“لم يتطوّر الفن الحديث في أقوى اقتصاديات العالم، ولكن في الأماكن التي تميّزت إلى حدٍّ كبير بالتنمية غير المتكافئة، وهي الأماكن التي تشهد توترات متفجرة، أو تغيرات كبيرة أحدثتها الرأسمالية أو الصراعات السياسية والحروب”.
تروتسكي
ما كان يُعتبر فنًّا في القرن التاسع عشر ظلّ مستقرًّا إلى حدٍّ كبير. سواء في النحت أو الرسم أو الطباعة، لأن الأعمال الفنية مثّلت موضوعات يمكن التعرف عليها، محورها هو الإنسان. حدثت بالطبع بعض التحولات فيما يخص طرق معالجة السطح، وتناقض التأثيرات عليه. الكثير من المؤرخين والأكاديميين القدامى، اعتقدوا أن هذه التغييرات ربما تكون نهاية أفق التحول، لكن عندما ننظر إليها اليوم نجدها تحولات صغيرة وغير جذرية.
في المقابل خضع الفن في الجزء الأول من القرن العشرين لتغيير سريع وتحولات متتالية. اتفق مؤرخو الفن على أنه خلال هذا الوقت بدأ الفنانون في مراجعات جذرية لأفكارهم عن التصوير والنحت، ومع اخترع التصوير الفوتوغرافي، واستخدامه كناقلٍ للواقعية مرّ الرسم بفترة كبيرة من التجريب، حيث بدأ الفنانون في تسطيح المساحات التصويرية، وتكسير وجهات النظر التقليدية وتجاهل اللون المحلي “local color”. واللون المحلي يقصد به كل اللوحات الملونة المتداولة والراسخة في العالم.
منذ أوائل القرن العشرين، بدأ الفنانون في تجربة طرق جديدة بعيدًا عن المعروف، وبدأ النحّاتون في ترك سطوح أعمالهم الفنية في حالة من الخشونة، لتبدو كأنها غير مكتملة، وتخلى المهندسون المعماريون عن الزخرفة الغنية الكثيفة واتجهوا إلى التبسيط واعتبرت الزخرفة الكثيفة أقرب للجريمة.
يمكن أن نستشهد بلوحات بول سيزان (1839: 1906) عن المناظر الطبيعية، عندما ننظر إليها نحصل على انطباع واضح بأن التنظيم العام للألوان، وهيكلية العناصر، وترتيبها مهمة بقدر أهمية المشهد المصور نفسه.
في غضون خمسة عشر عامًا، سيحاول الفنانون الابتعاد عن الشروط الرسمية للفن التي يمكن اختزالها في تمثيل الأشياء الخارجية أو العالم الخارجي. يُروى هذا الجزء من التاريخ باعتباره تقدم بطولي للحركات والأنماط الجديدة، ليفسح كل منها المجال أمام ما بعده بتسلسل هو: ما بعد الانطباعية، والوحشية، والتكعيبية، والمستقبلية، والدادائية، والبنائية، والسريالية. كل تقدم أو تغيّر يعتبر خطوة على طريق طويل نحو هدف محدّد سلفًا.
أدار الفنانون المعاصرون ظهورهم للأشكال المجربة المختبرة، وكل ما يعتبر فنًّا تغير، وبدأ دمج أجزاء من العالم اليومي في الأعمال الفنية، مثل أعمال الكولاج والتركيب والأعمال الفنية ثنائية وثلاثية الأبعاد، كما تخلى بعض الفنانون عن الرسم على الحامل، و عن النحت الكلاسيكي، وقاموا بتداخلات فنيّة مبتكرة من خلال إنتاج أشياء قابلة للاستخدام سواء كانت كراسي أو ملابس أو مجلات إخبارية مصورة، لكن لا يمكن تعميم تجربة التجديد والتجريب، إذ استمر الكثير منهم بالطرق التقليدية أو حاولوا تكييفها لتناسب السياقات الجديدة.
ظهرت أولى علامات ما بعد الحداثة في أوائل القرن العشرين مع فنّاني دادا الذين سخروا من المؤسسة الفنية بأفعالهم الفوضوية وفنونهم البعيدة تمامًا عن التبجيل. مع ذلك لم يُستخدم المصطلح بالمعنى المعاصر حتى عام 1979، وارتبط بالحركات الفنية التي ظهرت في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي كردّ فعل على الإخفاقات المتكررة في عصر الحداثة، الذي بدأ تقريبًا من أواخر القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين. ارتبط الفن والأدب والعلوم والفلسفة في ذلك الوقت بالتقدم التكنولوجي الناتج عن الثورة الصناعية، بالإضافة إلى إيجابيات الحياة الحديثة. سعى الفنانون مثل بول سيزان، وبيت موندريان لإيجاد وسيلة عالمية للتعبير من خلال التجريد عن كل هذه الأفكار. بعض الفنانين ركزوا على الذات وعلى الممنوعات التي فرضها المجتمع، مثل سلفادور دالي ومارسيل دوشامب، الذين كان ينظر إليهما كفنانين شديدي التركيز على التقدم والعقلانية والابتعاد عن العواطف، وكانت أعمالهم مقدمة لما بعد الحداثة.
