مقالات

هشاشة النفس أم الحياة؟ – عن شقاء العيش بأصالة في عالمٍ زائف

الحياة كما نعيشها .. مدخل قصصي

«في قاعة الانتظار، كنت أفكر بمستقبلي، وتخيلته مُستقرًا. فكرت بالسنوات القادمة وما تحمله من مشاريعٍ وإنجازات، وقد ساعدني ذلك على الاسترخاء قبل المقابلة» هذه الكلمات التي وصف بها صديقي محمد تجربة مقابلته الوظيفية، لا تعبر عن تجربته الشخصية فقط، وإنما تعبر عن تجربة جيلٍ بأكمله؛ انعدام وضوح الرؤية للمستقبل والقلق من تخبطات القرارات المصيرية، هي من المخاوف المتجذِّرة في طبيعة العيش تحت وطأة ضغوط العصر الحديث.

كان محمد كاتِبًا مُبدِعًا يحلم بتحويل شغفه بالكتابة إلى مهنةٍ يتفرّغ لها بعيدًا عن تخصصه الجامعي، ليعيش على مدخولها ويحقق ذاته بنجاحاتها. وعندما دعته إحدى الشركات الناشئة المتخصصة في صناعة المحتوى لإجراء مقابلة وظيفية، بَدا حلمه يتجلّى أمامه في تلك القاعة وهو ينتظر مناداة اسمه صباح ذلك اليوم.

«محمد» ناداه الرئيس التنفيذي للشركة بنفسه قبل أن يُحيّه بحفاوةٍ كبيرة ويقوده إلى غرفة الاجتماعات. أخذت أسئلة المقابلة طابعًا يميل إلى الدردشة والتعارف؛ سؤال تلو الآخر، حتى قام الرئيس التنفيذي بعكس الأدوار، حيث نادى عددًا كبيرًا من الموظفين ليجلسوا قبال محمد، ثم طلبه أن يسأل الجميع أي سؤالٍ يخطر في ذهنه بخصوص العمل في الشركة. وبعد عدة أسئلة وأجوبة مُباشرة ومُقتضبة، استشعر المدير رضى محمد، ثم أشار مرة أخرى إلى مجموعة الموظفين الجالسين قباله وقال مُبتسِمًا: «حسنًا إذن، هؤلاء هم أفراد أسرتك الجديدة».

اقترح المدير التنفيذي أن يبدأ محمد العمل بعقدٍ مؤقت لعدة أشهر، حتى يتسنّى لجميع الأطراف تقييم العلاقة المهنية قبل توقيع العقد الوظيفي. وافق محمد دون أي اشتراطات، وبدأ باستلام المشاريع على الفور. لكن سرعان ما اصطدمت طموحاته بعقبات المنظومة البيروقراطية، ووجد نفسه في مواقفٍ عديدة تدفعه اضطرارًا إلى المساومة على رؤيته الإبداعية، إما لإرضاء المحرر أو العميل. استمر على المساومة طوال فترة عمله حتى شعر بأنه لا يستطيع التفريق بين كتاباته وكتابات زملائه؛ كل هؤلاء المبدعين لم يعد هناك ما يميزهم سوى إكسسوارات مكاتبهم، وكل ما عدى ذلك من نتاجهم الكتابي كان يمر من خلال المطحنة التحريرية ذاتها، ليخرج منها إبداعًا مُعلّبًا تحت مسمى صناعة ونشر المحتوى.

«لقد تغاضيت عن كل هذا» قال محمد، «إنها شركة ناشئة تعمل وفق نموذج ربحي ناجح؛ فمَن أنا كي أقوم بعكس ذلك؟ كما أني ما زلت في بداية مسيرتي المهنية ولا يمكنني القيام بما يحلو لي في هذه المرحلة. لقد قضيت فترتي هناك مُلتزمًا بأعلى درجات المهنية في العمل، فعلت كل ما طُلِب مني ولم أقل “لا” أبدًا» توقف للحظة، ثم أكمل بنبرة مشمئزة: «لكن ما عجزت عن استساغته هي تلك المرارة المتراكمة من انعدام المهنية التي واجهتها حتى آخر يومٍ لي في الشركة، وكأن حفاوة الاستقبال لم تكن سوى استعراضًا كاذبًا من الإداريين. عليك أن تعي يا صاحبي أن هذه كانت وظيفتي بالرغم من كونها مؤقتة، إنها وظيفتي الوحيدة، ومع اقتراب نهاية العقد، كنت ازحف نحو المجهول مجددًا. في تلك اللحظة، كنت مستعدًا للمساومة على أي شيء، لأني كنت في أمَسّ الحاجة للضمان الوظيفي، لشيءٍ من اليقين».

