تحكي أسطورة صينية مغرقة في القدم عن الرسام وو داوزي ((Wu Daoz (680–760) الذي تعلم رسم الأعمال الفنية الحية وتمكن من أنْ ينغمر في عمله ويختفي في المناظر الطبيعية. وتستشهد هذه الأسطورة بالحدس الشائع بين الناس والذي مفاده أنَّ الأعمال الفنية كبوابات تنقلنا إلى عالم آخر على الرغم من أنَّ ذلك الاعتقاد قد يبدو خياليًّا لبعض الناس. فعندما أتأمل لوحة بيتر بروغل (Pieter Bruegel) بعنوان “الصيادون في الثلج” (The Hunters in the Snow) (1565) أشعر وكأنني في قرية صاعقة البرودة ولست في أروقة متحف كونسثيستوريستشس (Kunsthistorisches Museum) في فيينا. وحينما أقرأ رواية “الجريمة والعقاب” (Crime and Punishment) (1866)، تستحضر الحروف المكتوبة على الصفحة عالمًا كاملًا وأشعر وكأنني لم أعد في غرفة معيشتي، بل في روسيا التي يستشهد بها دوستويفسكي، وتعد السينما أيضًا كالبوابة إلى المجرات البعيدة والقرون السابقة.
وقد تؤثر الأعمال غير التمثيلية علينا أيضًا، مثل حقول الألوان المتنفسة في لوحات مارك روثكو (Mark Rothko) أو الأجواء الجميلة لموسيقى ماكس ريختر (Max Richter). كما تتمتع الأعمال الفنية بجاذبية مغناطيسية تجعلنا ننسى العالم من حولنا ونفقد إحساسنا بالزمان والمكان وبالأشخاص الآخرين، وأحيانًا ننسى حتى أنفسنا. هذا وقد وصف الناقد الفني الفرنسي دينيس ديدرو (Denis Diderot) (1713-1784) هذه التجارب الغامرة أنها “الفن في أقصى مراحل السحر”. كما أثرت إحدى اللوحات التي رسمها كلود جوزيف فيرنيه (Claude-Joseph Vernet) (1714-1789) على ديدرو (Diderot) مما جعله يضعها داخل مشهد نهر ريفي بشكل كامل وممتع كما أنه قارن التجربة بوضع إلهي للوجود:
أين أنا في هذه اللحظة؟ ما الذي يحيط بي؟ لا أعلم، ولا أستطيع أنْ أقرر. ما الذي ينقصني؟ لا شيء. ماذا أريد؟ لا شيء. إذا كان يوجد إله فيجب أنْ يكون مستمتعًا بذاته وكيانه.
ليس من المستغرب إذن أنْ نشعر بالحزن عندما ينتهي كل شيء، عندما تضاء الأضواء، أو تُقلب الصفحة الأخيرة ونجد أنفسنا حيث كنا ومجبرين على مواصلة حياتنا اليومية.
تعود فكرة الأعمال الفنية كبوابات إلى عوالم أخرى قبل عدة قرون، وأصبحت طريقة شائعة لوصف تجاربنا مع الفن. وصف مؤرخ الفن جيمس إلكينز (James Elkins) في كتابه بعنوان “صور ودموع”(Pictures and (Tears (2001) التجربة الجمالية بنظرية السفر، ولكن قد تبدو تلك النظرية مجازية؛ إذ إنني لم أتحرك من مكاني جسديًّا وما زلت في المعرض، أو في القاعة، أو على الأريكة طوال الوقت، فلا أستطيع أنْ أدخل في لوحة بروغل عن طريق لمس اللوحة، ولا أستطيع الدخول في عالم هاملت عن طريق الركض على المسرح مهما حاولت. فيمكّنني العمل الفني من التأمل وكأنني عند عتبة منزل أستطيع أنْ أرى ما بداخله ولكنني لا أتجول فيه. نواجه هنا ما أطلق عليه مفارقة الانغماس الجمالي، فعندما أنغمس في عمل فني، أشعر وكأنني ذاهب لمكان ما دون التحرك من مكاني الفعلي، وأشعر أيضًا أنني في عالمين في الوقت نفسه، ومع ذلك فأنا لست في أي منهما، ومن هنا أطرح سؤالي: ما هو نوع “السفر” الذي نتحدث عنه حينما نتأمل عملًا فنيًّا؟
لنجيب عن هذا السؤال يجب علينا أنْ نلاحظ ظاهرة التجارب الغامرة بتمعن- أي الطريقة التي يُجرَّب بها الانغماس من منظور الشخص الأول. وقد جادل عالم الظواهر البولندي رومان إنجاردن (Roman Ingarden) (1893-1970)، وقال إنَّ الأعمال الفنية تعد كيانات مميزة تتمركز في مكان ما بين الواقع العقلي والحقيقي، ولا يمكن اختزالها في أي منهما، ولكنها تعتمد على كليهما. يتطلب العمل الفني أساسًا ماديًّا، مثل الأصباغ على اللوحة أو قطعة من الرخام، أو الحروف على الصفحة، أو الأشخاص على المسرح، وباختصار يتطلب العمل الفني كائنًا خارجيًّا أو حالة يمكن للمتلقي التفاعل معها. وليزدهر العمل الفني فإنه بحاجة إلى شخص مُحب للفن ويقدر ذلك الفن الذي أسماه إنجاردن (Ingarden) الكائن الجمالي، فيعرف العمل الفني بالطريقة التي جُرِّبَ بها، ويحول وعي المدرك للفن حروف الصفحة إلى عالم خيالي، وقد يرى منظرًا طبيعيًّا على لوحة مطلية، أو يسمع الحزن في لحن ما.
