مقالات

المشايخ الجدد: قانون الجذب وصراع الهيمنة على السلطة الروحانية

«رحماك يا رب، إن المرء يجاهد نفسه ليحافظ على روحانيته؛ فكيف لهؤلاء الأشخاص أن يبيعوا المعجزات على شاشات التلفاز؟ أتريد أن تخبرني أن كل شيء سيكون على ما يرام إن اتصلت على خطك الساخن ودفعت ٢٩.٩٩ دولارًا؟!» – جيرمين كول

 

في عام ٢٠٠٦، شهد العالم صدور الكتاب المثير للجدل «السر». أتذكر بوضوح الإعلانات في الشوارع، والنقاشات حول قانون الجذب، والشعور المميز بأنك تحمل كتابًا فريدًا من نوعه؛ الغلاف اللمّاع، الطبعة الراقية على طراز الورق العتيق، الكلمات الرنانة التي تَعِدك بالثراء والسعادة وتحقيق أحلامك وأمنياتك. حَمَلت الكتاب من رف «الكتب الأكثر مبيعًا» إلى صندوق المحاسبة، ودفعت مبلغًا يُعادل قيمة ثلاث روايات لأجاثا كريستي؛ أخرجت الكتاب أثناء عودتنا من المكتبة وبدأت أتصفح مقدمته بصعوبة تحت أضواء الشارع التي أخذت تمسح الورق مَسحًا سَريعًا. ومع وصولنا إلى البيت، كنت قد فَرغت من قراءة الفصل الأول «السر ينكشف»، واستوعبت شيئًا ما بخصوصه؛ إن السر ليس سرًا، وإن قانون الجذب هو فكرة تُرَوَّج بأشكالٍ متعددة وتُباع بأسماء مختلفة. بمعنى، إنها تجارة قائمة على بيع أمل اللامحدودية في سوق تنمية الذات حيث يصطدم الفرد بمحدوديته على الدوام.

إن ظاهرة «السر» هي ما يُطلق عليها خبراء التسويق «إعادة تشكيل العلامة التجارية» لفكرة قديمة مَفادها أننا أسياد مصائرنا بغض النظر عن أوضاع العالم من حولنا. هل تعاني من ضائِقة مالية تحت وطأة الديون؟ لا تقلق، كتاب «السر» سيُساعدك على جذب الثراء. هل بدأت تظهر عليك أعراض مُنذِرة بمرضٍ خطير؟ لا تَخَف، كتاب «السر» سيُساعدك على جذب الصحة. لا شيء مستحيل في هذا العالم الذي تُسيّره القوى الخفية لنوايانا وعقولنا الباطنة؛ كل ما علينا فعله هو الإيمان بمعجزاتها. لكن ما تكلفة أن يؤمن الفرد بالمعجزات الكونية وهو يُكابد مشقات الحياة؟ ألا يحق لنا أن نتبيّن ضَمانات هذه الرحلة الإيمانية قبل الرِهان عليها بأموالنا وسلامتنا؟

للإجابة على هذه الأسئلة، علينا أن نتخذ موقفًا صَريحًا من الصراع المفترض بين العلم والإيمان.

المعتقدات الروحانية ومأزق المؤسسة العلمية

لنبدأ أولًا وقبل الخوض في تفكيك ظواهر القوى الكونية بالتأكيد على أن هذه المقالة لن تنحاز للعلم على حساب الإيمان، ولن تنحاز لمصالح المؤسسة على حساب حقوق الفرد؛ وإنما ستحاول الالتزام بالحياد الموضوعي في الطرح والنقد بما يضمن سَلامة الإنسان وحَقّه بالإيمان، دون الإخلال بهذا الترتيب. فلا يخفى على أحد أثر التفذلك العلموي في تأجيج المشاعر السلبية تِجاه المؤسسة العلمية؛ فاستنقاص علماء النفس من قيمة المعتقدات الروحانية على جَهالة تامة بأبعادها الثقافية والتاريخية، أضرَّ بمصداقية هذا النقد عند عامة الناس؛ بل إنه أتى بنتائج عكسية، حتى أصبح البعض يميل إلى الروحانيات في تدبير شؤون حياتهم لأنها أكثر مراعاةً لاحتياجاتهم الوجودية.

