تحتوي المقالة على حرق لأحداث اللعبة والمسلسل
ما الذي يجعل العمل الفني تحفة كلاسيكية؟ تتعدد إجابات هذا السؤال دون الإجماع على معاييرٍ محددة. هناك مَن يقول إن المعيار الأهم هو الصمود أمام تحولات الزمن، فالأعمال الكلاسيكية من منظورهم هي تلك التي تنجح بالمحافظة على قيمتها الفنية العالية. في حين هناك مَن يُحاجج على أن المعيار الأهم هو ثوريَّة العمل وقدرته على إعادة تعريف القيمة الفنية نفسها، وبذلك تكون الأعمال الكلاسيكية من هذا المنظور هي تلك التي تتحدى السائد في الصنعة وتمهد الطريق لأشكالٍ فنيةٍ جديدة.
بين هذا المعيار وذاك، نجد الأعمال الخالدة تستوفي كل الشروط بالرغم من تضاربها. فالأعمال السينمائية كـ«الحي الصيني Chinatown» والتلفزيونية كـ«آل سوبرانوز The Sopranos» والأدبية كـ«يوليسس Ulysses» والقصصية-المصورة كـ«أكيرا Akira»، يتفق الجميع على كلاسيكيتها حتى مع اختلافهم في تعريف المفهوم وتحديد معاييره.
الأمر ذاته ينطبق على ألعاب الڤيديو، تلك الأعمال الفنية التي تمزج اللعب التفاعلي بالسرد المصور لتقدم لنا تجارب قصصية فريدة من نوعها. هنا تأتي رائِعة الكاتب نيل دريكمان و المخرج بروس سترالي «الأخير منا The Last of Us»؛ التحفة الكلاسيكية التي أحدثت نقلة نوعية في عالم صناعة الألعاب، وقدمت لنا إحدى أعظم التجارب الفنية على الإطلاق؛ فهي لم تكن مجرد لعبة ڤيديو، بل هي ملحمة، إنها أوديسة، رحلة تحولية عن الرحلات التحولية التي يخوض غِمارها الإنسان.
- السياق والقصة
(سنناقش في هذه الجزئية أحداث الحلقة الأولى وما يوازيها من فصول اللعبة)
- البشرية على حافة الفناء .. السياق:
تبدأ أحداث «The Last of Us» قبل ساعات من انهيار العالم كما نعرفه ..
هناك عدوى فطرية اجتاحت دول عديدة وتسببت في إخلال منظوماتها الأمنية حتى بدأت تتساقط واحدة تلو الأخرى. لا أحد يعرف كيف حدث ذلك، لكن الحاصل أمام مرأى الجميع هو تحول المصابين إلى كائنات مَوبوءة منزوعة الإرادة والإنسانية؛ أنهم أقرب إلى الوحوش من البشر، مما جعلهم يشكلون خطر يهدد أمن المجتمعات في أعين صُنّاع القرار. فكان على الحكومات اتخاذ قرارات عاجلة في تلك اللحظة الحرجة التي ستحدد مصير البشرية؛ كان عليهم احتواء الوباء بأي طريقةٍ كانت، وقد فعلوا ذلك بأبشع صورةٍ ممكنة!
في المشاهد الافتتاحية، نقابل «جول» وابنته الصغيرة «سارة» في تلك الساعات الأخيرة التي سبقت الانهيار؛ لم يكن يومهم اعتياديًا، فقد كان يوافق عيد ميلاد «جول»! كل شيء في المشهد مُصوَّر بدقة سينمائية عالية ومُبهرة؛ الرسوم والتمثيل وحتى السرد. التفاصيل الصامتة تحكي لنا ما هو مَسكوت عنه بين الشخصيات، فغياب زوجة «جول» عن هذه المناسبة تجعلنا نتساءل: أين ذهبت الأم؟ ومنذ متى؟ وهل قام بتربية ابنته لوحده؟ هذه التساؤلات تحثنا على النظر إلى علاقة «جول» و «سارة» في إطارٍ مختلف؛ لا يمكن للأب تعويض غياب الأم في حياة أطفاله، مما ينعكس بدوره على شعوره الدائم بالتقصير. فأن تفعل كل ما بوسعك طوال اليوم، لتأتي في نهايته مُثقلًا بفكرة أنك لم تفعل ما يكفي، هو الهاجس المُؤرِّق لكل الآباء. نرى هذه الديناميكية تتمظهر بكل عفوية في احتفالهما المتواضع بعيد الميلاد؛ المزاح والدفء والعتب الحنون. هكذا تبدأ رحلة «The Last of Us»، بتركيزٍ مجهري على دراما العلاقات الإنسانية.
