عادة ما نكتفي في تحديد الترجمة بالقول إنها نقل لنص من لغة إلى أخرى، ومجرد وسيلة لانتقال النصوص من حقل أدبي إلى آخر، وذلك في إطار«تبادل لغوي متكافئ». فلا نتساءل عن قوة اللغتين الناقلة والمنقولة، أي عن رصيدهما ومكانتهما بين اللغات. ولعل ذلك ما جعل دراسة الترجمات تقتصر على معرفة مدى وفاء النسخة لأصلها. بمقتضى هذا التعريف، لم تكن الترجمة تظهر إلا كعلامة على انفتاح وتخط للحدود، إلا كـ«جسر» يربط بين ضفتين فيسمح بالتواصل والتبادل، وكل ما يبعد عن الصراع وعلائق القوة. فلو نحن تجاوزنا هذا التحديد للترجمة كمجرد وسيلة نقل، وأخذنا بعين الاعتبار علائق القوة بين الحقول الوطنية، وقلبنا الفرضية القومية-اللغوية التي تتمثل الحقل الأدبي كتراكم لعوالم منغلقة مكتفية بذاتها، وتنظر إلى اللغات كأنها متكافئة لا تشدها رابطة، فربما كشف لنا ذلك التدرج وعدم التكافؤ الأدبي واللغوي الذي يتحكم في الحقل الأدبي العالمي، شكلًا مغايرًا للتبادل بين اللغات. يرجع الفضل الكبير في الاهتمام بهذا الوجه النضالي للحقل الأدبي إلى بعض تلامذة عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو كريشار جاكمون، وجيزيل سابيرو، وباسكال كازانوفا. ويمكن اعتبار مساهمات هذه الأخيرة في معالجة هذه المسألة من الأهمية بمكان، وخصوصًا في كتابها القيّم «الجمهورية العالمية للآداب»[1].
ترى كازانوفا أن الترجمة، بعيدًا عن أن تكون تبادلًا أفقيًا وانتقالًا مهادنًا، ونقلًا متماثلًا للغة إلى أخرى، فإننا لا يمكن فهم آليتها إلا كـ«تبادل لامتكافئ» يتمّ في عالم شديد التدرج والاختلاف. إنها شكل خاص لعلاقة الهيمنة التي تتم في الحقل الأدبي الدولي، ومن ثمة فهي مدار صراع من أجل المشروعية، أي إنها إحدى الطرق الرئيسة لتكريس أسماء الكتّاب، والإعلاء من النصوص. تسمح وجهة النظر هذه بتجاوز المفهوم المهادن الذي يكتفي باعتبار الترجمة علاقة خاصة بين نص ونسخته، «فترمي بكل ترجمة في الشبكة العالمية لعلائق الهيمنة الأدبية التي هي شكل من أشكالها».[2]
تنطلق هذه الرؤية من فرضية أساس هي أن السوق الأدبية العالمية مجموعة تتكون من حقول قومية تتخذ مكانتها داخل البنية العالمية بحسب القوة النسبية التي يتوفر عليها كلا القطبين العالمي والقومي. إذْ يوجد توزيع لامتكافئ للرأسمال اللغوي بجانب التوزيع اللامتكافئ للرأسمال الأدبي. فالوضع الذي يحتله أدب معين يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقيمة اللغة التي كُتِبَ بها، و«هذه القيمة لا تتحدد سياسيًا واجتماعيًا فحسب، وإنما حتى أدبيًا»[3].
تعيب باسكال كازانوفا على علم الاجتماع السياسي للّغة كونه «لا يدرس استخدام اللغة، أي قيمتها النسبية، إلا في الحيّز السياسي الاقتصادي متجاهلًا ما يحدّد قيمتها اللغوية الأدبية في الحيّز الأدبي [4]»، وهذا ما تقترح تسميته بـ«الأدبية Littérarité». فتراتب اللغات لا ينبني، في نظرها، أساسًا على النفوذ السياسي وعلى الهيمنة الاجتماعية، وإنما على ما تدعوه هي معيار «النبالة الأدبية». نقرأ في الكتاب نفسه: «نظرًا للنفوذ الذي تتمتع به بعض النصوص المدوّنة في لغات بعينها، فإننا نجد في العالم الأدبي لغات تشتهر بـ”أدبيتها” أكثر من سواها، إذ يُفترض تجسيدها للأدب نفسه»[5]. تفرض «الأدبية» طابعًا أدبيًا راقيًا تضمنه بصورة بديهية لكل ما هو مكتوب بهذه اللغة التي تصبح في حدّ ذاتها “شهادة أدبية”»[6].
