مقالات

البراجماتية والمأزق المعرفي

علي رضا

إذا كانت السِّمة الغالبة على الفلسفة التحليلية في النصف الأول من القرن العشرين هي التأسيس المنطقي، فإنها اتسمَت في النصف الثاني منه بالنزوع البراجماتي. ذلك النزوع الذي تطرّف على يد التجريبيين والنسبويين، فأوقعها في عددٍ من المشكلات والتناقضات الداخلية. وقد كان بالإمكان تلافي ذلك لو تمسّك أولئك الفلاسفة بالتأسيس العقلاني والميتافيزيقي للمبدأ البراجماتي، كما رسمه منظِّر البراجماتية الأول، الفيلسوف الأمريكي تشارلز بيرس، والذي دافع بضراوة عن هذا التأسيس ضد التجريبية الاسمانية واللا-واقعية النسبوية.

المأزق المعرفي الإنساني

كعادة كل سرديات الفلسفة المعاصرة، بدأت أفكار بيرس تتشكل بعد اشتباكه مع كتاب كانط «نقد العقل المحض» خلال بعض الحلقات النقاشية عن الفلسفة الأوروبية عام 1872، التي عُرِفَت باسم «النادي الميتافيزيقي».  وقد شاركه في حضور تلك الحلقات عدد من الفلاسفة وعلى رأسهم ويليام جيمس، فيلسوف البراجماتية الثاني.

ميز كانط بين الرأي، والاعتقاد، والمعرفة؛ فالرأي هو أن يعتبر المرء أن قضية ما صحيحة دون وجود مبرر كافي ذاتيًا أو موضوعيًا. أما إذا استند المرء إلى مبرر صحيح ذاتيًا فقط فإن رأيه يكون عندئذ اعتقادًا، وإذا استند إلى مبررٍ صحيح موضوعيًا، فاعتقاده يكون معرفة[1]. وقد حاول كانط أن يضع شروطًا تجعل من الاعتقاد [المبرَّر ذاتيًا فحسب]، عقلانيًا بشكل موضوعي، لأنه وجد أن ما وضعه من استلزامات على العقل المحض هي مجرد مصادرات تهدف إلى نتيجة محددة؛ فتح باب إمكانية المعرفة العلمية أمام شكوكية هيوم. كما وجد أيضًا أن ما وضعه من استلزامات على العقل العملي هي أيضًا مجرد مصادرات تهدف إلى فتح باب إمكان الفعل الأخلاقي.

كان كانط براجماتيًا وتظهر براجماتيته بشكلٍ واضح في الفقرة التالية: «فقط عبر الاعتبارات العملية يمكن أن نسمي ما نعتبره صحيحًا اعتقادًا حتى إذا كان غير كافٍ نظريًا، فبمجرد عرض الغاية، تصبح الشروط اللازمة لتحقيقها ضرورية من الناحية النظرية. هذه الضرورة ذاتية [مجرد احتمالية موضوعية]، لكنها تظل كافية نسبيًا إذا لم أكن أعرف أية شروط أخرى على الإطلاق يمكن بموجبها تحقيق الغاية؛ لكنها تصبح كافية تمامًا للجميع [ضرورة موضوعية] إذا كنت أعرف على وجه اليقين أنه لا يمكن لأي شخص آخر معرفة أي شروط أخرى تؤدي إلى تلك الغاية … فعلى سبيل المثال، يلزم على الطبيب أن يفعل شيئًا للمريض المعرض للخطر حتى ولو كان يجهل طبيعة مرضه. أفضل ما يمكن فعله هو ملاحظة الأعراض واختيار أكثر البدائل احتمالية، مع العلم أنه ربما يتوصل  طبيب آخر إلى نتيجة أفضل. يمثّل هذا الاعتقاد الطارئ، والذي يشكّل أساسًا للتوظيف العملي، اعتقادًا براجماتيًا»[2].

هنا أدرك كلٌ من بيرس وجيمس أنه يلزم على أي فلسفة تحاول تجاوز المأزق المعرفي الإنساني أن تبدأ من الإنسان ومن حدود قدراته المعرفية، فيقول بيرس: «تتمثّل الخطوة الأولى لدى كانط في كتاب «نقد العقل المحض»، في إدراك أن معرفتنا دومًا ستكون مرتبطة بالتجربة البشرية وبطبيعة العقل البشري»[3]. ومن ثم حاول كلاهما توظيف المفهوم الكانطي للاعتقاد البراجماتي في رسم فلسفة جديدة تضع حدودًا عملية للحقيقة الإبستمولوجية، وتبيّن كيفية تطورها نحو الحقيقة الميتافيزيقية. فيقول بيرس: «أنت فقط تحيّر نفسك عندما تتحدث عن مفاهيم لا تحيط بها علمًا مثل الحقيقة الميتافيزيقية والباطل الميتافيزيقي. كل ما عليك التعامل معه هو شكوكك واعتقاداتك عبر مسار الحياة الذي يفرض عليك اعتقادات جديدة وقدرة على الشك في الاعتقادات القديمة. إذا عُرِّفَ مصطلحي الحقيقة والكذب بمفردات الشك والاعتقاد ومسار التجربة (فتصبح الحقيقة، على سبيل المثال، هي اعتقاد يسير نحو الثبات المطلق عند اللانهاية). لكن إذا كنت تقصد بالحقيقة والباطل كيانات مجهولة لك تمامًا، فإن شفرة أوكام ستزيلها. الحل هو أن تقول إنك تريد الوصول إلى اعتقاد لا يمسّه الشك بدلًا من أن تقول إنك تريد معرفة الحقيقة»[4].