من هذا المنطلق، نقول إن أحد أسباب رواج أفكار القوى الكونية بين الناس هو فَشَل المؤسسة العلمية في احتوائها والتعامل معها بالشكل السليم. فنجد علماء النفس يكررون ذات الخطاب النقدي الهادف إلى تجريد الصفة العلمية من فكرة قانون الجذب دون أدنى محاولة لفهمها كظاهرة لها سياقات تاريخية؛ حيث نشهد ذلك في نقدهم المقتصر على إثبات أن قانون الجذب ليس قانونًا بالمفهوم المتعارف عليه أكاديميًا، فهم يتجاهلون حقيقة أن الدافع وراء الإيمان بالقوى الكونية هو الاحتياج المعنوي للقِيَم والوُعود لا المسميات؛ أي إن كتاب «السر» لم يحقق ما حققه من نجاحات لكونه يقدم قانونًا للقراء، بل لأنه يُسوِّق لهم أملًا بإمكانية تحقيق أمنياتهم. وهنا يكمن إشكال المؤسسة العلمية في تعاطيها مع المسألة؛ إن تجاهلها للقِيَم الإيمانية ينبع من المأزق المعرفي لوجود المعتقدات الروحانية خارج نطاق صلاحيتها، مما يجعل المعتَقَد الروحاني كما يؤمن به الفرد مُحصَّنًا ضد منطقها العلمي. وبصيغةٍ أبسط، نقول إن مَن يؤمن بالشيء لقيمته الإيمانية، لن يكترث بما يقوله العلم عنه؛ لأن ما يبحث عنه الإنسان في الإيمانيات لن يجده في العلوم. وفي هذه الحالة المتشابكة، يندفع بعض المتحمسين من العلماء إلى اتهام مُعتنِقيّ أفكار القوى الكونية بالحُمق والسذاجة، أو وصمهم بالأمراض النفسية؛ والنتيجة؟ ازدياد حِدة القطيعة بين أطراف النزاع، وتشكُّل ما يعرف بالتوجه «المعادي للمؤسسة Anti-Institutional» القائم على نقد منهجياتها وممارساتها. هذا يقودنا – في أشد حالات المعاداة راديكالية – إلى منزلق العقلية المؤامراتية، حيث يسيطر منطق الريبة الهَوَسيّة على كل شيء، من التشكيك بمصداقية العلم حتى رفض نتائجه كليًا.

فكيف لنا أن نمسك بزمام الأمور قبل خروجها عن سيطرة المنطق السليم؟

دفاعًا عن الإنسان من خطر المؤامرات وتهميش المؤسسات

دعونا الآن نرسم حدود موقفنا من الصراع بين المؤسسة العلمية وأصحاب التوجه المعادي لها (ونقصد هنا مَن تَطرّف بمعاداته حتى بلغ حد تصديق نظريات المؤامرة وترويجها). فكما سبق وذكرنا، هدفنا الأساسي هو سَلامة الإنسان، مما يضعنا في مواجهة العقلية المؤامراتية وما تُشكِّله من خطرٍ على السلامة البدنية والنفسية للفرد والمجتمع. وهدفنا الآخر هو الدفاع عن حقّه بالإيمان، مما يضعنا في مواجهة النزعة العلموية للمؤسسة وما تمارسه من تهميش لقيمة المعتقدات الروحانية. هذا يجعلنا أمام مرمى النار لكِلا الطرفين، ويحتم علينا فهم الصراع بصورةٍ أعمق إذا ما أردنا أن نخرج منه محققين أهدافنا دون إخلالٍ أو تفريط.

ولكي نفعل ذلك، يجب أن نستعرض مواقف جميع الأطراف بشفافية تامة تخولنا للعبور إلى بر الأمان.

 

موقف المؤسسة مُمَثلةً بالطب والأطباء

إن ما تحاجج عليه المؤسسة العلمية في هذا الصراع – وقد أثبتته بمعاييرها الخاضعة للتجارب السريرية – هو أن اعتلالات الجسد المرضية تتعارض مع مفهوم سيادة المصير الذي تروجه أفكار القوى الكونية كـ«قانون الجذب وقوة العقل الباطن .. إلخ». فلا وجود لقوة خفية قادرة على شفاء المريض من علته دون مقاومة مَناعية أو تدخل علاجي، مما يجعل العقلية المؤامراتية المشككة في نجاعة العلاجات، تُشكِّل خطرًا حقيقيًا يهدد حياة الملايين من البشر.

هنا تربط المؤسسة التأثير المزعوم للقوى الكونية بالتأثير النفسي لـ «الإيحاء»، حيث يلعب الإيمان بالمعتقدات الشفائية دورًا إيحائيًا يتمظهر في تحفيز الجهاز العصبي-المناعي في جسد المريض؛ لكن نتائج الدراسات السريرية في هذا المجال تستخلص محدودية تأثير الإيحاء في مقاومة المرض، مما يضعه في مرتبةٍ أقل من بقية العلاجات الدوائية والجراحية. أي إن ممارسات الإيحاء الذاتي المصحوبة بالتفكير الإيجابي على غِرار «أنا معافى .. أنا معافى» لم تثبت وجود قيمة شفائية ثابتة يمكن الاعتماد عليها كما يدعي مُرَوِّجي علوم القوى.