هناك إذن تراتب للّغات، ولغات بعينها هي التي تجسّد الأدب بامتياز. ولا يتم الاعتراف بانتماء النص لـ»الأدب«، إلا متى عمل «المركز الأدبي» على ترجمته ونشره. فالنصّ لا يحوز شهادة العالمية إلا بعد أن ينال اعتراف لغات تعدّ هي اللغات المركزية، «الترجمة، شأنها شأن النقد، هي بنفسها وسيلة لإعلاء قيمة العمل أو إقراره، أو، كما يقول لاربو “إثرائه”… ولذلك يعتبر اعتراف النقد والترجمة أسلحة في الصراع من أجل الرأسمال الأدبي»[7].
يتعلق الأمر إذن بمكانة اللغة والاعتقاد الأدبي الذي تتمتع به، والقيمة التي تعطى إياها أدبيًا والتي تعود لعراقتها وقيمة أشعارها، ورقي إبداعاتها وتقاليدها، والمفعولات الأدبية المتوقفة على مترجميها. هذا ما تشير إليه عبارات مثل «لغة الجاحظ»، و«لغة موليير»، و«لغة شكسبير».
هذه العلاقة المتشابكة بين اللغات لا تسمح لنا بأن نقيس قوتها ورأسمالها الأدبي بمعرفة عدد كتابها وقرائها، وإنّما لا بد أن نعرف أساسًا عدد مزدوجي اللغة الذين تتوفر عليهم، وعدد المترجمين الذين يعملون على تيسير حركة النصوص وتناقلها، سواء تصديرًا أو استيرادًا، أي نحو اللغة أو انطلاقًا منها.
انطلاقًا من تعارض لغات تنعتها بأنها لغات مهيمنة (مركزية)، ولغات مهيمن عليها (هامشية)، أي لغات أقل قيمة في السوق العالمي للغات، تقيّم كازانوفا نمذجة للتبادلات الترجمية تشمل الإمكانيات الأربع التالية:
- نقل لغة مهيمنة رمزيًا إلى لغة مهيمنة (مركزية).
- نقل نص مكتوب بلغة مهيمنة إلى لغة مهيمن عليها.
- العملية نفسها في اتجاه معاكس، أي من لغة مهيمن عليها نحو لغة مهيمنة.
- نقل لغة مهيمن عليها رمزيًا (هامشية) نحو لغة أخرى مهيمن عليها.[8]
هذا اللاتكافؤ البنيوي الذي يفرض علينا أن نحدد الترجمة كعلاقة قوة، يحول بيننا وبين أن نعطيها دلالة وحيدة بعينها. فمعناها يتوقف على وضعية المستويات الثلاثة التي تؤسسها: اللغة، أو اللغتان على الأصح، لغة الانطلاق ولغة الوصول، والمؤلف، وأخيرًا المترجم.
لكي نتمكن من فهم الرهانات الحقيقية لترجمة نص من النصوص، من الضروري أن نصف أولًا الوضع الذي تحتله اللغتان في عالم اللغات الأدبية، ثم نعمل على تحديد مكانة المُؤلَّف المتَرجَم داخل الحقل الأدبي العالمي، وهذا على نحوين، وفق المكانة التي يحتلها في حقله الأدبي القومي، ثم حسب المكانة التي يشغلها في الحقل الأدبي الدولي. وفي الختام نقوم بدراسة مكانة المترجم ومختلف العوامل التي تساهم في تكريس العمل الأدبي. فحسب مكانة المستويات الثلاثة ومسافتها الموضوعية داخل الفضاء الأدبي، يمكننا أن نبين أن رهان الترجمة يتخذ شكله المخالف، وأنه، خلف هذا اللفظ، تكمن سلسلة من العمليات-الوظائف التي تتمايز فيما بينها. فهي يمكن أن تكون ترجمة-تراكمًا، حينما تسعى الفضاءات القومية المهيمن عليها أن تستورد رأسمالًا أدبيًا، أو تكون ترجمة-تكريسًا، حينما يعمل المكرسون المهيمنون على استيراد نص صادر عن فضاء أدبي مهيمن عليه.
في الحالة الأولى يكون على الكتّاب المنحدرين من حقل أدبي مهيمَن عليه لبلد معين، إذا ما هم أرادوا أن يقتحموا المنافسة الأدبية العالمية، أن يعملوا على استيراد رساميل أدبية، وأن يتملكوا شيئًا من العراقة والنبالة الأدبية، وذلك بأن يستقطبوا إلى بلدهم، أي ينقلوا إلى لغتهم، أمهات النصوص العالمية، أي تلك النصوص التي يعترف بها كرأسمال عالمي في ميدان الأدب.
تورد كازانوفا في هذا السياق مثال برنامج الترجمة الذي وضعه الرومانسيون الألمان، والذي خصوا به الثقافة الإغريقية واللاتينية، وذلك دعمًا لرصيد اللغة الألمانية التي كانت وقتئذ لغة مُهيمنًا عليها أدبيًا في أوروبا. فمنذ نهاية القرن الثامن عشر، وخلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وضع الألمان، إضافة إلى إبداع أدب شعبي قومي، استراتيجية لتملك الأصول الأدبية والفلسفية للعصور القديمة. وهكذا، ففي سنة 1813 كتب فريديريش شلايرماخر، وهو أحد كبار مترجمي أفلاطون إلى اللغة الألمانية (ابتداءً من 1799)، معترفًا بالطابع الجماعي والقومي لهذه العملية: «هناك ضرورة داخلية تتضح من خلالها المهمة الملقاة على شعبنا، هي التي دفعتنا إلى هذه الترجمة الجماعية، ليس باستطاعتنا أن نرجع القهقرى، وعلينا أن نتقدم بعيدًا». كما كتب غوته: «في استقلال عن إنتاجاتنا، بلغنا، بفضل التملك الشامل لما هو أجنبي، درجة عليا من الثقافة».
واكب هذه الحملة ظهورُ نظريات في الترجمة تعزز هذا العمل الجماعي لاستيراد الرأسمال الأدبي. بل إن كازانوفا تذهب أبعد من ذلك وترى في هذا إعلانًا بانتهاء صلاحية الترجمات الفرنسية للفكر القديم، اللاتيني والإغريقي، بل طعنًا في نظرية الترجمة التي كانت تستند عليها تلك الترجمات. وهكذا فقد كتب شليغل ساخرًا من مفهوم الترجمة عند الفرنسيين: «فكما لو أنهم كانوا يرغبون في أن يتصرف كل أجنبي ويلبس في بلادهم وفق عاداتهم، مما نتج عنه أنهم لم يعرفوا قط أجنبيًا بكل ما للكلمة من معنى».
نلمس هنا بكل وضوح كيف تعمل الترجمة -في ميدان الأدب العالمي- بوصفه سلاحًا يُناضِل من أجل المشروعية الأدبية، وكذلك من أجل تكريس اسم أو نص بعينه. بالنسبة لكاتب ينتمي إلى فئة اللغة المهيمَن عليها، يكون التمكن من الترجمة نضالًا من أجل الوجود كعضو شرعي في الجمهورية العالمية للآداب، بهدف بلوغ المراكز، وولوج المؤسسات النقدية المكرِّسة، كي يظفر بقراءة من يسنّون أن ما يقرؤونه يستحق القراءة. ومجمل القول فإن الترجمة هي التي تمكنه من الحصول على النبالة الأدبية.
فلعلنا قد نستغرب إذا علمنا، على سبيل المثال، أن الترجمة الذاتية التي قام بها الكاتب التشيكي ميلان كونديرا خلال السبعينيات من القرن الماضي هي التي جعلت منه أحد أشهر الكتاب العالميين فيما بعد. والأمر يصدق على كافكا قبله، الذي لم يكن معروفًا قبل العشرينيات من القرن الماضي، فقد كانت الترجمة الفرنسية لكتابه «المسخ» سنة 1928 هي الشرارة الأولى لما عرفه فيما بعد من شهرة عالمية. وفي هذا السياق تورد كازانوفا قولة لكونديرا نفسه: «لنتخيل برهة أن كافكا كتب مؤلفاته باللغة التشيكية، فمن كان سيعرفها اليوم؟ … وحتى لو نجح أيّ ناشر في براغ في نشر كتب كافكا التشيكي المفترض، فإن أيا من مواطني بلده ما كان ليمتلك النفوذ الضروري كي يُطلع العالم على هذه النصوص الغريبة المكتوبة بلغة بلد بعيد. لا، صدقوني، ما كان لأحد أن يعرف كافكا اليوم، ولا أحد، ولو كان تشيكيًا».[9] ألا يتحدث كونديرا هنا عن حاله هو كذلك؟
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] CASANOVA, Pascale, 1999, La République mondiale des Lettres, Seuil, Paris
باسكال كازانوفا، الجمهورية العالمية للآداب، ترجمة أمل الصبان، المجلس الأعلى للثقافة،2002
[2] CASANOVA, Pascale, « Consécration et accumulation de capital littéraire. La traduction comme échange inégal », Actes de la recherche en sciences sociales, 144, 3, 2002, pp. 7-8.
[3] المرجع نفسه، ص8
[4] ب. كازانوفا، الجمهورية..، ص25
[5] المرجع والصفحة نفسهما
[6] كتبت كازانوفا: أعرّف عملية إضفاء الطابع الأدبي Littérarisation بأنها كل عملية-سواء أكانت ترجمة أو ترجمة ذاتية، …- تسمح لنص قادم من قطر فقير على الصعيد الأدبي بفرض نفسه بوصفه أدبيًا لدى المحافل الشرعية«.(الجمهورية..، ص165)
[7] نفسه، ص30
[8]ا CASANOVA, Pascale, « Consécration et accumulation de capital littéraire. La traduction comme échange inégal », Actes de la recherche en sciences sociales, 144, 3, 2002, pp. 9-10.
[9] كونديرا، الستارة، الترجمة العربية، ص ص38-39