كان وما زال مفهوم الهِسْتريا يمثل أحد أكثر المفاهيم الخاطئة تأثيرًا في تاريخ التطور العلمي. وقد كان هذا المفهوم في تَشَكُّله منذ العصور الفِرْعَونية، وفي تَبَلوره عند الإغْريق، وفي شَيْطَنَة الكنيسة له في العصور الوسطى، وفي تَجَذُّره علميًّا وثقافيًّا على مدى القرون اللاحقة، كاشفًا عن نَسَقٍ من السَيطرة الأيْدِيولوجية الذُكوريّة على كِتابة التاريخ الطبي؛ حيث ذكرت الدكتورة استير فيشر هومبرغر Esther Fischer-Homberger في مَقالها الهِسْتريا والميسوجينيّة): “أيْنَما وجِدت الهِسْتريا، فإن الميسوجينيّة ليست ببعيدة عنها”١. وفي هذه الحالة، فإن للمسافة الفاصلة بينهُما أهميةً بَحْثيّة على المستوى التأريخي؛ إذ ليس كل تَأريخ لمفهوم الهِسْتريا سيكون تَأريخًا كاشِفًا للميسوجينيّة؛ مما يعني أن المُعطَيات التاريخية كلها عن الميسوجينية التي تحوم حول الهِسْتريا مُعَرَّضةٌ في نهاية الأمر إلى تأويل المؤرخ لها حسب خلفيته الثقافية، وإليه تعود سُلْطة كشفِها أو إبعادها عن المشهد التاريخي. ولأن تَأريخ الهِسْتريا هو تَأريخ مَفاهيمي؛ فإن مادة الدراسة التاريخية هنا ليست الأحداث نفسها؛ بل المفاهيم المضمّنة فيها، وقد أطلق عبد الله العروي على هذا الأسلوب في الكتابة التاريخية اسم “التاريخ بالمفهوم”، وفيه: “لا يكتب هؤلاء تاريخ أفراد: (أبطال، ملوك، وزراء… إلخ)، وإنما تاريخ جماعة: (طبقة، أمة، قوم، مجموعة من البشر)، والجماعة لا تكون تاريخية، لا تستحق أن تكون موضوع نظر وفحص وتحقيق، إلا بقدر ما تجسد من فكرة: (الغلبة، الحضارة، العقل، الحرية، العدالة… إلخ)، فتكتسب تلك الفكرة صفة القيمة”٢. وبهذا الوصف، نستطيع أن نَرى كيف يكون تَأريخ الهِسْتريا تَأريخًا مفاهيميًّا؛ حيث لعب مفهوم “التراتيبية الجندرية ” دورًا محوريًّا في خلق الميسوجينية ضد النساء منذ تَشَكُّل مفهوم الهِسْتريا وإلى يومنا الحاضر.
وهذا المفهوم بوصفه نتيجة فكرٍ غَرْبيٍّ ميسوجيني ممتد عبر العصور، يُقْحِمُنا في صميم مسألة التأريخ التي وصفها أستاذ الفلسفة عبد الكريم عنيات: “تعتبر مسألة تطور الفكر الغربي في تاريخه من المسائل الخلافية التي شكلت المشهد الفلسفي المعاصر، على أساس أن التأريخ للفكر ليس مهمة علمية بحتة، بقدر ما هي ميدان لتطبيق المبادئ الفلسفية القبلية في تفسير سيرورة هذا الفكر ذاته؛ لذا قيل عن حق: إن تاريخ الفكر هو ذاته فكرًا، أو إن تاريخ الفلسفة هو ذاته فلسفة”٣. وقد ذكر عبد الله العروي أيضًا أن من مَآخذ التاريخ بالمفهوم: “أنه يكتب بأفكار مسبقة لتبرير معتقدات غير مستنبطة من المادة المدروسة. يخدع الكاتب القارئ؛ بل يخدع نفسه، عندما يقدم الفكرة المسبقة كما لو كانت نتيجة استقرائية”٤. هنا، نُعيد صياغة الإشكال المطروح على شكل سؤال أصل وجود الميسوجينيّة في السياق التاريخي للهِسْتريا من عدمها. فكيف لنا أن نتأكد بأن الإشكال هو في إبْعاد ميسوجينيّة موجودة أصلًا، وليس في إيجاد ميسوجينيّة مُتَخَيّلَة فقط من أجل دعم سردية النقد النسوي؟
في هذه الحالة، وعندما نَرى بأن الإشكال يتولد من عملية القراءة التأويلية للأحداث التاريخية المتسلسلة، علينا أن نُوقِف عجلة السرد التاريخي مؤقتًا، وأن نعود إلى فِعْل القراءة نفسه، باحثين عن مَكامِن الخَلَل في العملية التأويلية للتَأريخ المفاهيمي، أي علينا أن نعود إلى اللغة والعمليات الذهنية المرتبطة بها؛ لأن التَصَوُّرات القَبْليَّة التي تؤطّر الإدراك وتؤثر في القراءة الموضوعية، تَكْمُن في صَميم اللغة كظاهرة ذهنية في أساسها، فإذا ما أردنا أن نُبَيّن أثر المفاهيم الجندرية في قراءة تاريخ الهِسْتريا؛ علينا أولًا أن نكشف دور التأثير اللغوي للهِسْتريا في تَشْكيل هذه التَصَوُّرات القَبْليَّة. وقد أشارت الدكتورة هومبرغر في مقالها إلى معنى كَلِمتيّ Hystra وHystero الإغْريقيتين؛ حيث إن الكلمة الأولى تعني “الرحم”، وعليها فإن أي هِسْتريا هي هِسْتريا نسائية بالضرورة المَفْروضة لغويًّا. بينما الكلمة الثانية تعني “التالِي”، ومن استخدامات المصطلح: “التأخر”، و”القُصور” و”التَخَلُّف”٥. فاللغة في هذه الحالة لا تقوم بمجرد أداء وظيفة دلالية في سياقات تواصلية تدل على ظاهرة سلوكية محددة؛ بل إنها تمارس أيضًا دورًا ذهنيًّا في تَشْكيل الإدراك بناءً على مفهوم التراتيبية الجندرية (القصور النسوي في مقابل التفوق الذكوري) التي فَرَضَتها الكلمة، وبصيغة أخرى نقول: إن الميسوجينية المتجذرة لغويًّا في الهِسْتريا وجدت طريقها إلى الوعي من خلال اللغة.
هنا، وبشكلٍ تلقائي، يُطْرح سؤال اللغة والإدراك: فكيف لنا أن نقول إن للمفاهيم الذهنية تأثيرًا مباشِرًا في تَشْكيل الإدراك؟
لأن الكلمات قادِرة على حَمْل إرث استخداماتها الثقافية في المجتمع، ولأن الإنسان بطبيعتهِ كائنٌ اجتماعي؛ فإنه من خلال عملية اكْتِسابه للغةِ المجتمع، يُوَرّث هذه الحُمولة الثقافية لتشكِّل الإطار الإدراكي لديه. ولهذا السبب نقول: إن اللغة هي بوابة الإدراك عند الفرد. وإننا بشيء من التَسطيح دون أن نُجانب الصواب نقول: إن المَرْجِعيّات الثقافية لتأويل المُدْرَك كلها، المَوْروثة منها والمُكْتَسَبَة من التَجارب الحَياتيّة المعيشة، تبدأ وتنتهي باللغة. ففي دراسته عن السيميائيات الثقافية، عَرَّف الأستاذ عبد الله بريمي اللغة على أنها: “كل نسق يسهل التواصل بين شخصين وأكثر..، فالفن هو نوع من أنواع هذه اللغات التي تتفرع بدورها إلى لغات أخرى حيث الآداب والسينما والفنون الجميلة”٦. وبهذا التعريف، يتضح لنا مدى التأثير الإدراكي والتواصلي للغة في الفرد. فمن خلال الكلمة تمتد تواريخ استخداماتِها اللغوية كلها، وارتباطاتِها الثقافية العامة، وتوظيفاتِها الفنية، حتى التجارب الفردية الخاصة؛ لتُشَكّل الوسط لأي عملية ذهنية عند سماع الكلمة أو قراءتها.
فكلمة “قَهْوة” على سبيل المثال، كلمة غَنيّة في ارتباطاتها المتعددة، وتحَمْل إرثًا ثقافيًّا مركزيًّا في الكثير من المجتمعات، وفي الوقت نفسه فإن هذا الإرث يخْتَلف اخْتِلافًا جذريًّا بين هذه المجتمعات، من لون القَهْوة وحتى طُرُق تَحْضيرها وتَقْديمها وشُرْبها؛ لكن ما يهمنا هنا، هو التأثير النفسي للإدراك من خلال التجارب السابقة لشُرْب القهوة، فهناك مَنْ لا يستطيع أن يتحمل مقدارًا كبيرًا من الكافيين؛ ولهذا السبب فهو لا يشرب إلا القهوة منزوعة الكافيين. في المقابل، هناك من لا يستطيع أن يبدأ يومه من دون جرعة الكافيين الصباحية. نحن الآن أمام تجربتين مختلفتين تمامًا مع القهوة، وكِلتا التجربتين ستتركان أثرهما على الكلمة نفسها؛ لأن ما تَسْتَحْضره كلمة “قَهْوة” في ذهن الشخص الأول، لن يكون مُطابِقًا لما في ذهن الشخص الثاني. فإذا كان هذا التَعْقيد كله يحوم حول كلمة مثل “قَهْوة”، فكيف بالكلمات المَشْحونة عاطفيًّا مثل “عائلة”؟ أو الكلمات المَشْحونة سياسيًّا مثل “دولة”؟ فالطاقة الكامنة في مثل هذه الكلمات قادرة على الاسْتِحْضار الذهني لأدق التفاصيل الشخصية، من تجارب الصادمة وحتى الظُروف المَعيشيّة. وما يَعْبُر خلال الذهن عند الحضور الواعي أو اللاواعي لمثل هذه التفاصيل، لا يمكنه إلا أن يُولِّد معنًا متأثِرًا بها؛ والسبب هو الطبيعة الشُموليّة العلاماتية للغة.
وقد ذهب الفيلسوف الأمريكي ريتشارد روتي Richard Rorty متأثرًا بالنزعة الاسمية السيكولوجية عند ويلفريد سيلارس Wilfrid Sellars إلى أن “الوعي يبدأ من اللغة”٧. وإذا أخذنا بتصريح روتي؛ فإننا سنواجه إشكالًا إبستمولوجيًّا في تقديم اللغة على الواقع. فكيف لنا أن نُدرك الواقع ونعرفه إذا كان الإدراك نفسه متأثرًا بالعوامل (البيولوجية والنَفْسية والثقافية)؟ وهل يمكننا أن نعرف حقيقة الأشياء وجوهرها من خلال هذه المؤثرات؟
يُجيبنا روتي باستحالة هذا الشيء، ويُخبرنا أنه لا يمكننا الخروج من “الحالة الإنسانية” بمؤثراتها الأساسية الثلاثة من أجل أن نُدرك حقيقة الأشياء في الواقع. فالإنسان لا يستطيع أن يتجاوز تَرْكيبته الجينية، ولا يستطيع أن يتعالى على حالته النفسية، ولا يستطيع أن يتحرر من قيود اللغة، لا الذهنية منها ولا التواصلية. وفي هذه الأخيرة الضربة القاضية؛ لأننا حتى لو افترضنا جدلًا بأن هناك مَنْ استطاع أن يتجاوز، ويتعالى، ويتحرر من كل ما يربط حالته الإنسانية، وتمكن من أن يرى الأشياء من حولنا على حقيقتها؛ فإنه لن يستطيع أن ينقل لنا هذه الحقيقة إلا من خلال استعمال اللغة كأداة تواصل؛ وبهذا نكون قد عدنا إلى نقطة الصفر؛ لأن التواصل اللغوي سيتطلب تأويل الطرف المُسْتَقْبِل، والذي يعيدنا إلى المؤثرات الأساسية على الإدراك. فهذه الحقيقة التي افترضنا جدلًا بأن هناك مَنْ استطاع أن يعرفها، سيُفقد جوهرها في أثناء التواصل اللغوي ولن يبقى منها إلا أثَرها.