قام محمد مع بداية أسبوعه الأخير بمراسلة المسؤول عن عقده الوظيفي مُطالبًا لقاءه لمناقشة عرض ترسيمه في الشركة. لكن الرد لم يأتِ كما توقعه؛ فالرد لم يأتِ بتاتًا «انقضى اليوم الأول والثاني والثالث والرابع، لا وجود لهذا الرجل لأنه كان يعمل في مكانٍ آخر، ولا وسيلة لتواصل معه سوى بريده الإلكتروني الذي لم يصلني منه شيء. لم أستطع النوم ليلة الأربعاء، وظللت مُستلقيًا على السرير حتى دخلنا فجر الخميس. حينها، رنّت إشعارات جهازي مُعلِنةً وصول رسالة جديدة إلى بريدي الإلكتروني. مددت يدي وسحبت جهازي ثم فتحته لأرى اسم الرجل المسؤول عن العقد قد رد على رسالتي. ابتسمت خلف الشاشة المضيئة للجهاز مُتمسكًا بما تبقى لي من أمل، لكن بمجرد ما قرأت رسالته، شعرت وكأني أغرق في الظلمة مُثقلًا بسذاجتي» ابتسم بحرقة ثم أكمل: «اعتقدت أنه كتب رسالته في هذا الوقت لأنه شعر بالخجل من تأخره في الرد، اعتقدت أنه سيعتذر ويحدد لي موعدًا للقائه في صباح ذلك اليوم؛ لكن ما حصل كان مختلفًا».

مَال إلى الأمام وقد تحولت حرقته إلى ألم: «لقد كتب رسالته بلا أي مقدمات أو اعتذارات أو حتى أدنى شعور بالخجل؛ فكل ما أراد قوله في تلك الساعة المتأخرة هو أنه سيكون في إجازة ابتداءً من نهاية الأسبوع، وأن علي انتظاره حتى يعود من رحلته». رفع محمد يديه مُستسلِمًا ثم قال: «الآن دعني أخبرك يا صاحبي، أنا لست واهِمًا بمكانتي في هذه الحياة، فأنا لست محور هذا الكون، ولا أتوقع حضوري الدائم في أذهان كل الناس. لذا، كنت على أتم استعداد لتجاوز هذه المهزلة، لكني عجزت عن ذلك؛ فالشيء الوحيد الذي كسرني في تلك الرسالة … هو سطرها الأول» سحب هاتفه من جيبه ثم فتح الرسالة من بريده الإلكتروني قبل أن يعطيني إياه، نظرت إلى الشاشة وقرأت ما كُتِب في السطر الأول “مرحبًا عمر… ” ! عدت بنظري إليه لأجده مُتعبًا من الذكرى وما تحمله من مشاعر الاغتراب. حينها، نطق بنبرة أسى لم أسمعها منه من قبل: «إنها نبوءة كافكا، وأنا غريغور سامسا».

إن ما أوصل محمد إلى هذه الدرجة من الأسى هو نظام العمل الذي لم يكتفِ بطمس إبداعه فقط، بل قام بطمس هويته أيضًا. فالرجل المسؤول عن عقده الوظيفي لم يكلف نفسه عناء التأكد من هوية الشخص الذي يراسله؛ لأنه بالنسبة إلى هذا الإداري، محمد هو عمر، و عمر هو محمد، وكلاهما يمثلان الحشرة العملاقة في رواية فرانس كافكا «التحول». أي إنه بلا قيمة حقيقية تخوله لاستحقاق لقاءٍ خاص للحديث عن عقده الوظيفي، كما إنه غير مُستحق لأن يكون محمدًا في تلك الرسالة؛ إنه عمر، وعليه الانتظار إلى أن يعود المسؤول لتحديد مستقبله.

«لقد أزعجتني هذه الرسالة، أزعجتني بشدة» أكمل محمد، «أزعجتني حتى شعرت بالخجل من انزعاجي. كنت أقول لنفسي “إنها مجرد رسالة، لا تضخّم الأمور” لكني عجزت عن ذلك، فقد كنت تائهًا، لا أعلم إن كان يصح دفن مشاعري وتجاوز المسألة. لجأت حينها إلى العلاج النفسي ليساعدني على فهم الأمور وترتيبها، لكني كنت أغادر العيادة بسخطٍ متعاظم في كل مرة، حيث كانت الجلسات تتمحور حول إخفاقاتي في العمل، أين وكيف ولماذا أخفقت؟ وما الذي يمكن فعله لتجاوزها في المستقبل؟ للوهلة الأولي بَدا لي هذا منطقيًا، لكن مع مرور الوقت تبيّنت إصرار الأخصائي النفسي على تحميلي المسؤولية؛ فكل حادثة حصلت، كان يراها من زاوية تقصيري لا تقصير الإداريين؛ هناك فقط المسؤولية الفردية ولا شيء آخر، وأي محاولة لإشراك الإدارة في تحمل المسؤوليات، كان يعتبرها ممارسة لا-واعية لتبرير الكسل والتقاعس الذي يتسم به جيلنا!».