المبدأ البراجماتي

كان لبيرس فضل السبق في صياغة المبدأ البراجماتي بوصفه نظرية للمعنى، فحاجج بأن هناك ثلاثة شروط للوصول إلى مرحلة وضوح الأفكار: الأُلْفَة، والتمييز المنطقي، والمبدأ البراجماتي: «إن تَصَوُّرنا للتأثيرات العملية للشيء هي كامل تَصَوُّرنا لهذا الشيء … إن معنى الشيء هو ببساطة العادات التي ينطوي عليها»[5].

ومقصود بيرس من الشيء ليس المعطيات الحسية فحسب، وإنما «المنتج العقلي بأكمله»[6]، ولذلك تنقسم التجربة لديه لشقّين: «الأول هو البحث في الوقائع الخارجية الصادرة real وهو ما يسمى الاستقراء، والثاني هو البحث في الحقائق الداخلية ideal وهو ما يسمى الاستدلال الرياضي أو الاستنباطي». لكن لا يمكن الخلط بينهما على المستوى التأسيسي لأن الأول يدخل في باب الإمكان والثاني يدخل في باب الضروريات، ولهذا فقد اعتبر أن مشكلة الاستقراء لدى هيوم ترجع إلى كونه حاكم الاستقراء بقواعد الاستنباط من الناحية التأسيسية. أما من الناحية البراجماتية، «فـ الاستقراء لا يحتاج إلى مثل هذا الدعم المشكوك فيه، لأنه من المؤكد رياضيًا أن الطابع العام للتجربة المحدودة سيقترب من طبيعة الحقيقة كلما امتدت التجربة أكثر فأكثر»[7].

أما العادة فهي ليست مجرد ممارسة سلوكية وإنما تتسع دلالتها لتشمل الحركات العقلية أيضًا، فيقول: «أن نقول إننا نعيش كي نفعل فحسب، بغض النظر عن الفكرة التي ينفذها، يعني القول بأنه لا يوجد مغزى عقلاني. المغزى العقلاني هو ما يحدد غاية المنطق»[8]. يسمي بيرس وعي المرء بهذا المغزى العقلاني (ضبط النفس)؛ أي «قابلية المرء لأن يتصرف بشكل معين عندما تتوفر شروط \ ظروف معينة ومُوَجَّهة بدافع معين [الحصول على نتيجة معينة]، فتصبح عادة مقصودة وليس تصرفًا أهوج، العادة هي اعتقاد»[9]، أي أنها تصبح قاعدة أو قانون يلزم اتباعه. ولما كان المبدأ البراجماتي يسعى في المقام الأول لتحديد هذا المغزى العقلاني[10]، فإن بيرس أعتبره مبدأ منطقيًا، واستخدمه في حل عدد من الجدالات الفلسفية.

وجد بيرس أن الكثير من الجدالات الميتافيزيقية واللاهوتية هي جدالات نظرية بلا أي تأثير عملي على الإنسان، ومن ثم اعتبرها مجرد هراء، فيقول إن المبدأ البراجماتي هو «فقط تطبيق للمبدأ المنطقي الوحيد الذي أوصى به المسيح: (من ثمارهم تعرفونهم)»؛ فإذا تساوت الثمار، فإنهم يتساوون أيضًا. ويقدِّم طقسَ تناول الخبز والخمر باعتبارهما جسدَ المسيحِ ودَمَهُ مثالًا على تطبيق مبدئه على سِر التناول، حيث يرى الكاثوليك أن المسيح يتجلَّى بالفعل في الخبز كجسدِهِ والخمر كدمِهِ بعد تقديسهما وتحولهما، أما البروتستانت فينكرون ذلك ويعتبرون عناصر الطقس مجرَّد رموزٍ لجسد المسيح ودمه، فيقول: «من السخف أن يظنَّ الكاثوليك والبروتستانت أنهم في خلافٍ حول عناصر سِر التناول، الأفخارستيا، إذا كانوا متفقين على جميع آثاره الملموسة، في الدنيا والآخرة»[11].

كما وجد أيضًا أن شكوكية هيوم كانت مجرد احتمال منطقي بدون أي تأثير عملي على تعامله مع العالم، ومن ثم فقد اعتبرها أيضًا مجرد هراء، مثلها مثل شكوكية ديكارت، فقال: «هل تسمي كتابتك على الورق (أنا أشك) شكًا حقيقيًا؟ إذا كان الأمر كذلك، فالشك مسألة هزلية»[12]. يصبح الشك أمرًا جادًا وحقيقيًا إذا أصاب المرء بشلل عملي؛ «الشك الحي هو شك يصطدم بشكل حقيقي مع السيرورة المتناغمة للاعتقاد – عادة»[13]، ولهذا «يعلم البراجماتي جيدًا أن الشك فن يلزم اكتسابه ببراعة [لأنه يحتاج إلى سبب موجب] … فدعونا لا نتظاهر فلسفيًا بأننا نشك فيما لا نشك فيه داخل قلوبنا»[14]. نحن لا نعيد مراجعة كل القوانين العلمية يوميًا لمجرد أن مشكلة الاستقراء تمنع أن يكون اطراد الطبيعة [«فكما كانت قوانين الكون في الماضي، فستظل بصورتها في المستقبل»]، أمرًا ضروريًا إنما مجرد مسلَّمة كما بيّن هيوم.