ويعد العمل الفني هيكلًا مستقلًّا بذاته ويُجَسَّد من خلال الاهتمام به. فعندما نرى العمل الفني غالبًا ما نعده شيئًا ماديًّا، فحينما أرى عملًا فنيًّا لا أركز على الحروف المكتوبة على الصفحة أو بالأصباغ الموجودة على اللوحة، ولكن سرعان ما ينساب وعيي وينتبه إلى العالم المرسوم أو المروي الذي يتضح ويبرز من خلال تفاعل المتأمل أو القارئ. فعالم الفن لا يمكن ترجمته ونقله إلى الواقع، ولا توجد خريطة نتبعها لنصل إليه، ولكن الانغماس يعد الطريقة الوحيدة للاستمتاع به. كما أنَّ عالم الفن ليس مجرد حدث معنوي ندركه من خلال أجهزة الوعي في جسم الإنسان، مثل الوهم أو الذاكرة لأنني انغمست في عالم العمل الفني كشيء لا إرادي. وكما يقول الفيلسوف الفرنسي ميكيل دوفرين (Mikel Dufrenne) (1910-1995)، فإن “العمل الفني موجود في العالم ولكن ليس جزءًا منه“، كثورة في عالم آخر في وسط العالم الفعلي.
تعد هذا البينية الوجودية المميزة عنصرًا رئيسيًّا لفهم ما يحدث لنا حينما ننغمر في الأعمال الفنية وننسجم بها. ومن تجربتي اليومية، أجد نفسي هنا في وسط عالم موحد مكانيًّا وزمانيًّا ومنظمٍ بشكل هادف؛ إذ يمكنني التفاعل مع الأشياء والأشخاص الآخرين. فقد جادل الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر(Martin Heidegger) (1889-1976) أنَّ حدود ذلك العالم تحدد الوجود الإنساني، واستخدم هايدجر لفظًا اصطلاحيًّا للوجود الإنساني (Da-sein) “الوجودية”. يفتح العمل الفني عالمًا غير تابع ولم أجربه لكونه موجودًا في زمان عالمنا الواقعي ومكانه نفسه. ويتطلب الاندماج الجمالي في الفن الابتعاد عن العالم الواقعي، والاتجاه إلى عالم الفن دون الدخول إليه فعليًّا. وقد حاولت في بحثي أنْ أصف التغييرات الأساسية التجريبية في وعي المتلقي، ومن أبرزها التغيرات في إحساس المتلقي بالمكان والزمان، فحينما أنسجم مع كتاب جيد أو فلم مشوق أفقد إحساسي بالوقت والمكان من حولي.
يجعلني العمل الفني أشعر أحيانًا وكأنني جزء من ذلك الفن ولست مجرد متأمل، وهذا من إحدى مفارقات العمل الفني. كما أنه يشد انتباهي فأفقد إحساسي، وعلى الرغم من قوة تأثير الفن علي، ما زلت أدرك حدود الواقع والخيال، فنحن عادة لا نخلط بين عالم العمل الفني والعالم الواقعي، ويعد الإدراك أحد الجوانب المهمة للانغماس الجمالي على الرغم من أنه قد يبدو شموليًّا وحقيقيًّا. ويؤدي هذا كله إلى انفصال تجريبي غريب، إذ يتشتت ذهني وأفقد إحساسي بالمكان وكأنني لست موجودًا في العالم الواقعي ولا في العالم الفني، ولست في الداخل ولا في الخارج، وأشعر كأنني ضائع بينهما. وتعد نظرية السفر (Travelling Theory) من منظور الظواهر الجمالية ليست مجرد خطاب مجازي، بل هي وصف فعلي للتجربة. في حين أنَّ السفر بتلك النظرية له معنى أكثر تعقيدًا مما يوحي به التفسير البسيط للنظرية، فنحن لا ندخل إلى العمل الفني مثل وو داوزي (Wu Daozi)، ولكن يغير الفن أساس إدراكنا لما حولنا.
وما يزال سبب استمتاعنا في هذه التجارب مجهولًا، وقد تقلقنا بعض الاضطرابات مثل الذهان. ولكن أعتقد أنَّ سبب استمتاعنا في الانغماس الجمالي يحصل نتيجة عاملَيْن؛ العامل الأول أنَّ الانغماس الجمالي يتضمن تحفيزًا مثيرًا وممتعًا للقدرات العقلية والجسدية، مثل الإدراك والشعور والخيال. والعامل الثاني أنَّ وعينا الباطني بالعمل الفني الخيالي يساعدنا على تنبيهنا أنَّ هذا
العالم الفني غير حقيقي ولا يسبب خطرًا، فنتأمل الفن من مسافة دون الانخراط به، مع علمنا أنَّ هذه الفنون كلها عبارة عن تسلية وخيال.
يعد الانغماس بالنسبة لبعض النقاد مجرد وسيلة للتسلية الفارغة والهروب من الواقع، إذ يفقد الفن وظيفته الأساسية التي تتجذر في مشاركة الأفكار المجتمعية، ووسيلة لفهم العالم أكثر من حولنا. ولكنني أعتقد أنَّ هذه الانتقادات تغفل عن تجربة الانغماس الجذرية وآثارها. ومن المؤكد أنَّ التعمق في عالم الأضواء الوامضة من خلال التجول في عالم الكريستال في متحف تيم لاب 2018م (The Infinite Crystal Universe)، أو الانسجام في موسيقى كلود ديبوسي تريحنا من جهد الحياة اليومية، وقد يجادل أحدهم أنَّ هذه التجارب لا تعلمنا أي شيء، ولا تضيف لنا في المعرفة التصورية.
ومع ذلك ما زلت أعتقد أنَّ التجارب الغامرة قد تكون تحويلية بطريقة جوهرية. فاعتيادنا على روتين حياتنا اليومية ينسينا مدى ثراء التجربة الإنسانية وتنوعها، كما أنَّ انشغالنا اليومي في كثرة الأشياء يثبط حماسنا وتصبح ردودنا تلقائية مما يسيء تواصلنا مع العالم وحتى مع أنفسنا. ولكن حينما نغير أساس إدراكنا الذي يدعم إحساسنا بالعالم من حولنا يأتي دور الأعمال الفنية الغامرة لتثبت لنا أننا نتمتع بإمكانيات التفكير والشعور والتخيل. فالانغماس يحرك العقل وأجهزته بطريقة جديدة. على الرغم من أنَّ التجارب الغامرة قد لا تعلمنا أي شيء كقيمة س وص في الرياضيات، ولكن الانغماس في الفن يلمسنا من الداخل ويغيرنا. ربما يعلم الكثير منا طريقة استمرار سحر الفن بعد أنْ يتلاشى الانغماس نفسه، وكيف يبدو العالم فترة قصيرة من الوقت أكثر ثراء وبهجة، وأعمق من قبل. كما أنني أعتقد أنَّ هذه التجارب أساسية لتكوين علاقة فضولية ودقيقة مع العالم، فتجعل الشخص يرغب باكتشاف العالم من حوله. وكما قال الفيلسوف الألماني جي جي فيشته (J G Fichte) (1762-1814): التجارب الجمالية قد لا تجعلنا أكثر حكمة أو أفضل بشكل مباشر، ولكنها تبقي مساحات عقولنا التي لم تُحرث مفتوحة، فإذا قررنا يومًا ما برغبتنا الشخصية الاستحواذ عليها، سنجد نصف المقاومة أُزيلت، ونصف العمل مُنجز.
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومنصة سايكي).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.