هز محمد رأسه وقال: «لكن المهزلة لم تتوقف عند هذا الحد؛ فبعد عدة أسابيع من مغادرتي للشركة، وجدتها قد تعاونت مع هذا الأخصائي ليشارك في كتابة محتوى عن ظاهرة الهشاشة النفسية. وفي منشوراته، اِتهم الشباب بأنهم غير قادرين على تحمل مسؤوليات الحياة لما يعانونه من ضعف في الإرادة وشعور بالاستحقاقية المفرطة؛ ثم أخذ يُسطر أفكاره عن أزمة القيم الأخلاقية عند الأجيال الشابة، وعلاقتها المباشرة باضطراباتهم النفسية المتزايدة. كل هذا تحت شعار الشركة التي تسببت في اضطرابي النفسي في المقام الأول! إنها مهزلة حقيقية يا صاحبي، لأن هذا التعامي عن أثر البيئة في خلق قوى قاهرة للفرد، هو بحد ذاته عامل مؤثر على الصحة النفسية؛ فبمجرد ما يتم إخراج البيئة من المعادلة، لا يتبقى سوى الفرد ليتحمل كامل مسؤولية إخفاقاته» توقف للحظة ثم ختم قصته قائِلًا: «ويالها من نظرة بائسة للحياة .. تفتقر إلى الواقعية والإنصاف»(1).

الآن، وبعد هذا الاستعراض القصصي المفصَّل، حان الوقت لبدء تَقَصّينا إجابة السؤال الرئيسي لهذه المقالة: هل أزمة الهشاشة النفسية مُتأصِّلة في طبيعة الأجيال الشابة أم إنها نتيجة العيش تحت تأثير أسلوب الحياة العصرية؟ يدفعنا هذا السؤال باتجاه الكتاب الذي قدَّم لنا مفهوم الهشاشة في العالم العربي، لنتفحّص خطابه ونقيّم موضوعيته ونتبيّن حقيقة أهدافه.

إلى مَن تشير أصابع الاتهام في خطاب الهشاشة النفسية؟

في كتابه المثير للجدل «الهشاشة النفسية : لماذا أصبحنا أضعف وأكثر عرضة للكسر؟»، افتتح إسماعيل عرفة الفصل الأول باستعراضه لمشهدٍ قصير يُمهد به تحليله لأزمة الهشاشة عند الأجيال الشابة:

«شابٌ يقع في غرام فتاة، ربما رآها على وسائل التواصل الاجتماعي، وربما لحظتها عيناه في جامعته .. تضطرب مشاعر هذا الشاب وينبض قلبه بالإعجاب بها .. ».

ثم أخذ يرسم سيناريوهات هوليودية مختلفة لبداية تطور العلاقة العاطفية حتى تدهورها؛ فنجده يكتب بنبرة حتميّة:

«لكن بعد مدة، طالت أو قصرت، يكتشف الشاب أنه يعيش في عالم من الخيال .. ».

 وبعدها يسهب في وصف تبعات الانفصال من العلاقة:

«يبدأ [الشاب] في الدخول في دوامة من المشاكل النفسية .. وتتأثر حياته سلبًا فيرسب في اختباراته ويقطع علاقته بأصدقائه وينطوي على نفسه .. ».

قبل أن يختم مشهده بطرح سؤال الهشاشة النفسية وربطه بالتهرب من المسؤولية:

«لماذا تنكسر النفوس بهذا الشكل وترفض أن تتحمل نتيجة أخطائها ..؟ »(2)

هنا، علينا أن نسأل، مَن هذا الشاب الذي يتحدث عنه المؤلف باستمرار في مختلف مشاهد الكتاب؟ ببساطة، إنه شاب مُتخيَّل، غير حقيقي، لا حياة له؛ أي إنه متواجد في عقل مؤلفه، مما يجعله قابل للتشكُّل بما يتناسب مع أهداف الخطاب وتوجهاته. هذا يفسر لنا سبب اختيار المؤلف للنبرة الحتميّة في سرده للأحداث؛ إنه الـمُخرج لهذا المشهد، وهو المتحكم بكل تفاصيله؛ فكل علاقة عاطفية هي بالضرورة فاسدة ونهايتها وخيمة، لأن هذا ما يخدم حكم المؤلف في إثبات تهمة الهشاشة النفسية على الأجيال الشابة.

