لطالما كانت الرياضة أكثر من مجرد لعبة أو منافسة، فهي تعبير عن جوهر الإنسان وسعيه المستمر لتجاوز ذاته. تمثل الرياضة تلك المساحة التي تلتقي فيها القوى البدنية بالعقل، حيث يتحول الجسد إلى أداة تعبير عن القيم الإنسانية الأساسية: الشجاعة، والعمل الجماعي، والتنافس الشريف. وقد رأى الفيلسوف الفرنسي رينيه غيرار أن التنافس[1]، في جوهره، يعكس رغبة الإنسان في تجاوز ذاته لا للانتصار فقط، بل للاقتراب من صورة الكمال بوصفها نوذجًا معياريًا متخيلًا لديه. ومن هذا المنطلق، يمكن النظر إلى مسابقة كأس العالم ليس بوصفها حدثًا رياضيًا فقط، بل رمزًا عالميًا يحمل بين جنباته أبعادًا ثقافية وفرصًا واعدة على المستويين الإنساني والاجتماعي بشكل عام.
في الحادي عشر من ديسمبر 2024 وعندما أعلن الاتحاد الدولي لكرة القدم “فيفا” عن فوز السعودية باستضافة كأس العالم 2034، لم يكن ذلك الإعلان مجرد إنجاز على المستويين الرياضي والاقتصادي فقط؛ بل لحظة تحمل معاني رمزية عن التلاقي الذي تعد به هذه الاستضافة بين خصوصية ثقافية راسخة وقيم عالمية عابرة للحدود. وهي لحظة تستدعي معها سؤالًا مهمًا عن كيف يمكن للرياضة أن تعيد تعريف الهوية في عصر العبور الثقافي؟ وما الذي تحمله هذه اللحظة من إمكانات تشكل نقطة انطلاق لتحولات اجتماعية وثقافية مؤثرة؟
للفيلسوف الألماني هانز جورج غادامير عبارة يقول فيها إن “الفهم ليس مجرد تبادل للأفكار، بل هو لقاء بين العوالم” وفي هذا السياق، يمكن النظر إلى الرياضة بوصفها وسيلة تتيح للناس أن يلتقوا ليس فقط على المستوى المادي الواقعي، بل على مستوى العقول والمشاعر. وتصبح الملاعب مساحات للحوار غير اللفظي، فيكتشف كل طرف الآخر من خلال هتافاته، وشعاراته، واحتفالاته. لهذا فإن استضافة المملكة لهذا الحدث ستمثل لحظة كاشفة لتأمل هذا العبور الثقافي، فالملاعب التي ستجمع فرقًا وجماهير من مختلف الثقافات ستخلق منطقة حوار ثرية بين الشرق والغرب، وبين الأنا والآخر.
ليست الرياضة بالتأكيد مجرد نشاط فردي، بل هي أداة لصياغة الهوية الجماعية. وعندما تهتف الجماهير لفريقها، فإنها بذلك تتجاوز الانقسامات الطبقية والجغرافية لتتوحد حول هدف واحد. وهكذا، تصبح الرياضة مساحة لشحذ طاقة الانتماء من جديد. وهذا الانتماء، كما يقول بنديكت أندرسون في نظريته حول “الجماعات المتخيلة”، يعتمد على سرديات مشتركة تربط الأفراد بأهداف أسمى. من جهة أخرى، يمكن اعتبار التنافس الرياضي امتدادًا لما أسماه الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه بـ”إرادة القوة”. لكنه ليس القوة بمعناها التدميري، بل بمعناها الإبداعي؛ حيث يصبح التنافس في الرياضة انعكاسًا لإرادة الإنسان في تجاوز نفسه، والتفوق على حدوده، وإعادة تعريف ذاته في مواجهة الآخرين. فعندما يتحول كل هدف وكل تمريرة إلى لحظة من الإنجاز البشري الخالص، فإن ذلك من شأنه أن يتيح لنا رؤية الإرادة البشرية متجسدة في قوتها ورغبتها في التفوق والسمو.