 

الموقف المعادي للمؤسسة الطبية

في الطرف الآخر من الصراع، نجد حُجَج أصحاب التوجه المعادي للمؤسسة تبتعد عن المختبر وتقترب من الشارع؛ بمعنى، إنها تبتعد عن الدراسات السريرية وتقترب من الحقوق السياسية؛ حق الإيمان، حق الاختيار، حق الحياة والحرية. فالمؤسسة الطبية بالنسبة لهم هي أداة سياسية تنزع إلى الاستئثار بالمعرفة الصحية واستخدامها في تشكيل معايير التفرقة بين «السوي» و «المريض»، بحيث تمتلك السلطة المطلقة للتشخيص والعلاج، ويكون المريض هو موضوعها الخاضع لآليات الضبط تحت مسمى التشافي والوقاية.

وعلى هذا الأساس، يتحول الخطاب الطبي العلاجي إلى خطاب توعوي نصائحي يغطي كافة جوانب الحياة ليعيد صياغة الفرد على حسب مفهوم السواء المؤسسي. وهنا يكمن اعتراض أصحاب التوجه المعادي، فهم يرون هذا الخطاب يخدم المصالح السياسية للمؤسسات قبل المصلحة العامة؛ فلا مصلحة للفرد بتجريده من حقوقه حتى وإن زعمت نتائج الدراسات غير ذلك. ويتبين لنا من هذا الموقف الراديكالي أن استبسال أصحاب التوجه المعادي في الدفاع عن القوى الكونية سببه الحقيقي هو الدفاع عن حرية الأفراد.

كيف نقرأ تاريخ الصراع الفكري؟

الآن، وبعد رسم حدود مواقف الصراع، علينا أن نتتبع سردياتها التاريخية لمعرفة كيفية تشكُّلِها وتطورها عبر السنوات. هذه القراءة الفاحِصة لتقلبات موازين القوى بين الخطاب المؤسسي والخطاب المعادي، ستزودنا بالمعرفة اللازمة لتفكيك ظاهرة قانون الجذب وتجاوز إشكالياتها. ولكي نقوم بذلك على الوجه الأمثل، سنعتمد السرد البانورامي للتاريخ، بحيث نستعرض الأفكار المتصارع عليها في سياق عصرها لا عصرنا. وتكمن أهمية هذا النهج السردي في تثبيط نزعتنا الانحيازية لما هو «طبيعي» حسب مفاهيمنا في القرن الحادي والعشرين؛ فإذا ما أردنا أن نفهم الصراع التاريخي فمهًا مُحايدًا، توجب علينا أن نحتكم إلى ما هو «طبيعي» في ذلك العصر، والذي هو بدوره نتيجة صياغة سلطة مؤسساتية ما. وبكلماتٍ أخرى، نقول إن كل بداية لتأريخ صراع فكري-اجتماعي (كالذي نحن بصدده الآن) تستلزم الانطلاق من حالة السلطة الاجتماعية للمؤسسات المعنية في المرحلة التاريخية المعاصرة لتبلور هذه الأفكار.

ولأن مفاهيم القوى الكونية كما نعرفها اليوم، تعود في أصلها إلى أفكار الثورة العلمية للقرن الثامن عشر، سننطلق في رحلتنا التاريخية من حالة المؤسسة المهيمنة على مفاهيم «القوى» في ذلك العصر .. وهي الكنيسة.

«طرد الأرواح الشريرة Exorcism»

قبل سلطة المؤسسة العلمية، كانت هناك سلطة المؤسسة الدينية، مُمَثلةً بالكنيسة، التي أخذت تعاني من انتقادات الفلسفات الطبيعية المشككة في مفاهيم المس (تلبُّس الجن بالإنس) وتفاسيرها الشيطانية. حيث اعْتُبِر التأويل الديني لظاهرة المس، حيلة سياسية لإبقاء الناس تحت سلطة الكنيسة ورجال الدين. ومع تنور الوعي في عصر الثورة العلمية للقرن الثامن عشر، بدأت محاولات علمنة الظواهر الشيطانية لتتناسب مع روح عالَم ما-بعد إسحاق نيوتن؛ فتم استبدال الشيطان بالطاقة، والقس بالطبيب، والكنيسة بالمشفى. لكن طريق العلمنة كان طويلًا، وقد اختلط الاستبدال بالاستنساخ كثيرًا، مما أنتج نظريات هَجينة، ظاهرها «علمي Scientific» وباطنها «خوارقي Supernatural».