لا يعني هذا بأي شكلٍ من الأشكال أن المشاهد المذكورة في الكتاب لا تحدث في الواقع، لكن ما نريد التشديد على أهميته هنا بعيدًا عن التنظير والتخيُّل، هو أن الأحداث الواقعية في حياتنا المعاشة تحصل لأشخاص حقيقيين يعيشون حياة حقيقية ليست مجردة أو منزوعة من سياقاتها؛ تمامًا مثل محمد.

ولكي يتضح مقصدنا هنا، دعونا نعيد صياغة جزء بسيط من قصة محمد كما لو أنها كُتِبَت بالأسلوب التجريدي لإسماعيل عرفة:

«شابٌ ينتظر في قاعة إحدى الشركات الناشئة لإجراء مقابلة وظيفية . ينادي المدير التنفيذي اسمه قبل أن يستقبله بحفاوة كبيرة».

بالمقارنة مع ما ذكره محمد بنفسه، نستطيع رؤية أثر التجريد في اختزال هويته ومشاعره وأحلامه لصفات وأوصاف سطحية. كيف سيؤثر هذا الاختزال على موقفنا تجاه محمد لو أكملنا قصته بنفس الأسلوب؟ هل يصح تحليل سلوكياته واتهامه بالهشاشة بعد انتزاعه من سياقات حياته الشخصية؟

لا، لا يصح ذلك؛ لأن انتزاع الفرد -أيًا كان- من سياق الحياة المعاشة تحوله إلى شيء غير واقعي (شيء مُتخيَّل قابل للتشكُّل) مما يؤثر سلبًا على موضوعية التحليل؛ فلا يمكننا الاحتكام في تحليلنا إلى النماذج التي يقدمها إسماعيل عرفة في كتابه؛ فمَن يدري، قد يكون الشاب الواقع في غرام الفتاة لم يُسمح له تزوجها بسبب تعقيدات «تكافؤ النسب» في مجتمعاتنا العربية، لكن الأسلوب التجريدي لخطاب الهشاشة تعمّد تجاهل هذه التفاصيل كي يصنع من نماذجه المتخيَّلة صورة صبيانية للأجيال الشابة.

وعلى هذا الأساس، تتطلب موضوعية التحليل التزامًا صارمًا بسياقات الحياة المعاشة للأمثلة المستشهد بها، وهنا تأتي تفاصيل قصة محمد لتلعب دورها المحوري في فهمنا لحقيقة الهشاشة النفسية.

 

الهشاشة النفسية تحت المجهر

حسنًا إذن، لننطلق من هذه الفكرة البديهية؛ حياة محمد لم تبدأ مع بداية قصته (في قاعة انتظار الشركة)، ولم تنتهِ بنهايتها (بعد خروجه من الشركة)؛ إنها حياة حقيقية مُعاشة في عالمنا الواقعي (بدأت منذ ولادته وستنتهي عند مماته)، مما يجعلها أكثر ثراءً و تعقيدًا مما يمكن سرده في مدخلٍ قصصي. لذا، علينا البدء بالتأكيد على فرادة حياة محمد، حيث إن معتقداته وطموحاته وعلاقاته وصدماته والتزاماته .. إلخ، هي ما تجعل لحياته خصوصية تُفرِّقه عن بقية أقرانه؛ فمحمد هو محمد ولن يكون عمر أبدًا.

الصورة التوضيحية الأولى

يرسم لنا محمد صورة دقيقة عن أثر المنظومة البيروقراطية للعمل في خلق مشاعر الاغتراب التي اعترته طوال الفترة التي قضاها في الشركة (شعور الاغتراب عن نِتاجه الكتابي و شعور الاغتراب عن ذاته)؛ فنجده يشدد في أكثر من موضع على محاولته لتجاوزها وفشله في ذلك:

«لقد تغاضيت عن كل هذا .. لكن ما عجزت عن استساغته هي تلك المرارة المتراكمة من انعدام المهنية التي واجهتها حتى آخر يومٍ لي في الشركة».

«كنت أقول لنفسي “إنها مجرد رسالة، لا تضخّم الأمور” لكني عجزت عن ذلك؛ فقد كنت تائهًا، لا أعلم إن كان يصح دفن مشاعري وتجاوز المسألة».