من جهة أخرى تعتبر الرياضة ساحة لتجسيد القيم الأخلاقية والالتزام بالقانون. وإذا كان أرسطو يذهب في كتابه “الأخلاق النيقوماخية” إلى أن الفضيلة هي وسط بين إفراط وتفريط. فإن الرياضة قادرة على أن تجسد هذا المبدأ بامتياز: فالتنافس الشريف هو الفضيلة بين الغرور والتواضع المبالغ فيه، والشجاعة وسط بين التهور والجبن. لهذا فاللعب فرصة لتأكيد هذه القيم الأخلاقية، ليس فقط في الملاعب، بل أيضًا في المجتمع ككل، وذلك لأن اللعب النظيف والتنافس الشريف يمكن أن يصبحا نموذجًا يُحتذى في المجالات الأخرى، من التعليم إلى السياسة.
غير أن الأخلاق في الرياضة لا ترتبط فقط بالقوانين التي تحكمها، بل بالرسائل التي تنقلها. فالرياضة، بما تحمله من قصص عن الانتصار والهزيمة، تعلّمنا أن الحياة مليئة بالتحديات، وأن الفوز الحقيقي يكمن في تجاوز العقبات بروح رياضية تبتهج بالانتصار وتقبل الهزيمة بسعة رحب.
ومن منظور أوسع، تمثل الرياضة فرصة لتعزيز التنمية المستدامة. فالاستعداد لكأس العالم لا يقتصر على بناء الملاعب والمنشآت، بل يمتد إلى تعزيز الوعي البيئي، ودعم الممارسات المستدامة.
وكباحث غير سعودي، منشغل ومراقب لتطور الثقافة السعودية خلال السنوات السبع الأخيرة، أرى أن استضافة السعودية لكأس العالم 2034 هي بمثابة لحظة تاريخية تعكس قدرة العرب على التميز عالميًا وتعزز الصورة الذهنية للمنطقة كمركز للحوار الثقافي التقدمي والانفتاح على الآخر. ومن المؤكد أن هذا الحدث سيشكل فرصة كبيرة لإبراز التراث العربي وتوثيق الروابط الثقافية، عبر فعاليات تعكس التنوع الثقافي وتعمق الفهم المتبادل، وبشكل يرسخ أكثر من دور المنطقة العربية كجسر للتواصل الحضاري مع باقي بقاع العالم.
في النهاية، تبقى الرياضة أحد أعظم تعبيرات الإنسان عن ذاته. كأس العالم 2034 في السعودية ليس مجرد حدث عابر، بل لحظة تحمل إمكانية إعادة تعريف العلاقة بين الرياضة والمجتمع، وفرصة للتفكير في سؤال مهم: كيف يمكن للرياضة أن تكون أداة لتعزيز الهوية وفي الوقت نفسه الانفتاح على الآخر؟
إن فوز السعودية باستضافة هذا الحدث العالمي لا يمكن اختزاله في مجرد كونها مضيفة، بل في كونها مُعلّمًا للقيم الإنسانية النبيلة التي طالما تأصلت في البيئة العربية وتناقلتها الأجيال جيلا بعد جيل. أخيرًا، لننظر إلى هذا الحدث ليس كغاية في حد ذاته، بل كوسيلة للتفكير فيما يمكن أن تكون عليه السعودية عام 2034 كتتويج لتاريخ من التخطيط والعمل الدؤوب على مدار عدة سنوات، وفي كيف يمكن للرياضة أن تساعدنا على بناء عالم أكثر إنسانية.
[1] عالج رينيه غيرار فكرة التنافس بشكل أساسي في كتابه العنف والمقدس (Violence and the Sacred) الصادر عام 1972. في هذا الكتاب، يناقش غيرار مفهوم الرغبة المحاكية (Mimetic Desire)، حيث يرى أن البشر يميلون إلى تقليد رغبات الآخرين، بشكل يؤدي إلى تنافس ينشأ من التشابه وليس من الاختلاف. يشرح غيرار كيف يمكن أن يؤدي هذا التنافس إلى نزاعات عنيفة داخل المجتمعات، لكنه يشير في الوقت نفسه إلى أن هذه النزاعات يمكن تهدئتها أو التحكم فيها من خلال طقوس دينية أو أنساق ثقافية مثل الرياضة، التي تعد وسيلة رمزية لتحويل الصراع العنيف إلى تنافس سلمي. بالتأكيد لا يركز الكتاب بشكل حصري على الرياضة، لكنه يوفر مدخلًا فلسفيًا جيدًا لفهم فكرة التنافس البشري، والذي يمكن تطبيقه على الرياضة باعتبارها مثالًا حيًا ومباشرًا لهذا النوع من التنافس الذي يعتمد على المحاكاة.