تأتي الضربة الأولى بالنسبة إلى «جول» و«سارة» في لحظة اقتحام أحد المصابين بالوباء إلى منزلهم؛ لا تفلح تهديدات الأب ولا صراخ البنت في إيقاف هذا الموبوء من الانقِضاض عليهم، مما يضطر «جول» إلى قتله حمايةً لـ«سارة». نرى الأب حينها وهو يُخبر ابنته مذعورًا: «هناك شيء كارثي يحدث الآن .. علينا الخروج من هنا حالًا». لكن العالم الخارجي لم يكن أكثر أمانًا، بل كان أكثر رُعبًا، حيث الوباء يطارد البشرية جمعاء في الشوارع وعلى الطُرُقات؛ إنه مشهد جحيمي يرسم لنا حالة الذعر من خطر الفناء. هنا، تمكننا اللعبة من التحكم بـ«جول» كي نأخذ «سارة» إلى بر الأمان سيرًا على الأقدام؛ لا شيء سوى أب يحمل ابنته وسط الصيحات والحوادث والنيران والفوضى.
عندما تضعنا «The Last of Us» بطبيعتها التفاعلية في موقفٍ كهذا، إنها تتجاوز مسألة الاستثمار العاطفي في مصير الشخصيات وتدفعنا إلى التماهي معها. نحن «جول»، والكائنات الموبوءة التي تجري خلفنا هي أكبر مخاوفنا في تلك اللحظة. نسمع صَرَخاتهم تتبعنا من كل حَدَبٍ وصَوْب، وكلما اقتربوا منا؛ ابتعد أمل النجاة من هذا الكابوس.
وعند وصولنا إلى نهاية الطريق حيث لا مفر من مواجهة هؤلاء الموبوئين، يأتينا الفَرَج على هيئة عسكري مُسلّح يقوم بإطلاق النار وتصفية الخطر المحدق بنا. نتنفس الصعداء مع توقفنا وإسكات الصَرَخات الوحشية، ليتضح لنا صوت الأب وهو يُطمئن ابنته في تلك اللحظة أنهم بمأمن. لكن هناك شيء يبدو مُثيرًا للقلق في الجندي، فسلاحه لا يزال مُصوَّبًا نحو «جول» و «سارة» ..!
نراه يتلقى أوامر عبر جهازه اللاسلكي دون معرفة ما يُقال في الطرف الآخر، وبمجرد سماعنا لمحاولات تبريره بأن هناك «طفلة صغيرة»، يتحول قلقنا إلى خوفٍ أشد مما كان عليه قبل دقائق. لا حاجة لسماع هذه الأوامر لمعرفة استراتيجيات صُنّاع القرار، فسبابة الجندي المسلّح التي حضنت الزناد كشفتها دون النطق بكلمة واحدة.
لا استثناءات في محاولة احتواء الوباء .. قوموا بتصفية الجميع
ردة فعل «جول» حين استوعب ذلك لم تكن أسرع من طلقات الرصاص التي أسقطته دامِيًا على الأرض، ليقوم بعدها ويكتشف أن الرصاصة قد اخترقته وأصابت جسد «سارة» النحيل. يحضن الأب ابنته الغارقة بدمائها وهي تبكي بين ذراعيه، يحاول طمأنتها وطمأنت نفسه بأن إصابتها ليست بالِغة، لكن الواقع أقسى وأمَرّ من تمنياتِنا؛ إنها تحتضر! وبعد لحظات تتضارب فيها مشاعرنا بين الخوف والغضب، يتوقف بكاء «سارة» وقد اختلط دمعها بدمائها في حضن أبيها الذي كان دائمًا ما يشعر بالتقصير تجاهها، وها هو الآن يفشل للمرة الأخيرة، يفشل في إنقاذها من وحشية هذا العالم.