الصورة التوضيحية الثانية

هذه الصراعات الداخلية (بين رغبته بتحقيق ذاته و حاجته إلى الضمان الوظيفي) أنهكت محمد نفسيًا، حتى لجأ إلى المختص النفسي ليساعده على فهم ما يعاني منه: هل المشكلة نابعة من تركيبته الشخصية أم من بيئة العمل؟

الصورة التوضيحية الثالثة

وبالرغم من انفتاح محمد على الجلسات العلاجية واستعداده لتقبّل نتائجها، إلا إن إصرار الأخصائي على تحميله المسؤولية كاملة جعله يزداد تشويشًا وانزعاجًا:

«كانت الجلسات تتمحور حول إخفاقاتي في العمل، أين وكيف ولماذا أخفقت؟ وما الذي يمكن فعله لتجاوزها في المستقبل؟ للوهلة الأولي بَدا لي هذا منطقيًا، لكن مع مرور الوقت تبيّنت إصرار الأخصائي النفسي على تحميلي المسؤولية؛ فكل حادثة حصلت، كان يراها من زاوية تقصيري لا تقصير الإداريين؛ هناك فقط المسؤولية الفردية ولا شيء آخر .. ».

الصورة التوضيحية الرابعة

الآن، وبعد اكتمال النموذج البصري، نستطيع رؤية أثر المسؤولية الفردية في خلق ضغوطٍ تحصر الفرد بين مِطرقة خطاب الهشاشة وسِندان البيئة المؤثرة؛ وعليه، تتضح لنا معاناة محمد كضحية لهذا الوضع:

«إنها مهزلة حقيقية يا صاحبي؛ لأن هذا التعامي عن أثر البيئة في خلق قوى قاهرة للفرد، هو بحد ذاته عامل مؤثر على الصحة النفسية؛ فبمجرد ما يتم إخراج البيئة من المعادلة، لا يتبقى سوى الفرد ليتحمل كامل مسؤولية إخفاقاته».

هشاشة النفس أم الحياة؟

هنا يكمن الإشكال الأساسي في توجه المسؤولية الفردية كما يتبناه خطاب الهشاشة، إنه يعزل الأجيال الشابة عن مؤثرات بيئاتهم (مجتمعاتهم وأسَرهم وجامعاتهم ومدارسهم ..إلخ)، ثم يطالبهم بحمل أثقال الحياة على أكتافهم، وعندما تنكسر ظهورهم، يتم اتهامهم بالضعف والكسل! هذا لأنه من منظور المسؤولية الفردية، هناك حل لمعظم المشاكل التي يواجهها الإنسان في حياته، وهذه الحلول غالبًا ما تقع على عاتقه كفرد؛ فلا حاجة لبذل جهود مؤسساتية لمعالجة مشاكل البيئة، لأنه من الأسهل -والأربح- إلقاء اللوم على الأفراد ومطالبتهم بمعالجة أنفسهم ليتكيَّفوا مع هذه المشاكل؛ أي يكونوا أقل تذمُّرًا حتى وإن كانت معاناتهم حقيقية:

  • مراهق متأثر نفسيًا بسبب تعرضه للتنمر في بيئته المدرسية .. غالبًا ما يتم اتهامه بالهشاشة ومطالبته بالاسترجال والمقاومة.
  • مراهقة متأثرة نفسيًا بسبب تعرضها للتعنيف في بيئتها المنزلية .. غالبًا ما يتم اتهامها بالهشاشة ومطالبتها بالخضوع لإرادة أسرتها.
  • شاب متأثر نفسيًا بسبب شح الفرص الوظيفية في سوق العمل .. غالبًا ما يتم اتهامه بالهشاشة ومطالبته بالعمل في أي وظيفة شاغرة.

هذه ليست أمثلة مُتخيَّلة نحاول صياغتها لخدمة تحليلنا، بل هي تصورات سائدة عن الهشاشة النفسية للأجيال الشابة؛ فبالرغم من افتقارها إلى الواقعية والإنصاف -كما قال محمد ووضّحنا في النموذج أعلاه- إلا إن هناك مَن يؤمن بواقعيتها وصحة أحكامها؛ إنهم أولئك الذين يَحصِرُون أسباب انكسارات النفس في العوامل الفردية الخاصة، كي يُخلِّصوا أنفسهم من ثقل حمولة المسؤولية العامة؛ فنسمعهم يقولون إن الشباب تشرَّبوا الدلال حتى تسمَّموا بالاستحقاقية وأصبحوا أكثر عُرضةٍ للكسر، ونجدهم يُشخِّصون الأزمة بأعراضٍ تحوم حول كل ما هو جوهري كالقيم والأخلاق والأهداف، مما يجعل وصمة الهشاشة النفسية من منظورهم تُعبِّر عن فسادٍ مُتأصِّل في طبيعة الجيل بأكمله. هذا ما أعطى خطاب الهشاشة نبرته الوعظيّة؛ إنه قائم على أساس المفاضلة بين الأجيال؛ فالجيل الأكبر يخاطب الجيل الأصغر ويعظه مُوَبِّخًا: «نحن أفضل منكم. قيمنا أفضل وأخلاقنا أفضل وأهدافنا أفضل».

