سارتر وهايدغر

عمل المنهج الذي نتّبعه في عالمنا العربي لتأريخ الفلسفة، على ترسيخ الفكرة التي مفادها أن سارتر لم يكن إلا امتدادًا لهايدغر، وأنه نسخته الفرنسية، وأنهما معا، ينتميان «لسلة واحدة» هي الفلسفة الوجودية. المنهج الذي اعتدناه في تأريخ الأفكار، هو أن السبق للكليّة على الجزئيات، وللوحدة على التعدد، وللهوية على الاختلاف. الوجود الأساس هو للنموذج، وما الحالات التي يتخذها إلا صور سيمولاكرية عنه. هناك المذاهب الفلسفية، وما الفلاسفة إلا عيّنات لهذا النموذج المثال. ما يحرّك مؤرخ الفلسفة في هذه الحال، هو البحث عمّا يضمّ ويجمع ويؤالف، وليس ما يفرق ويباعد.
كان من نتيجة هذا، فيما يخص موضوعنا، هو أننا لم نكلف أنفسنا عناء الوقوف، ليس عند ما يقرّب سارتر من هايدغر، ولكن، عند ما يفرق بينهما. قد يقال إن هناك من مفكرينا من حاول أن يعيد النظر في تلك القرابة. المثال الذي يرد إلى ذهننا هو موقف المرحوم عبد الرحمن بدوي من هذه العلاقة، وهو موقف يتّسم بغير قليل من الجرأة، لأنه لا يكتفي بالوقوف عند ما يجعل المفكر الفرنسي مخالفًا لنظيره الألماني، وإنما يذهب حتى نفي الفلسفة ذاتها عن سارتر، كتب بدوي في سيرته الذاتية: «لم أكن أعرف لسارتر قبل 1945 أية علاقة بالوجودية، لقد قرأت له قبل ذلك كتابه الأول في علم النفس وعنوانه “التخيل” … وآخر كتاب لسارتر في الوجودية هو “الوجود والعدم”، ولما قرأته وجدته بعيدا كل البعد عن وجودية هايدغر، وخليطًا من التحليلات النفسية. ومنذ قراءتي له لم أشعر نحو سارتر بأيّ تقدير من الناحية الفلسفية وعددته مجرد أديب».[1]
لقد اعتبر البعض كلام المرحوم بدوي هذا عدم اعتراف بالدَّين، هذا إن لم ينظر إليه على أنه علامة على اعتداد بالنفس. إلا أن ما يهمنا هنا هو أن المرحوم بدوي لم يَنسق مع أولئك الذين يؤمنون بالمذاهب الفلسفية أكثر مما يهتمون بالفلاسفة. سنحاول بدورنا في هذا البحث القصير أن نتابع نشأة العلاقة بين الفيلسوفين، ونقاط التقائهما واختلافهما الجوهري.
بداية هذه العلاقة كانت تعليقًا كتبه سارتر على نص هايدغر: «ما هي الميتافيزيقا؟» اطلع عليه في الترجمة الفرنسية التي كان هنري كوربان قد نشرها في إحدى المجلات الفرنسية لأول مرة سنة 1931[2]. في هذا التعليق الذي نشر سنة 1940 يعترف سارتر بأنه قرأ هذا النص «من غير أن يفهمه». عدم الانجذاب ذاته سيتم مع كتاب «الوجود والزمان»، الذي يسجل سارتر في مذكراته أنه اقتناه سنة 1933، لكنه لم يتمكن، على حدّ قوله، من أن «يتجاوز في قراءته الصفحة 50»[3] بل إنه يؤكد في المذكرات نفسها «لم يكن في إمكاني أن أدرس هايدغر قبل الوقت الذي درسته فيه»[4] وهو يبرر ذلك بوعيه بأن عليه أولًا، أن يدرس هوسرل. وهو ما سيقوم به خلال سنوات 1933-1937.
وعلى رغم ذلك، فإن المفكر الفرنسي سيعترف ابتداء من الأربعينات من القرن الماضي بتأثير فكر هايدغر عليه، بل وعلى الفكر الفرنسي بمجمله. وهو يعرض لذلك في المذكرات واصفًا العهد الذي عرف تلقّيَ هايدغر في فرنسا، والذي عرف أساسًا نشر ترجمة كوربان لنصوص هايدغر التي ضمها كتاب حمل عنوان: «ماهي الميتافيزيقا؟» سنة 1938. مما دفع المفكر الفرنسي لأن يقرأ، هذه المرة بالفعل، كتاب «الوجود والزمان»، وهي قراءة سيعمل على تعميقها أثناء سجنه سنتي 1940-1941.
مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، سيوجّه هايدغر رسالة إلى سارتر تشمل إعجابًا بكتاب «الوجود والعدم» الذي كان قد ظهر سنة 1943، وكذا اعترافًا لا يخلو من بعض التحفظ. تقول الرسالة: «لأول مرة ألتقي مفكرًا حرًا، قام بتجربة عميقة للمجال الذي أفكر انطلاقًا منه. يبين مؤلفكم عن فهم مباشر لفلسفتي لم أعهده عند أيّ كان» ثم يذكر بعض نقاط التقائهما فيما يخص مفهوم الوجود-مع»، والوجود-من-أجل-الغير». بل إنّ المفكر الألماني يذهب حتى الموافقة على المآخذ التي أخذها عليه سارتر في «الوجود والعدم»، كمسألة العلاقة بالموت على وجه الخصوص، من غير أن ينسى أن يذكّر المفكر الفرنسي بالفارق الزمني (20عامًا) الذي يفصلهما عن ظهور كتاب هايدغر الذي كان سنة 1927، وما ترتب عن ذلك من التطور الذي عرفه فكره، والذي يظهر أن سارتر لم يكن قد تابعه وقتئذ. والأهم من ذلك المسافات التي أصبح يتخذها هو نفسه من ذلك الكتاب.
نقطة تلاقي ستجعل طريقَي الفيلسوفين تتقاطعان هي هوسرل. فكلاهما أقام فلسفته امتدادًا للمعلم الألماني الكبير، واعتراضًا عليه.
معروف أن هوسرل، عند تأليفه لـ«مباحث منطقية» (1900-1901) ستدفعه معاداته للنزعة السيكولوجية إلى أن يجعل البنيات المنطقية تتمتع بحقيقة «في ذاتها» خوفًا عليها من أن تصبح عمليات ذهنية لذات تجريبية. وفيما بعد، سترتبط «موضوعات الفكر» بالوعي القصدي الذي يرصدها ويتجه نحوها. حينئذ سيصبح الوعي الترنستدنتالي هو الميدان الترنسندنتالي لتكوين كل موضوعات الفكر. وعند تأليفه لكتاب «المعاني» (1913) حتى كتاب «التأملات الديكارتية» (1929) (نشر سنة1931 ) ظهر لهوسرل أن العلاقة بين أفعال الفكر وموضوعاته – وهي علاقة قصدية- كانت تستدعي، كمنبع ومصدر ومركز توحيد وتطابق، ذاتًا قادرة أن تنعكس على نفسها وتفكر فيها كـ «أنا». حينئذ ستصبح وحدة «الأنا أفكر» أساسًا لكل العمليات التي نلحظ فيها تشكيل وحدة المعنى في تجلياته المختلفة. لن يعود الكوجيطو إذن مجرد وظيفة وحدة أنا غير شخصي، وإنما وحدة أنا متفرد. ذلك أن ما شغل هوسرل أساسًا هو مسألة التأسيس: إن سؤاله الأساس كان حول إمكانية وحدة معنى الموضوعات المنطقية، وكيفية الانتقال من الصوري إلى الترنسندنتالي. لذلك سيقول هوسرل إن «التعليق» الفينومينولوجي، لا يمكن أن يتمّ من غير أن تبقى خارجه بقايا هي الأنا الخالص، وهو العنصر الضروري لكل تفكير. سيوجه سارتر انتقادًا لفكرة هوسرل هذه في مقال كتبه سنة 1936، ونُشِر كُتيّبا فيما بعد تحت عنوان «تعالي الأنا»، سيلامس فيه، وقبل أن يقرأ هايدغر، بعض الانتقادات التي وجهها هذا الأخير لأستاذه هوسرل. يتساءل سارتر لماذا ينبغي الاحتفاظ بـ «أنا» متعال خلف الأنا التجريبي؟ لماذا لا نقول بحقل متعال لا شخصي، «من غير أنا»؟ لماذا لا نضع الوعي الترنسندنتالي كتلقائية لاشخصية؟
وعلى رغم انتقادات كتيّب 1936، سيبدي سارتر، سنتين فيما بعد، حماسا لفكرة «القصدية» عند هوسرل، وسيكتب عنها نصًّا أساسًا سنة 1938 سيسعى فيه إلى الاعتراف بأهمية هوسرل، مادحًا، في الوقت ذاته قراءة هايدغر لمفهوم التعالي. سيحمل هذا النص عنوان: «فكرة أساس في فينومينولوجيا هوسرل: القصدية»[5] سيستخلص فيه سارتر الدرس الهوسرلي الأساس الذي ساهم في تطهير الوعي نفسه مما كان يحدّده كمجال لحالات الشعور. فـ«القصدية» قد أفرغت الوعي من الشعور، وجعلت من هذا الفراغ علاقة لا تفتأ تتميز عن أطرافها، وتتجاوزها لتكون على استعداد كي تحدد ما يتحدد كموضوع شعور. لقد أفرغت «القصدية» الوعي، وجعلته دون محتوى. بفضلها، كما نقرأ في هذا المقال: «صفا الوعي، وأصبح واضحًا كريح شديدة. أصبح الوعي لا يشوبه شيء إلا حركته ليخرج عن ذاته. وإذا حدث ما لا يمكن حدوثه ودخلتم “في” وعي ما، يأخذكم الدوار ويقذف بكم إلى الخارج، قرب الشجرة، وسط الغبار، لأن الوعي لا “داخل” له. ليس الوعي إلا ما فيه خارج، وإن هروبه الدائم هذا ورفضه أن يكون جوهرًا: ذلك هو ما يجعل منه وعيًا. تصوروا الآن سلسلة مترابطة من الانفجارات تنزعنا عن “ذواتنا” ولا تترك لذواتنا الوقت كي تتشكل خلفها، بل على العكس من ذلك، ترمي بنا من ورائها في غبار العالم الجاف، فوق الأرض الصلبة، وبين الأشياء، تصوروا أننا ألقي بنا هكذا، وقد أهملتنا طبيعتنا في عالم عنيد يناصبنا العداء ولا يكترث بنا، عندئذ تكونوا قد أدركتم المعنى العميق للاكتشاف الذي يعبّر عنه هوسرل بهذه العبارة العجيبة “كل شعور هو شعور بـ”ـ (…) إذا حاول الوعي أن يعود إلى ذاته ويتّحد معها وينغلق على نفسه؛ انعدم»[6] ذلك أن هوسرل «لم يدخر جهدًا في أن يثبت أننا لا نستطيع أن نذيب الأشياء في الوعي»، ولكن لا ينبغي أن نخلط بين فلسفة الذاتية وسيكولوجيا الوعي. فالذات ليست هي ما أستشعره. إن القيام ضد النزعة السيكولوجية عند هوسرل، كان يتجه أساسًا ضد إدراج الوعي ضمن كائنات الطبيعة. بيد أنه كان يصون الذات ويحفظها في حميميتها داخل المثالية الترنسندنتالية. فالذاتية الترنسندنتالية كانت تؤسس كل معرفة. لذا فإن سارتر يلتقي هنا مع النقد الهايدغري لهوسرل، وهذا ما يفسر إدراجه