الاستقلالية والحداثة
بشكل عام هناك طريقتان مختلفتان للتفكير في الفنّ الحديث، أو نسختين مختلفتين من القصة. تتمثل الطريقة الأولى في النظر إلى الفنّ على أنه شيء يمكن ممارسته والتفكير فيه على أنه نشاط منفصل جذريًا عن الحياة اليومية والاهتمامات الدنيوية. ترسخ وجهة النظر هذه لاستقلالية الفن عن المجتمع، أي أنه مكتفٍ ذاتيًّا وذاتي الإشارة. أي عملية يركز فيها الفنانون على المشكلات الخاصة بمجالهم الفني، والحلول البصرية أو الفنية للسطح أو للعمل الفني بشكل عام.
اتسع الأسلوب الفردي بشكل كبير وزادت وسائل الفنان للتعبير عن شخصيته، وأصبح هناك تقبّل لفكرة المصادفة في التعبير الفني. لم يُعد الجمهور المعني بالفنّ يبحث عن عروض المهارات العادية، التي أصبحت شائعة بحيث لا تسترعي الانتباه، بل أرادوا أن يتيح لهم الفن فُرص لتجارب وأفكار جديدة. حيث اكتسبت لفظة “فنّ” معنًى جديدًا، ولم يعُد أنجح الفنانين هو أكثرهم كسبًا للمال، بل الأنجح هو الأكثر شجاعة ومثابرة وتجريبًا وقدرة على نقد التقاليد نقدًا جريئًا.
لم يعُد هناك وضوح للمخطط العام ولا صياغة للجسد العاري بتدريجات الظل والضوء الدقيقة، ولا تكلف في التكوين أو تحفظ. تراجعت الموضوعات الوطنية والتعليمية، وأصبح ما يبتغيه الفنان هو مشاركة الجمهور في لحظات شخصية أو أجواء غير مألوفة.
ليس من المستغرب أن تعتبر تلك الأفكار في البداية أفكار غير مألوفة ومستهجنة، لأن الإنسان في أغلب الأمر ميال إلى ترجيح كفة ما يعرف عند الحكم على الأعمال الفنية، لذلك من الصعب تصور عنف المعركة التي كانت دائرة في ذلك الوقت بين الفنانين والنقاد والجماهير.
أما الرواية الثانية فتنظُر إلى الفن الحديث على أنه استجابة للعالم الحديث، وصراعاته وتحدياته الإنسانية والمجتمعية، وهذا يعني أن بعض الفنانين المعاصرين سعوا إلى طرق تمكنهم من نقل التجارب الفنية المتغيرة التي ولدت في أوروبا بعد تسليع الحياة اليومية. من وجهة النظر هذه يعتبر الفن الحديث وسيلة للتفكير في التحولات التي خلقت ما نسميه باختصار “الحداثة”، حيث إن الفن في المقام الأول هو شكل من أشكال الاتصال، له نوايا وأهداف موجهة نحو الآخرين. يمكن استخدامه للترفيه، أو لإثارة المشاعر، أو للتحقيق الاجتماعي، أو التغيير السياسي من خلال النقد المجتمعي.
يبدو ذلك واضحًا في الحرب أحداث الحرب العالمية الأولى حين رحّب العديد من الفنانين والكتاب والمفكرين بالحرب؛ بسبب المشاعر القومية أو الشعور بالواجب الوطني. بعضهم كان لديه رغبة في تجربة مغامرة افترضوا أنها ستنتهي في غضون أشهر، أما الآخرون اعتقدوا أن الحرب ضرورة لإنهاء صراع مستمر، تختفي من بعده الأنظمة القمعية.
في حين أن بعض الفنانين رفضوا تلك النزعة العسكرية والمشاعر القومية، ورفضوا الحرب منذ البداية، والبعض الآخر خاض القتال بشكل مباشر، إما كجنود أو مسعفين، أو فناني حرب يوثقون الأحداث اليومية.
ظهرت العديد من الأعمال الفنية استجابة لتلك الاضطرابات، وتغيرت ردود أفعال الفنانين بشكل كبير خلال فترة قصيرة من الزمن، حيث تحولت المشاعر القومية والحماس للقتال إلى مشاعر حزينة يختلط فيها الغضب بالخسارة والفقد ضد المؤسسات والحكومات. بدأ الفنانون في البحث عن لغة مناسبة للتعبير عن الفوضى والمجازر التي حدثت، وأعادوا تقييم مواقفهم ومسؤولياتهم كمنتجين ثقافيين، بينما استخدم بعضهم نهجًا حداثيًا مستمدًّا من التجارب الطليعيّة التي بدأت قبل الحرب، أو التي وُلدت كردّ فعل على أحداثها.
يمكن اعتبار الدادائية أهم الحركات الفنية التي ظهرت كرد فعل على الحرب ووقائعها، حيث ولدت على أحد مقاهي زيورخ عام 1916 وهي لا تعد اتجاهًا فنيًّا فقط، بل طريقة للتمرد على التقاليد والواقع والقيم الاجتماعية والنظام الديني السائد، وعلى المجتمع البرجوازي وعاداته وتقاليده، وأصبحت الحركة رمزًا للحداثة والتمرد والثورة، وقطع الصلة بالتراث تمامًا.
صورة مركبة مع كولاج استخدمها هوسمان للاحتجاج السياسي، الأوراق النقدية في الخلفية تشير إلى سيطرة الرأسمالية، بينما المكتوب بالخط الأسود هو جزء من قصيدة اعتراضية كتبها هوسمان على ملصق وزعه على جدران برلين.
أحد أشهر الملصقات السياسية في تاريخ الفن، حيث قام هارتفيلد بدمج صورة حقيقية لهتلر مع صورة بالأشعة السينية لتظهر هذه الصورة التي لا تُنسى لسياسي يستخدم مستثمريه ويبتلع الذهب ليخرب بلاده. ظهر هذا الملصق على جدران برلين وكان سبب لغضب النازيين دائمًا.
غرينبيرغ واستقلالية الفن
في حين أن جذور الفن الحديث تعود إلى القرن التاسع عشر، إلا أن مقاربة الفن الحديث كممارسة مستقلة ترتبط بشكل خاص بأفكار النقاد الإنجليز: روجر فراي “1866: 1934” وكليف بيل “1881: 1964” والناقد كليمنت غرينبيرغ “1909: 1994” وألفريد إتش بار “1881: 1902” مدير متحف نيويورك للفن الحديث. لوقت طويل أصبحت تلك النظرية هي الاتجاه الأسلم للفن الحديث، حيث تفترض النظرية أن الفن قائم بذاته، وأن الصراع الأهم للفنانين هو الصراع مع المشكلات الفنية للرسم والنحت، وكان المرجع هو الأعمال الفنية السابقة، ويمكن وصف هذا المنهج بالمنهج الشكلي.
لفت الفن الحديث الانتباه إلى الأعراف والإجراءات والتقنيات التي يفترض أنها متأصلة في كل شكل من أشكال الفن، كما رسخ لخلق كيان فني له شروطه الخاصة. بالنسبة للرسم كان هذا يعني الابتعاد عن الوهم، وإنتاج تأثيرات جمالية عن طريق وضع علامات بصرية على سطح اللوحة، أما بالنسبة للنحت فقد استلزم تجميع أو ترتيب وتجميع الأشكال في الفضاء.
من المهم أن نذكر أن حسابات الفن المستقل مهما بدت داخلية ومرتبطة به، إلا أنها تطورت كاستجابة للظروف الاجتماعية والسياسية للمجتمعات الحديثة. اقترح الناقد الفني كليمنت غرينبرغ في مقالته “الطليعية والفن الهابط” عام 1939 أن الفنّ كان في خطر بسبب تحدّييْن مرتبطين، الأول: صعود الديكتاتورية متمثلة في (ستالين وموسوليني وهتلر وفرانكو) أما الثاني: ظهور الثقافة البصرية التجارية، التي تم دفعها من الحكومات الديكتاتورية لتقويض الفنّ الجيد وترويج شكلٍ منحطٍّ من الفن الواقعي الذي يسهل فهمه على الجماهير، والذي من شأنه أن يجذب أكبر عدد من المستهلكين الرأسماليين، ما تسبب في عزل قيم الفن الجيّد.
أكد غرينبيرغ أنه استجابة للثقافة الفقيرة لكل من الديموقراطية الرأسمالية الحديثة والديكتاتورية، انسحب الفنانون لخلق أعمال فنية جديدة وصعبة، حافظت على إمكانية التجربة النقدية. ادعى غرينبيرغ أن هذه هي الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها إبقاء الفن حيًّا في المجتمع الحديث.
كانت الفترة من حوالي 1850 فصاعدًا فترة صاخبة تخللتها ثورات وحروب عالمية وحروب أهلية، كما شهدت صعود الدول القومية ونمو وانتشار الرأسمالية والإمبريالية وإنهاء الاستعمار. حاول الفنانون قدر الإمكان الابتعاد عن الأحداث المتصارعة، لكن في أوقات أخرى ألقوا أنفسهم في عين العاصفة. حتى أكثر التحولات تجريدًا والاتجاهات المستقلة يمكن اعتبارها جزء لا يتجزأ من هذه العملية التاريخية. يمكن عدّ الفنانين المعاصرين معارضين للمجتمعات القمعية أو الثقافات البصرية الشعبية في الغرب، من خلال التركيز على موضوعات الحرية الشخصية والتحدي الفردي.
بدايات ما بعد الحداثة
لا يمكن وصف ما بعد الحداثة أنها حركة متماسكة، لكنها أقرب إلى مجموعة من الأساليب والمواقف التي ارتبطت بردود الأفعال ضد الحداثة، حيث ظهر نهج جديد للثقافة الشعبية ووسائل الإعلام في الخمسينيات، مما أدى إلى موجة من الحركات الفنية التي أعادت تقديم الفن من مصادر متباينة، بطرق تحدت مصادر الفن السابقة.
في هذا العصر الجديد من الاستهلاك وظهور التلفزيون، انتشرت الإعلانات بشكل كبير، وأصبحت الشاشات تعرض واقعًا جديدًا، وكان من الصعب في أوقات كثيرة التمييز بين الحقيقة والخيال. أطلق الفيلسوف الفرنسي جان بودريلار على هذا الوضع “الواقعية الفائقة”، مشبهًا الوجود ما بعد الحداثي بشاشة التلفزيون الوامضة: فورية ومتغيرة، ومجزأة، مع عدم وجود حقيقة أساسية. ألهمت هذه الأفكار الفنانين أفكارًا ارتبطت بالاهتمام بالسطح الفني والتركيز عليه كحقيقة ثابتة بعيدًا عن أي معنى أعمق. كان الأسلوب والمشهد وليس الجوهر هو مكان ولادة المعنى.
زعزعة مفهوم الفن
تغيّر معنى الفن بشكل جوهري مرة أخرى بعد ظهور الفنان السويسري مارسيل دوشامب “1887: 1968” الذي ينظر إليه العالم الآن، على أنه أحد أهم فناني القرن العشرين، نظرًا لقوة تأثيره في زعزعة استقرار العمل الفني. بدأ دوشامب تكعيبيًا، لكنه كسر فكرة الفن كتجربة بصرية فقط، ووجّه انتباهه إلى التورية والألغاز الإدراكية، ودفعته هذه الأنشطة المفاهيمية إلى الدخول في فلك الدادائية في باريس ونيويورك.
لعب دوشامب ألعابًا بالكلمات، وقام بإعادة النظر في الأشياء العادية، كما تلاعب بالأعراف الجندرية، لكن التركيز الأكبر للنقّاد كان على ما أطلق عليه “الأعمال الجاهزة”. بدأ دوشامب منذ عام 1914 بالتركيز على الأشياء العادية وتمييزها، عن طريق إضافة بعض الكلمات لها، أو إضافة عنوان يغير التفكير السائد فيها، أو ربطها بشيء آخر يغير معناها، كما كان مهتمًا بتفكيك التعريفات والقيم المنطقية التي رسخت في ذهن المجتمع.
لم يكن من الواضح على الإطلاق كيف يُفترض أن يكون هذا فنًّا، لكن في أواخر الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي أصبح الفنانون مفتونين بهذا الإرث الفني والثقافي، وبدأوا التفكير في الفن على أنه شيء يختاره الفنان أو يفترضه وليس بالضرورة شيئًا يصنعه. وفقًا لهذه الفكرة يمكن للفنّان أن يضفي مفهوم الفنّ على ما يريد. الأمر المهم هو الطريقة التي سمح بها هذا القرار بإدراك الأشياء في ضوءٍ جديد.
مع تفكّك هيمنة مدرسة نيويورك، بدأ الفنانون في النظر إلى سمات الفن الحديث التي استُبعدت، قبل أن يجيء دوشامب ليحل محل بيكاسو وماتيس كمحطة مهمة للفنانين الشباب، لكنه كان رافدًا واحدًا لما كان سيْلًا. ربما الأهم من ذلك أن الرسم أو أي شيء قد نتعرف عليه بشكل مباشر على أنه عمل نحتي بدأ يتراجع، ليحل محله مجموعة جديدة من الأشكال التجريبية والوسائط الجديدة مثل: فن الأداء، والفيديو، والأعمال الجاهزة، والفن التركيبي، والتصوير ومجموعة كبيرة من الممارسات الفنية المختلفة والمتشابكة، التي غالبًا ما تعتبر من تمثيلات الحداثة، والنمط المتغير لعلاقات القوة العالمية التي تسمى “العولمة”.