نظرة عامة: حول الجميل
يُعرّف الفن كلاسيكيًا بأنه الطريقة المثلى لصناعة شيء تبعًا للقواعد. وعند منعطف القرن التاسع عشر ميلادي ونهاية القرن الثامن عشر، اعتُبر الفن على أنه تجربة إبداعية استتيقية esthétique، أي أنه صنيع الفنون الجميلة Beaux-Arts. إلا أن السؤال الذي ظل قائمًا فقد تعلق بمهمة الفن !، فما هي مهمة الفن؟ كلاسيكيًا تم الاعتقاد بأن مهمة الفن هي التعبير عن “الجميل”، لكن يطرح بالمقابل سؤالًأ جديدًأ وأكثر تعقيدًا، في هذه الحالة، ألا وهو: ما هو هذا “الجميل”، وكيف يمكن أن نعرّف هذا “الشيء” المسمى “جميل”؟ وهل هو أمر محلي أم كوني؟ وهل هذه الصفة تتعلق بما هو موضوعي أو ترتبط بحكم شخصي يختلف من فرد إلى آخر؟ وهل يصير الشيء “جميلًا” فقط لأني “أحكم” عليه بأنه كذلك؟ أم أن حكمي على الشيء بأنه جميل لأنه حقيقة تنطبق عليه هذه الصفة؟ ومن أين يستمد هذا الحكم قيمته وأصوله؟
منذ أفلاطون إلى إيمانويل كانط، حاول الفلاسفة أن يمزجوا بين الموضوعية في الفن والجمال la beauté، حيث يقول كانط بأنه “ما يُمتع كونيًا، لا يمكن أن نحكم عليه فكريًا”، وبالتالي كان التفكير السائد بأنه يوجد “جمال في ذاته“، شيء مثالي كوني، ومنه فالأعمال الفنية عليها أن تقترب من “هذا الجمال” بقدر الإمكان. حيث سادت نظرة فنية مبنية على روح مثالية، سيصطلح عيلها من بعد بـ”المثالية الكلاسيكية”. وقد تأسس هذه الرؤية الكلاسيكية للفن على خواص محددة، وهي: “التناغم والصفاء والأصالة والنضارة وتحريك الأحاسيس”. كما هو الحال حينما ننظر إلى صورة العذراء لرفائيل أو نستمع لسوناتة كنائسية أو قصائد شعراء تلك الحقبة الكلاسيكية. حيث إن مهمة الفن كانت تكمن في جعل الواقع مثاليًا. وما دمنا [مع كانط] نبقى عند الحكم الجمالي من نموذج “هذا جميل”، لا يبدو أن للعقل أي دور: يتدخل فقط الإدراك والمخيلة[1]. وتنبع هذه النظر الكانطية للجمال من فلسفته التي ترى بأن الفكر العلمي صحيح ونافع إذ ينظم التجربة ويجعلها ممكنة فقط ليس إلا، ويترتب على ذلك أن الاستعمال الوحيد لهذا النوع من التفكير إنما يكون في مجال التجربة، بحيث يصبح العقل عقيمًا إذا انفصل عن عالم التجربة وفقد ارتباطه به. وبالتالي، فإن الميتافيزيقا، أي معرفة ذلك يكمن بعد التجربة، لا توجد[2]. وقد حاول كانط أن يفصل بين “جمال” الطبيعة والجمال الفني، وبالتالي الفصل في العمل الفني بالإجابة عن سؤال: “هل هو نتاج طبيعي أم فعل إنساني؟”، ومنه جاء قوله: “أما إذا قلنا عن شيء إنه عملٌ فنيٌ بإطلاق، كي نميِّزه عن عمل الطبيعة، فإن هذا يعني دائماً أنه عمل الإنسان”؛ فالحكم الجمالي هو حكم نقدي إنساني، إذ جعلَ “كانط” لعلم الجمال مجالاً مستقلاً عن مجال المعرفة النَّظرية، حيث انتقلَ هذا الفيلسوف انتقالا كرونولوجيًا رهيبًا بالجمال، وتم الانتقال من مرحلة الميتافيزيقا التي كان البحثُ فيها عن الجمال الفني والطبيعي، إلى المرحلة النقدية أي مرحلة البحث عن إمكانية إدراك الإنسان وحُكمهِ على الجميل.
سيقودنا تاريخ الفن وتطوره وما عرفه من قفزات وقطائع، مرتبطة بتطور الفلسفات المزامنة إليه، أن نعزل ارتباط العمل الفني والتمثيل la représentation عن “الشيء الجميل”. إذ مع بزوغ فلسفات ورؤى حداثية في القرن التاسع عشر بالتحديد، سينظر إلى المنجز الفني بأنه يمكن أن يكون جميلًا وإن كان يستحضر “ما ليس جميلًا” وسيئًا، كما يذهب إلى ذلك بودلير[3]، كما هو الحال مع أعمال “المرعبة” لجيروم بوش، وأعمال ساخرة وغريبة كلوحة القزم لفيلاسكيز. وبالتالي فمهمة الفن في هذه الحالة تكمن في أن تكشف لنا على، ما يسميه أندريه مالرو Malraux، “الجانب المظلم من العالم“، أي ما ينفلت من مشاهداتنا اليومية، وما تغضه التوافقات والتقاليد الاجتماعية عن نظرينا. ما سيدفع بالفنان الإسباني غويا Goya إلى مهاجمة تمثيل الجمال بوصفه “كذبًا” و”عماءً”.
وتبعا للنظرة الحداثية التي تولد كردة فعل قطعية تجاه النظرة الكلاسيكية المثالية للفن، صار للفن “غاية واقعية”. وبالتالي فمهمته تغيرت من التعبير عن الجمال إلى التعبير عن الواقع. إذ تولد فن جديد مبني على النظرة الحداثية للفرد، نظرة تسعى للتخلص من تركات الكلاسيكية، والانقلاب على الكنيسة التي جعلت الفرد منصهرًا في الجماعة مختفيًا فيها؛ وبالتالي بزغ فجر فنانين أرادوا أن يعلنون عن أناتهم وذواتهم، فها هو الشاعر الألماني شيلر يقول: “كن ما شئت، أيها العالم المتحرك، شرط أن يبقى “أنايَ” لي وفياً”. ومنه فإن الطبيعة لم تعد مثالًا، بل غدت مسوغًا، وتحولت إلى “مخزن صور وعلامات تعطيها المخيلة مكانا وقيمة نسبية”[4]. وكما إن الطبيعة قد تحولت، في نظر دولاكروا، إلى قاموس يستقي منه الفنان مفرداته وتعابيره. ومن هذا المعطى ستظهر النزعة الرومانسية، لكنها لم تكن “قطيعة” نهائية مع الكلاسيكية، بقدر ما كانت لحظة انعطاف مهمة في تاريخ الفن، ولحظة انزياح للمرور نحو الفن الحديث، وهذا ما سنحاول تبيّنه في دراستنا هذه وصولًا إلى الفن المعاصر، أو الفن ما بعد الحداثي؛ حيث نستحضر الرومانسية ونقف عندها مليًا قبل أن نعرج إلى الفن الحديث ومن ثم ننتقل إلى تبيان علاقته بالمعاصرة ونقط الانفصال بينهما.
نخلص من هذه المقدمة التي نضعها لنصّنا هذا، بأن مفهوم “الجمال” قد طاله تغير كبير وتعدد مهم على مستوى التعاطي معه فنيًا وفلسفيًا، من حيث إن الفن والفلسفة كانا، وما يزالان، يسيران في خط واحد، وكلما تعددت مدارس الواحدة منهما تعددت مدارس الأخرى وطرق التعاطي مع هذا التعدد الحاصل. إذ نجد أن العمل الفني ضمن سياق الكلاسيكية قد توجه للتعبير عن “الجميل في ذاته”، أي ملامسة المثالي والاقتراب منه، بينما مع الحداثة فقد ارتبط بالأصالة، حيث إن العمل الفني غدا تعبيرًا عن أصالة تحظى بحقيقة منعزلة عنا. إذ أعمال فان غوخ Van Gogh نموذجًا، تعبر عن نوع من الرؤية التراجيدية للعالم، إلا أننا لا نستطيع أبدا ألا نمعن النظر فيها، بل إننا لا نستطيع عزل البعد التراجيدي منها. ومن هذا المعطى يمكن القول بأن العمل الفني الحداثي يحفل بنوع من الواقع الموضوعي مستقلًا عن حساسية كل واحد منا. ما سيتولد عنه كل من انطباعية وباقي التيارات الحداثية، التي سعت إلى تغيير الرؤية الفنية والتعاطي مع التصوير الواقعي ومع “الانطباع” الفني تجاه العالم. وبالتالي فلم يسع هذا البراديغم الفني بالذات إلى تمثيل هذا الواقع، بل إلى القبض على ملامحه الأساسية المرتبطة بالطاهرة البصرية، لهذا سعى الانطباعيون الأوائل إلى دراسة الألوان وتباينها وعلاقتها بالضوء، وذلك دائما تبعا لما تم إنجازه على المستوى الفيزيائي والبصري. ما سيجعل الفنان أكثر تعبيرًا عن “أناه”، متحررا من القيود الكلاسيكية والتقنية التي كانت تقود الرسم ليقترب من “عالم المثل”.
مع منعطف النصف الثاني من القرن الماضي بالتحديد، وإن كانت الأحداث ترجع إلى عقود قليلة قبل ذلك، سيسعى الفنان التشكيلي إلى التخلص تمامًا من القيود القيمية التي تتحكم في عملية الإبداع وارتباطها بأخلاقيات معينة، سواءً اجتماعية أو لاهوتية أو حتى فنية. فمهوم الفن نفسه سيعرف تغيرًا كبيرًا وجذريًا، يقاس على مستوى القطائع التي جاءت تدعو إليها فلسفة ما بعد الحداثة المتأثرة بمطارق نيتشه الداعية إلى “قلب القيم” كلها. وبالتالي التخلص نهائيًا من تركة الحداثة وما تعلق بها من سرديات كبرى، جعلت الفن يسعى للتعبير عن السعادة أو الخلاص وغيرها من السرديات التي كانت تدعو إليها الكنيسة. ومعه تغير مفهوم الجميل والجليل، وتغير التعاطي مع مفهوم الأصالة والفرادة وحتى الاستتيقا، وذلك مع بروز جيل من الفنانين الجدد[5] المفعمين بالحيوية والمتأثرين بالفلسفة المعاصرة، التي سعت إلى الانزياح بعيدًا عن “العقلانية” التي أدت إلى صراع كوني دمر العالم. لقد بات كل شيء قابلًا لأن يكون غرضًا وعملًا فنيًا، ومعه صار بإمكان الكل أن يغدو فنانًا. ولم يعد الفن يسعى إلى الخلود في العمل، الذي بدوره سيتجه صوب جمالية المتلاشي والمنفلت وجمالية القبيح والمرعب والصادم.
وقفًا عند الرومانسية:
رغم أن الرومانسية ثبتت وجودها منذ العقود الثلاثة الأولى من قرن 19 م. (وبالتحديد ما بين عامي 1830 و1848)، إلا أنها لم تستطع أن تشكل مدرسة “مستقلة” نظرًا لرفعها شعار حرية الإبداع الذي كرسه لاحقًا ظهور الانطباعيين في السبعينيات (من القرن 19) وما لحقهم من ظهور تيارات ونزاعات فنية متعددة: التعبيرية والوحشية، والتكعيبية والتنقيطية والصفوية والدادائية والسريالية وغيرها من تيارات تنتهي بـ “isme”. قامت على أساس كسر القوالب الأكاديمية وخلق فن جديد أو الثورة في الفن نظرا لعجز الثورة الفرنسية نفسها عن تحقيق هذا الغرض. أما في روسيا فإن السلطة الستالينية التي شاءت أن تخلق مدرسة فنية متميزة على أساس الواقعية الاشتراكية عجزت عن تحقيقها نظرًا لعجز الإيديولوجية نفسها عن التحقق في الممارسة[6]. فكان من الصعب فيما بعد داخل حقل النقد، تصنيف الأعمال التصويرية الصباغية في العهد السوفياتي على كونها فنًا، لما عرفه العالم آنذاك من تغيرات على مستوى التصوير الصباغي والمفاهيم وظهور تيارات طلائعية وأخرى ثورية على أي شكل واقعي وأكاديمي، مثل الفن التجريدي وفن الدادا؛ وقد يرجح البعض هذا الأمر لانتصار القطب الغربي وانهيار جدار القطب الشرقي، ما دفع باعتماد الرؤية الغربية للفن على كونها هي الرؤية الصائبة… وما شهده سوق الفن من طلبات كبرى على المنتوج الفني الغربي الحديث.
بينما لم يسمح الزمن لأكبر الفلاسفة الذين نظّروا لفن الرومانسي، فريديرك هيغل، أن يعيش ليزامن تجاوز هذا التيار القائم على ما يلخصه دولاكروا قائلا: “أنه أكثر أهمية الفنان التقرّب إلى المثالية التي يحملها في نفسه من التقرّب إلى مثالية مذهبية، أو إلى المثالية العارضة التي تقدمها الطبيعة”… لقد صارت يد الإنسان قادرة على تجاوز الطبيعة بالتدخل فيها، إنه لأمر يشبه ما يصوره هيغل قائلًا بأن الطبيعة تصير أكثر جمالًا حينما تتدخل فيها يد الفنان. فالطبيعة تحوي جمالًا غير مدرك لجماله، بينما الإنسان يصنع جمالًا عن وعي وإدراك. فيصير الفعل الجمالي الإنساني هو جمال “قصدي”، أي فعل فردي واع. حيث إن “الطبيعة لا تعد مثالًا، بل غدت مسوغاً، وتحوّلت إلى “مخزن من صور وعلامات”. وهي “مجرد قاموس” في نظر دولاكروا، يختار منه الفنان ما يشاء ليصوغه حسب أسلوبه وما تمليه أحاسيسه وخيلاته. والرومانسية في نظر بودلير “ليست ما توخينا الدقة، لا في اخيار الموضوع ولا في الحقيقة الحقة، بل في طريقة الشعور”، أي أن الموضوعات المستمدة من القرون الوسطى والمعبرة عن شعور عاطفي “لا تكفي لتجعل من هذا التآلف أعمالًا رومانسية”. فالرومانسية بحاجة، كما يقول هوتكور إلى “لغة تعكس حالاتها النفسية” باعتمادها على، لا الخط الأنيق الصريح والأشكال الهادئة، بل الحركة وحشد كتل الأشخاص والألوان المتلألئة.[7] لقد أعلت الرومانسية من التصوير الصباغي، ولم يعد الفن محكوما بالضخامة، كما هو الحال في العمارة والنحت. فقد استطاع التصوير اتقان البعد الثلاثي “فتحرّر الفن من موضوعية الشروط المكانية”، كما يخبرنا هيغل. إذ شكلت الرومانسية في تصورها الفلسفي، تلك الوحدة بين الدين والفن. إذ يقول هذا الفيلسوف أنه “تمتاز الفلسفة في كونها قادرة، لا على جمع كليهما [أي الفن والدين] وحسب، وإنما في توحيدها لهما كذلك في أبسط الرؤى الروحية، فيجري رفعهما، بذلك إلى مستوى الفكر الذي يعي ذاته. هذا الوعي هو الوحدة المعقولة بين الفن والدّين حيث تُدرك عناصر المضمون فعلاً ضرورياً، وتبدو تلك الضرورة فعلا حُراً”[8].
رغم ما عرفته الرومانسية من مفاهيم تتجه إلى إعلاء قيمة الفرد في بناء الرؤية وإنشاء العمل، بعيدًا عن الكلاسيكية والأكاديمية والمنهج العالمي، فإنها لم تستطع الخروج فعليًا من مفهوم اللوحة التقليدية، فتم مهاجمة فنانين رومانسيين على رأسهم دولاكروا بأنهم ظلوا كلاسيكيين… لاحتفاظهم بمفهوم اللوحة وإطارها وطرق الاشتغال التوليفي الكلاسيكي (المنظور والعمق). ما سيدفع في أواسط المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر، ظهور حركة فنية ثائرة عن النظم الكلاسيكية والرومانسية. داعية لتجاوز كل الأشكال المثالية، التي صاحبت الفن منذ هيغل وتنظيراته إلى حدود هذا المنعطف، كما دعت هذه الحركة إلى الثورة على كل الأشكال التقليدية التي هيمنت على الفن والأدب اجتماعيًا. ودافع التيار الرومانسي عن “الأنا” باعتبارها مستقلة عن الأنوات الأخرى، وذلك بدفاع هذا التيار على القيمة الفردانية.
لقد كانت الرومانسية، في البدء، تمردًا برجوازيًا صغيرًا ضد الكلاسيكية وطبقة النبلاء، وضد القواعد والأنماط الكلاسيكية، وضد الأشكال الأرستقراطية، وضد مضمون استبعدت منه جميع المسائل العادية. ولم يكن بالنسبة لهؤلاء الرومانسيين المتمردين ثمة موضوع ممتاز، فكل موضوع أضحى صالحًا في الفن. ومع ذلك فالرومانسية لم تعارض الكلاسيكية وحسب، بل عارضت أيضًا فلسفة الأنوار. وفي كثير من المجالات، لم تكن هذه المعارضة غير كاملة وحسب، بل وموجهة فقط ضد الأفكار الآلية والتبسيطات التفاؤلية. صحيح أن شاتوبريان، وبروك، وكولريدج، وشليغر وكثيرون غيرهم (وخاصة في المدرسة الرومانسية الألمانية) قد قطعوا مع فلسفة الأنوار علنا؛ لكن شيللي، وبيرون، وستندال، وهايني، قد أكملوا العمل الذي باشره فلاسفة الأنوار[9].
يشار هنا إلى أن الفن (فن التصوير الصباغي la peinture خاصة) كان يتبع مسار التحولات الطبقية، إذ يصح أن نقول ضمن سياق سوسيولوجي بأن “الفن السائد هو فن الطبقة المهيمنة”، الطبقة التي تروّج له وتقتنيه وتنظر له. فيصبح الفن عاكسًا بالتالي للثقافة السائدة تصويرًا وتعبيرًا. إلا أنه سيحدث في المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر انعطاف كبير على مستوى الرؤية الفلسفية للفن، ما سيجعل معه التيار الرومانسي يعرف انعطافًا حادًا سيقود به إلى الانزواء في الظل في الوقت الذي خرجت فيه حركات واقعية أخرى للشمس. فإن كانت الرومانسية (باعتبارها ثورة فنية) مرتبطة بالواقعية، فقد ظهرت حركة تنادي بـ”الفن للفن”، وهي حركة تدعو إلى “إبعاد الفن عن القيود وحيل المجتمع البرجوازي الرسمي. فقد اتحد الرسامون والشعراء والموسيقيون معًا كما لو كانوا في رابطة إخاء سرية ضد المجتمع. ولكن رؤية الحرية على أنها “استقلال” عن جميع الموضوعات الاجتماعية والخلقية والسياسية ورؤية حرية الفرد على أنها “استقلال” مماثل عن الحياة الاجتماعية، إنما يقدمان “حرية” لا توجد إلا في أرض الأحلام والرؤى، بينما تزداد قيود السوق البرجوازية في الحياة الواقعية أحكاماً حول الفن والفنانين معاً”[10]. سيحاول إذن هذا التكتل الجديد الابتعاد عن الهيمنة السائدة على الفن من طرف الطبقة التي باتت مهيمنة. فتم الاتجاه نحو فن تصويري واقعي مخالف ومتجدد.
1. تجاوزًا للرومانسية منطلقًا للحداثة:
كانت حركة الفن للفن l’art pour l’art، من الحركات ذات الصلة بالرومانسية، فقد نشأت في العالم البورجوازي ما-بعد الثوري، جنبًا إلى جنب مع الحركة الواقعية التي كان هدفها استكشاف المجتمع ونقده. وحركة الفن للفن (الموقف الذي تبناه بودلير) هي أيضاً احتجاج ضد النفعية التافهة، وضد الاتهامات السطحية والتجارية والتجارية البورجوازية. وقد نشأت من تصميم الفنان على ألا ينتج بضائع، في عالم أصبح كل ما فيه بضاعة للفن[11]. بينما لم تعش الرومانسية عمرًا طويلًا، إلا أنها شكلت إحدى أهم المنعطفات التصويرية في التاريخ الفني. فقد انطلق بعيد ثورة 1830 وزامنت المراحل تجديد الذات من قبل البورجوازية. فلم يعد الذوق السائد زمن (الهيمنة النابوليونية في فرنسا نموذجًا)، مستساغًا للطبقة الجديدة، وبدا الفن عاجزًا عن تلبية ذوق المواطن البورجوازي. فهذا توفيل غوتييه (1811-1872) يقول: “لقد غدا الأدب تافهًا وعديم اللون، ولم تكن حال فن التصوير الصباغيي (la peinture) بأفضل منه، فقد عرض آخر تلامذة دافيد لوحات ضئيلة القيمة ورسمت بموجب المعايير اليونانية والرومانية القديمة. واعتبرها الكلاسيكيون من آيات الفن، لكنهم كانوا يتثاءبون رغم إرادتهم أمامها، مغطّين أفواههم بِراحات أياديهم”.
سيهيمن رجال الطبقة البورجوازية على الظروف الاقتصادية في فرنسا وغيرها، وبدأ البنكيون في بسط نفوذهم، ومع الثورة الصناعية التي شهدتها أوروبا، ستزداد هذه الهيمنة وتتوسع. ما سيعرف بروز سوق فنية يهيمن عليها رجال الأبناك والطبقة الحاكمة الجديدة، التي ستفرض رؤيتها كما فعلت سابقتها (الطبقة الأرستقراطية الملكية).
سيُعاد إحياء الرؤية التصويرية الواقعية في المنتصف الثاني من القرن التاسع عشر. انطلقت هذه الواقعية الجديدة من فرنسا لتنعطف نحو بلدان أوروبية أخرى كبلجيكا وألمانيا… لقد كان كوربييه من أشد المدافعين عن هذا الاتجاه الواقعي الجديد، فقد انتصر هذا الفنان في رسوماته للطبيعة والشعب. لقد أعادت هذه الواقعية الجديدة الانتصار لما هو واقعي صرف، واعتنت بالمظاهر الانسانية الشاقة. فكان جل الفنانين المنتمين لهذا التيار الجديد يؤمنون باستقلالية الفن واستقلالية الفنان عن السلطة (سلطة الدولة بالتحديد)، التي ليس عليها التدخل في التوجه الفني وفي الفن. فيقول كوربييه بأن تدخل الدولة هو “أمر مشؤوم بالنسبة للفن، ويجعله سجين الرسمين ويقضي عليه بالتفاهة”.
2.الحداثة الانطباعية:
بيد أنه ستظهر حركة فنية، ستكتشف عن واقع جديد. كانت الانطباعية L’impressionnisme حركة تمرد وهجوم قادها فنانون عباقرة ضد ما اتصف به الفن الأكاديمي من صلة وادعاء. فتحت عنوان “عشرون عاماً من الفن العظيم” أو “درس في الحماقة”، نشر فرنسيس جوردان مجموعة من اللوحات التي نالت جائزة رسمية في فرنسا خلال الربع الأول من القرن التاسع عشر. وقد ذيّلَ الكتاب بقائمة بأسماء الفنانين الفرنسيين الذين عاشوا في الفترة ذاتها، ولم يحصلوا على جوائز، وعلى اعتراف رسمي. وإننا لنجد في هذه القائمة أسماء: ديغا، سيسلي، ببسارو، سيزان، مونييه، رينوار، روسو، غوغان، تولوز لوتريك، بونار، ماتيس، روولت، ودوفي.[12] بينما سيعيش فن هؤلاء طويلًا بعد عصرهم. كانت أعمال ومعارض هؤلاء الفنانين الانطباعيين الأولى نحو حداثة فنية، وقاطعة مع سابقاتها، بل شكلت هجومًا شرسًا على روادها، فهذا سيزان يهاجم كوربييه قائلًا بأنه “صنيع الكلاسيكي”.
سيحمل الانطباعيون لقبهم هذا المستمد من معرض ولوحة كلود مونييه الحاملين لعنوان “انطباع، شروق الشمس”. ما سيتولد عنه ميلاد مدرسة وتيار أو حركة موصوفة بالحداثية، شكلت نقطة انعطاف مهم، وبالتالي ميلاد براديغم فني جديد.
لم تسلم هذه الحركة الحداثية من الهجوم والنقد والانتقاد الشرس، ولم تسلم من ذلك رغم مرور عقود على ظهورها وما أحدثته من انعطافة. فهذا سيدني فنكلشتين، الذي يعدّ أكثر المدافعين عن علاقة الفن بالواقع، إذ إن الفن بالنسبة له هو “تفكير بالصورة”؛ يرى بأن الواقعية فليست نتاجَ القرن التاسع عشر أو العشرين، بل إنها عنده تسري في روح الفن كما تسري روح الجماهير في تاريخ الأمة. فيكتب قائلا عن الانطباعية والانطباعيين: يقوم ضعف الانطباعيين في أنهم حاربوا الدمار الموجود في فن المجتمع البورجوازي لا بتخليل هذا المجتمع بل بالهجوم على “وسائله الفنية الرسمية” وإدخال تكنيك فني “ثوري” و”جديد” أي إدخال “شكل جديد” بمعنى أن تعد الانطباعية خطوة أخرى في تطور نظرية “الفن للفن”. وليست صيحة هذه المدرسة سوى “دعِ الفنان وحده” عندما تكون الحقيقة هي أنه عندما يكون وحده يكون أضعف ما يمكن، وهنا تناقض في الانطباعية بين نظرياتها فيما يتعلق “بالشكل الجديد” وأنها لا تزال تنظر إلى نفسها على أنها فن واقعي[13]. وقد دعا بيزارو بدوره، إلى “فن قوي قائم على الإحساس”.
بعيدًا عن هذا التصور الانتقادي وهذه الرؤية الماركسية الهجومية على التيارات الحداثية التصويرية، فقد شكلت الانطباعية، تعبيرًا عن الإدراك الحسي الدقيق وعن مفهوم جديد للإنسان والعالم، “مؤكدة على أن الحقيقة صيرورة وحركة متتابعة، وليست وجودًا ثابتًا”. مُشَكّلة بالتالي منعطفًا حادًا في تاريخ الفن والتصوير الصباغي والتشكيلي… منعطف نحو الحداثة الفنية.
- من الحداثة إلى ما بعد الحداثة في الفن:
الفن حديث moderne والفن معاصر contemporain، كم يبدو هذان المصطلحان متقاربان ومتطابقان لحد ما، وكم نسقط في اِلتباس كبير ونحن نتحدث عن هذين المفهومين داخل الحقل الفني (شعرًا وسردًا وسرحًا وتصويرًا وتشكيلًا…). تفرض علينا سوق الفن وترويج الأعمال وتصنيفها، كما يفرض علينا حقل النقد الفني فلسفيًا وسوسيولوجيًا ونظريًا، ضرورة كبرى للتفرقة والتمييز بين اللفظتين. فقيمة العمل الفنية سواء التاريخية أو التسويقية والإدراكية والنقدية، تدعونا لهذا التمييز وهذه التفرقة.
قد يتبادر إلى البعض التفكير في صعوبة إدراك واستيعاب وجود فن “حديث” وآخر “معاصر”، إذ سيخبرنا البعض أننا نتحدث عمومًا، عن فن كلاسيكي وآخر رومانسي وحديث، وهذا المصطلح الأخير لا يعني سوى الفن الذي يعاصرنا زمنيًا، أي أنه موجود في الزمن المعاصر، وأيضًا ينتمي للزمن الحديث الذي يمتد من لحظة ماضية معينة، وصولًا ليومنا هذا، أي الراهن actuel، من حيث إن الحداثة غير منقطعة وممتدة في الزمن، ولا توجد حداثة واحدة بل حداثات متداخلة وقابلة للتطور. إذ نقول مثلًا، إن هذا التفكير حداثي، فإنه إذن تفكير ينطلق من الفلسفات والمفاهيم الحديثة، أي أفكار تمّ تأسيسها، ولا يزال الفعل قائمًا، منذ زمن ماضٍ إلى يومنا هذا. بينما يحدث للمتلقي ارتباك كبير على مستوى الفهم وهو إزاء مصطلح “المعاصر”، الذي يحيلنا إلى ما يعاصرنا، بمعنى اللغوي؛ فهل يصير بالتالي أيّ فنًا يعاصرنا زمنيًا هو فن معاصر؟ وما ذا عن فن الراهن؟ فما الفرق بالتالي بين المعاصر والراهن والحديث؟ تكمن الإشكالية في كون كلمة “حديث” وكلمة “معاصر” تحملان تعاريف ومفاهيم متقاربة، خاصة في اللغة الفرنسية وفي الانجليزية والعربية…
يجمع المؤرخين والنقاد المختصين في تاريخ الفن وسوسيولوجيا الفن، على أن الفن المعاصر هو وليد فلسفة ما-بعد الحداثة، هذه الأخيرة التي “تحاول تقديم صورة أكثر إنسانية عن الحداثة بحيث تدمج في منظورها الذات البشرية الفاعلة والمعاني الغائبة، والأبعاد الجمالية محاولة الحد من بعض مظاهر أداتيتها”[14]. بينما يذهب معظمهم للقول إن ما-بعد الحداثة هي حداثة وقد تجاوزت محكياتها وسردياتها الكبرى، إذ إن الحداثة هي “حداثة مترحلة”. فما بعد الحداثة قد لا تطرح نماذجَ خطية تطورية أو حلولا نهائية، وقد لا تبشر بالفردوس الأرضي أو باليوتوبيا التكنولوجية التكنوقراطية… ولكنها هي أيضا إعلان لنهاية التاريخ، ونهاية الإنسان ككائن مركب اجتماعي قادر على الاختيار الأخلاقي الحر، ليحل محله إنسان ذو بعد واحد يدور في إطار المرجعية الكامنة أو دون أية مرجعيات، يعيش منكفئاً إما على ذاته الطبيعية التي لا علاقة لها بما هو خارجها، فهي مرجعية نفسها، أو على كليات لاإنسانية مجردة لا علاقة لها بالإنسان كما نعرفه. وهذا الإنسان لا ذاكرة له، فهو يعيش في “اللحظة” دائما، في قصته الصغرى، ولذا، لخص أحدهم ما بعد الحداثة بأنها نسيان نشط للذاكرة التاريخية، وهي طريقة متضخمة متورمة للقول بنهاية التاريخ[15].
ويأتي مؤرخو الفن على تحقيب الفن الحديث (أي بدايته) من فترة ظهور الحركة الانطباعية، كما بيّنا آنفا، وذلك مع المعرض الذي نظمه كلود مونيه سنة 1874ـ تحت عنوان “انطباع، شروق الشمس”، وصولا حتى أواسط الستينيات من القرن المنصرم. بينما الفن المعاصر فقد بدأ من العقد السادس من قرن العشرين إلى يومنا هذا، وإن يذهب نقاد إلى القول بأنه انطلق قبل هذا التحديد الزمني بعقود، مع مبولة دوشان الشهيرة، سنة 1917، التي ظلت تصنف على أنها عمل دادائي.
- في فلسفة الفن بين الحداثة وما بعدها:
جاءت الحداثة في الفن كثورة على إيديولوجيا الفن التي كانت قائمة، والتي تدعي أن الغرض من الفن هو الكشف عن الطبيعة والحقيقة. إذ لم يعد الفن مع الحداثة، في خدمة الحقيقة، فالعالم الغربي بات حينئذ، ينتصر للفردانية، وقاطعًا بشكل من الأشكال، مع جلّ البرادغمات الثيولوجية، أي قطعية مع الثابت والنصوص المطلقة، في محاولة للانتصار للفرد والإنسان، وإعلاء من قيمة هذا الأخير أمام سطوة أي يقين وسلطة الجماعة (الكنيسة). فكان استعمال لفظ “أعمال حداثية” أو حديثة، يقترن بالمد الفكري الذي زامن ظهورها. لكن من أين تبدأ الفنون الحديثة فعلًا؟ قد نبتعد عن التحقيب الزمني لنقف عند ما هو رؤيوي وفكري، لنقول إن الفن الحديث بدأ مع القطع الفعلي مع الآليات والمناهج الكلاسيكية (الجديدة) في التصوير والتفكير، المعتمدة على النموذج المثالي اليوناني القديم. ومع التغير السياسي والاجتماعي في أوروبا وبزوغ فجر الهيمنة البرجوازية، إذ تغيرت الأذواق وتعدد الرؤية تبعا لرؤية هذه الطبقة الجديدة. ولأن الفن ابن زمنه، كان لزامًا على الفنان والفن أن يغيّرا طرق اشتغالهما والرؤية المعتمدة لتصوير الواقع والعالم الخارجي. فازدهر فن الرسم وصار للفنان الصباغي مكانة أعلى مما كان عليها سابقًا. فقد تغيّر الطلب وتغيّر معه السوق، هذا التغيّر الذي فرض طلبات ذوقية جديدة نابعة من التصور البرجوازي للمفاهيم الحداثية آنذاك. ذات الأمر الذي سنشهد في الاتجاه المعاكس بعد فترة من الزمن ليست بالبعيدة، مع شروق شمس المعسكر الشرقي، إذ سيعرف فن التصوير في العهد الستاليني ازدهارًا في ظل تراجع فن العمارة والنحت. فهذه الفنون تعرف بطئًا على مستوى الاشتغال بينما فن التصوير سريع نسبيًا. وفي ظل الحركة الداعية لوجوب اعتماد دعاية للحزب وإيديولوجيته، كان لزامًا صعود فن التصوير (الواقعي)، الذي اعتمده قادة الاتحاد السوفياتي كوسيلة دعائية قوية لهم ولأفكارهم الماركسية والشيوعية.
كانت تسعون سنة امتدادًا بين بداية القرن 19 ومدخل القرن 20، كفيلة بإحداث قفزة وثورة كبرى في الفن. لقد تأسس الفن الحديث على رؤية قائمة على محن الفنان كامل الحرية في الثقة بالرؤى الجوانية، فشكلت الانطباعية ظاهرة من ظواهر التحول العام الناجم عن تتابع الأحداث، وتطور المجتمع الغربي منذ المنتصف الأول للقرن التاسع عشر. وقد وصفت الحركة الجديدة بأنها “ثورة” واعتبرت حدثاً من “الأحداث” المهمة التي قادت الإنسان لأن يعي طبيعته الزمنية، ويحدد مكانه في الزمان، ويتلمس هذا الواقع”[16]. وبَدَت الانطباعية، في أيامها الأولى، وكأنها امتداد للنزعة الطبيعية المتمثلة، على صعيد الفن التشكيلي بمدرسة باربيزون Barbizon -نسبة إلى المكان المعروف بهذا الاسم، في منطقة السين، حيث كان يلتقي بعض مصوري المناظر- إلا أنها وقفت موقفًا مغايرًا من الواقع نفسه ومن التقاليد والنظم المتعارف عليها حتى ذلك الوقت. كما اتبعت طريقة جديدة في التصوير مبنية على نمط جديد في الرؤية، كان قد مهد له التطور السريع في المجالات العلمية والتكنولوجيا وما رافقه من تبدل في معايير الذوق الجمالي المتمثل بالسعي الحسيس إلى التجديد.[17] ما دفع الفنان الحديث إلى تكريس الحياة الواقعية من قضايا اجتماعية وصور من الحياة المعاصرة للفنان، جاعلًا منها مصدرًا لأعماله الفنية، مجربين موضوعات مختلفة ومتعددة للتعبير.
وقد عرج التاريخ الفني نحو المعاصرة على إثر الخروج مفجع من أنقاض الحرب العالمية الثانية، فقد كان العالم مقلوبًا رأسا على عقب، يبحث عن مخرج لويلاته ومصائبه، وفي ظل الفلسفات التشاؤمية التي بدأت تسيطر على العقل الغربي خاصة، ظهرت أعمال فنية لا تصدر عن المخيلة والتفكير والعمل اليدوي، بل تحضر من البيئة والمحيط الإنساني ومن اليومي والمهمش، ولم تعد الأعمال تتخذ صيغتها الفنية من إزالة الشيئية عنها، بل إنها أغراض وأشياء يتم عرضها باعتبارها أعمالا فنية، إذ عرض بعضهم قطع آجُرٌ وآخر أكوام ثياب وآخر لحم ثور ناضج، وقد عرض أحدهم أحصنة وقد اتجه آخر إلى أن يجعل من المعرض الفارغ عملًا فنيًا. إذ إن العالم شهد قلبًا كبيرًا في المفاهيم والفلسفات، بعد أن أعاد الفلاسفة والمفكرون والفنانون التفكير في الرؤية النيتشوية الداعية لقلب كل القيم، حتى يتم إعادة تشكيل العالم كما يجب. لهذا شكلت ما بعد الحداثة، دعوة صريحة لإعادة قلب الحداثة وإزالة عنها سردياتها الكبرى التي أثقلتها ومنعتها من التطور. بل إن خطوة “الما بعد” قد طالت أشكال نقدية كثيرة بما في ذلك البنيوية والشكلانية… وقبيل ذلك برزت المواقف الفلسفية المجددة بخصوص العمل الفني واشتغاله، والتي قادها الفيلسوف الألماني والتر بنجامين Walter Benjamin (1892-1940)، خاصة في كتابه الصغير الذي عنونه بـ”العمل الفني في عصر إعادة ّإنتاجه تقنيًا”[18] (1936)، إذ وقبل ذلك في مقال له تحت عنوان “نظرية النقد” (1920) قد رأى بأن هناك العديد من الأعمال الفنية التي تشترك في طرح الأسئلة الفلسفية حول السعي وراء البعد المثالي، ومن هنا تأتي فكرة أن “الأعمال الفنية هي الوسيلة التي يظهر بها التمثل المثالي الفلسفي نفسه”؛ وفي هذا السياق، يجب على نقاد الفن إعادة النظر في محتوى العمل الفني كرمز للفلسفية. وهكذا يبدو أن العلاقة بين الفن والفلسفة متأصلة في المثالية والرومانسية في القرن التاسع عشر. إلا أنه وفي كتابه المشار إليه، قد غيّر من موقفه هذا، حيث ستنبني نظرته الجديدة على المحو الذي طال لهالة العمل الفني، بعد اكتساح وسائل الإنتاج التقنية الجديدة آنذاك عالم الفني، بعدما غزت الميكانيكا عالم التصوير خاصة السينمائي والفوتوغرافي منه (ومن بعده سيلج هذا النمط الإنتاج عالم التصوير الصباغي مع السيريغرافي، خاصة في أعمال الأمريكي أندري وارهول).
بالتالي فتاريخ الفن قد طاله تعديل جذري، عند منعطف القرن العشرين بالتحديد. فبالنسبة لبنجامين، قد أدى إدخال وسائل الإنتاج المعاصرة إلى عالم الفن إلى فقدان الأعمال الفنية “هالتها”، وبالتالي سيتوجه الفن إلى أن يغدو فنانًا جماهيريًا. فالهالة الجمالية تتعلق بالطقوسية التي تنطبق أساسًا على الفن التقليدي. الذي يفترض الوصول المباشر إلى الأصل. أما في عصر إعادة الإنتاج الميكانيكي، تم استبدال فن الهالة، الفن القائم على الأسس التصوير والاشتغال والتوزيع الكلاسيكي، بقن جماهيري قادر على أن يصل إلى جمهور أوسع، بل جماهير أكثر. فلم يعد العمل الفني يقيم في النسخة الأصل، النسخة المتفردة والأصلية، بل يكمن في نسخه المتعددة المنسوخة ميكانيكيا، والتي تصل إلى جل الجماهير. وبالتالي يسير هذا التطور في الفنون جنبًا إلى جنب مع زيادة القدرة الإنتاجية لخطوط التجميع في المصانع الحديثة. وبالتالي بات العمل الفني لا ينتج عن الفنان وورشته وما يرتبط بهما من هالة، بل إنه عمل مشترك بينه وبين التجربة التي يمتلها المتلقي، ما سيدفع لاحقًا بالفنان الفرنسي مارسيل دوشان إلى القول بأن “العمل الفني يصنعه المشاهد”. ومع الإنتاج الآلي للأعمال، بات من الممكن تسويقها ونشرها وتوزيعها بسهولة في العالم، فانتقلنا من العولمة الفنية إلى عالمية الفن. فتغيرت الرؤية الفلسفية للفن من أنه نتاج نخبوي متعال إلى كونه نتاج شعبوي، وذلك منذ انتشار فن البوب آرت، في سنوات 60 من القرن الفائت، في عصر استحواذ فلسفات ما بعد الحداثة. فغدت الحدود بين الفن والثقافة الشعبية باهتة أكثر. بل إن التصور الثقافي الشعبي عينه قد اندرج في الإطار الجمالي. وبالتالي بزغ فجر التوجه الاجتماعي، السوسيوبوجي، في الفن. ومنه صار العمل الفني ازدواجي الطرح، من الناحية الفلسفية فهو وسيلة للوصول إلى المعرفة، وسوسيولوجيا فهو وسيلة للعمل والتصرف في المجتمع، من حيث إنها يلعب على ثنائية التلقي والتفكيك.
وقد قدمت ما بعد الحداثة الثقافية (والفنية) مدرستين نقديتين هما نظرية التلقي واستراتيجية التفكيك اللتان تمثل نقط الاتفاق بينهما عنصر يغري البعض بالحديث عنهما وكأنهما اتجاه نقدي واحد[19]. فكان بالتالي بروز لأول مرة الحديث عن المتلقي كفاعلٍ وعامل أساسي في إنشاء وتكملة العمل الفني، بل إنه كما يقول دوشان هو صانع العمل الفني لأنه هو المشاهد. وكان الأمر موازيًا لإعلان رولان بارت عن “موت المؤلف”، فلم يعد العمل الفني (المنجز عمومًا) خاضعًا لذاتية الكاتب، بل إنه خاضع لسلطة التأويل المتعددة واللامتناهية التي يقوم بها كل متلقي على حدة. وهو الأمر الذي لم يكن من الممكن تصور مع الفلسفة والفن الحداثيين. وبالتالي بتنا نتحدث عن “سلطة القارئ والمشاهد بدلًا من سلطة المنجز (نصًا كان أو عملًا بصريًا)”، بل إن الحدود بين الأعمال والتيارات والتوجهات والمدارس قد ألغيت، سقطت كما سقط جدار برلين، إعلانًا عن قيام قطب عالمي جديد. أساسه الاستهلاك واستمالة المتلقي. فقد تم إذن خلخلة المعادلة التقليدية، والتي ظلت قائمة مع الحداثة، بين المتلقي والمنجز. لم يعد العمل الفني يسعى إلى إبراز الطبيعة أو الكشف عن الحقيقة، بل إنه عمل فني من حيث أنه كذلك، أي مكتفي بذاته. بمعنى أن الحقيقة أصبحت رديفًا للتجاوز أو المجاوزة ما دام قد انتهى عصر الحقائق المطلقة[20]. ما سيسمح بإلغاء نقد الأعمال الفنية وتصنيفها تبعًا للتصنيف الذي كان قائمًا، بالقول هذا عمل قبيح وذاك عمل جميل، فلم يعد “الجميل” معيارًا لتحديد العمل الفني، إذ باتت تدخل في تصنيف الأعمال اعتبارات كثيرة من نقاد وصحفيين وجمهور ومؤسسات مالية ودور عرض ومتاحف وغيرها، بل إنه حتى دور العرض والمتاحف غيّرت من بنيتها ومعمارها لاستقبال هذا الفن الجديد، المسمى معاصر أو ما بعد حداثي.
وقد ساهمت في ذلك بقوة المدرسة التفكيكية، التي أنشأها جاك دريدا، إذ إنها سعت إلى تخريب كل شيء تقريبًا، وإلى الشكل في الأفكار الموروثة عن العلامة واللغة والنص والسياق والمؤلف والقارئ ودور التاريخ وعملية التفسير وأشكال الكتابة النقدية. أي أنها بحث عن إعادة صياغة كل الأمور التي ظلت ثابتة مع الحداثة. أي أنها كانت توجهًا متمردًا على كل شيء، يجد أصولها مع دريدا عند نيتشه، هذا الأخير الذي اشتغل كمطرقة وديناميت لتحطيم كل الموروثات والحداثة الغربية. لهذا لم يكن مفاجئًا أن يعمد أحدهم لشراء عمل فني حداثي وإعادة طلائه بالأبيض وعرضه من جديد، في رسالة واضحة بنهاية العمل الحداثي وولوج إلى وضع وشرط ومستوى آخر، يسمى ما بعد الحداثة. وأما تفكيك السياقات التقليدية والحداثية فنابع من أن ما بعد الحداثة هي أساسًا رفض وإعلان لعدم مصداقية تلك النماذج الحكائية الكبرى، لهذا نجد ليوتار يرفض الدور الذي منحه هابرماس للفن ويرى أن العمل الفني لا يجب أن يلتزم بتقديم أي حقائق[21]. فكان لا بد أن تظهر أعمالٌ تنتصر للجسد وتستعرضه وتجعله أداة وفاعلًا وعملًا فنيًا في ذات الوقت، مُعليةً منه ومن شأنه. إذ إن الإنسان، كما يذهب ميرلوبونتي، لا يحضر في العالم والوجود إلا باعتباره جسدًا يدرك العالم ويدركه العالم من حيث إنه جسد. ومن هذه النظرة ميرلوبونتية، القائمة على تمجيد الجسد بمفهومه النيتشوية، سيتم “خلق” أنواع فنية وتعبيرية جديدة ومعاصرة غير مسبوقة سواء في الفن الحديث أو الكلاسيكي، وبالخصوص في ما يتعلق بفنون الأداء les performances والتنصيبات الفنية les installations، وفن الجسد Body’art، وفن الفيديو وفن الحدوثية Happening، وفن الأرض وفن المتلاشي وفن المحيط وفن التقشف… وفنون أخرى قائمة على العرض التخلص النهائي من الهالة والأصلة الفنية للأعمال، والخروج بها من إطار الاشتغال داخل الورشة أو باعتبارها نتاجًا داخليًا يخص الفنان، إذ إن عالم الفن سينتقل من مفهوم الفنان إلى مفهوم الفنان-المقاول أو الفنان-المؤسسة…
وبالتالي فقد طرأ تغيرات جدرية مروراً من الطرح الكانطي المثالي للعمل الفني والحكم النقدي لمفهوم الجميل، وكما إن ما بعد الحداثة شكلت قطيعة مبرمة من آليات الاشتغال الحداثية وما يرتبط بمها من فلسفات عقلانية، تحاول تصوير العالم من منطلق ذاتي نابع منه جوانية الفنان، هو الأمر الذي سيتخذ بعده الأقصى مع التجريدية، وبالخصوص مع لوحة مالفيتش الشهيرة “مربع أبيض على خلفية بيضاء”، إلا أن بزوغ فجر فلسفات جديدة تتخذ لنفسها اسما تجاوزيًا (الما بعد post)، جعلها تقطع نهائيًا أواصرها مع هذا التصور الفني، إذ إن العمل الفني في عصر ما بعد الحداثة صار يأتي من الهامشي والاعتيادي ومن الشارع، وكما من اللاشيء. وذلك بعدما انتقلت الفلسفة صوب ما هو شعبي متأثرة بما عرفته باقي ميادين التفكير والبحث المعرفي، خاصة السوسيولوجيا. وبالتالي بات الجسد الإنساني ليس صانعًا للعمل فحسب بل إنه “عمل فني” في حد ذاته، حينما يتعلق الأمر بالممارسات المعاصرة للفن، وقد اختفى بشكلٍ شبه نهائي مفهوم “الجميل”، ليحل مكانه مفهوم “الاستتيقا” بكل ما يحمله من دلالات، تنطوي حتى على “جمالية القبح”.
[1] جيل دولوز، فلسفة كانط النقدية، تعريب أسامة الحاج، منشورات طريق المعرفة، 2008، ص 84.
[2] جون لويس، مدخل إلى الفلسفة، ترجمة أنور عبد الملك، دار الحقيقة للطباعة والنشر في بيروت، 1973، ص 128.
[3] Charles Baudelaire, L’Art romantique, in Œuvres Complètes, éd. Libraire-Editeur, Paris, 1925, p. 106.
[4] المرجع نفسه، ص 12.
[5] راجع في هذا الصدد كتاب:
Nathalie Heinich, Le paradigme de l’art contemporain, structures d’une révolution artistique, éd. Gallimard, Paris 2014, p. 76-88. (&) Yves Michaud, L’Art à l’état gazeux, Essai sur le triomphe de l’esthétique, Stock, 2003.
[6] زينات بيطار، غواية الصورة النقد والفن: تحولات القيم والأساليب والروح، المركز الثقافي العربي، 1999، ص 171.
[7]محمود أمهز، التيارات الفنية المعاصرة، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، الطبعة الثانية 2009، ص 39.
[8] Hegel, Esthétique, traduction S. Jankélévitch, 4 Vol, Flammarion, Paris 1979.
[9] إرنيست فيشر، ضرورة الفن، ترجمة ميشال سليمان، دار الحقيقة للنشر والطباعة في بيروت، (غير مؤرخ)، ص 65.
[10] سيدني فنكلشتين، الواقعية في الفن، ترجمة مجاهد عبد المنعم مجاهد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 1986، ص. 104.
[11] فيشر، ضرورة الفن، ص 82.
[12]المرجع السابق، ص 86.
[13] فنكلشتين، الواقعية في الفن، ص 174.
[14] دفاتر فلسفية، الحداثة، إعداد وترجمة محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي، دار تبقال، ط 2، 2008، ص 5.
[15] عبد الوهاب المسيري وفتحي التريكي، الحداثة وما بعد الحداثة، مبحث: عبد الوهاب المسيري، آفاق معرفة متجددة، 2007، ص 165.
[16] J. Cassou, Panorama des arts plastiques contemporain, éd. Gallimard, coll. Le Point du Jour, 1960, p 14.
[17] محمود أمهز، التيارات الفنية المعاصرة، شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، الطبعة 2، 2009، ص 69.
[18] للاطلاع على الترجمة العربية التي قام بها نشوان محسن دماج: أنظر عدد 69 لمجلة نزوى، يناير 2012، أو موقع المجلة على الرابط:
https://www.nizwa.com/العمــل-الفنـي-فــي-عصر-إعــادة-إنتاج/
[19] عبد العزيز حمودة، الخروج من التيه، دراسات في سلطة النص، منشورات عالم المعرفة، 2003، ص 100.
[20] جان-فرانسوا ليوتار، في معنى ما بعد الحداثة، نصوص في الفلسفة والفن، ترجمة السعيد لبيب، المركز الثقافي العربي، 2016، ص 13.
[21] عمر أمين، قراءة لمفهومي الجميل والجليل من منظور ما بعد حداثي، من كتاب: ليوتار والوضع ما بعد الحداثي، تحرير أحمد عبد الحليم عطية، منشورات الفارابي، 2011، ص 204.