لكن عن أي وحشية نتكلم هنا؟ فهي لم تكن ضحية الكائنات الموبوءة منزوعة الإرادة، بل إنها ضحية إنسان يملك حرية إرادته ليتصرف كما يراه سليمًا. هذه الوحشية لا يمكن فهمها بنزع صفة الإنسانية عنها، فإذا ما أردنا استيعاب طبيعة الشر وحقيقة العنف التي تسببت بمقتل «سارة»، علينا العودة إلى الإنسان نفسه باعتباره الذات الفاعلة والقادرة على ارتكاب الفظائع.
فمن المشاهد الافتتاحية، تؤكد لنا «The Last of Us» أن الإنسان هو محور قصصها وموضوعاتها؛ ذلك الإنسان الذي وجد نفسه مُجبرًا على العيش مع أشباح عوالمه المنهارة.
- أوديسة فوق أنقاض المجتمع .. القصة:
تنطلق الأحداث الفعلية للقصة بعد مُضي 20 عامًا من انهيار العالم ..
وُلِد «جول» -مُجددًا- بعد وفاة «سارة» بين ذراعيه؛ فهو ابن تلك الليلة المأساوية، وقد وَرَث كل صفاتها. نقابله بعد أن غَزاه الشيب وعَرَّاه الزمن من رأفته، فنرى في ملامحه انعكاسًا لطبيعة العالم بعد سقوط حضاراته (باردًا .. مُتحجِّرًا .. مُفرَّغًا من العواطف). شقيقه «تومي» هو آخر مَن تبقى له من أسرته؛ الخيط الممتد من حياته السابقة، الذكرى المتجسدة للعالم قبل انهياره. أما البقية، فقد تحولوا إلى أشباحٍ يلاحقونه للتذكير بفشل البشرية وضعفها، خصوصًا شبح «سارة» الذي لم يُفارقه يومًا؛ إنها هناك على الدوام، في زاوية رؤيته أينما ارتحل، وفي أحلامه كلما أغمض عينيه؛ إنها ندبته الوجودية التي لم تلتئم بعد مرور كل هذه السنوات.
وكما لو أن «جول» لم يُصارع هواجس «الفقد» بما يكفي مع موت ابنته، تضعنا «The Last of Us» في خِضم قلقه على «تومي» الذي انقطعت سُبُل التواصل معه وهو في العالم الخارجي غير الـمُأمَّن (حيث صعوبة الاتِّصال والتَنَقُّل بعد سُقوط الأنظمة وشرّعَنة قانون الغابة). نشاهد غريزته الأخوية تدفعه إلى الإلحاح بالسؤال عن شقيقه الأصغر ومكان تواجده، لكن في تلك الحياة العالِقة في الزمن كانت الأجوبة تتطلب الخوض في ألاعيب تبادل المصالح والموارد الشحيحة كـ(الأطعمة والأدوية والأسلحة .. إلخ)؛ وهذا ما بَرَعَ فيه «جول» خلال العقدين الماضيين، فقد عَمَلَ بالسر كمُهرِّب داخل مَناطِق الحَجر الصحي الـمُأمَّنة، مما أعطاه أفضلية دائمة في التفاوض مع الجميع؛ أتريد علبة سَجائِر أم حبوب مُنوِّمَة؟ أعطني ما أريده منك أولًا.
في عالم «The Last of Us» نجد المجتمعات المتناثرة لمناطِق الحَجر الصحي تُدار من قِبل نظام مُستبدّ يُصارعه حزب راديكالي يسعى إلى إسقاطه؛ ومن وسط هذه المعمعة السياسية التي تسودها وحشية الاعتقالات والإعدامات والتفجيرات، نرى «جول» لا يُفكر سِوى بمَصالِحه الشخصية بعيدًا عن أي تَحَزُّب. هنا تكشف لنا سلوكياته أننا لسنا أمام البطل التقليدي صاحب المبادئ السامية، إنه مجرد شخص يسعى لحماية المقربين منه مهما تطلب الأمر؛ وذلك لدافع غريزي أولًا، ولخوفه من الفشل ثانيًا.
فحين تتقاطع مصالحه بأجندة هذا الحزب الراديكالي، تُوَكَّل إليه مهمة إيصال «حُمولة» خاصة من داخل منطقة الحَجر الصحي إلى مكانٍ ما خارجها، مُقابل إعطائه ما يُريد كي يجد شقيقه «تومي». تقوم اللعبة في هذه المرحلة بتشوقينا لمعرفة «الحُمولة» التي ستكون محور القصة طوال فصولها القادمة، لتأتينا المفاجأة على شكل فتاة صغيرة تدعى «إيلي»؛ إنها أمل البشرية في بناء عالم جديد .. إنها أملهم في الحصول على علاج ضد العدوى الفطرية.
مهمتنا ببساطة هي أخذ «إيلي» من النقطة «أ» إلى «ب»، لا أكثر ولا أقل. الانطلاق في أوديسة فوق أنقاض المجتمع حيث الأنظمة المستبدّة، والجَماعات المنشَقَّة، والطوائِف الدينيّة، وآكلي لحوم البشر، وملايين الكائنات الموبوءة يسعون لقتلك! تبدو مهمة سهلة أليس كذلك؟
- عندما تتجسد أشباحنا
(سنناقش في هذه الجزئية أحداث الحلقة السادسة والثامنة وما يوازيها من فصول اللعبة)
إن ما يُميز قصة «The Last of Us» عن غيرها، هو توظيفها الذكي لتعقيدات النفس البشرية في خلق مَخاوفٍ أكثر شراسَة من أخطار عالمها الوحشي. فهناك شيء بخصوص «إيلي»، بخصوص عمرها، بخصوص بنيتها النحيلة، كان يستدعي شبح «سارة» في مُخيِّلة «جول». نلاحظ استجابة آلياته الدفاعية في بروده القاسي تجاه الفتاة الصغيرة، حتى وإن كان في أعماقه يحمِل لها شيئًا من دفء علاقته بابنته المتوفاة.
ففي إحدى المشاهد الحوارية الثقيلة بينهما، تسأله ما الذي يدفعه للمضي قُدُمًا في هذا العالم البائس؟ ليُجيبها أن «العائلة» هي سببه الوحيد لتكبُّد كل هذا العناء. تستغرب «إيلي» إجابته فتقول: «أنا لست من عائلتك». ليَرُد «جول» بنبرة جافة: «نعم، أنتِ حُمولة». هذه الجملة القاسية ببرودتها، هي ما يُحاول «جول» إقناع نفسه بها! فهو يسعى جاهِدًا لمنع شبح «سارة» من التجسُّد في «إيلي»؛ لأنه يعي تمامًا مخاطر هذه الرحلة، فلا شيء قادر على إخافته في هذا العالم أكثر من رؤية ابنته في شخصٍ آخر ثم الفشل في حمايتها. لكن هذا ليس أمرًا سهلًا؛ لأن «جول» كان ومازال أبًا، وغريزته الأبوية لن تسمح له بإبقاء «إيلي» بعيدة عنه، وإنْ أدعى غير ذلك.
مع مرور الوقت، نشهد تفاقم الصراع النفسي عند «جول» كلما تَوَطَّدَت علاقته بـ«إيلي». ذلك الرجل المدَرَّع بقساوة الحياة في بداية الرحلة، ينزع دُروعه ليكشف تَعَرُّضِيّته في أواخِرها. اهتمامه الأبوي يتجلَّى لنا في نوبات الهَلَع المباغتة في لحظات الخطر التي قد تتسبب في إيذائها. لكن هذه المخاوف لا ينطق به «جول» إلا حين يتصادف مع «تومي» في طريقهم إلى المختبر الذي سيستخلص العلاج من جسد «إيلي» المحصّن. نسمعه يُصارح شقيقه عن كوابيسه وعينيه مُغرقة بالدموع: «أعرف عندما أستيقظ أنني فقدت شيئًا. أنا أفشل في نومي، هذا كل ما أفعله. وكل ما فعلته هو خذلها مرة تلو الأخرى». تكمن بَراعة هذا المشهد الدرامي في أنه يحمل مقصد الكلام لكُلٍّ من «سارة» و «إيلي»، مما يجعلنا نستشعر خوف «جول» في وجداننا، نحن مَن تَحَسَّرنا على موت الأولى وتَعَلَّقنا بحُب الثانية.
تستثمر «The Last of Us» ثنائية «الموت والحب» كعُملة عاطفية في رفع الرهان لما تبقى من أحداث القصة؛ لتسألنا: ما قيمة الحب في عالمٍ يُحيط به الموت؟ يمكننا القول إن قيمته مُكَلِّفة لمن سَبَق أن حازه ثم فقده. أي إن ما فعله «جول» حين فتح قلبه لـ«إيلي»، أوجد إمكانية عيش كابوس وفاة ابنته مجددًا، مما سيجعله يذوق عذاب الجحيم في الدنيا. وبمجرد استيعابه لهذه الحقيقة (بعد أن أنقذته «إيلي» من الموت وتعرَّضت للخطف جَرّاء ذلك)، يتحول خوفه إلى استبسالٍ مُرعب؛ فقد أيقظت هذه الحادثة الوحش المفترس داخله، فنراه يُعذِّب ويستجوب ثم يقتل بدمٍ بارد كي ينقذ ابنته «إيلي».
في هذا الفصل قبل الأخير، نجد أنفسنا لأول مرة نسائل الخيارات الأخلاقية التي قام بها «جول»؛ هل كان كل التعذيب والقتل مُبررًا؟ هناك مَن سيقول نعم، كان ضروريًا لحماية «إيلي» التي تمثل أمل البشرية بالحصول على العلاج. لكن «The Last of Us» هنا تطرح سؤالًا صادِمًا؟ مَن قال إن «جول» يكترث بشأن البشرية ومستقبلها؟
- لا أبطال في هذا العالم
(سنناقش في هذه الجزئية أحداث الحلقة الأخيرة وما يوازيها من فصول اللعبة)
طوال هذه الملحمة القصصية، قام كل من نيل دريكمان (الكاتب) وبروس سترالي (المخرج) ببناء حبكة درامية على أساس علاقة «جول» و«إيلي»؛ ليأتي الفصل الأخير ويضعنا أمام إحدى أكثر المعضلات الأخلاقية تعقيدًا في تاريخ الأعمال السردية. بعد وصولنا إلى المستشفى الذي سيقوم باستخلاص علاج العدوى الفطرية، نسمع من أعضاء الحزب الذي اتفقنا على توصيل «حُمولته» في أولى الفصول، أن «إيلي» أصبحت مستعدة في غرفة العمليات. يسأل «جول» مُتوجِّسًا عن سبب خضوعها للعملية، لنسمع بعد ذلك الإجابة التي ستقلب كل شيء رأسًا على عقب؛ استخلاص العلاج من جسد «إيلي» .. يعني موتها!
يرفض «جول» التضحية بابنته ويُطالب الحزب وفريقه الطبي بالبحث عن شخص مُحصَّن غير «إيلي»، لكنهم يخبرونه بكل حزم أن الأمر لا رجعة فيه، وأن أي محاولة لإثارة المتاعب ستتسبب في قتله. في تلك اللحظة، يبدو لنا أنهم أساؤوا تقدير خطورة «جول»، فقد ارتكبوا خطأً فادِحًا بوضعه في هذا الموقف الصعب. هنا، تمكننا اللعبة من التحكم به للمرة الأخيرة أثناء تحوله إلى آلة قتل تسحبنا من مقاعدنا خلف الشاشة إلى ممرات المستشفى الدامية. وبعد تصفيته الكاملة لميليشيا الحزب في مجزرةٍ مُروِّعة، نصل أخيرًا إلى غرفة العمليات حيث نجد «إيلي» مُنوَّمَة على السرير قبل بدء العملية.
يقف الطبيب بين «جول» و«إيلي» كما لو أنه الموت نفسه يحاول مفاوضته؛ عندما فقد ابنته «سارة» كان ذلك اعتباطيًا ووحشيًا وبلا معنى، لكن ما يعرضه الموت الآن هو فقدان ابنته «إيلي» مُقابل إنقاذ البشرية.
بالنسبة إلى «جول»، حكمت البشرية على نفسها بالهلاك حين تلقى ذلك الجندي قبل 20 سنة أمر قتل «سارة»، ثم قام بتنفيذه.