لنتوقف هنا قليلًا ونسأل أنفسنا: ما الدافع وراء تبني خطاب الهشاشة لتوجه المسؤولية الفردية ونبرة الوعظ المتعالية؟ بالعودة إلى أفكار مَن أخذوا على عاتقهم ترويج هذا الخطاب، نستطيع استشعار رغبتهم المبطنة بالمحافظة على الوضع الاجتماعي وممانعة تغيُّره؛ بمعنى، إنه موقف سياسي-اجتماعي يُعارض حاجة الأجيال الشابة إلى التغيير المواكب لتطورات العصر وتحدياته. كل هذا باسم «المحافظة على القيم الاجتماعية»؛ لأن التغيير من منظور الفكر المحافظ، قد يكون البداية المؤدية إلى تفكك القيم وزوالها؛ فنجد هناك مَن يرفض أبسط الحلول لإصلاح مشاكل البيئة المؤثرة:

  • كالاعتراض على سَن قانون للحماية من التنمر في المدارس .. خشية أن يؤدي إلى تمييع معايير الصلابة.
  • والاعتراض على سَن قانون للحماية من العنف الأسري .. خشية أن يؤدي إلى تمزق روابط الأسرة.
  • والاعتراض على سَن قانون للحماية من الاستغلال الوظيفي .. خشية أن يؤدي إلى خفض الإنتاجية.

في هذه الحالة، لا عجب من اتساع فجوة التفاهم بين الأجيال؛ فما النتيجة المرجوة من تسخيف معاناة الشباب والشابات؟ إنه موقف تصادمي يكشف لنا انفصال خطاب الهشاشة عن الواقع المعاش في السياق التاريخي؛ لأن الحياة لم تتوقف يومًا عن الحركة في الزمن. نحن نعيش في عالم يوَلِّد تحديات متجددة كل دقيقة، فالتنمر الذي قاساه الآباء قبل خمسين سنة، يختلف كليًا عن التنمر الإلكتروني اليوم؛ الأجيال تختلف والمعاناة تختلف والحلول تختلف أيضًا. هذا يقودنا إلى استنتاجٍ في غاية الأهمية، وهو أن ظاهرة التأزم التي نحن بصددها، تَشَكَّلت نتيجة تفاعل عدة عوامل خاصة بأسلوب الحياة العصرية، مما يُبَرِّئ ساحة الأجيال الشابة من تهمة الهشاشة المتأصِّلة في طبيعتهم.

ولكي نفهم هذه الظاهرة فهمًا سليمًا يخولنا لتشخصيها، يتوجب علينا النظر إلى أنفسنا كأبناء هذا العالم وهذا العصر.

 

كيف يمكن فهم الأجيال الشابة؟

لو كان بمقدورنا تلخيص كل ما ذكرناه حتى هذه اللحظة، سنقول: دعونا نفكر بشكلٍ أوسع؛ لنتجاوز منظور البُعد النفسي الأوحد ونتبنى منظورًا أشمل بأبعادٍ تحليليةٍ مختلفة.

والآن، لنستحضر تفاصيل قصة محمد مجددًا؛ فقراراته في الحياة لم تكن مبنية على رغبات نفسية بحتة، بل كانت متأثرة أيضًا بالقوى الخفيّة لوضعه الاجتماعي والاقتصادي (ما كان لمحمد أن يترك تخصصه ويتبع شغفه دون مؤثرات اجتماعية واقتصادية على هذا القرار المصيري). فمن الجُمَل الأولى يخبرنا: «في قاعة الانتظار، كنت أفكر بمستقبلي، وتخيلته مُستقرًا»؛ إن ما يتمناه محمد في هذه الكلمات، هو استقرار حياته المعاشة بمختلف جوانبها. فهل هناك أداة مفاهيمية تمكننا من تبني منظور شامل لهذه الجوانب؟ وبصياغةٍ أخرى، هل هناك أداة قادرة على تفسير قرارات محمد وأثر تبعاتها عليه دون اتهامه بالهشاشة؟ لأن الخطوة الأولى -والأهم- للتواصل الفعّال بين الأجيال تعتمد على التفهُّم الخالي من الأحكام السلبية.