للمفهوم الهايدغري للوجود-في-العالم، وفي هذا المقال بالضبط. ففلسفة هايدغر ترمي بنا خارج ذواتنا: «أما فلسفة التعالي، فهي ترمي بنا على قارعة الطريق، وسط التهديدات، وتحت نور يبهر الأعين. يقول هايدغر: “الوجود هو وجود-في-العالم”، يجب أن تفهموا “الوجود-في” كحركة، أن توجد معناه أن تنفجر في العالم، معناه أن تنطلق من عدم عالم وشعور، كي تنفجر بغتة وعيًا-في-العالم (…) كل شيء موجود في الخارج، كل شيء، حتى نحن أنفسنا، في الخارج، في العالم، بين الآخرين. إننا لا نكتشف أنفسنا في عزلة ما، بل في الطريق، في المدينة، وسط الجماهير، شيئًا بين الأشياء، أناسًا بين البشر».[7]
رغم هذا الامتداح لمفهوم التعالي عند هايدغر إلا أن سارتر يأخذ عليه كونه لم يرد أن يُبقي عل مفهوم الوعي في قراءته لمفهوم التعالي. كان من الصعب على الفيلسوف الفرنسي، وريث التقليد الديكارتي المؤسس للكوجيطو أن يتخلى عن مفهوم الوعي. ذلك أن كتاب «الوجود والعدم» يقوم أساسًا على توظيف مفهوم القصدية الهوسرلي، ومفهوم عن الوعي من حيث إنه «يكون ما ليس هو، ولا يكون ما هو عليه». أي من حيث هو قدرة على النفي. الوعي هو «ما به يأتي العدم إلى الأشياء». هنا يبتعد سارتر عن هايدغر، فهو يرى أننا إذا سلمنا بأن الدازاين الهايدغري خارج عن ذاته، وأنه وجود-في-العالم، فينبغي أن نضيف أنه نفي وسلب، و«أنه يحمل معه العدم». يأبى سارتر اعتبار العدم مجرد فراغ لا تمايز فيه. العدم نسيج الوجود، والوعي هو الوجود الذي يتحدد بوجود لا يوجد، إنه وجود ينخره العدم، إنه حرية. يستخلص سارتر، ضدًا على هايدغر: ينبغي إذن الانطلاق من الكوجيطو إذا أردنا الخروج منه، أي أننا ينبغي أن نجعله «أساسًا».
هذا ما سيدفع المفكر الألماني إلى أن يعلن انفصال «طريقه» عن «مواقف» المفكر الفرنسي، وأن يكتب في رسالته في النزعة الإنسانية (1947) بأن «قلب قضية ميتافيزيقية، يظل قضية ميتافيزيقية»[8] ويصنف المفكر الفرنسي ضمن التراث التقليدي للفلسفة، ما دامت فلسفته لا تتعدى كونها «لغة جديدة داخل ميتافيزيقا تقليدية».
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] عبد الرحمن بدوي، سيرة حياتي، جزءان، بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ج1 ص. 138.
[2] قبل أن تصدر ضمن كتاب يضم نصوصًا أخرى، بالعنوان نفسه، سنة 1938.
[3] سارتر، ج.ب، مذكرات الحرب الغريبة، بالفرنسية، غاليمار، 1983 ص 467
[4] المرجع نفسه، ص ص 468-469
[5] Sartre J.P. « Une idée directrice dans la phénoménologie de Husserl: l’intentionnalité » in Situation 1 Gallimard, 1974, pp. 31-35.
[6] سارتر: «فكرة أساس….المرجع الآنف الذكر.
[7] سارتر، المرجع السابق.
[8] Martin Heidegger, « Lettre sur l’humanisme », in Questions 3, Gallimard, 1966.