كيف نعرف؟

وصف بيرس موقفه الإبستيمولوجي بأنه: «الحسّ المشترك النقدي critical common-sensism»، لأن رحلة البحث المعرفي الإنساني لا تبدأ من فراغ الشكوكية الديكارتية عمليًا أو حتى نظريًا بحكم أن حجة الارتداد (Regress Argument) حاضرة دومًا [إذا كان كل اعتقاد يبرره اعتقاد عقلاني آخر، فكيف يمكن تبرير الاعتقاد الأول؟]. فيرى بيرس أننا نبدأ دومًا من حصيلتنا المعرفية [كل مسلّماتنا واعتقاداتنا] في اللحظة الحالية التي نتشاركها مع الآخرين، والتي يحق لنا وصفها بأنها صحيحة. لكن تعاملنا مع الواقع المستقل عنا عبر تجاربنا يفرض علينا مجموعة جديدة من الاعتقادات التي ستتعارض مع بعض من اعتقاداتنا السابقة، فتثار داخلنا شكوك حقيقية حيال صحتها Fallibilism.

ومن ثم يلزم نقدها وتغييرها عبر دفع حركة البحث العلمي إلى الأمام بشكل يخمد جميع الشكوك؛ فنضع أفضل الفرضيات الممكنة abduction، ثم نستنبط نتائجها الضرورية deduction، ثم نختبرها عبر الاستقراء induction ونعمّم نتائجها، فنصل مرة أخرى لاعتقادات يحق لنا وصفها بأنها صحيحة لأنه لا يوجد ما ينقضها في اللحظة الحالية indefeasible؛ أي أنها تكون حقيقة براجماتية أو إبستيمولوجية. وفي ذلك يقول بيرس: «إن حالنا يشبه من يسير في مستنقع، ولا يسعه سوى أن يقول إن هذه الأرض مستقرة حتى هذه اللحظة، ولهذا سأبقى هنا حتى تبدأ في الانهيار»[15].

لكن هذا لا يعني أن الحقيقة الميتافيزيقية غير موجودة، فقد كان بيرس يرى أن «الرأي الذي قُدِّر أن يتفق عليه جميع الباحثين في النهاية هو ما نعنيه بالحقيقة، والشيء المتمثِّل في هذا الرأي هو الواقع، إن الواقع مستقلٌّ عمَّا قد يعتقده أيُّ شخص، وذلك الرأي الذي سينتج في نهاية البحث لن يعتمد على اعتقادات الأشخاص»[16]. بل إن كون هذه الحقيقة الميتافيزيقية واحدة وموضوعية هو ما سيجعلها نقطة التقاء جميع مسارات البحث العلمي في الأخير، فيقول بيرس: «إن عملية البحث، إذا دُفِعَت للأمام بدرجة كافية، ستعطي حلاً واحدًا ومحددًا لكل سؤال متعلق بها. قد تنطلق العقول المختلفة في رحلة البحث وهي تحمل أشد وجهات النظر تعارضًا لكن تقدم البحث يدفعهم بواسطة قوة خارجة عن ذواتهم [الواقع الغاشم] نحو نفس النتيجة»[17]. ولهذا رفض بيرس كل مسلَّمة قبليّة وغير ضرورية قد تعوق مسار البحث.

دفع هذا المبدأ بيرس إلى نقد كانط أيضًا، فرفض المقولات الترنسندنتالية لأنها مجرد مصادرات موضوعة بشكل قبليّ على العقل المحض دون وجود ضرورة حقيقية لذلك في ضوء تطور المعرفة عبر نظريته في البحث العلمي. كما رفض التمييز بين الاعتقاد والمعرفة على الطريقة الكانطية. وعلى هذا الأساس وضع شروطًا ثلاثة للاعتقاد: «أولاً، إنه أمر ندركه. ثانيًا، إنه يطفئ نيران الشك الحي. وثالثًا، أنه ينطوي على إنشاء ممارسة عملية، أو عادة، عندما تتهيأ الظروف المناسبة لذلك».

كما رفض أيضًا الشيء في ذاته لأنه مجرد إملاء شكوكي ليس له أي تأثير عملي حقيقي على تعاملنا مع العالم بوصفه واقعي، فيقول: «إن الفرضية الأساسية للطريقة العلمية هي أن هناك أشياء واقعية، طبائعها مستقلة تمامًا عن آرائنا بخصوصها؛ تؤثر هذه الوقائع على حواسنا وفقًا للقوانين المنتظمة، وعلى الرغم من اختلاف أحاسيسنا بقدر اختلاف علاقتنا بالأشياء، فإنه عبر استغلال قوانين الإدراك، يمكننا التأكد من طبيعة الأشياء عبر التفكير العقلاني؛ وأي إنسان، إذا كانت لديه الخبرة والعقلانية الكافية، فسيتم إرشاده إلى الاستنتاج الصحيح الوحيد [في نهاية رحلة البحث]»[18].