لحسن و سوء حظنا، هناك مفهوم واحد قادر على هذه المهمة، وهو مفهوم «الهوية»؛ فكيف لنا توظيفه كأداة لفهم الأجيال الشابة؟

تجيبنا «موسوعة المفاهيم الأساسية في العلوم الإنسانية والفلسفة» أن هناك أطروحتين أساسيتين لمفهوم الهوية (3):

  • الأطروحة الأولى: تستلهم أعمال إميل دوركايم Émile Durkheim، وتؤكد أن الهوية تتشكل عبر التنشئة الاجتماعية من خلال مجموع القيم والأنظمة التي يستمدها الفرد من المجتمع.
  • الأطروحة الثانية: تميل إلى أعمال ماكس فيبر Max Weber ، وتستخلص أن الهوية هي حصيلة مسارات تكوّن الفرد من الوضعيات والتجارب التي يخوضها في علاقته مع الآخرين.

وبالتالي، نجد في كل هوية جانب «جوهري» متجذِّر في المجتمع ويُوَرَّث بالنشأة (حسب الأطروحة الأولى):

  • فيه خصائص الهوية التي تُمَرَّر للفرد منذ لحظة تشكُّله الجيني (في رحِم والدته) مرورًا بالتشكُّل النفسي والاجتماعي والثقافي (بين أفراد أسرته ومجتمعه) في مراحل عمره المبكرة.

وجانب «خلّاق» يمتاز بالديناميكية المتشكِّلة من الخبرات والعلاقات المختلفة (حسب الأطروحة الثانية):

  • فيه خصائص الهوية التي يتبناها الفرد -أو يرفضها- نتيجة تفاعله مع الآخرين والعالم من حوله (فقد يتبنى الإنسان قيمة لا تمت لمجتمعه بصلة بسبب انفتاحه على العالم، وقد يرفض قيمة من صلب مجتمعه لأنها لا تتناسب مع معتقداته الشخصية).

لنتصور المسألة كالتالي: عندما يولد الفرد في مجتمعٍ ما، يُعطى قطعة عملاقة من مادة خام حسب اختلاف ثقافته المحلية (لنفترض في مجتمعه إنها قطعة من الرخام، في حين المجتمعات الأخرى تعطي قطعة من الخشب أو الصلصال)؛ هذه القطعة تمثل ارتباطه الثقافي بالمجتمع الذي نشأ فيه (فالرخام هو «جوهر» المجتمع الرخامي وما يُفرِّقه عن بقية المجتمعات الخشبية والصلصالية). وبعد فترة من الزمن، يُعطى الفرد -في شبابه- الأدوات اللازمة لنَحْت هويته كما يشاء ويرى إنها تُعبر عن ذاته ورؤيته للحياة (ليكون مُتفرِّدًا في مجتمعٍ متجانس من الرخاميين).

في بادئ الأمر، قد يبدو لنا هذا التصور مثالي وحالِم كما لو أنه ينتمي إلى كُتَيِّبات قصص الأطفال؛ فالمجتمع والأسر والأفراد يعيشون حياة سعيدة يسودها التفهُّم. لكن جميعنا يعلم أن هذا غير صحيح ولا يمثل الواقع، بدليل خطاب الهشاشة الذي انتهج أسلوب المفاضلة بين الأجيال. وعند تفحّصنا لتفاصيل التصور مجددًا، سنجد الخلاف يكمن في حرية تشكيل الجانب الخلّاق من الهوية؛ إنها حرية مُقيّدة وليست مُطلقة. أي إن المجتمع يريدنا أن نمتثل إلى أنماط معيّنة لا نحيد عنها عند تشكيل هوياتنا؛ وهنا، يبدأ التصادم في مسألة صراع الهوية بين الفرد والمجتمع.

هذا ما وجدنا عليه أقراننا

إن الصراع بين رغبات الفرد وضغوط المجتمع، ليس وليد الحياة العصرية، وإنما صراع أزلي خاضه الآباء والأمهات من قبل لكن بظروف اجتماعية-اقتصادية مختلفة؛ فنشأتهم في مجتمعاتٍ متجانسة نسبيًا حيث هناك تصوّر سائد لما يجب أن تكون عليه الحياة وكيف تعاش، جعلتهم يميلون أكثر للمساومة وتقبُّل القوالب النمطية الجاهزة.