ففي سبعينيات القرن الثامن عشر، اشتُهِر القس يوهان جوزيف غاسنرJohann Joseph Gassner بقدرته الإعجازية على طرد الأرواح الشريرة (الجن في الثقافة الإسلامية) وشفاء المرضى، حتى أصبح يمارس تطبيبه في الساحات العامة أمام الملأ. كان يتجمهر حوله الناس وهو يُلَوِّح بصليبه فوق جسد المريض الممسوس، مُناديًا عدوه الشيطاني«أخرج باسم الرب». إنها السردية المسيحية للصراع بين الخير والشر، مُتَجسِّدةً في صراع القس والروح الشيطانية على جسد المريض، حيث تتجلى بصورتها العُنفيّة في ذروة الصراع حين تُنزَع الروح الشريرة تارِكةً الجسد مُتلويًا وفاقِدًا وعيه على الأرض. هذه الحالة التَشنُّجيّة، هي المرحلة الدالة على النجاعة العلاجية لممارسة طرد الروح الشريرة في المعتقد المسيحي، لأنها تُجسِّد لحظة الطرد، وبالتالي شفاء المريض من علته.

أثارت هذه الممارسات حفيظة الأطباء والسلطات المحلية بسبب انجذاب الجماهير الغفيرة لغاسنر وسرديته المسيحية (المرض باعتباره نتيجة تأثير قوى الشيطان على الجسد)؛ مما دفع أمير باڤاريا، ماكس جوزيف Max Joseph إلى تعيين لجنة علمية خاصة للتحقيق في مصداقيتها عام ١٧٧٤م. ومن بين أعضاء هذه اللجنة، طبيب من ڤيينا قام بتفكيك ظاهرة المس ثم تركيبها مجددًا باستخدام مفاهيم زمانه العلمية؛ هذا الطبيب يدعى فرانز أنتون ميزمر Franz Anton Mesmer، وهو الأب الروحي لعلوم الطاقة والقوى الكونية.

«المغناطيسية الحيوية Animal Magnetism»

أعادت ثورة «قانون نيوتن للتجاذب الكوني Newton’s Law of Universal Gravitation» صياغة العالم بأكمله على أساس القوى الخفية التي تحكمه، فما كان يُنسب إلى قوى الشياطين والمعجزات الربانية، أصبح منسوبًا إلى قوى الطبيعة الغامضة كما فهمها علماء ذلك العصر. هنا بَرَزت إشكالية مختلفة حيّرت العلماء والأطباء أمثال فرانز أنتون ميزمر؛ كيف لهم أن يستبدلوا السردية المسيحية للعِلَل المرضيّة بأخرى تتوافق مع روح الثورة العلمية؟ هذا الهاجس المصحوب بالنشوة التنويرية دفعتهم إلى الارتجال بخلق سردياتٍ بديلة مُستعينة بخوارق الكون بدلًا من خوارق الإله؛ فأصبح العالم ومَن فيه مُسيّرًا وفق قوانين مئات القوى الطبيعية التي لا يراها أحد.

وقد كان ميزمر مهتمًا بالتطبيقات الطبية لقانون الجاذبية، وتحديدًا، ما أشار إليه نيوتن عن احتواء الجسد البشري على سائل غير مرئي يستجيب لجاذبية الكواكب كما تستجيب لها حركة المد والجزر. وبناءً على هذه الفكرة، بدأ ميزمر تجاربه الخاصة ليختبر طبيعة هذا السائل على مرضاه في العيادة، حيث اكتشف أن تحريكه للمغناطيس فوق أجساد المرضى يدفعهم إلى الدخول في حالاتٍ تَشنُّجيّة مماثلة لحالات طرد الروح الشريرة من الجسد الممسوس، والتي غالبًا ما تنتهي بشفاء المريض من علته كما كان يفعل غاسنر! هنا استنتج ميزمر أن ظاهرة المس وما كان يُنسب إلى قوى الشيطان، ما هي في الحقيقة العلمية – حسب سياق العصر – إلا هذا السائل الخفي الذي أطلق عليه اسم «المغناطيسية الحيوية». وفي عام ١٧٧٥م، وقف ميزمر ليعيد مُحاكاة ممارسات غاسنر الدينية، لكن هذه المرة باسم العلم، ليكشف للجميع أنه لا وجود للشياطين والمعجزات؛ وبذلك أعلن بداية عصرٍ جديد للعلاجات باستخدام القوى الكونية.

في فبراير عام ١٧٧٨م، انتقل ميزمر إلى مدينة العجائب باريس، حامِلًا معه المعرفة الثورية للقوى التي تحيط وتخترق كل شيءٍ في الكون. وقد طوَّر حينها مفاهيمه الطبية لتتناسب مع السيولة المغناطيسية، حيث نَظَّرَ من مُنطلق تجاربه الخاصة أن العلة المرضية هي نتيجة إعاقة تدفق السائل المغناطيسي داخل الجسد وانعدام تناغمه بالمغناطيسية الكونية للطبيعة؛ وأن العلاج يكون بإزالة العراقيل عن طريق توجيه وموازنة السائل إلى أن يدخل المريض في حالة التَشنُّجَات العلاجية، ليستعيد المريض بعدها تناغمه مع الطبيعة ويتشافى من علته. هنا يتبيّن لنا أن ميزمر استنسخ ممارسة غاسنر في إطار نظري مختلف، لكنه لم يغيرها حقًا للتناسب مع المعايير الأكاديمية؛ أي إنه قام بتَهجين مفهوم القوى الخفية بمصطلحاتٍ علمية رائجة في عصره، لكنه لم يُفسرها علميًا. هذا التباين العلمي بين المصطلح والتفسير، دفع المؤسسات الرسمية كـ«الأكاديميات والجامعات» إلى تجاهل المغناطيسية الحيوية وتطبيقاتها العلاجية؛ فمِن وجهة نظرها، لم يكن فرانز أنتون ميزمر سوى أحد العلماء الهُواة الذين أغرقوا المجال العلمي بمئات السوائل الخفية التي لا أصل لها في الواقع؛ فأغلقت أبوابها في وجهه وتركت نظرية السائل المغناطيسي بلا اعترافٍ رسمي. في هذه اللحظة، وبعد أن اسْتشعر ميزمر خذلان المؤسسات العلمية، قرر أن يُكمل ممارساته وتطبيبه للعامة، مُتجاهِلًا الرأي الأكاديمي؛ وبذلك يكون قد خَطَى الخطوة الأولى تِجاه تشكيل الخطاب المعادي للمؤسسة كما يتبناه مُرَوِّجي علوم الطاقة في عصرنا الحاضر.

ذاع صيت ميزمر في فرنسا ما-قبل الثورة (١٧٨٩م) حين بدأت أفكار التمرد ومناهضة السلطة بالغليان بين أوساط النشطاء الحقوقيين. فقَدِمَ إليه الناس ليشهدوا معجزاته المغناطيسية ويتعلموا تطبيقاتها المختلفة، ومنهم مُفكريّ السياسة، الذين رأوا في أفكار ميزمر نزعة تحدي للسلطة والطَبَقيّة والظلم الاجتماعي. فقد كانت كتاباتهم عن الفكر الميزمري تحمل نبرة ثورية ضد المؤسسات العلمية وطغيانها الأكاديمي؛ بل إنهم أجَّجَوا حِسّها الراديكالي بإدخالهم مفاهيم سياسية كـ«الحرية» و «العدالة» في صُلب أفكار ميزمر، فأصبحت جزءًا أساسيًا من فكرة الصحة والتناغم الكوني. يقول جاك-بيير بريسو Jacques-Pierre Brissot وهو أحد تلامذة ميزمر المهتمين بالشأن السياسي: «بلا شك، سيأتي اليوم الذي يقتنع فيه المرء بأن المبدأ الأهم للصحة البدنية هو المساواة بين جميع البشر واستقلال الآراء والإرادة». وفي كُتَيِّبه عن الفكر الميزمري، عاتَب الأكاديميين بقوله: «ألا ترون أن الميزمرية هي وسيلة لتقريب الطبقات الاجتماعية من بعضها، لجعل الأغنياء أكثر إنسانية، لجعلهم آباء حقيقيين للفقراء؟». لكنه ختم عِتابه بهجومٍ لاذع موجه لخصومه: «أخشى أن عادة الاستبداد قد حَجّرت أرواحكم».

خاض تلامذة ميزمر معركتهم ضد مؤسسات الدولة بكتاباتهم الراديكالية، حتى أمر الملك لويس السادس عشر في ربيع عام ١٧٨٤م بتعيين لجنتين ملكيّتين للتحقيق في ممارساتهم وإنهاء الجدل القائم حول المغناطيسية الحيوية. وبعد أن شهدت اللِجان عِدة تجارب خاصة، توصلت إلى استنتاجها العلمي: فرانز أنتون ميزمر كان مُخطئًا؛ فلا وجود لسائل مغناطيسي يسبح في فضاءات الكون ويخترق أجساد البشر، كما أن ظاهرة التَشنُّجات العلاجية لا علاقة لها بأي من القوى الكونية التي طَفح بها القرن الثامن عشر؛ وإنما هي أثر قوة المخيلة على الجسد. هذا التحول في مفهوم العلاقة بين الذهن والجسد، والواعد بولادة مجال علمي جديد، وُئدَ في تقرير لجنة الأكاديمية الملكية للعلوم على أنه لا يستحق الخوض فيه، لأن العقلية التنويرية للقرن الثامن عشر، كانت ترى في الخيال عدوًا للتفكير المنطقي والمنهج العلمي. وبالتالي، انتهى عمل اللِجان الأكاديمية بهذا الكشف دون تقديم أي سردية مختلفة عما قدمه ميزمر وغاسنر.

لكن القصة لم تنتهِ بعد، والفضل يعود إلى أحد تلامذة ميزمر الذي أخذ على عاتقه تطوير مفاهيم مُعلِمه المضطَهَد، ليقدم للعالم الظاهرة المغناطيسية التي رسخت في ذاكرته طوال القرنين الماضيين.

«التنويم المغناطيسي Magnetic Sleep»

تتلمذ الأرستقراطي ماركيز دي بويزغور The Marquis de Puységur على يد ميزمر في باريس، قبل أن ينقل معرفته إلى أرضه الشاسعة في شمال فرنسا بالقرب من بلدة سواسون، حيث بدأ يُطور المفاهيم الميزمرية ويُهَذِّبها بتجاربه الخاصة على خَدَمه وعُمّاله. وقد استنتج بويزغور من تعامله المقرَّب مع المرضى، أن بإمكانه أن يستبدل الحالة التَشنُّجية بأخرى صامتة تؤدي إلى نفس النتيجة العلاجية. فما كان يتمظهر جسديًا عند غاسنر ثم ميزمر، أصبح يتمظهر نفسيًا عند بويزغور. هذه الحالة الذهنية كانت أشبه ما تكون بـ «السرنمة Somnambulism أو السير أثناء النوم» وفيها يكون المريض بين الصحو والنوم، خاضعًا لإرادة الممارس بشكلٍ كلي، مما يجعله تحت تأثير الإيحاء العلاجي؛ فكل ما على الممارس – أو الممغنط Magnetizer – فعله في هذه الحالة هو أن يوحي للمريض بتشافي؛ وببساطة إعجازية، يستيقظ المريض من سرنمته وهو معافى من علته كما لو أن جسده قد استجاب لتصورات ذهنه. وبهذا الاستنتاج المقارب لما توصلت إليه الأكاديمية الملكية للعلوم، أعاد بويزغور تعريف المغناطيسية بتقديمه لمفهوم «التنويم المغناطيسي»؛ ومن هنا، أصبحت الممارسة صَميميّة في طبيعتها، تعتمد على العلاقة الثنائية بين المريض والمعالج، حيث إنها لم تعد كونية بمقاييسها، أو عُنفيّة بنتائجها، وإنما ظاهرة نفسية تكمن إجاباتها في العوالم الخفية للذهن.

لكن ما هو خفي، لا يبقى كذلك. وما صورته العقلية التنويرية بأن لا قيمة له، رفعته الرومانتيكية في القرن التاسع عشر إلى مقاماتٍ أعلى؛ ومنها قدرة الذهن على خلق تأثير مادي محسوس، ليتجدد الاهتمام العلمي بالمغناطيسية بشكلها الصَميميّ ومفاهيمها النفسية.

هجرة المفاهيم إلى أمريكا

امتدت أمواج الثورة المغناطيسية عبر المحيط الأطلسي لتصل إلى القارة الأمريكية، حيث تَلَقَّف أفكارها القس لا روي ساندرلاند LA ROY Sunderland في ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وهو الذي كان مهتمًا بالتفسير النفسي للظواهر الدينية باستخدام أفكار بويزغور عن التنويم المغناطيسي؛ فأنشأ مجلة «المغناطيس The Magnet» الدورية في عام ١٨٤٢م، والتي سرعان ما أصبحت من أهم المجلات العلمية المنشورة في أمريكا. اهتم ساندرلاند تحديدًا بطبيعة «حالة السرنمة Somnambulic State» وقدراتها الإعجازية المشابهة لـ «الكرامة» في المعتقدات الدينية، وتساءل ما إذا كانت القصص المتداولة عن قدرة المتدينين – (أولياء الله الصالحين في الثقافة الإسلامية) – على شفاء المرضى، هي في حقيقة الأمر سرنمة مغناطيسية كالذي قام بها بويزغور مع خَدَمه وعُمّاله؟ فهل يمكن لغير المتدينين القيام بهذه الممارسة؟ وما هو الحد الإعجازي لما يمكن القيام به؟

أشعلت هذه الأسئلة وغيرها مخيلة أمريكا الفتيّة، حتى انعكست على كتابات أدبائها ومواضيعهم؛ فنجد أحد أبرز أدباء تلك المرحلة، إدغار ألن بو الذي كتب ثلاث قصص قصيرة عن التنويم المغناطيسي «حكاية الجبال الوعرة ١٨٤٤م» و «من إلهامات التنويم المغناطيسي ١٨٤٤م» وأخيرًا «حقائق عن قضية م. فلاديمير١٨٤٥م». ففي افتتاحيته لقصة «الإلهامات» يكتب بو على لسان شخصيته التخيلية: «أي هاجس من الشك لا يزال يُراود ذهنك فيما يتعلّق بحقيقة التنويم المغناطيسي، فلا بُدّ من القول: إنّ الحقائق المذهلة لهذا الموضوع أصبحت الآن من المسائل المعترف بها على نطاق واسع في العالم؛ وسط هؤلاء الذين يُساورهم الشك، هُناك أناس يتّخذون الشك مهنة لهم .. وهم فئة فاشلة لا تستحق الاحترام». فبالرغم من كون هذه الكلمات منسوبة إلى شخصية غير واقعية، إلا أنها تتحدث عن معتقدات راجَت في أمريكا القرن التاسع عشر. فكان الفرد الأمريكي بطبيعته أكثر قابلية من نظيره الأوروبي لمناطحة المؤسسات الأكاديمية والتمسُّك بآرائه ومعتقداته.

وبذلك، تكون المفاهيم المغناطيسية قد وجدت في المشهد الديني الأمريكي المتأثر بالكتابات اللاهوتية لإيمانويل سويدنبورغ Emanuel Swedenborg بيئة خصبة للنمو دون الاستحياء من جوانبها الخوارقية؛ فقد كانت السويدنبورغية الرائجة في أربعينيات القرن التاسع عشر، تقدم نظامًا دينيًا منسجمًا مع الفكر العلمي المعاصر، مما جعلها تتحالف فكريًا مع التوجه الميزمري، «إذ بدا ]أنها[ توفر دليلًا علميًا على وجود الروح الغيبية للعالم التي وصفها سويدنبورغ». فتم تسخير المفاهيم المغناطيسية كـ«حالة السرنمة» للتواصل مع عالم الغيبيات والتحدث مع أرواح الموتى؛ حتى وُصِف المشهد الاجتماعي الأمريكي في خمسينيات القرن التاسع عشر بـ«الهوس الأرواحي Spiritual Insanity»، حيث راجَت جلسات التواصل مع الأرواح في عالمهم الغيبي.

ومن وسط هذه البيئة المغرقة بالمفاهيم الغيبية التي مزجت العلم بالدين، ولِد وترعرع عالِم النفس والفيلسوف الأمريكي الأبرز في عصره، ويليام جيمس William James؛ وهو الذي شيَّدَ الجسر بين العالمين المادي والغيبي بصِياغته للمفهوم الأهم بالنسبة لنا في هذا المقال.

«العقل الباطن Subconscious Mind»

إن ما أثار اهتمام جيمس في حالة السرنمة، هو «طبيعتها التفارقية Dissociative Nature»؛ ففي اللحظة التي يُنوَّم الفرد مغناطيسيًا، ينزاح عقله الواعي، ليأتي بآخر؛ كما لو أن هناك عقلين بدلًا من واحد. هذا العقل «الآخر» الذي يتم نبشه أثناء السرنمة، سُمِّيَ بأسماءٍ كثيرة، أشهرها «العقل الباطن»؛ وقد نُظِّرَ عنه كثيرًا، فنُسِبت إليه جميع المعجزات العلاجية لممارسات غاسنر وميزمر وبويزغور.

أخذ جيمس هذا المفهوم وطوَّره في سياق اهتمامه بدراسات العلوم الدينية، ليصبح العقل الباطن هو البوابة بين العلم والدين، وبتأويلٍ آخر، هو البوابة بين العالم المادي والمعجزات الربانية؛ تحديدًا، معجزات المسيح (حسب الثقافة المسيحية للمجتمع الأمريكي). وقد لعب مفهوم العقل الباطن دورًا محوريًا في صياغة التوجهات الفكرية لعِدة حركات روحانية جُمعت تحت مسمى «حركة الفكر الجديد New Thought Movement»، حيث آمنت بقوة الفكر والإيحاء الذاتي على العقل الباطن، وبالتالي، على صحة الإنسان وسلامته؛ فكل ما على المريض فعله هو أن يوحي لعقله الباطن أنه سليم ومعافى، ثم يترك جسده ليُشافي نفسه، دون أي حاجة لتدخلات خارجية. وفي هذا الصدد، يقول تشارلز إف. هانيل – وهو أحد أبرز مُعلمي حركة الفكر الجديد – في محاضراته التي ألقاها عام ١٩١٢م: «ولأن أعظم قوى الطبيعة هي القوى غير المرئية، فإن أعظم قوى الإنسان تكمن في قواه غير المرئية: قوته الروحية. والطريقة الوحيدة التي يمكن أن تتجلى تلك القوى من خلالها هي عميلة التفكير». ثم يُكمل في موضع آخر: «وتعتمد قدرتنا على تلقي القوة وتجسيدها والتعبير عنها في الواقع على قدرتنا على إدراك الطاقة اللامحدودة الكامنة دائمًا بداخل الإنسان». ليكشف لنا السر قبل كتاب «السر» بما يقارب المئة عام: «والعقل الواعي لا يؤثر فقط على العقول الأخرى فحسب، بل يمكنه أيضًا أن يوجه العقل الباطن، وبهذه الطريقة يصبح العقل الواعي الحاكم المسؤول والحارس للعقل الباطن. وهذه الوظيفة العالية هي التي بمقدورها أن تعكس ظروف حياتك من النقيض إلى النقيض. وإنه من الحقيقي دائمًا أن حالات الخوف، والقلق، والمرض، وعدم الانسجام، وجميع أنواع الشرور التي تسيطر علينا هي نتيجة اقتراحات خارجية خاطئة يقبلها العقل الباطن غير المحمي». وهذا هو المبدأ الأساسي الذي تقوم عليه معظم كتب تطوير الذات في يومنا الحاضر؛ نحن أسياد مصائرنا.

ولأن أمريكا الفتيّة تؤمن بالرأسمالية كما تؤمن بالمسيح، تطوَّر توجه الفكر الجديد ليوائم طموح الحلم الأمريكي، وأصبح العقل الباطن قادر على جذب الثراء والسعادة والحياة الطيبة. إنه منتج أمريكي بامتياز، صُنِع ليتم بيعه والتكسب منه. وكما هو الحال مع مَن سبقهم، تبنت حركة الفكر الجديد الخطاب المعادي للمؤسسة العلمية لكي تدافع عن نفسها باسم حرية المعتقدات؛ وقد كسبت الرهان الشعبي طوال القرن العشرين بسبب تناغمها مع عقلية المستهلك ورغبته بتحقيق أحلامه وطموحاته.

وكأي منتج تجاري، أصبحت هناك حاجة مُلحة لتجديده بما يتناسب مع تطورات القرن الحادي والعشرين.

 

«قانون الجذب Law of Attraction»

في عام ٢٠٠٦، شهد العالم صدور الكتاب المثير للجدل «السر». أتذكر بوضوح الإعلانات في الشوارع، النقاشات حول قانون الجذب، الشعور المميز بأنك تحمل كتابًا فريدًا من نوعه؛ الغلاف اللمّاع، الطبعة الراقية على طراز الورق العتيق، الكلمات الرنانة التي تَعِدك بالثراء والسعادة وتحقيق أحلامك وأمنياتك …

 

ماذا بعد مئتي عام من الصراع؟

الآن، وبعد هذا السرد التاريخي المطول، علينا أن نسأل أنفسنا .. هل يمكن للسلطة أن تُمَارس بلا مُقاومة؟ ببساطة، لا. فَلَمْ يسبق للتاريخ أن وثَّق حالة إذعان تامة لسلطة مؤسساتية ما (سواءً سلطة المؤسسة الدينية أو العلمية). هذا يترك لنا خيارين لا ثالث لهما في سياق حديثنا، إما أن نتصارع إلى أن يرث الله الأرض وما عليها (ونخسر بذلك ثقة العديد من الناس بسبب التَحَزُّبات الزائفة)، أو نعيد تقسيم الأدوار حسب نطاق صلاحية التخصص (ونكسب بذلك ثقتهم بسبب تفهمنا لاحتِياجاتهم المختلفة). فلا يمكن للعلم أن يقوم بوظيفة الإيمان، ولا يمكن للأطباء أن يلعبوا أدوار المشايخ. فعلى المؤسسة العلمية أن تعي حدود صلاحيتها، وأن تعمل على حماية الفرد دون أن تُجَرده من حقوقه وتُسَخف معتقداته. وعلينا ألا نغفل عن أن هدفنا الأساسي هو سلامة الفرد وسلامة المجتمع، لا الدفاع عن المؤسسات.

[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]

مراجع

  • Harrington, Anne. The Cure Within: A History of Mind-Body Medicine.
  • Taves, Ann. Fits, Trances & Visions: Experiencing Religion and Explaining Experience from Wesley to James.
  • Darnton, Robert. Mesmerism and the End of the Enlightenment in France.
  • Brower, M. Brady. Unruly Spirits: The Science of Psychic Phenomena in Modern France.
  • ميناند، لويس. النادي الميتافيزيقي: قصة الأفكار في أمريكا. ترجمة فاطمة الشملان.
  • بو، إدغار ألن. الأعمال القصصية الكاملة. ترجمة مصطفى ناصر.
  • هانيل، تشارلز إف. مفتاح لكل الأبواب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى