتهم وتعليمهم حتى هذه المرحلة من حياتهم على أنها حُلم. ووفقًا للأسطورة، لم يحيَ المواطنون حقًا بعد. وإنما كانوا نائمين خلال سنوات نشأتهم المبكرة، محمولين في رحم أمهم، الأرض، حينما كانت طبيعتهم تتشكّل. فقط عندما اكتملت هذه العملية، أُطلق سراحهم فوق الأرض، واستيقظوا من سُباتهم الطويل. تشير الأسطورة إلى أن المواطنين لا يولدون حقًا إلا بعد أن يكملوا المرحلة الأولى من تعليمهم، وبناءً على ذلك، يجب تحديد طبيعة المواطنين بما يمتلكونه في نهاية التعليم الأساسي، وليس بالسِّمات التي يتصفون بها في بداية حياتهم البيولوجية.
كان أفلاطون، في استعارته لأعرافٍ من الأساطير اليونانية لخلق أساطيره الفلسفية، يشهد على قوة الأسطورة في الوصول إلى القصص التي نسلِّم بها والمتعلقة بعالمنا الطبيعي والاجتماعي. وهذه القصص، بدورها، يمكن أن توفر إطارًا تصوريًا مستقرًا للقيم والتوقعات لتنظيم الخبرات السياسية بطرقٍ ذات مغزى، ويمكن أن تكون فاعلةً بشدةٍ في تأطير الطريقة التي نفكر بها في بيئتنا ومواضعنا فيها.
إنّ أساطير أفلاطون، التي تُقرأ بغير حقيبة الروايات التنويرية المتعلقة به، تعمل كتذكيرٍ بأن الأسطورة لم تكن دائمًا في الطريق المعاكسة للفلسفة. وكان أفلاطون نفسه على دراية بمخاطر الأسطورة. لكن هذه الدراية كانت جزءًا من تقديرٍ أوسع لقوتها وإمكانياتها، درايةً اعترفت بكلٍ من النطاق الكامل لإمكان الأسطورة لأن تكون ضارةً وبناءةً للفلسفة والسياسية. قبل كل شيء، نبع فهم أفلاطون للأسطورة من الموقف القائل إنّ رؤانا العالمية تستند إلى سردياتٍ أعمق وأكثر تملّصًا يمكن الوصول إليها وتشكيلها بآليات الأسطورة على نحوٍ أسهل من آليات الحِجاج العقلاني. وكانت هذه الفكرة شيئًا طبّقه أفلاطون على الفلاسفة أنفسهم. فكما يقترح سقراط على محاوريه في “الجمهورية“، يجب التعامل مع العملية الطويلة لتعليم الحراس الفلسفيين لمدينتهم المثالية «كما لو كنَّا فارغين ونروي الأساطير».
نحن اليوم لا نأخذ هذه الفكرة بجديةٍ كافية، ونركز على الأسطورة فقط في أشكالها الأكثر مَرَضية. إحدى نتائج فكرة التنوير عن التقدم الحضاري هي أنه عندما تطل الأساطير بوجهها العكر في المجتمع الحديث فإنها تشير فيما يبدو إلى حدوث تراجع. كان هذا هو الرد المذعور في القرن العشرين عندما انتشرت الفاشية في جميع أنحاء أوروبا. إذ بينما كان دعاة النازية يروّجون لسردياتٍ كبرى حول مصير العِرق المختار، والممالك التي ستستمر ألف عام، بل وإنشاء سلاسل أنساب مفصلة حول أسطورة أطلانطس Atlantis لأفلاطون، شخَّص المعلّقون المعاصرون هذه الظاهرة على أنها «عودة» مؤسفة للأسطورة في السياسة الحديثة.
الأساطير ليست كُتلًا صلبة لا تقبل التغيير، وإنما هي قصصًا ديناميكيةً مفتوحةً لإعادة التفسير
من المؤكد أن نقاد الأساطير المعاصرين لديهم أسبابٌ وجيهةٌ للقول إن تلك الإمكانيات لا تستحق الاستكشاف؛ فقد دفعتنا المواقف التالية للحرب تجاه الأسطورة، التي تشكّلت بأخذ النازية في الاعتبار، إلى نوعٍ من اليقظة المضادة للأسطورة: إذا كانت أهوال النازية هي تكلفة السماح للأساطير بالازدهار في السياسة الحديثة، فربما هذه التكلفة باهظةٌ للغاية، بغض النظر عن الفوائد المحتملة. وباستعارة عبارة شاعر القرن السابع عشر جون درايدن John Dryden، فإن الأسطورة قد تمثّل «عالَمًا مفقودًا». ووفقًا لهذا الرأي، يجب أن يكون الموقف الذي يجب علينا، كمجتمع، أن نتخذه تجاه الأشكال المعاصرة من الأسطورة هو إما الرفض المبدئي للاعتراف بها -خشية أن يضفي عليها الشرعية أو أن تفتح الباب على مصراعيه لمزيدٍ من اللاعقلانية-، أو الاستعداد المستمر لمحاربتها، متى وُجدت، بترسانةٍ من الحقائق والحجج العقلية.