لكن من الضروري هنا وضع الأمور في سياقاتها الصحيحة، واستيعاب أن المفاهيم النفسية التي نستخدمها في وصفنا لما يُطلق عليه «تشكيل الهوية» و «تحقيق الذات» .. إلخ، هي اختراعات مفاهيمية حديثة كَسَبَت قيمتها من أسلوب حياتنا العصرية، مما يجعلها لا تملك القيمة ذاتها في الماضي. فنستطيع القول إن الآباء في وقتٍ مضى كانوا يطمحون لتحقيق إنجازاتٍ ما، لكن هل كانوا يطمحون لتحقيق ذواتهم بنفس المعنى الذي يتبناه أبنائهم اليوم؟  لا نستطيع الإقرار بذلك؛ لأن مصطلح «أزمة الهوية» الذي يصف ظاهرة معاناة الشباب مع قرارات الحياة، لم يبرز إلا بعد منتصف القرن الماضي، مما يدلل على ارتباط أزمة الهوية بالحداثة التقنية والثقافية للعالم (4).

هذا يعني إن أسلوب الحياة العصرية استحدث ضغوطات نفسية واجتماعية واقتصادية تؤثر بشكلٍ مباشر على تشكيل هويات الأجيال الشابة وتعريفهم لذواتهم. فنجد انفتاحهم على العالم من خلال الإنترنت، قد كشف لهم خيارات مختلفة لسُبل العيش، مما قلب موازين الهوية لكفة الجانب الخلّاق، حيث أصبحوا يسعون لكسر القوالب النمطية وعيش حياتهم كما يرتضونها، لا كما يفرضها عليهم المجتمع. فأخذوا يستثمرون جهودهم على ما يرونه يُعبِّر عن قيمهم ويُحقق أهدافهم.

هذه هي الحياة كما نعرفها اليوم، إنها مُنفَتِحة على كل السُبل الممكنة وتطفح بالخيارات إلى حد الشلل؛ فهناك عشرات المسارات المتفرِّعة مع كل خطوة يخطوها الفرد في هذا العالم المثقل بالصور الدعائية «للحياة الناجحة» و «الحياة المميزة»، مما يدفعنا للإفراط بالتفكير في كل قراراتنا. هل علي تغيير تخصصي؟ هل علي ترك وظيفتي؟ هل علي الإصرار للزواج بمَن أحب؟ ماذا علي أن ألبس؟ أن أشاهد؟ أن أقول؟ كل هذه الخيارات المتاحة -أو ما نعتقد إنها كذلك- لما يمكن فعله، تدفعنا للهوس باتخاذ أكبر قدر من القرارات السليمة في أقصر مدة ممكنة؛ فلا مجال للخطأ، لا مجال للتباطؤ!

والنتيجة هي قلق مستشر تمتد خيوطه في نسيج الحياة كما نعيشها ونخوض غِمارها. نحن لا نعاني لأننا ننتمي إلى جيلٍ هش غير قادر على تحمّل المسؤولية؛ بل لأننا نسعى للعيش بأصالة في عالمٍ زائف. فما بين ضغط الأهالي وضغط الأقران وضغط الثقافة الاستهلاكية وضغط الإعلام الموَجَّه، يسأل الفرد نفسه: «هل ما أرغب به هو فعلًا ما أرغب به؟».

كلمات أخيرة من محمد

بعد اطلاعه على مُسوَّدة المقالة، شدد محمد على أن أضيف في نهايتها أنه ممتن لكل تَخَبُّطاته في الحياة مهما بلغت قسوتها عليه؛ ففشل علاقته العاطفية تركته مكسورًا، لكنها أعطته أجمل أيام حياته؛ وفشل تجربته المهنية تركته مشوشًا، لكنها أكسبته أصدقاء رائعين.

ثم طلبني إهداء هذه المقالة لكل مَن يسير مُتخوِّفًا في رحلة الحياة:

«لتُضيء تَخَبُّطاتِنا ظلمة الطريق وتكشف حقيقة العالم من حولنا».

[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]

هوامش ومراجع:

(1) لأسباب متعلقة بخصوصية محمد، تعمّدت تغيير بعض تفاصيل قصته؛ مع العلم إن التغييرات مُستقاه من تجربة واقعية لصديق آخر، مما يجعل جميع الأحداث المذكورة حقيقية ومُعبِّرة عن تجارب الشباب في العصر الحديث.

(2) عرفة، إسماعيل، الهشاشة النفسية: لماذا أصبحنا أضعف وأكثر عرضة للكسر، ص٢٥،٢٦.

(3) سبيلا، محمد و الهرموزي، نوح، موسوعة المفاهيم الأساسية في العلوم الإنسانية والفلسفة، ص٥٣٨.

(4) Tod, Sloan, Life Choices: Understanding Dilemmas And Decisions, Page 3.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى