في عملي كمحرِّر أوَّل في مجلةٍ علمية، لا تتعلّق المناقشات الأكثر تحديًا، التي أديرها بين المراجعين والمؤلفين والمحرِّرين الآخرين والقرّاء بأساليب البحث العلمي أو البيانات التجريبية أو النقاط النظرية الدقيقة، بل بنوع المصطلحات التي تصف الفئات الضعيفة التي قد تكون مقبولة أو مؤذية. إن مجال عملي – سياسة الإدمان والمخدرات – له تاريخ من الشجار الداخلي حول اللغة. حيث أنّ الأشخاص الذين سخرت منهم الأجيال السابقة هل يعتبرون مشرّدين (vagrants)، أو متسكعين (bums) أو يُطلق عليهم بشكلٍ أكثر ملاءمة اسم الأشخاص المشردين (homeless people)، أو الأشخاص الذين لا مأوى لهم (homeless people, people who are homeless, unsheltered persons)، أو الأشخاص الذين لديهم تجربة معيشية كونهم بلا مأوى (persons with lived experience of being unhoused)، أو أيّ شيء آخر؟ وتنشأ مثل هذه المناقشات في السياسة والصحافة والفصول الدراسية وأماكن العمل، وبين الأجيال على مائدة العشاء، فعندما لا يتمكن حتى الأشخاص المخلصون وذوو النوايا الحسنة من الإجماع على الكلمات التي تعزّز الظلم الاجتماعي وتضرّ برفاهية الإنسان، فإن المناقشات قد تكون مؤذية للطرفين.
في بعض الأحيان تحلّ الحُجج نفسها بنفسها بمرور الوقت، وتختفي المصطلحات الازدرائية الواضحة مثل: المدمن (crackhead)، متعاطي المخدرات (junkie)، من الخطاب العام دون أن يتم الاكتراث بها. ومما يُحسب لصالحهم فإن العلماء الذين يقومون بدراسة الإدمان ومعالجته يدركون تمامًا كيف يمكن للغة السلبية أن تغرس السلوكيات العامة السلبية التي تحول السياسة العامة ضد الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات تعاطي المخدرات والكحول. ومع ذلك، فإن أيّ ادعاء بأن مصطلحات محددة مؤذية بشكلٍ مؤثر يجب أن يُنظر إليه على أنه فرضية حتى يتم إثباته كحقيقة.
عندما يواجه شخص ما ادعاءات بأن المصطلح “س” يسبب الأذى للأشخاص الذين لديهم صفة معينة، أو أنّ المصطلح “ص” هو الطريقة الوحيدة لوصفهم باحترام، فيمكن للشخص العادل أن يجيب بشكلٍ معقول بـ “ما هي الأدلة التي تشير إلى صحة هذا الادعاء؟”.
من المؤكد أنّ عندما يعبّر شخص ما عن تفضيلاته الواضحة حول الكيفية التي يريد بها أن يتم وصفه، فإن هذه الرغبة لا تتطلب التحقق من صحة الأدلة. في بعض الحالات، قد يؤدي احترام مفهوم الآخرين عن أنفسهم إلى التسامح مع اللغة التي يراها الغرباء من ذوي النوايا الحسنة على أنها فظة أو غير مهذبة أو حتى مدمرة. على سبيل المثال، يعتقد بعض أعضاء مجال عملي أن الأشخاص المتعافين لا ينبغي لهم أن يثقلوا أنفسهم بمصطلحيّ المدمنين (addicts) ومدمني الكحول (alcoholics) – وهي كلمات يمكن أن تلصق وصمة العار بأي شخص يتم تصنيفه على هذا النحو دون موافقته، إلا أنّ المشاركين في برامج الاثنتي عشر خطوة يعترفون بهذه المصطلحات ولا مانع لديهم من استخدامها. يجب على العلماء والأطباء إظهار الاحترام الإنساني للآخرين، وهذا يشمل دعم حقهم في كيفية التعريف عن أنفسهم.
قد تبدو المطالبة بالأدلة عندما يتم اعتبار مصطلح ما مؤذٍ لبعض الناس على أنها مجرد مقاومة للتغيير. ولكن في الواقع، هناك أدلة كثيرة حول تأثير المصطلحات، وفي بعض الحالات، تدعم هذه الأدلة التحول اللغوي. وفقًا لإحدى الدراسات في مجال تخصصي، فإن وصف الشخص بمتعاطي مخدرات (substance abuser) وليس مصابًا باضطراب تعاطي المخدرات (having a substance-use disorder) يجعل الناس ينظرون إليه كتهديدٍ للسلامة وكمستحقٍ للعقاب. لذلك، يطلق على هذه المصطلحات “مؤذية” لأن هذا ما تصفه بشكلٍ واضح.
ولكن العديد من الادعاءات الأخرى حول مدى سلبية أو إيجابية بعض المصطلحات تفتقر إلى الأدلة الواضحة، ولذلك ينبغي لنا ألا نقوم بالتعميم. إن أفضل دليل على تسامح الخبراء وصانعي السياسات مع مجموعة واسعة من المصطلحات هو التنوع الواضح في المصطلحات التي يرغب بعض الأشخاص أن يعرفوا بها. في أحد الأيام، وبّخني زميل أمريكي أبيض لاستخدامي المصطلح الذي يزعم بأنه مهين وهو كلمة مسن (elder) عند مناقشة جرعات المخدرات الزائدة بين المشاركين في برنامج ميديكير (Medicare)، وكان ذلك قبل وقت قصير من تلقي مكالمة عبر تطبيق زووم استخدم فيها زملاء كنديون من السكان الأصليين نفس المصطلح مرارًا وتكرارًا كدليل على إظهار احترامهم تجاه أفراد مجتمعهم الأكبر سنًا.
وأثناء تدريبي كطبيب نفسي، تم إخباري (بدون دليل) أن مصطلح المريض (patient) هو مصطلح طبي مدمر للأشخاص الذين يبحثون عن رعاية الصحة النفسية، وأنني يجب أن أستخدم مصطلح الزبون (client) فقط، لكن الدراسات الاستقصائية للأشخاص الذين يبحثون عن الرعاية في الحياة الواقعية لا تظهر أيّ إجماع على ذلك. ففي إحدى الدراسات، كان الأفراد الذين يراجعون طبيبًا نفسيًا، على سبيل المثال، يفضلون استخدام مصطلح المرضى، في حين كان لمصطلحيّ المرضى والزبائن شعبية متساوية بين أولئك الذين يراجعون الأخصائي الاجتماعي أو المعالج المهني. ويختلف مدى تقبل المصطلحات الأخرى – بما في ذلك مصطلح مستخدميّ الخدمة (service users)، والأشخاص الذين يستخدمون الخدمات (people who use services)، والمستهلكين (consumers) – بشكلٍ كبير. باختصار، لا يوجد مصطلح مثالي واحد، ولا فائدة من البحث عن المصطلح المثالي لحقيقة مفادها أنّ الأفراد الذين لديهم نفس الحالة الطبية يختلفون حول الاسم الذي يرغبون في إطلاقه على أنفسهم.
ومن المفارقات أنّ الدافع إلى تعزيز المساواة من خلال مصطلحات جديدة يفشل في بعض الحالات في مراعاة التنوع الفردي والثقافي. فسرعان ما تبنى العديد من الأكاديميين الأمريكيين المصطلح الجديد لاتينكس (Latinx) كبديل أكثر شمولاً وحيادًا بين الجنسين عن مصطلحيّ الهسباني (Hispanic) أو اللاتيني (Latino)، على الرغم من أن المصطلح يربك أو يزعج بعض الأشخاص الذين يعود أصلهم لأمريكا اللاتينية، كما أشارت بيانات أحد الاستطلاعات إلى أن القليل منهم يستخدمونه لوصف أنفسهم. إن تأثير اللغة التي تهدف إلى تقليل الوصمة الاجتماعية ليس واضحًا دائمًا، ففي الولايات المتحدة، أصبحت كلمة المشردين (homeless) سيئة السمعة في بعض الأوساط، ولكن لا يزال من المهم إثبات ما إذا كان الأشخاص الذين ليس لديهم مأوى يفضلون استخدام مصطلحي شخص بلا مسكن (unhoused) والذين لا مسكن لهم (houseless)، وهما مصطلحان يبدوان متماثلين. تؤدي النوايا الحسنة في بعض الأحيان إلى تكوين مصطلحات ضخمة سرعان ما تتحول إلى اختصارات. فعلى سبيل المثال، قد يتسم مصطلح “الشخص المصاب باضطراب تعاطي الكحول” (Person with alcohol-use disorder) بنوع من الإنسانية والتعاطف، ويُعد ما إذا كان اختصار المصطلح بـ PWAUD، كما تفعل العديد من الأبحاث الأكاديمية، سيُظهر نفس التأثير أمرًا مبهمًا.
إنّ إدانة مصطلحات الآخرين باعتبارها مؤذية، ومطالبة الآخرين باعتماد مصطلحاتك الخاصة، يمكن أن يكون مسببًا للهوس والإدمان – إلى درجة أن إخضاع مثل هذه النزاعات للاختبارات التجريبية يمكن أن يبدو وكأنه نوع من التدني. لكن إصدار هذه الأحكام بطريقة دقيقة مبنية على الحقائق من شأنه أن يمنع الخبراء وصانعيّ السياسات وعامة الناس من تشتيت انتباههم بشيء تافه – الجدال حول الكلمات – عندما نحتاج إلى التركيز على القيام بشيء أكثر جدية وهو حلّ المشاكل الاجتماعية الواسعة. يقدم الالتزام بالأدلة طريقة لحلّ الخلافات المزعجة التي يمكن أن تتفاقم إلى الأبد، في حين يفتح الأبواب لنا للتعرّف على ما يؤذي الآخرين، الذين يستحقّون بالفعل أن نعاملهم بشكلٍ أفضل.
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومنصة ذا أتلانتيك).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.