ومع ذلك، فإن دروس أساطير أفلاطون توجهنا إلى طريقةٍ أخرى للنظر. وإذا ظللنا نشعر بحساسيةٍ تجاه وجود الأساطير في مشهدنا الثقافي، فإننا نغفل عن النقطة الأكبر، ونخاطر بالتضحية بالصالح والطالح. كانت رؤية أفلاطون هي أن الأسطورة قوةٌ دافعةٌ ضخمةٌ وباقيةٌ في السياسة والثقافة -وهي نقطةٌ مشتركةٌ في انتقادات نيتشه وبوبر لأفلاطون. وعدم أخذ هذا الأمر على محمل الجد يجازف بالوقوع في إنكار denialism الطرق الحقيقية جدًا التي تؤثر بها مثل هذه السرديات الغنية رمزيًا على رؤانا العالمية.
لكن إعادة اختراع أفلاطون للأسطورة فلسفيًا يشير أيضًا إلى إمكانية إعادة صياغة الأساطير بطرقٍ إبداعية. إن الأساطير ليست كُتلًا صلبةً لا تقبل التغيير، وإنما هي قصصٌ ديناميكيةٌ مفتوحةٌ لإعادة التفسير في كل مرة يعاد فيها سردها. ونفورنا المتوارث من الأسطورة لا يمنعنا فقط من تقدير فهم أفلاطون الثاقب للأسطورة حقّ قدره، بل ويمنعنا أيضًا من التعرف على -والتعلُّم من- أناسٍ في مجتمعاتنا يقومون بالفعل بهذا النوع من العمل الإبداعي الذي يتطلب الانخراط البنَّاء مع الأسطورة.
في خريف عام 2016، تجمّع ممثلون من أكثر من ثلاثمائة قبيلةٍ أمريكيةٍ أصليةٍ معًا في موقع تخييم بالقرب من كانون بول Cannon Ball، في داكوتا الشمالية؛ للاحتجاج على بناء خطّ أنانبيب داكوتا. كان من المقرر أن يمتد خط أنابيب النفط على نحوٍ خطيرٍ بالقرب من الأرض التي تنتمي إلى محميَّة ستاندينغ روك Standing Rock، وهذا يشمل مرروه أسفل بحيرة أوهي Oahe، المصدر الرئيس للمياه في المحميَّة ومحل العديد من المواقع المقدسة لدى شعب السو Sioux الذين يعيشون هناك.
في البداية، اعتُبرت المجموعات الناشطة محتجون معتادون (نتيجة متوقعة لأيّ مشروع بنّاء بهذا الحجم)، لكنهم كانوا يفهمون عملهم على نحوٍ مختلف. فقد اعتمدوا على التقاليد الأسطورية الأصلية لإعادة صياغة أهمية اللحظة، التي قدمت بدورها مفرداتٍ مفاهيمية جديدة لفهمهم لأنفسهم كمجتمع. لقد تكهنت نبوءة لاكوتية بوقت تجتمع فيه القبائل المختلفة معًا في «الجيل السابع»؛ لإنقاذ أهلها والأرض من الدمار. وبالنسبة للنشطاء في ستاندينغ روك، كانت تلك اللحظة هي الآن. وكانت مهمتهم المشتركة تتمثل في الواجب الذي يربطهم بأسلافهم، الذين رأوا أنفسهم وكلاء البيئة. إنّ نشطاء المعسكرات المؤقتة القريبة من موقع البناء -معسكر الحجَر المقدس الذي مُسح بالزيت حديثًا- لم يكونوا محتجين على الإطلاق: لقد كانوا حُماةً للماء.
لقد فُصل حُماة الماء في ستاندينغ روك بعيدًا، مكانيًا وزمانيًا، عن أفلاطون. لم يكن أفلاطون مجرد أثيني عاش منذ ما يقرب من ألفين ونصف عام؛ إذ لطالما كان “الرجل الأبيض الميت” النموذجي، ورمزًا لتشريعٍ فكريّ أقصى أصوات شعوبٍ كـ تلك الموجودة في معسكر الحجَر المقدس.
لكن وجهة نظر أفلاطون هي أنّ التبصر المستبعَد الذي شاركه مع حُماة البيئة، في ستاندينغ روك هو درسٌ للفلاسفة أيضًا. فإذا تبيّن أنّ الأساطير جزءٌ لا مفرّ منه من الحياة الحديثة، فإن أفلاطون يعلّمنا ألا نقنط من أن توقعاتنا التنويرية للتقدم العقلاني لم تتحقَّق. وإنما يدعونا إلى توفير مساحةٍ نظريةٍ للأساطير حولنا، وتذكّر قدرتنا على إعادة صياغتها.
الهوامش
1- عَلِم مجموعة من المكفوفين بأنّ فيلًا كبيرًا سيأتي إلى بلدتهم، وطلبوا لمس الفيل لأوّل مرّة في حياتهم، وقام كل منهم بوصف الفيل بعد أن لمس كل منهم جزءًا من جسده، والمغزى من هذه القصة، التي تعود إلى شبه القارة الهندية، هو أنّ البشر يقدّمون مزاعم مطلقة انطلاقًا من خبرتهم الشخصية الجزئية، على الرغم من أنّ كلًا منهم يصيب فقط جانبًا من جوانب الحقيقة (المترجم).
2- الباروكية Baroque هي أسلوب فنّي في العمارة (بالأساس) والرسم والموسيقى وما إلى ذلك يعود إلى أواخر القرن السادس عشر، والكلمة برتغالية الأصل، وتعني اللؤلؤة غير المنتظمة، ومن هنا استُخدمت لتعني أيّ شيء غريب أو خارج عن المألوف أو مليء بالمضامين (المترجم).
3- نسبية إلى قبيلة لاكوتا، من قبائل السُّكان الأصليين لأمريكا (المترجم).
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.