وقد ربط بيرس لاحقًا بين نظريته في السيميائية وبين نظريته في البحث العلمي. فقد حاجج بأن هناك عوالم ثلاثة؛ العلامة [العالم الأول] تقف بين الشيء الواقعي [العالم الثاني] وبين المؤوِّلَة [العالم الثالث] بوصفها الطريقة التي يتحرك بها العقل [العادة]. فيحدد الشيء الواقعي العلامة بالنسبة للتأويل، وتحدد العلامة التأويل في ضوء الشيء الواقعي، حيث «يحدد الشيء المؤوِّلَة عبر توسُّط العلامة»[19]. وهذه المؤوِّلَة تنتقل من كونها مباشرة [مرحلة الألفة] إلى كونها ديناميكية [مرحلة التمييز المنطقي] إلى كونها نهائية [مرحلة تطابق الحقيقة البراجماتية مع تلك الميتافيزيقية عند نهاية البحث] عبر التخطئة، والبحث، والتصحيح؛ «فالمؤوِّلَة النهائية لا تتألف من الطريقة التي يتصرف بها أي عقل وإنما في الطريقة التي يتصرف بها كل عقل»[20]. ولما كانت هذه العلاقة علاقة تبادل للآثار الفيزيائية والعقلية بين أطرافها الثلاثة في آن واحد semiosis، فإنها علاقة براجماتية.

أساس المعرفة

ما أنقذ بيرس من التطرف التجريبي هو كونه أحد المناطقة العظام، فأنتبه مبكرًا لخطر كون ذلك النزوع أمرًا ذاتيًا وهو ما سيؤدي إلى النسبوية إذا تطرّف. ومن ثم وضع أساسًا أخلاقيًا – منطقيًا – ميتافيزيقيًا لفلسفته بحيث يحافظ على جانبها الموضوعي [السير نحو الحقيقة الميتافيزيقية الواحدة]، على هيئة قاعدة للهرم المعرفي الإنساني بشكل أُسسي Foundational. ووضع في قاعدة هذا الهرم الرياضيات بوصفها العلم الذي يشتق علاقات ضرورية بشكل نظري، لأنه كان يرى أن المنطق الاستنباطي بوصفه أداة للبحث العلمي الواقعي هو الذي يستمد قوانينه الضرورية من الرياضيات وليس العكس كما حاجج فريجة وراسل. ويبدو أن هذا الرأي كان في الأصل رأي والده الرياضي بنجامين بيرس[21].  ما عزّز هذا الرأي لدى بيرس هو كون المنطق يعتمد على الأخلاق أيضًا، ومن ثم كان موقعه في البناء المعرفي أعلى من الرياضيات.

ثم وضع فوق الرياضيات الفلسفة التي تنقسم إلى علم دراسة الظواهر، والعلوم المعيارية التي تحدد ما يلزم التفكير فيه وفعله، فوضع الأخلاق في قاعدة العلوم المعيارية لأنه رأى أن كل ممارسة بشرية تتسم بضبط الذات وتهدف إلى زيادة العقلانية في المجتمع الإنساني. ومن ثم حاجج ضد حصر المعرفة في التجربة الحسية لأنه «إذا قلنا إن كل معرفتنا تتعلق فقط بالإدراك الحسي فهذا يستلزم ألا نعرف شيئًا – ولا حتى عن طريق الخطأ – عن المُثل العُليا، مثل: الشرف، الآمال، والحبّ»[22].

ثم وضع المنطق فوق الأخلاق بوصفه آليات البحث العلمي، والذي شمل نظريته في السيمياء، والمنطق بأنواعه الثلاثة، وأخيرًا المنطق المنهجي الذي شمل المبدأ البراجماتي ونظريته في البحث العلمي. وقد وصف بيرس العلاقة بين المنطق والأخلاق بقوله: «المنطق هو مذهب الحقيقة، وطبيعتها، والطريقة التي تُكتشف بها»[23]، ولما كان «المنطق هو دراسة وسائل بلوغ غاية الفكر، فإن الأخلاق هي التي تحدد تلك الغاية»، ومن ثم «تتطلب النزعة المنطقية ألا تكون مصالحنا محدودة بحيث تتوقف عند موتنا، وإنما أن تتضمن المجتمع بأكمله؛ جميع أجناس الكائنات التي يمكننا أن تربطنا بهم علاقة فكرية. فيبدو لي أن ذلك الذي لا يضحّي بروحه لإنقاذ العالم كله غير منطقي في كل استدلالاته. إن المنطق متجذر في المبدأ الاجتماعي»[24]. فبالمجتمع يتجاوز البحث العلمي محدودية الفرد.

ثم وضع الميتافيزيقا فوق المنطق لأن الميتافيزيقا هي «القضايا الناتجة عن القبول المطلق للمبادئ المنطقية [البحثية] ليس فقط باعتبارها صحيحة تنظيميًا [كما حاجج كانط]، ولكن كحقائق للوجود. فتتضمن أن الكون له تفسير. أصل الوجود واحد، والفكر هو مرآة الوجود، فنهاية الوجود بوصفها الواقع الأكمل هي التجسيد الحي للفكرة التي سينتجها التطور»[25]. وهي قضايا لا يمكن للعلم أن يجيب عنها لأن جوهر الميتافيزيقا الوجيهة هو أن «تفترض حالة واقعية لم يكن فيها هذا الكون [العوالم الثلاثة] موجودًا، وأن تفكر في كيفية نشأته»[26].

