في علمِ الأخلاق، المذهب الانفعالي هو نظرية لا-إدراكية للغة الأخلاقية. وقد دعا إليه ديفيد هيوم (١٧١١-١٧٧٦)، ولحقه بعد حين إي جاي آير. ومقاربة لا-إدراكية تقول إن الأحكام الأخلاقية لا تطلق مزاعم واقعية يمكن أن تكون صادقة أو كذابة؛ فبدل أن تُعبِّر عن معتقدات حيال العالم، تُعبِّر عن شيء آخر، غالبًا يعد مشاعر أو رغبات. وهذا يضعها على النقيض من المُقاربة الإدراكية، التي ترى أن الأحكام الأخلاقية تضع مزاعم واقعية عن العالم يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة، ومن ثمَّ تُعبِّر عن مُعتقدات. وفي هذه المقالة سأبيِّن مسوغات المذهب الانفعالي قبل أن أُقدِّم فهمًا جديدًا لهذه النظرية في القرن الحادي والعشرين.
هيوم
ديفيد هيوم مع صديق.
في الكتاب الثالث من «رسالة في الطبيعة البشرية» (١٧٣٨)، يجادل هيوم أنَّ أحكامنا الأخلاقية ليست مزاعم مُعلَّلة عن ماهية العالم؛ فالأخلاق لها تأثير في الأفعال والمشاعر، والعقل بحدِّ ذاته ليس له هذا الأثر. فليس يمكننا أن نجد «صحة» أو «خطأ» الفعل بفحص الفعل نفسه:
«لنأخذ أيَّ فعلٍ يُتَّفق على كونه فعلًا شريرًا، ولنقل القتل المُتعمَّد. انظر في الأمر من جميع جوانبه لترى إن كان بمقدورك أن تجد حقيقةً أو وجودًا حقيقيًّا لما تدعوه “رذيلة”. ومهما قلَّبت الأمر، لا تجد إلَّا عواطف وبواعث وإرادات وأفكار؛ وهذه هي الحقائق الوحيدة في الأمر. والرذيلة تفرُّ منك تمامًا ما دمت تفحص الفعل الفردي: القتل. ولن تجدها إلا حين تميل بتفكيرك إلى صدرك، وتجد شعورًا بالاستهجان يَنْشَأ تجاه هذا الفعل».
وإن قبلنا هذا، فيمكننا مقارنة الفضيلة والرذيلة بما يُسميه جون لوك الخصائص الثانوية، كالأصوات والألوان: فهي ليست خصائص في الأشياء بحدِّ ذاتها، وإنما في إدراكات في عقل المُلاحِظ. ولذا من الأصح الحديث عن مشاعر أخلاقية لا عن أحكام أخلاقية.
وهنا تكمن جذور المذهب الانفعالي، النظرية القائلة بأن الأحكام الأخلاقية ليس لها فحوى حقائقي وإنما هي تعبيرات عن العواطف. مقولة «القتل خطأ» تصير «كِخْ للقتل!»، و«كِخْ!» ليس زعمًا واقعيًّا يمكن أن يكون صادقًا أو كاذبًا، ولكنه ردُّ فعلٍ شاجبٍ للقتل. وشخص يقول: «مرحى بالقتل!» لا يختلف في الحقائق بأيِّ معنًى حقيقي للكلمة، إذ أن المقولتين تتفقان في الحقائق المتعلقة بالقتل. والفرق هو في ردة الفعل العاطفية، وهذا لا يُشكِّل أيَّ تناقض بين أيٍّ من الأحكام.
آير
استخدم آير «مبدأ التحقيق» الخاص به ليصل إلى لنسخته الخاصة من المذهب الانفعالي. ومبدأ التحقيق هو معيار للمعنى؛ ويقول إنَّ القضية لأجل أن تكون قضيةً تتعلق بحقيقة، يجب أن تكون العبارة إما صادقة من حيث التعريف (أيْ بديهيةً منطقيًّا) أو قابلة للتحقيق تجريبيًّا (علمية). وكما قال في الكتاب الذي أطلقه إلى الشهرة، اللغة والحقيقة والمنطق (١٩٣٦): «يكون للجملة قيمة واقعية إلى أيِّ شخص عندما، وعندما فقط، يعلم كيف يتحقق من القضية التي تزعم الجملة التعبير عنها؛ أيْ إن كان يعلم أن المُلاحظة ستقوده -في ظروف يقينية- إلى قبول القضية بوصفها صادقة أو ردِّها بوصفها كاذبة». وإن تلفَّظ امرؤ بمقولة ليست تحصيل حاصل ولا يمكن التحقق منها بالتجربة، فهي إذن -يقول آير- «قضية زائفة؛ فالجملة قد تكون ذات معنى عاطفيًّا عنده، ولكن ليس لها معنًى حقيقي».
والأحكام الأخلاقية ليست تحصيل حاصل ولا قابلة للتحقُّق. ولنفترض أنَّا عرفنا القتل على أنه «القتل العمد لإنسان آخر». فقول «القتل خطأ» ليس صادقًا بالتعريف؛ إذ ليس هناك في تعريف «القتل» ما يحتوي كونه خطأ أخلاقي، ويمكن إنكار هذا من دون الوقوع في التناقض. ولا يوجد حالة يكون فيه الدليل الحسي ذا صلة في تحديد صدق هذا الحكم أو كذبه. فأيُّ دليلٍ تجريبي يمكن أن تكتشفه يمكن أن يُثْبِت أن القتل خطأ؟ وهذا يعني أن المقولة: «القتل خطأ» ليس لها أيُّ معنًى حرفي.
قال بعض الإدراكيين، كجي إي مور (١٨٧٣-١٩٨٥)، إنَّ المفاهيم الأخلاقية، مثل «الخير»، مفاهيم بسيطة وغير قابلة للتحليل، لأنها أشياء مختلفة وغير طبيعية في العالم. وكان ردُّ آير أن المفاهيم الأخلاقية غير قابلة للتحليل لأنها مفاهيم مُزيَّفة لا معنى لها: «هي تعبيرات عن عواطف، لا يمكن أن تكون صادقة ولا كاذبة». فعند آير الأحكام الأخلاقية ليس قضايا عن حالة الأشياء وإنما صيحات أو أوامر مُصمَّمة لاستحثاث القارئ أو السامع إلى فعلٍ ما. والمصطلحات الأخلاقية تُعبِّر عن المشاعر، ولكنها أيضًا مُقدَّرة لتثير المشاعر ومن ثمَّ تُحفِّز إلى الفعل. وهي ليست قابلة للتحقيق، مثلما أنَّ صيحة ألمٍ أو أمرٍ ليسا قابلين للتحقيق؛ لأنَّها لا تُعبِّر عن قضايا حقيقية. فلنتخيل أنِّي أضع يدي في ماء شديد السخونة، فأشتم بصوتٍ عالٍ. شتيمتي ليست زعمًا واقعيًّا يمكن أن يكون صادقًا أو كاذبًا، وإنما ردُّ فعلٍ انفعاليٍّ لشعوري بالماء الساخن. وقد تؤثِّر فيك بحيث لا تضع يدك في الماء. وبالمثل، إن شهدتُ قتلًا وقلتُ «تبًّا للقتل!»، فسيكون هذا ردَّ فعلٍ انفعالي يدلُّ على الاستنكار، وقد يُقصد منه أيضًا ثني السامع عن القتل.
يتفق هيوم وآير على استحالة تجاوز ثغرة «الوجود-الوجوب» التي تفصل الحقائق عن القيم. نحن نقوم بنَقْلةٍ كهذه دوريًّا، لكنهما يُجادلان أنه من الخطأ الاعتقاد بأنَّ لهذه النَّقْلة أيُّ أساسٍ في العقل أو المنطق. فقد أرى رجلًا يسرق متاع رجلٍ آخر (حقيقة)، فأقول «يجب ألَّا تسرق» (قيمة)؛ ولكنَّ هذا ردٌّ انفعاليٌّ محضٌ، لا ردٌّ مؤسسٌ على أيِّ استدلال. الحقائق والقيم أمور مختلفة تمامًا، ولا يمكن اشتقاق الأخيرة من الأولى. ولذا عند آير، إن قُلت: «سرقة المال خطأ»، فإذن جزء «خطـأ» يُعبِّر عن قيمة لا يمكن اشتقاقها من حقيقة أن الناس يسرقون، ولا تضيف شيئًا واقعيًّا إلى المقولة. فما تفعله كلمة «خطأ» أنها تُبدي الاستنكار، ولكن لا تحتوي على شيء يتجاوز لو قلت: «سرقة المال!!» بصوت هلوعٍ مرتفع.
تصوَّر هذا
هذا هو مذهب الانفعاليَّة إذن. دعوني الآن أُقدِّم تفسيرًا جديدًا للانفعاليَّة، حيث يُستبدل التعبير بـ«كِخْ» ونبرة الهلع وعلامات التعجُّب، وهلمَّ جرًّا… يُستبدل بلعنة التواصل الحديث… الإيموجي.
التعريف المُعجَمي للإيموجي هو: «صورة أو أيقونة رقمية صغيرة تُستخدَم للتعبير عن فكرة أو عاطفة في التواصل الإلكتروني». وهي تُستخدَم لإضافة ردود فعل عاطفية إلى تعبيرات الحقيقة، ومع ذلك فإنِّي سأجادل بأنها لا توصِّل معلومات واقعية في حدِّ ذاتها. وإنما هي كالأحكام الأخلاقية في المذهب الانفعالي، تُعبِّر عن العواطف وتحاول أن تستثيرها في الآخرين بغية التأثير في فعلهم. ومن المُثير للاهتمام أنه قد قيل إن لودفيغ فيتغنشتاين هو من قدَّم مفهوم الإيموجي، عندما جادل بأنَّ التمثيلات التصويريَّة يمكن أن توصِّل معلومات أكثر من اللغة. فلقد زعم في محاضرة في كامبردج عام ١٩٣٨: «إن كنتُ رسَّامًا جيدًا، فسيمكنني توصيل عدد لا يُحصى من التعبيرات بأربع ضربات ريشة». ومن المُرجَّح أن فيتغنشتاين كان يُفكِّر بمرونة أكبر في التمثيل التصويري مما تسمح به إيموجياتنا الحالية، ولكنَّ هذا لا يُؤثِّر في الحجة هنا.
لنأخذ مثالًا على رسالة نصية:
«لقد فاتك درس الفلسفة اليوم».
بإضافة إيموجي، يمكننا أن نعبِّر عن استحسان أو استنكار هذه الحقيقة:
«لقد فاتك درس الفلسفة اليوم ????».
«لقد فاتك درس الفلسفة اليوم ????».
«لقد فاتك درس الفلسفة اليوم ????».
الإيموجي الحزين والإيموجي الغاضب يُعادلان قول «ما كان عليك أن تفعل هذا» في الخطاب الأخلاقي.
لا يوجد خلاف واقعي بين أولئك الذين يضيفون هذه الإيموجيات المُختلفة. وإن قُلنا «القتل خطأ» أو «القتل صواب»، فإنه وفقًا لما سأدعوه «الإيموجيفعالية» لا يزيد على:
«القتل ????».
«القتل ????».
أو ربما:
«القتل ????».
يُقصد من الإيموجي الذي استخدمه استثارة شعور مماثل فيك، ولكنَّ استخدام أيٍّ منها لا ينطوي على صدق أو كذب.
ومن المثير أن آير أشار إلى «الخطأ» و«والصواب» باعتبارهما رمزين أخلاقيين، يقول: «حضورُ رمزٍ أخلاقي في قضيةٍ ما لا يضيف شيء إلى الفحوى الواقعي». وإذا استبدلنا «رمز» بـ«إيموجي» وقضية بـ«نص»، فأعتقد أنه ستكون لدينا الإيموجيفعالية: «حضورُ إيموجي أخلاقي في نصٍّ ما لا يضيف شيء إلى الفحوى الواقعي».
انتقادات مُحتملة
أحدُ الانتقادات الموجهة إلى الإيموجيفعالية هي مُشكلة تعاني منها جميع النظريات اللا-إدراكية: إذا لم يكن هناك صدق أو كذب للأحكام الأخلاقية، كيف يمكن أن يجري أيُّ نقاشٍ أو جدالٍ أخلاقي؟ أنا أقول «مرحى!» وأنت تقول «كِخْ» (أو أنا أرسل ????، وأنت تُرسل ????)، وهذه نهاية النقاش.
يجيب آير على هذا النقد بالقول إن بمقدورنا الاعتراض على الحقائق، وهذا عادةً ما تنتهي إليه المنازعات الأخلاقية: فقد يُسيء أحدهم تقدير تبعات فعلٍ مُعيَّن، على سبيل المثال. ولكن إن اتفقنا على الحقائق واختلفنا على القيمة الأخلاقية، فعلينا إذن أن نتخلَّى عن محاولة اقناع بعضنا بعضًا بخلاف ذلك. وكما كتب آير: «هذا لأنَّ الحجة تخذلنا عندما نتعامل مع المسائل المحضة للقيمة، باعتبارها متمايزة عن مسائل الحقيقة، فنلجأ أخيرًا إلى مُجرَّد الإساءة» (وهذا شيء مألوف عندما يتعلَّق الأمر بوسائل التواصل الاجتماعية). لتبيان استخدام الإيموجيفعالية: يمكننا أن نتجادل في حقائق أكل اللحم. على سبيل المثال، هل تشعر الحيوانات بالألم؟ هل يوفِّر أكل اللحم منافع صحيَّة؟ هل هو مُضرٌّ بالبيئة؟ ولكن إن اتفقنا على جميع الحقائق، ثم انتهينا إلى:
«أكل اللحم ????».
«أكل اللحم ????».
فهذه نهاية النقاش.
ومجمل القول، إنَّ نظرية آير في المصطلحات الأخلاقية باعتبار أنها رموز لا تُضيف شيئًا إلى فحوى الحقائق التي تتصل لها، تتناسب تمامًا مع فكرة الإيموجي باعتبارها مصطلحات أخلاقية. وهذا يتركنا مع الاستنتاج المُزعج إلى حدٍّ ما، أن «خطأ» لا تعني شيئًا يتجاوز ????. ولكنِّي أظن أن آير سيكون ???? مع هذا.
philosophy now – issues: 135