كرّس البشر، منذ القِدم، جهدهم وعنايتهم لإنتاج واستهلاك الفن الذي يصوّر البؤس ويعبّر عنه. فالإغريق القدامى اشتهروا بعرض المسرحيات التراجيدية التي كانت تحظى بشعبية طاغية؛ وفي يومنا هذا، تحقق الأفلام والروايات التي تدور حول الكُربات وأوجاع القلوب أعلى الإيرادات كما تجذب انتباه النقّاد أيضًا. هذه ظاهرة موجودة في مختلف الثقافات، وفي مختلف الأشكال الفنية. فهي موجودة بوفرة في الموسيقى الكلاسيكية. كما أن الموسيقى الفولكلورية، كموسيقى الفادو البرتغالية، أو موسيقى النحيب الأيرلندية، غالبًا ما تُعبِّر عن الحزن والأسى. بل وتتخلل المويتيفات (الثيمات) الصوتية الحزينة حتى العديد من أغاني البوب الأمريكية المعاصرة كذلك.
لكنَّ الحزنَ في الحياة اليومية نادرًا ما يكون شيئًا سارًّا أو مُستلذًّا. إنه إحدى العواطف/الانفعالات الأساسية الست (إلى جانب الخوفِ والسعادة والغضب والدهشة والقرف) المعروفة، والذي يُسفر -أي الحزن- عن مشاعرٍ يميل معظم البشرِ إلى عدم اختبارها. وكما هو الحال مع العواطف المؤذية الأخرى، يمكن تفسير أهمية الحزن، على مدار التاريخ البشري، وعبر مختلف الثقافات، من خلال منفعته التطورية؛ إذ ينتج الحزن عن إدراك الخسارة، على سبيل المثال: خسارة شيء عزيز، أو خسارة الصحة، أو خسارة مكانة اجتماعية أو علاقة ذات شأن، أو خسارة حبيب. وهو عبارة عن حالةٍ جسدية وعصبية مُركّبة، تُسفر عن شعورٍ بالافتقار للطاقة، وبالانسحاب الاجتماعي، وبنقصانٍ في تقدير الذات، وبضيق أفقِ المستقبل.
لكن إذا كان الحزن شعورًا كريهًا في معظم الظروف، فكيف يتسنى له، إذن، أن يقترن باللذة والسرور عندما يُعبر عنه من خلال الموسيقى؟ هنا يكمن ما يسمى بـ«مفارقة التراجيديا» (tragedy paradox)، أي هذه الفكرة المتناقضة على ما يبدو: يسعى البشر إلى تقليل الحزن في حياتهم إلى الحدود الدنيا، لكنهم يجدونه، على الرغم من ذلك، مُلِذًّا في السياقات الجمالية (الإستاطيقية).
تسعى هذه الدراسة إلى جمع النتائج التي خلص إليها في حقل الفلسفة وعلم النفس وعلم الأعصاب فيما يخص هذه المسألة، بغرض الوصول إلى إطار مفسر للكيفية التي تغدو بها الموسيقى الحزينة سارّة وملذّة. وسنطرح أيضا سبلًا لتقييم صحة هذا الإطار باستخدام تقنيات التصوير العصبي، وسنشير إلى الكيفية التي يمكن بها تطبيق استنتاجاتنا في مجال الصحة النفسية.
لتحميل الورقة: مسرّات الموسيقى الحزينة – منصة معنى