الفكرة الأولى في الميتافيزيقا استلزمت وجود عدة كيانات ميتافيزيقية مثل: الإمكانية [لتحديد أفضل الفرضيات]، والعمومية [لتحديد القوانين]، والاتصال اللانهائي في الزمان والمكان synechism . ومن هذا المنطلق رفض النزعة الاسمانية كما تمثّلت في التجريبية المادية لصالح النزعة الواقعية، لأنه في حين أن الاسمانية اختزلت العام general في الإدراك، فإن الواقعية لم تكتف بذلك، بل اعتبرت العام «أهم عنصر في الوجود» أيضًا، وهو ما يتناسب مع النزعة البراجماتية التي «تسلّم بوجود الكليات التي يهتم بها العلم الحديث»[27] مثل الكيانات الرياضية المجردة، وقوانين الطبيعة، والخصائص، والعلاقات، والأنواع، وغيرها. ولهذا أعاد تعريف المبدأ البراجماتي عام 1903 ليسمح بـ «أي حركة في المخيلة قادرة على إنارة أثر عملي ممكن»[28].

الفكرة الثانية في الميتافيزيقا هي أن «كلمة الله تدل على واجب الوجود بوصفه خالق عوالم الخبرة الثلاثة … فـالتأمل في العوالم الثلاثة هو الذي يولّد هذه الفرضية؛ بأن لهم، أو على أي حال لاثنين منهم، خالق مستقل عنهم»[29]. وعبر المبدأ البراجماتي، اشتق بيرس من وجوب الوجود أن الإله عقل خارج الزمان. أما بقية صفات الإله فلا يمكن البرهنة عليها بواسطة ميتافيزيقيا بيرس لأن الكلمة نفسها مبهمة vague، والصفات نفسها التي تنسب إليها مثل اللا-نهاية هي أيضًا مبهمة ولا يوجد أثر محدد لها. ومن ثم فإنه «لا يوجد ما يمكن استنتاجه من انتظام الطبيعة فيما يتعلق بوجود الله [بكامل صفاته] طالما أنه لا يمكن للعقل المحدود إثبات وجود عقل لا-نهائي»[30].

لكن تظلّ تلك الصفات حاضرة بشكل ذاتي حدسيًا على صورة حُجة، وليس برهانًا، لأن «تعمق المرء في هذا التأمل وسماحه لحدسه الداخلي بالتحدث، وبحثه في قلبه، سيدفعه لتصديقه، لأن التأمل في العوالم الثلاثة يصبغ على المرء مبادئ عملية بشكل مماثل لتأثير الحديث مع رجل عظيم أو قراءة أعماله، ولهذا لا يُرى الإله سوى في القلب الذي هو عضو إدراكي من الناحية البراجماتية». لكن هذه النتيجة ما هي إلا المرحلة الأولى من البحث بوصفها أفضل فرضية في ضوء الحدس والحس المشترك، ولهذا يلزم أن تمر بمرحلة الاختبار؛ «التأكد من قيمتها في نمو نزعة ضبط النفس لدى المرء عبر سلوكه في الحياة».

أما الفكرة الميتافيزيقية الثالثة فهي هيجلية بامتياز، ذلك لأن بيرس اعتنق فكرة «أن المادة عقل خامد، تترسخ به عادات وتصبح قوانينًا للطبيعة»[31] [المثالية الموضوعية objective idealism] وأن «الصفات الحسية الخارجية هي آثار لعقل خارجي منفصل عنّا»[32]. وقد اعتنق هذا المذهب بهدف تفسير قدرة العقل البشري على الوصول للواقع بشكل موضوعي في نهاية رحلة البحث رغم أن ذلك يحدث عبر وسيط مفاهيمي وبشكل غير مباشر. فكان لزامًا على الميتافيزيقيا أن تجد حلًّا تأسيسيًا لذلك بحيث تفسر كيفية امتلاك العقول البشرية للقدرات المنطقية المعيارية. وهو ما يربط بينها وبين الله، فيقول: «أليس الإيمان بالله هو أن تؤمن بأن عقل الإنسان مرتبط بعلّة نشأة الكون؟».

ومن هذا المنطلق استخلصَ بيرس أربع نقاط دفعته لرفض المادية الجبرية: رفضها للطابع الغائي للصيرورة الكونية، ومساواتها بشكل كلي بين حركة العقل وحركة المادة، ورفضها خبرتنا الذاتية عن إدراك موجودات العالم الأول؛ أي أنها تنفي الجانب الذاتي من الوعي والذي يتمثّل في خبرتنا بالعالم عبر منظور الشخص الأول [مشكلة الكواليا في فلسفة العقل]، وتنفي وجود عنصر الصدفة الذي ينتقل بالكون من حالة لأخرى ويضيف إلى الكثرة Tychism، وبالأخص من حالة العشوائية الأولى إلى النظام. فيقول بيرس: «يترك فلاسفة المذهب الميكانيكي [المادية الحتمية] وضع العالم بدون تفسير، وهو أمر يكاد يكون سيئًا بقدر ما ينسبه بجرأة إلى الصدفة. إنني أعزوها تمامًا إلى الصدفة، هذا صحيح، ولكن إلى الصدفة في شكل عفوي منتظم إلى حد ما»[33]. فليس المقصود هنا بالصدفة العشوائية وإنما المقصود هو كونها فعل متحرّر من القوانين. وأخيرًا وضع العلم الطبيعي فوق الميتافيزيقيا لأن قوانين العلم الطبيعي هي عادات «ممكنة ميتافيزيقيًا، أي أنها غير متضمنة في الامتداد الحرفي للقوانين الضرورية للحقيقة المنطقية عند تطبيقها على الكون»[34].

 

براجماتية أخرى

لكن بداية من عام 1905، بدأ بيرس يستخدم مصطلح Pragmaticism بدلًا من Pragmatism، الذي ارتبط بفلسفة ويليام جيمس والآخرين من أعضاء النادي الميتافيزيقي. اعتمدت نسخة جيمس من البراجماتية على تجارب المرء الفردية الحياتية، ومن بينها التجارب النفسية والوجدانية، فيقول: «بينما يتشبَّث المذهب العقليُّ بالمنطق وما هو سامٍ، وتصرُّ التجريبية على الحواس الخارجية، نجد أن البراجماتية على استعدادٍ لتناول أي شيء؛ لأن تتبع إمَّا المنطق وإمَّا الحواس، وأن تعطي وزنًا وحسابًا لأكثر الخبرات تواضعًا وذلًا، وأكثرها شخصية»[35].

تقبّلت براجماتية جيمس نتائج المعايير الذاتية إذا غابت المعايير الموضوعية، فسمحت بوجود حقائق ذاتية متعددة ومتعارضة بين الأفراد في نفس اللحظة ودون القدرة على حسمها، فسُميت بـ«البراجماتية التعدُّدية». وهكذا أصبح المبدأ البراجماتي بالنسبة لجيمس نظرية للحقيقة الفردانية وليس نظرية للمعنى داخل سياق البحث الجماعي العلمي [العقلاني والتجريبي فحسب]، تحت معيارية موضوعية كما هو الحال عند بيرس. فيقول جيمس: «إن أية فكرة تساعدنا على أن نعالج – سواءً عمليًّا أو فكريًّا – إمَّا الحقيقة وإمَّا متعلقاتها، ولا تعرقل تقدُّمنا وتُحْبِط مساعينا، وتلائم وتطابق حياتنا لوضع الحقيقة برمته؛ هذه الفكرة ستتفق بشكل كافٍ وافٍ لملاقاة المطلب، وسوف تنسحب بصحَّة على تلك الحقيقة»[36]، وفي ذلك تتساوى «الإلكترونات والعقل والإله وحتى القيم».

كانت هذه الطريقة التي أخرجت جيمس نفسه من الأزمة النفسية والجسدية التي أصابته نتيجة «خوفه من سلطان فكرة الجبريَّة وخوفه من انعدام الإرادة عند الإنسان، لدرجةٍ دفعته للتفكير جديًّا في الانتحار. لكن لاحقًا مَرَّ ويليام بلحظةٍ فلسفية فارقة حسمت له مشكلة الجبرية وقضية حريّة الإرادة، فيقول في مذكراته: (أعتقد أن الأمس كان أزمةً في حياتي. لقد أتممت قراءة الجزء الأول من مقالات رينوفييه الثانية، ولست أرى سببًا يدعو إلى اعتبار تعريفه للإرادة الحرّة، القائل بأنها: (دعم فكرة معينة ومساندتها؛ لأني أريد ذلك بمحض اختياري في الوقت الذي تكون فيه لديَّ أفكار أخرى)، بمثابة تعريف واهم غرَّار، وعلى أية حال فسأفترض مؤقتًا – حتى السنة المقبلة – أنه ليس بوهمٍ ولا خداع، وأن أول عمل لي من أعمال الإرادة الحرّة هو أنني سأؤمن بالإرادة الحرّة). وقد تبنَّى هذا التعريف بشدَّة، لدرجة أنه شُفِيَ من مرضه؛ واعتقد بحريّة الإرادة، بل إنه آمن بالنظرية واستغلَّها في فلسفته. لقد اكتشف أن حلَّ مشكلته يكْمُن في الفعل الإرادي الطوعي، حيث يمكن للمرء الاعتقاد بحريّته على الرغم من عدم وجود أدلَّة موضوعية تبرِّر هذا الاعتقاد؛ إذ يكفيه ما تقدِّمه التجربة الذاتية من تبرير»[37].

ومن هذا المنطلق، حاجج جيمس ضد شقي المادية الجبرية، فقال بأنه «ليس لدينا أي عذر فلسفي يسوغ اعتبار العالم غير المرئي عالمًا غير حقيقي، يظل الهراء هراءً حتى لو حمل اسمًا علميًا. من أجل تقديم تعبير كامل عن التجربة الإنسانية، كما أراها موضوعيًا، يحثني ضميري على تجاوز الحدود العلمية الضيقة». كما رفض اختزال التجارب الذاتية من منظور الشخص الأول في وصف قاصر من منظور الشخص الثالث، لأن ذلك «سيكون مثل تقديم فاتورة مطبوعة لسعر الوجبة كبديل مساوٍ للوجبة الحقيقية نفسها. ولا يمكن للمرء أبدًا سبر أغوار أي عاطفة أو التكهُّن بإلْزاماتها وهو يقف خارجها. لكن عندما تستثار فيه هذه العاطفة، يفهم، في وهج استثارتها، كل ما كان مستعصيًا على الفهم، وكل ما كان غامضًا عند النظر إليه من الخارج يصبح جَلِيًّا واضحًا … إن الطريقة السليمة الوحيدة، إذا كنا نقف خارج نور تلك العواطف، هي أن نراقب أولئك القادرين على الشعور بها، وأن نسجل ما نلاحظه بكل أمانة»[38].

يكمن الفرق بين بيرس وجيمس – كما يقول جون ديوي – إلى كون بيرس كان يكتب باعتباره منطقيًّا، في حين أن جيمس كان يكتب بوصفه إنسانويًّا[39]. وهذه النزعة الإنسانية التي تميز فلسفة جيمس، ظلَّت هي جوهر رؤيته للفلسفة، حيث يقول: «إن الفلسفة – صاحبة الأهمية البالغة في كل واحدٍ منَّا – ليست مسألةً فنيةً اصطلاحيةً، وإنما هي – على نحوٍ ما – شعورنا الأبكم الصموت بماذا تعني الحياة بكل أمانة وعمق. وهي لا تُحصَّل من الكتب إلا جزئيًّا فقط. إنها سبيلنا الفرديُّ الذاتيُّ لرؤية الدفع والضغط الكليَّيْن للكون والشعور بهما»[40].

وفي هذا السياق أتى مقاله الأشهر «إرادة الاعتقاد The Will to Believe»، الذي كتبه ردًا على مقال «أخلاقيات الاعتقاد The Ethics of Belief»، للفيلسوف ويليام كليفورد، والذي حاجج فيه بأنه يلزم أن يكون لكل اعتقاد من اعتقاداتنا سبب موضوعي كافي. فيبدأ جيمس أطروحته من وجهة النظر التأسيسية فيقول إن قناعاتنا – بشكل عامٍّ – لا تستند دائمًا إلى براهين عقلية «مثل إيماننا بالحقيقة نفسها [بشكل تأسيسي ضد الشكوكية]». لكن هذا لا يعني أن البشر يستطيعون الإيمان بأيِّ فكرةٍ من خلال الإرادة وحدها (على سبيل المثال، القول بأن مجموع الدولارَين اللذَين في جيبي مئة دولار)، فنحن نعتقد فقط في الاحتمالات الممكنة عقلانيًا والتي لا تكذبها خبرة موضوعية أو ذاتية أكثر رسوخًا لأنه في الأول والأخير يلزم «أن تتفق [ألا تتعارض] أفكارنا مع الوقائع والحقائق، سواءً أكانت هذه الحقائق ملموسةً أم مجرَّدةً، سواءً أكانت وقائعَ أم مبادئ»[41]. ومن ثم «فإن طبيعتنا العاطفية يجوز لها – بل يجب عليها أحيانًا الاختيار من بين الافتراضات الممكنة، طالما كان الخيار حقيقيًّا ولا يمكن البَتُّ فيه فكريًّا من جراء طبيعته».

أما من وجهة نظر براجماتية، فإن التجربة الذاتية كافية في حالة اللا-أدرية الموضوعية عندما يكون «خطر الخطأ صغيرًا للغاية بالمقارنة مع بركات المعرفة الحقيقية». فنحن لا نبتعد عن المعركة خوفًا من أن نُصاب بجرحٍ واحد، بل إن طريقة صنع الإنسان لانتصاراته الحياتية كانت على النقيض من ذلك، ومثاله على هذا هو أنه لو لم يدفع العلمُ الرغبات العاطفية للأفراد في خضمِّ سعيهم لإثبات صحَّة معتقداتهم العلمية، لكان سيصبح أقلَّ تقدمًا بكثير.

الحقيقة إن تاريخ التقدّم الإنساني مليء بمثل تلك اللحظات اللا-عقلانية، ولعلَّ أشهرها أطروحة جاليليو التي كان يلزم رفضها بمعايير المنهجية العلمية العقلانية كما بيّن بول فيرابند Paul Feyerabend في كتابه «ضد المنهج». إن الطريق إلى النتائج البراجماتية العلمية ليس ثابتًا، وإنما يبدأ في معظم الأحيان بإيمان غير عقلاني بصحة الفرضية الجديدة، وما يساعدها على النمو ضد العقلانية السائدة حتى تصبح نظرية عقلانية تامة هو «التحيز، والعاطفة، والغرور، والأخطاء، والعناد المطلق». وهو ما يُصيغه بوبر قائلًا: «ينبغي أن يتضح أمامنا أن موضوعية التقدّم العلمي وعقلانيته لا ترجعان إلى الموضوعية الشخصية وعقلانية العالم. العلم العظيم والعلماء العظام، شأنهم شأن الشعراء، كثيرًا ما يستلهمون حدوسًا غير عقلانية»[42].

لكن تظلّ نتائج التجربة الذاتية لا ترقى إلى مرتبة العقلانية الموضوعية حتى يبرهن المرء على أن لها آثار موضوعية محمودة. وإذا كانت الآثار الموضوعية المحمودة في حالة العلم هي القدرة على التنبؤ، فقد حاجج جيمس بأنها في حالة الدين تصبح الآثار النفسية الداخلية والسلوكيات الخارجية المحمودة. لكن يظلّ محتوى التجربة الذاتية ملزم لصاحبها وحده لأن آثارها غير حتمية للجميع، ومن ثم فإنها لا ترقى للموضوعية الملزمة للآخر، على عكس العلم. فيقول جيمس عن تجربة التصوف: «إن المتصوفة ليس لديهم الحقُّ في الادعاء بأنه من المتعيَّن علينا قبول الأقوال الصادرة عن تجاربهم الخاصَّة، إذا كنَّا نقف خارجها ولا نشعر بأنها تنادينا. إن أقصى ما يمكن للمتصوفة طلبه منّا، في هذه الحياة، هو الاعتراف بأنهم يقيمون افتراضًا. إنهم يشكلون إجماعًا ولديهم استنتاج قاطع لا لَبس فيه»[43].