وهكذا، برصاصة واحدة، قضى «جول» على أمل الحصول على العلاج؛ ليحمل «إيلي» من فوق جثة الطبيب على الأرض، ويعود بها إلى حيث يعيش شقيقه «تومي» بعد سرقة إحدى السيارات من المستشفى.
في الطريق، عندما استيقظت «إيلي» وسألته عما حدث، أجاب بأن هناك العديد من المحصَّنين وأن الفريق الطبي كان عاجزًا عن استخلاص العلاج؛ ليختم كذبته بتغطية الفظائع التي ارتكبها على أنها من صُنع بعض المتهجِّمين من الخارج.
تختتم القصة جزئها الأول بمحاولات «إيلي» لتقبل واقعها الجديد، واقع أنها لا تمثل أملًا لبناء عالم أفضل.
في عالم «The Last of Us» لا وجود للأبطال، لكن في حال وُجِدوا، «جول» بكل تأكيد ليس واحدًا منهم.
- ماذا تخبرنا «The Last of Us» عن العيش بعد الفقد؟
عندما خضت مغامرة «جول» و«إيلي» لأول مرة في عام 2014، لم أكن أعرف ما هو «الفقد» الذي يصارعونه في دَواخِلهم، لكن شعرت بأن «The Last of Us» قدمت لنا نبوءة مجازية لما سنعاني منه عندما تنهار عوالمنا ونصبح مُحاطين بأشباح مَن فقدناهم. هذا الشعور بحتمية الانهيار والفقدان، ترسَّخ في نغم أوتار غوستاڤو سانتولايا الذي أخذ يُخاطبنا بعناوين مقطوعاته الموسيقية المخصصة للقصة، فنجده يُخبرنا مِرارًا وتكرارًا أن «كل شيء اختفى»، كما لو أنه يريد تذكرينا بمصير ما نعتقد بقاءه للأبد.
الآن، وبعد مرور كل هذه السنوات، عرفت «الفقد» وتذوقت مرارته. استوعبت أن انهيار عوالمنا لا تحتاج إلى جائحة عدوى فطرية أو حرب عالمية ثالثة؛ لأن كل ما قد يتطلبه الأمر هو مكالمة طارئة في منتصف الليل أو تزامن وجودك في الشارع مع سائق متهور. فالعالم الخارجي ليس مُنفصلًا عن خبرتنا به؛ أنا أعيش فيه وأدركه بحواسي، ولا يمكنني معرفته من خارج إطار خبرتي. هذا يعني أن الصدمات التي تفتت آفاقنا الإدراكية، هي بالضرورة تتسبب بانهيار العالم معها؛ ليس لأن الأنظمة الأمنية وأسواق البورصة ستتساقط، بل لأن تفاعلي مع العالم وموضوعاته سيُصبح مدموغًا. أنا لا أتكلم هنا عن الانهيار بالمعنى بالكارثي، لكن عن الانهيار بالمعنى الفلسفي (الفينومينولوجي)، حيث أشباح هذه العوالم المنهارة تؤثر على خبرتنا المعاشة أينما ذهبنا.
بالعودة إلى «جول»، نجد عالمه لم ينهار مع اندلاع الجائحة، بل لحظة وفاة «سارة»؛ لأن تلك الصدمة هي ما ولَّدَت شبحها الذي أخذ يطارده ويؤثر على تفاعله مع العالم. الأمر ذاته ينطبق علينا جميعًا؛ إن صدمات الحياة وما تتسبب به من فقداننا لأحبائنا وأحلامنا وذواتنا، هي ما تولِّد شبح الخِبرة الصادمة التي ستؤثر على رؤيتنا للعالم وتفاعلنا معه.
قصة «The Last of Us» تُخبرنا أمرًا في غاية الأهمية؛ لا يصح لنا تجاهل أشباح مَن فقدناهم في هذه الحياة لأنهم سيتركون ندباتهم في وجداننا، بل علينا التصالح مع غيابهم الفعلي وحضورهم الشبحي كي نعيش بسلام.
في النهاية، لننصت إلى رسالة غوستاڤو سانتولايا في مقطوعته الموسيقية الأجمل «مَسموحٌ لي أن أكون سعيدًا»، ونتذكر أنه بالرغم من كل «الفقد» .. هناك أمل بالسعادة.