وفي سياق مشابه، يقول الفيلسوف الألماني إرنست كاسيرر Ernst Cassirer عن علاقتنا بالواقع: “إن الإنسان لا يعيش في عالم ماديّ خالص؛ بل في عالم رمزي، واللغة والأسطورة والفن والدين هي عناصر من هذا العالم، إنها الخيوط المختلفة والمتنوعة الناظمة لنسيج الرمزية والتجربة الإنسانية، وكل تقدّم في الفكر الإنسان وتجربته يقوّي هذا النسيج ويعقّده، ولا يمكن للإنسان، بعد الآن أن يوجد أمام الحضور المباشر للواقع، ولا يمكن أن يتقابل معه وجهًا لوجه؛ لأن الواقع الماديّ يتراجع كلّما تقدّم النشاط الرمزي. إن الإنسان، بشكلٍ من الأشكال، يبتعد عن إقامة علاقة مع الأشياء نفسها، ويتقابل مع نفسه على الدوام، إنه مُحاط بأشكال لسانية وصور فنية ورموز أسطورية وطقوس دينية بحيث لا يستطيع رؤية أي شيء ولا معرفة أي شيء دون تدخل هذا العنصر الوسيط الاصطناعي، سواءً تعلق الأمر بالممارسة أو التنظير”٨.
فإذا لم يتبقَ لنا من الواقع إلا أثَره، وكانت علاقتنا معه علاقة غير مباشرة؛ يصبح السؤال الأهم هنا، والذي لا يَصّح أن نمضي دون الإجابة عليه.. “ما الواقع؟”.
من منطلقٍ لغويٍ فلسفي نقول: إن لكَلِمتيّ هذا السؤال القدرةَ الفلسفية على أن يَطْرحا أنفسهما كسُؤالين منفصلين تمامًا؛ حيث يكون السؤال الأول هو “سؤال الماهوية essentialism “، والسؤال الآخر هو “سؤال الواقع”Reality .
في (موسوعة المفاهيم الأساسية في العلوم الإنسانية والفلسفة) عُرِّفت الماهية Essence بأنها: “لغة ما يُقال في جواب ما هو، وتحيل في دلالتها الأنطولوجية على الجوهر؛ أي على الطبيعة الخاصة والضرورية التي يتقوم بها الشيء، ويقوم عليها وجوده، وتأتي في مقابل العرض… وترتيبًا على ذلك، تم الإقرار بأسبقية الماهية على الوجود، بِعَدّها شرط إمكانه، ومبدأ تحقّقه..”٩، ويذهب مفهوم الماهية في تميزه بين الظاهر والباطن إلى: “اعتبار الكون، الإنسان، الوجود وكل ما فيه بصورة عامة مُشكَّلًا من جزئين أحدهما ظاهري، خارجي لا يمثل إلا المظهر والسطح، ليس حقيقيًّا ولا صحيحًا. بينما الآخر باطني، داخلي يرمز إلى الماهية والعمق، ويمثل كل الحقيقة”١٠؛ لكن إذا ما تَمَعَّنَا في المسألة الماهوية؛ فإننا سنواجه الإشكال الإبستمولوجي اللغوي نفسه مجددًا.
فكيف لنا أن ندرك ماهية الشيء من خلال اللغة؟ لا نستطيع ذلك؛ لأن اللغة كوسط لا تتحمل الاشْتِغال الفلسفي في البحث عن ماهية الأشياء؛ ولأن من الأُطُر اللغوية المختلفة تَنْتُج حَقائِق متعددة للواقع نفسه، فالتَفَلْسُف في هذه الحالة لا طائِل منه؛ بل إنه في حالة احتكار الباطن الماهوي للحقيقة، فإن نتيجة التَفَلْسف تكون مَصيريّة في زعمها معرفة حقيقة الشيء. وبالعودة إلى الهِسْتريا، يَتَّضح لنا أن إشكالية التراتيبية الجندرية هي إشكالية ماهوية؛ إذ إن الاعتقاد بالقصور النسوي ناتِج عن اشْتِغال فلسفي بخُصوص ماهية المرأة، في مقابل الاعتقاد بالتفوق الذكوري والذي نتج بدوره من اشْتِغال فلسفي في ماهية الرجل. وبصياغة أخرى نقول: إن التراتيبية الجندرية كفكرة قائمة على أساس المفاضَلَة بين الجنسين، تتطلب معيارًا جوهريًّا للتَفْضيل بين الذكر والأنثى؛ ولأن الاعتقاد الفلسفي السائد بأن الجوهر يَكْمن في الباطن، ومعرفة حقيقة الشيء يَكْمن في إجابة سؤال ماهيته، فأصبح إلزامًا على الفيلسوف أن يُوجِد هذا الجوهر؛ ولأننا سَبَق وذكرنا اسْتِحالة إدراك الماهية من خلال اللغة، قلنا إن الفيلسوف في هذه الحالة “يُوجِد الجوهر” لا “يَكْشِف الجوهر”. بمعنى أن الفيلسوف قد خلق من اللغة مفهومًا ذهنيًّا عن (الجوهر الأنثوي) و(الجوهر الذكوري) ثم فاضَلَ بينهما.
هنا، وبشيء من الحذر، ندخل في مَتاهة لغوية – قد تؤخذ على أنها نوع من المُراوَغة – عندما نقول إن كلمة “جوهر” هي في ذاتها كلمة لها تأثير إدراكي في سياق المفاضَلَة الجندرية، فإننا لا نُجانب الصواب عندما نقول إن أول ما يخطر في أذْهانِنا عند ذِكْر الجوهر الأنثوي هو اللون الوردي، في مقابل اللون الأزرق للجوهر الذكوري، هذا الارتباط لا يمثل إشكالًا جندريًّا بذاته، وإنما ما هو إشكالي في هذه الحالة هو الارتباطات النمطية نفسها كمفاهيم مُلْتَصِقه بالجندر. ولم تأتِ هذه المفاهيم نتيجة كشف لماهية الذكر والأنثى، وإنما هي ارتباطات لاجوهرية؛ وبالتالي، نَدْفَع براديكالية هذا الطرح إلى أن “سؤال الماهوية” في المسألة الجندرية هو سؤال خاطئ؛ لأنه يعمل على خلق إشكال فلسفي غير قابل للحل. هذا لا يعني نَفْي وجود الفُروقات بين الذكر والأنثى؛ لكنه موقف براغماتي لا يرى من هذا الاشْتِغال الفلسفي أي فائدِة تُحسّن من جَوْدة حياة الجنسين في هذا العالم؛ بل على العكس من ذلك، رأينا كيف للمفاضَلَة والتراتيبية الجندرية أن تُسهم في خلق مفاهيم مثل الهِسْتريا، وترسخ الفِكْر والممارسة الميسوجينية من خلالها.
القول بوجود الفُروقات بين الجنسين ثم تجاهل قيمتها الماهوية في المفاضَلَة؛ قد يسبب نوعًا من القلق الفكري في العقلية الحداثية التي تتمركز حول ثنائية الأعلى والأسفل، وكأننا نترك الحقيقة في الظلمة عمدًا، وهذا ما يمثل أحد كوابيس المشروع التنويري للحداثة، فالحداثي بالضرورة لا يستطيع تجاهل المعرفة، والتي يزعم بأنها نِتاج العلم بمَنْهَجياته الحِيادية والمَوْضوعية، وعليه فهو دائمًا ما يلعب بورقة الكشف العلمي لما هو مجهول في الظلمة؛ لأنه يعتقد بهذا الكشف أنه يضع الأمور في نِصابها الصحيح بشكلٍ تراتيبي، ويُقيم النظام من الفوضى، متجاهِلًا ما يَتَعرّض له كل مَنْ هو في الأسفل في هذه الثنائيات كلها.
وذكرت الدكتورة ماري كليجز Mary Klages في دراستها عن الحداثة وما بعد الحداثة أن: “المحاور الأساسية التي تتناولها الحداثة هي النظام، والمعقولية، والعقلنة، وانبثاق النظام من الفوضى، وتفترض الحداثة أن تحقيق عقلنة أكبر يقود إلى تنظيم أكبر. وكلما كان المجتمع أكثر تنظيمًا، سيكون أداؤه أفضل (وأكثر عقلانية). ولأن الحداثة تبحث دائمًا عن مستوى أعلى من التنظيم؛ فإن المجتمعات الحديثة تميل دائمًا إلى مواجهة أي شي (غير منتظم) يمكن أن يُربك النظام؛ لذلك، تلجأ المجتمعات الحديثة باستمرار إلى إقامة علاقة ضدية طرفاها (النظام) و(اللانظام)؛ إذ يمكن أن تستغلها لتأكيد تفوق (النظام)”١١. فكل ما هو غير أبيض، غير ذكري، غير صحي، غير عقلاني، وغير علمي، يصبح جزاءً من اللانظام والفوضى، مهمشًا في الثنائيات التراتيبية.
وحَسَبَ المفكّر الفرنسي جان-فرانسوا ليوتار Jean-François Lyotard، فإن هذه المجتمعات الحديثة تستخدم (السرديات الكبرى) التي تعبر عن الممارسات والمعتقدات الخاصة بثقافة معينة، من أجل شرعنة التراتيبية والحفاظ على شُمولية النظام واستقراره١٢؛ حيث تمارس هذه السرديات دورًا مَفاهيميًّا في صميم الثقافة من خلال عقلنة ما هو نظامي وتَهْميش ما هو خلاف ذلك. ويَتَفَرّد النظام بالسُلْطة اللغوية في فرض الإدراك الإيجابي على تَفَرُّعاته ومُرادِفاته وما يتصل بدلالاته من الكلمات، مثل: (أخلاق، عقلانية، اتزان، سَكينة، إلخ..). في مقابل الإدراك السلبي على أضْداده، مثل: (الفوضى، الانحلال الأخلاقي، الرُعونة، الطَيْش، إلخ..). ومجددًا، نرى الإشكال اللغوي هنا، في أن ما فُرِضَ على اللانظام من إدراكات سلبية متَوَغّلة في اللغة، طالَت كل ما هُمِّش حسب المعايير الحداثية، حتى أصبحت القيمة الأخلاقية في الفكر الحداثي تَتَمَرْكَز حول ثنائية النظام والفوضى بما يَضْمن اسْتِقْرارها، لا الخير والشر بما يؤدي إلى الحياة الطيبة والعادلة لِأطياف المجتمع كافةً. وبهذا الانْعِكاس المَفاهيميّ فيما يتعلق بالقيمة الأخلاقية، نجد أن الاضْطِهادات النِظاميّة المُمارَسة ضد المُهّمَشين، تَكْتَسِب شَرْعيّتها من السرديات الكبرى المُفَسِّرة لضرورة قيام هذه الثنائيات التراتيبية. وبالعودة إلى الهِسْتريا، نجد أيضًا أن التراتيبية الجندرية تَكْتَسِب شرعيتها من السردية الكبرى للقصور النسوي، وعليها فإن الإدراكات السلبية كلها المُضَمَّنة في هذه السردية تَتَلَبَّسَ الجندر النسوي مفاهيميًّا، حتى تُصبح الميسوجينية ممارسات أخلاقية وعقلانية مشروعة نظاميًّا.
وينطبق المِثْل على كل مَنْ يُمَثّل “الآخر” بالدلالة الباثولوجية للكلمة في الفِكْر الحداثي، فحين يُشَكّل هذا الآخر تهديدًا لاسْتِقْرار النظام فقط لحضوره المختلف عند ما هو مُتَجانِس؛ فإن الإجْراءات المُتّخَذة حِياله يكفلها حق النظام في الحفاظ على اسْتِقْراره؛ لكن معنى الاسْتِقْرار في السياق الحداثي لا يعني الاسْتِقْرار بالرُكود؛ بل الاسْتِقْرار بالتقدم والازْدِهار العلمي والتكنولوجي، أيْ ثَبات النظام في صورته المِثاليّة لدفع عجلة التَنْمية وتَحْقيق المشروع التنويري. وهذه الصورة التي لا تقبل مُشارَكة الآخر بسبب آخريته Otherness، كَوَّنَت خلال العُقود الممتدة منذ عصر التنوير، المركزية الأوروبية الذكورية العلموية، والتي قَدَّمَت نفسها للعالم قسرًا على أنها النَموذَج الأمْثَل للتقدم والتطور.
وفي خلاصة دراسته المُعَنْوَنة (الحداثة وما بعد الحداثة.. تَقَصٍّ للمدلولات وتَتَبُّع للتحولات)، كَتَبَ أستاذ الفلسفة د. محمد بن سباع: “إن من أكبر أوهام الحداثة قولها بكمال العقل الإنساني، الذي استحكم على العالم، حيث تماهت الحداثة في أهم تجلياتها ألا وهي العقلانية وتحقيق الذات، فحدث اندماج بين العقل والذات في بعضهما البعض، وتشكلت عنهما كل العناصر الثقافية للحداثة، وهذا ما أفرَزَ الكثير من الأزمات التي ترجع أساسًا إلى اعتبار الذات مركز العالم، فكانت أخطر مظاهرها تهميش الآخر المُختَلِف، وكذا ظهور أزمات وجودية وايكولوجية كثيرة، ناهيك عن تحجيم المعرفة في العلم فقط، حتى أصبحت المعارف الأخرى خصوصًا منها الدينية والإنسانية غير مُعتَرَفٍ بها، هذا إضافة إلى الكثير من الأزمات الأخرى”١٣. بين هذه الأزمات التي أقْحَمَت العالم في جحيم الحروب العالمية والإبادات الجماعية وفظائع الاستعمار، وبين الأزمات الوجودية والروحانية في تَفْريغ القيم الأخلاقية والاجتماعية واستبدال القيم المادية وثقافة الاسْتِهْلاك بها، تبرز لدينا في سياق الحديث عن تاريخ الهِسْتريا، أزمة المعرفة والعلم في دعمها للسرديات الكبرى؛ حيث لَعِبت المؤسسات العلمية والأكاديمية دورًا محوريًّا في عقلنة التهميش والعنصرية، فلا يمكن تحرير الجندر النسوي من وَصْمة الهِسْتريا المفاهيمية، دون تَفْكيك التَدْليلات العلموية التي تدعمها؛ ولهذا السبب، اسْتَفَضنا في نقد أُسُس الفكر الحداثي حتى نكشف المَقاصِد التَفَوُّقية من وراء النظام التراتيبي، ويَتَّضح لنا أن الدليل العلموي كان يَتَوَهّم الموضوعية حيال إثْباته القصور النسوي؛ لأن – كما سبق وذكرنا – مفاهيم الهستريا متجذرة في أعماق اللغة وإطاراتِها الإدراكية، فالعالِم الحداثي لم يكتشف الجوهر النسوي القاصِر موضوعيًّا في المختبر وتحت المجهر؛ بل حاول أن يُبَرْهِن صِحّة مفهوم وُرِّث له فلسفيًّا من خلال اللغة، من أجل الحِفاظ على بنية النظام بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.
ومن المؤكد أن هناك من سيعترض ويُحاجج على أن التراتيبية الجندرية أتت على أساس معرفي بالتفوق الذكوري، أي إنه مُسْتَحَقّ فيزيولوجيًّا. فالسؤال المطروح هنا، هل اكتسب التفوق الذكوري شرعيته من المجال العلمي الموضوعي؟
لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال بصياغته الحالية؛ لأن الصياغة تَتَضَمّن إشكالًا في معيار التفوق المفتوح. هذا المعيار المفتوح للمفاضلة الجندرية هو أحد تَمظْهُرات مسألة الماهوية للذكر والأنثى، والتي تتطلب إجابة كاشِفة لجوهر الجندر. بمعنى، أنه لا يمكن إثبات التفوق الذكوري “علميًّا وموضوعيًا” بهذه الصياغة التي تَتَضَمّن المفاضلة على أساس الجوهر؛ لأنها وببساطة مسألة فلسفية؛ إلا أننا استوعبنا في مرحلة متأخرة جدًّا مدى اختراق المفاهيم الفلسفية والمعتقدات الدينية والخيالات الميثولوجية للمجال العلمي في العصور السابقة، وما نَتَجَ من هذا الاختراق للموضوعية العلمية من ترسيخ للمفاهيم الفلسفية باسم العلم، حتى أصبحت الأسئلة الفلسفية داخلة في المجال العلمي. يُخبرنا المؤرخ الطبي لودفك إدليستن Ludwig Edelstein أن “نظرية الجسد الإنساني دائمًا ما تمثل جزءًا من الفلسفة”١٤. وعليها، فإن النظريات كلها المتعلقة بالجسد النسوي تدخل الحَيِّز الفلسفي بشكلٍ أو بآخر؛ إذ إن الاشْتِغال التَحْقيقيّ لتَقَصيّ الظواهر الجسدية، هي اشْتِغالات فلسفية أكثر من كونِها فيزيولوجية”١٥. ونجد هذه الفكرة ممتدة حتى عصر جالينوس Galen في الإمبراطورية الرومانية في القرن الثاني بعد الميلاد، وهو الذي شجع الأطباء على دراسة الفلسفة، حتى أنه كتب نصًّا قصيرًا وعَنْوَنه (الطبيب الأفضل هو المتفلسف)، وقد شَدّدَ على أهمية التَفَلْسُف من أجل كَشْف “التصميم المتقن للطبيعة”١٦؛ فقال: “… دراسة وظيفة الأجزاء المختلفة من الجسم هي ليست مفيدة لطبيب وحده؛ لكنها أكثر إفادة بكثير للفيلسوف الذي يسعى جاهِدًا لاكْتِساب فهمٍ متكامل للطبيعة”١٧.
من المهم أن نؤكد هنا، بأننا لا ندعي بأي شكلٍ من الأشكال استحالة البرهنة العِلْميّة للظواهر الفيزيولوجية المختلفة بين الجنسين؛ لكن ما هو إشكالي في هذه الحالة، هو الإرث الضخم من التأويلات اللاعلمية لهذه الظواهر الطبيعية، وتَحْميلها ما لا يَحْتَمل في خَلْق جوهرٍ لكل من الذكر والأنثى، فعلى الرُغْم من الحَقائِق العلمية كلها المُتَعَلِّقة بظاهِرة الحَيْض الفيزيولوجية مثلًا، ما زالت هناك صُعوبات ثقافية في تَصْحيح الإدراكات السلبية التي تُشَكّل من التَأويلات اللاعلمية مفهومًا فلسفيًّا عن الجوهر النسوي، ويعود السبب إلى الدور الذي لعبته الفلسفة في طرح سؤال الماهوية، ثم تَقَمُّص دور العلم في محاولة الإجابة عنه، مُسْتَعينةً في الكثير من الأحيان بالخيالات في تَشْكيل تَصَوّراتِها. فقد أوجد سؤال الماهوية في سياقات التحليل الأنثروبولوجي لظاهِرة الحَيْض نوعًا من التراتيبية الروحانية بين الجنسين، فـ”الذكور في ثقافات كثيرة يعتقدون أنهم أعلى مقامًا ومنزلةً من الناحية الروحية من الإناث، وأن الإناث كائنات خطرة ودنسة وضعيفة، وأنهن غير جديرات بالثقة؛ ونتيجة لذلك تظل الأنثى خاضعة ومستعبدة، وغالبًا ما تقبل الأنثى مكرهةً المبررات التي يسوغها الذكور للمحافظة على ذلك الوضع”١٨. مثل هذه الاعْتِقادات الميسوجينية تَتَجذّر في الثَقافات لغويًّا، وتُوَرّث جيلًا بعد جيل في نُصوص الثقافة وطُقوسِها وسُلوكيّاتِها؛ ولأن العلم لا يقوم إلا بالعُلَماء، وهؤلاء هم بالضرورة أبناء المجتمعات المتحدثين بلُغاتِها، المؤدين لطُقوسِها، والممارسين لسلوكياتِها؛ يُصبح الإشكال هنا، هو في تَشَكُّل الإطار الإدْراكي المُلاحِظ للمُعطى على أساس الواقع الثقافي المُطَبّع للميسوجينية التي آمَنَ بها المجتمع، وعليها يُقيم العالِم دليله حسب أنموذج زمانه العلمي scientific paradigm وهذا ما حصل بالفعل في تاريخ التطور العلمي المتعلق بجسد المرأة.
وَقَعَ جالينوس في شر هذا التَطْعيم الفلسفي للنَتائِج العلمية، حين وَجَدَت الميسوجينية طريقها إلى اكْتِشافه العلمي التَشْريحيّ للأجهزة التناسلية لكِلا الجنسين؛ حيث وَصَفَ: ” كل الأجزاء الموجودة عند الرجل نستطيع أن نلاحظها في الجهاز التناسلي الأنثوي مع اختلاف واحد فقط.. أن الأعضاء الأنثوية متَقَهْقرة، بينما الذكورية بارِزة”١٩. وأشارت الدكتورة والمؤرخة الطبية إرنا ليسكي Erna Lesky أن ثنائية التَقَهْقر والبُروز هي ثنائية تتجاوز الوَصْف التَشْريحيّ، إلى أنها تَتَضمّن مفاهيم القصور والتفوق؛ لأن بالنسبة إلى جالينوس، يُمثل هذا البروز مرحلةً متقدمة في تطور الكائن البشري، وهي أقْرَب ما تكون للمثالية، عكس التَقَهْقر الذي يحمل الدلالات السلبية كلها للتأخر والقصور على مستوى التَشْريحيّ٢٠؛ بل نجد أيضًا أن الفلسفة قد زاحَمَت الفيزيولوجيا في مسألة الإخْصاب أيضًا؛ فكان يُعتقد بأن إسهام المرأة في الحمل هو إسهام ثانوي بالمكان (الرحم) والتغذية (الدم) فقط٢١. وقد نَظَّرَ أرسطو في هذه المسألة في نظريته عن المَني، قائلًا بتفوق المَني على الدم، أي بتفوق إسهام الأب على الأم؛ وبالتالي القصور الفيزيولوجي للمرأة، وكان جالينوس من بعد أرسطو قد اتفق على قصور (البذرة النسوية)؛ إذ وصفها بأنها “أرق”، و”أبرد” و”أضعف” من البذرة الذكورية٢٢.
ولم تنتهِ الخيالات الفيزيولوجية المتعلقة بالإنْجاب عند هذا الحد؛ حيث تصف الدكتورة لينسكي أحد أكثر المفاهيم الجندرية تأثيرًا في التاريخ العلمي: “من بين كل النظريات المتعلقة بالإنجاب في العصور القديمة، لم يستمر الاعْتِقاد بأحد هذه النظريات طوال الألفيّة السابقة مثل الاعْتِقاد بأن الذكور يولدون من الجانب الأيمن للجسد والإناث من الجانب الأيسر”٢٣. نجد هذا الاعْتِقاد المنتشر حضاريًّا والممتد تاريخيًّا، من الطب الهندوسي القديم مرورًا بجالينوس وحتى فرنسا القرن الثامن عشر؛ حيث يسْتَأصل النبلاء خِصْيتهم اليسرى من أجل ضمان ذُرية الذكور٢٤. بل إن التجارب العلمية لنظرية (اليمين واليسار) في الإنْجاب استمرت حتى حدود عام ١٩١٣ ٢٥، مُبينةً لنا مدى اسْتِمْرارية التأثير المَفاهيميّ لتراتيبية الجندرية على المنهج العلمي.
في ١٨٧٣، وقبل دخوله المجال الطبي، دَرَسَ طبيب الأعصاب بول يوليوس موبيوس Paul Julius Möbius الفلسفة وعلم اللاهوت، وقد أظهر اهتمامًا متماشيًا مع توجهات العلوم العقلية والنفسية عند مطلع القرن، مثل الجنسانية والهِسْتريا، حتى إن كتابه المثير للجدل (ما جاء في البلاهة الفيزيولوجية عند النساء) الصادر عام ١٩٠٠، فاقَت مبيعاته كتاب (تفسير الأحلام) لسيغموند فرويد. وفيه يقول موبيوس بالقصور الدماغي عند النساء مقارنةً بالرجال٢٦. وبعد زُهاء ثلاث سنوات في ١٩٠٣، أصْدَرَ عملًا آخر بعنوان (مُساهَمات من أجل نَظَرية في الاخْتِلاف الجندي)، وَثّقَ فيه نتائج دراسة أجراها عن الجنس وقياسات الرأس، وقد اسْتَخْلَصَ منها بناءً على الاعتقاد بالعلاقة بين محيط الرأس والقدرات العقلية، أن الرجل الطبيعي يحتاج إلى محيط رأس لا يقل عن ٥٣ سم كي يقوم بأعماله الذكورية على أكمل وجه، بينما المرأة لا تحتاج سِوى ٥١ سم. ويقول: “مع محيط رأس لا يتجاوز ٥١ سم، يمكن للفرد أن يكون امْرَأةً عاقلة، لكن ليس رَجُلًا عاقلًا”٢٧. وبطبيعة الحال، لم تأتِ هذه النَتائِج بمَعْزل عن تأثير المَشْهَد السياسي في أوروبا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر؛ إذ بَرَزَت الحركات الحقوقية النسوية في أرجاء أوروبا مطالبةً بحَقّ التصويت والمساواة مع الرجل، وقد اتخذ موبيوس موقفًا صارمًا ضد هذه الحركات الحقوقية، مستخدمًا “نبرة طبية أبوية”٢٨ في ازدراء النساء وتَسخيف حركاتهم الحقوقية، مُسْتَدلًا على نتائج دراسته العلمية بأن النساء غير قادِرات على المشاركة السياسية والأكاديمية بسبب مَحْدوديّة قدراتهم العقلية، وأن عليهم التخلص من “أوهام المساواة”٢٩ والتركيز على أعمال الأمومة.
عندما نَتَفحّص من مَنْظور يومنا الحاضر، هذا الثبات النَسَقيّ لنتيجة القُصور النسوي على مَرّ العُصور وبمُخْتلف الأشْكال، هذا النسق الذي نُقِشَ على حَجَر الثقافة، والذي اخْتَرَقَ ملاحظاتنا العلمية زاعِمين مَوْضوعيّة نَتائِجها، يُشير إلى إشكالٍ نفسي لا علمي، بمعنى، أن الإشكالية الحقيقية هنا هي ليست إشكالية منهج، وإنما هي إشكالية في صميم النموذج البدئي archétype بالمفهوم اليونغي. يقول جيمس هيلمان James Hillman في هذا الصَدَد: “نظرتنا، وحتى مُلاحَظتنا العلمية، لا يمكن الاعْتِماد عليها، ليس فقط بسبب إمكانية إيهام الحَواس، لكن بسبب البنية النفسية التي تقوم عليها. خلف إدراك الحاسة، هناك إدراك النموذج البدئي، فلا يمكن أن نثق بأنفسنا عندما نفقد إدراكنا الداخلي تِجاه العامل الذاتي المؤثر على ملاحظاتِنا”٣٠. هذا العامل، هذا النموذج البدئي للمرأة القاصِرة في مُخَيِّلاتِنا، طالمَا بَقِيَ مترصِدًا في ظِلال اللغة؛ فإنه سيَجد طريقه إلى الواقع من خلال الدليل العلمي والحجة الفلسفية والتأويل الديني. وعندما نفقد إدراكنا الداخلي تِجاه هذا العامل، “يختلط المُلَاحَظ بالمُتَخَيَّل”٣١، وتكون النتيجة في هذا الإرث الميسوجيني الممتد تاريخيًّا على أساس المغالطات التَخَيُّليّة.
يعيدنا الحديث عن المُتَخَيَّل إلى (سؤال الواقع) وعلاقته باللغة وفلسفتها، لنختم هذه المقالة من حيث ابتدأنا، فكيف لنا أن نقول بأصل اختلاف إدراكنا للواقع والعالم من حولنا دون الانفصال الكلي عنه والغرق في وهم الذاتوية Solipsism؟
على مَشروعيّة هذا السؤال في سِياق حديثنا هنا؛ إلا أنه يبطن في صياغته القول بمفهوم )المسرح الديكارتي( القائم على فصل العقل عن الجسد، وهو الاسم الذي يُطلق على نظرية الإدراك عند الفيلسوف رينيه ديكارت René Descartes، وفيها يقول إن المُدرَكات هي الأفكار التي تَتَمَظهَر داخل أذهانِنا لما هو في العالم الخارجي، أي إن إدراك الواقع من مقاعد مسرح ديكارت مرهون بالمعالجة الذهنية فقط، وأن ما تُدركه هو ما يَعرضه لك ذهنك، والذي قد لا يكون مماثلًا لما هو موجود خارج إدراكك.. إن كان موجودًا أصلًا! فإذا سَلَّمنا بهذا المفهوم المغلوط للإدراك، حينها سنجد أنفسنا أمام المأزق المطروح في السؤال؛ لأن هذا الفصل بين الذات والعالم هو المدخل للمتاهة الذاتوية؛ لكننا لن نقوم بذلك، ليس هَرَبًا من المأزق، وإنما بسبب المشاريع الفلسفية والبحوث العلمية الناقدة لمفاهيم ديكارت المتعلقة بالإدراك؛ مما يجعلنا نتجاوز هذه النظرية وما تولده من إشكاليات معرفية بمجرد الإشارة إليها.
فمن أهم نُقاد المسرح الديكارتي هو الفيلسوف الفرنسي موريس ميرلو-بونتي Maurice Merleau-Ponty صاحب كتاب “فينومينولوجيا الإدراك” والذي يخبرنا بأن الإشكالية الحقيقية هنا تكمن في حصر العملية الإدراكية على العقل بمعزل عن الجسد؛ لأن الجسد بالنسبة لميرلو-بونتي هو مرساة وجودنا في العالم، وهو الحامل لأعضائنا التي ترى وتسمع وتشم وتتذوق وتتحسس؛ فالإدراك في الفلسفة الميرلو-بونتية هو عملية انفتاح وتفاعُل بين الذات المُتَجَسِّدة والمُدرِكة مع العالم المُدرَك من حولها. ولأن الذَوات تختلف باختلافاتها الجَسَديّة والذهنيّة؛ فإن نَتيجة هذا التفاعُل الإدراكي تأتي مختلفة عند كل شخصٍ حتى مع ثبات الشيء المُدرَك كما في مثال “القَهْوة”. هذا الاستنتاج يثبت لنا أصل اختلاف إدراكنا للواقع على أساس الاختلاف التَفاعُليّ، والذي سَبَق وقلنا إنه يتم من خلال وسط لغوي عام، أي إن اللغة لا تشكِّل إدراكنا للعالم فحسب؛ وإنما تؤثر في وجودنا المُتَجَسِّد فيه أيضًا، وهذا ما يمهد لنا الحديث عن خلاصة هذه المقالة بأن وجود المرأة في هذا العالم متأثر بالمفهوم الهستيري في أنه شَكَّلَ لها عالمًا توجد فيه مقيدة فينومينولوجيًّا.
في خاتِمة دراستها المُعَنْوَنة (نيشته والنزعة الأنثوية)، كتبت الأستاذة عطيات أبو السعود بشكلٍ يُلَخِّص كل ما سبق ذكره: “في مقال مبكر له بعنوان (الحقيقة والكذب في الحس الأخلاقي المبالغ فيه) أكد نيتشه أن الكلمات لا تعكس العالم؛ بل تبدع أشياء على حساب أشياء أخرى. معنى هذا أن الطريقة التي نتحدث بها عن العالم ليست هي العالم نفسه ولا هي انعكاس له؛ بل هي تولد لدينا الإحساس بواقع العالم. بمعنى آخر أن اللغة تخلق أو تبدع العالم. وأن ما ندعوه منطق العقل ليس سوى نتاج قواعد اللغة، وبناءً على هذا فإن وصفنا للأنوثة وحديثنا عن دونية واحتقار المرأة ليست إلا إبداعات بشرية لغوية وليست حقائق طبيعية في المرأة، بحيث يمكن أن نصف اللغة بأنها «الساحرة العجوز الخادعة» التي إذا ما قمنا باستخدامها بشكل آخر مختلف يمكنا أن نبدع واقعًا جديدًا لا يرتبط بجنس معين سواء كان رجلًا أو امرأة”٣٢.
وهنا يَتَبَيّن لنا حجم تأثير الإرث الميسوجيني على ما يُعرف بسِياسة الجسد؛ حيث إن التَنْظير الفلسفي بخُصوص جسد المرأة هو ما أَوْجَدَ إشكال “الجوهر” الذي يحاول الفيلسوف كَشْفه أصلًا. وبينما يُطارد سَراب الجوهر الذي ابْتَدَعَه في مَتاهات اللغة، هو يُمارس تنظيرًا يائِسًا من دون جدوى، لا يعلم أنه بهذا التنظير قد شَيَّدَ سجنًا للجسد الأنثوي. أي إن الوجود في العالم من خلال الجسد الأنثوي هو وجود مُقَيَّد بسبب جوهر هذا الجسد الذي نُسِجَ من لغة الفلسفة والدين والأسطورة وحتى لغة العلم؛ لهذا السبب علينا أن نتوقف عن مطاردة سراب كشف الجوهر، وأن نلتفت إلى اللغة التي ابتدعته، وعلينا أن نتوقف وهم الملاحظة والكشف، وأن نلتفت إلى النماذج البدئية التي تقف خلفه.
المراجع
1) Fischer-Homberger, “Hysterie und Misogynie” p. 122; cf. Altschule, “Venus Ascendant,” in Roots of Modern Psychiatry; J.-M. Bruttin, “Différentes théories sur I’hystérie dans la première moitié du XIX siècle (dissertation, University of Zurich, 1969).
٢) عبدالله العروي، “مفهوم التاريخ”، ص ٢٠٧ و ٢٠٨
٣) عبدالكريم عنيات، ورقة ‘( روح الأنوار ) و ما-بعد الحداثة’، من كتاب “الحداثة و ما–بعد الحداثة”، ص ٦٩
٤) عبدالله العروي، “مفهوم التاريخ”، ص ٢١١
٥) James Hillman, “The Myth of Analysis“, see the side note P 253
٦) عبدالله بريمي، “السميائيات الثقافية : مفاهيمها و آليات اشتغالها”، ص ٥٦
٧) عبدالله بريمي، “السميائيات الثقافية : مفاهيمها و آليات اشتغالها”، ص ٢٨
٨) Richard Rorty, Science et solidarité: La vérite sans le pouvoir, p.8.9.
٩) نيكول إيفرايرت. دسمدت: “الرمزية و المخيال و الواقعي”، ترجمة سعيد بنكراد، مجلة علامات العدد ٣ السنة الأولى ربيع ١٩٩٥، ص ٧٠
١٠) Ernest Cassirer. Essai sur I’homme. Paris Minuit, 1975, p.p 43/44.
١١) محمد سبيلا – نوح الهرموزي، “موسوعة المفاهيم الأساسية في العلوم الإنسانية و الفلسفة”، ص ٤٢٠
١٢) محمد جديدي، “الحداثة و ما بعد الحداثة في فلسفة ريتشارد رورتي”، ص ١٩٦ و ١٩٧
١٣) د. ماري كليجز، بحث ‘المفاهيم الأساسية لما بعد الحداثة’، من كتاب “مابعد الحداثة : دراسات في التحولات الاجتماعية و الثقافية في الغرب”، ص ٢٨
١٤) د. ماري كليجز، ورقة ‘المفاهيم الأساسية لما بعد الحداثة’، من كتاب “مابعد الحداثة : دراسات في التحولات الاجتماعية و الثقافية في الغرب”، ص ٢٩
١٥) د. عبدالرزاق بلعقروز، ورقة ‘الاقرار بكونية الحداثية الغربية نحو صرف القول بخصوصيتها’، من كتاب “الحداثة و ما–بعد الحداثة”، ص ٥٥ و ٥٦
١٦) د. محمد بن سباع، ورقة ‘الحداثة و ما-بعد الحداثة .. تَقَصِي للمدلولات تَتَبّع للتحولات’، من كتاب “الحداثة و ما–بعد الحداثة”، ص ٤٦
١٧) L. Edelstein, “The History of Anatomy in Antiquity” in Ancient Medicine: selected papers of Ludwig Edelstein, ed. O. and C. L. Temkin (Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1967), p. 265.
١٨) L. Edelstein, “The History of Anatomy in Antiquity” in Ancient Medicine: selected papers of Ludwig Edelstein, ed. O. and C. L. Temkin (Baltimore: Johns Hopkins University Press, 1967), p. 265.
١٩) Peter Adamson, “Philosophy in The Hellenistic & Roman Worlds“, P 134
٢٠) Galen De usu partium XVII.1.
٢١) https://mana.net/archives/1545
٢٢) James Hillman, “The Myth of Analysis“, P 238
٢٣) Lesky, “Die Zeugungs- und Vererbungslehre,” P. 184 f.
٢٤) Lesky, “Die Zeugungs- und Vererbungslehren der Antike und ihr Nachwirken,” Akademie der Wissenschaften und der Literatur, Abhandlungen der Geistes- und Sozialwissenschaftlichen Klasse,XIX (1950), 120.
٢٥) Lesky, “Die Zeugungs- und Vererbungslehre,” PP. 180; Gerlach, “Das Problem des ‘weiblichen Samens,'” p. 188.
٢٦) Lesky, “Die Zeugungs- und Vererbungslehre,” P. 39, 41, 53.
٢٧) Graham, Eternal Eve, p. 41.
٢٨) Lesky, “Die Zeugungs- und Vererbungslehre,” P. 69.
٢٩) https://mana.net/archives/2202
٣٠) https://mana.net/archives/2202
٣١) P. J. Moebius, Über den physiologischen Schwachsinn des Weibes, 7th ed. (Halle,1905).
٣٢) P. J. Moebius, ” Geschlecht und Kopfgrösse,” Beiträge zur Lehre von den Geschlechts-Unterschieden, No. 5 (Halle, 1903), p. 47.
٣٣) James Hillman, “The Myth of Analysis“, P 245
٣٤) James Hillman, “The Myth of Analysis“, P 245
٣٥) James Hillman, “The Myth of Analysis“, P 237
٣٦) James Hillman, “The Myth of Analysis“, P 239
٣٧) عطيات أبو السعود، ورقة ‘نيتشه و النزعة الأنثوية’، من كتاب “نيتشه و جذور مابعد الحداثة”، ص ١١٤ و ١١٥.