ولقد حافظ جيمس على التمييز بين الحقيقة الإبستمولوجية وتلك الميتافيزيقية، وحافظ على نظرية بيرس في تطور الأولى تجاه الثانية عبر التخطئة، فيقول: «إن الحقيقي على الإطلاق [الميتافيزيقي، كما هو في ذاته]، بمعنىً ما لن تغيِّره أبدًا أية تجربة، هو نقطة النظر المثالية التي نتصوَّر أن كل حقائقنا المؤقتة سوف تتجه نحوها میلًا وتقاربًا، وهي تضارع الخبرة الكاملة المطلقة. وفي غضون ذلك يتعيَّن علينا أن نعيش اليوم وفقًا لأية حقيقة [إبستيمولوجية] يتسنَّى لنا الحصول عليها الآن، وأن نكون مستعدين غدًا لأن ندمغها بالباطل»[44].

ثم ينهي جيمس المقالة بتشبيه موقفنا المعرفي بمثال مشابه لطبيب كانط، فيقول إنه مثل: «وقوفنا على ممرٍ جبليٍّ في وسط الثلوج الخطرة والضباب الذي يعمينا، فلا يصلنا عبره إلا لمحات – من حينٍ لآخر – من المسارات التي قد تكون خادعةً. وإذا توقفنا سنتجمَّد حتى الموت، وإذا سلكنا الطريق الخطأ فسنقع ونلاقي حتفنا مُمَزَّقِين إلى قطعٍ؛ وذلك لأننا بالتأكيد لا نعرف الطريق الصحيح من بين هذه الطرق. ماذا يجب أن نفعل؟ العمل من أجل الأفضل، والأمل في الأفضل، وقبول كل ما يأتي. وإذا أنهى الموت كلَّ شيء، فلن نجد طريقةً أفضل لملاقاته».

[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]

[1] Immanuel Kant, Critique of Pure Reason, Trans. Paul Guyer – Allen W. Wood, Cambridge University Press, 1998, p. 686

[2] Ibid., p. 686-687

[3] Charles S. Peirce, Lowell Lecture 6, 1903

[4] Charles S. Peirce, What Pragmatism is, 1905

[5] Charles S. Peirce, How to Make Our Ideas Clear, 1878

[6] Charles S. Peirce, A Neglected Argument for the Reality of God, 1908

[7] Charles S. Peirce, VARIETY AND UNIFORMITY, 1903

[8] Charles S. Peirce, What Pragmatism is, 1905

[9] Charles S. Peirce, A Survey of Pragmaticism, Unpublished

[10] Charles S. Peirce, Issues of Pragmaticism, 1905

[11] تنويعات التجربة الدينية، ويليام جيمس، ترجمة إسلام سعد وعلي رضا، مركز نهوض للدراسات والنشر، بيروت، 2020، ص 31

[12] Charles S. Peirce, What Pragmatism is, 1905

[13] Charles S. Peirce, Consequences of Critical Common-Sensism, 1905

[14] Charles S. Peirce, Answers to Questions Concerning My Belief in God, 1906

[15] Charles S. Peirce, Methods for Attaining Truth, Unpublished

[16] Charles S. Peirce, How to Make Our Ideas Clear, 1878

[17] Ibid.,

[18] Charles S. Peirce, The Fixation of Belief, 1877

[19] Charles S. Peirce, A Survey Of Pragmaticism, Unpublished

[20] Charles S. Peirce, Letter to William James, 1 April 1909

[21] Charles S. Peirce, The Simplest Mathematics, Unpublished

[22] Charles S. Peirce, A Neglected Argument for the Reality of God, 1908

[23] Charles S. Peirce, The Logic of 1873, Unpublished

[24] Charles S. Peirce, The Doctrine of Chances, 1878

[25] Charles S. Peirce, The Logic of Mathematics – §5. Triads, Unpublished

[26] Charles S. Peirce, Objective Logic §1. The Origin of The Universe, 1898

[27] Charles S. Peirce, Detached Ideas on Vitally Important Topics, 1898

[28] Charles S. Peirce, Lectures on Pragmatism – Lecture VII. Pragmatism and Abduction

[29] Charles S. Peirce, A Neglected Argument for the Reality of God, 1908

[30] Charles S. Peirce, The Order of Nature, 1878

[31] Charles S. Peirce, The Architecture of Theories §4. Objective Idealism, 1891

[32] Charles S. Peirce, The Categories in Detail – A. Firstness – §6. A Definition of Feeling, Unpublished

[33] Charles S. Peirce, The Doctrine of Necessity Examined, 1892

[34] Charles S. Peirce, The Logic of Mathematics – §5. Triads, Unpublished

[35]  البراجماتية، ويليام جيمس، ترجمة محمد علي العريان، المركز القومي للترجمة، 2008، ص105

[36]  المصدر السابق، ص252

[37] تنويعات التجربة الدينية، ويليام جيمس، ص 23

[38] تنويعات التجربة الدينية، ويليام جيمس، ص 372-373

[39] John Dewey, “The Development of American Pragmatism” in “Studies in the History of Ideas”, Vol. II, (New York, Columbia University Press, 1925, p. 361).

[40]  البراجماتية، ويليام جيمس، ص 16

[41]  المصدر السابق، ص 250

[42] أسطورة الإطار، كارل بوبر، ترجمة يمنى طريف الخولي، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 2001، ص 47

[43] تنويعات التجربة الدينية، ويليام جيمس، ص 470

[44] البراجماتية، ويليام جيمس، ص 262-263

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى