مقالات

كيف أحدثت «باكمان» ثورة في عالم الألعاب؟

نوح واردرب فروين* - ترجمة: بشاير عبد الرحمن

صدرت لعبة «باكمان» عام 1980، لتتخطى مجالَ الألعاب وتصبح أكثر من مجرد لعبة، إذ صار من المألوف أن تجد البقالات وقد امتلأت بحبوب إفطار «باكمان»، وتُدير التلفاز لتجد المسلسل الكرتوني باكمان يُعرض على الشاشة، بل وحتى حين تُدير الراديو ستصدح أغنية باكمان الشهيرة؛ باختصار فقد ضربت هذه اللعبة الساحة على نطاق الثقافة الرائجة، وأصبحت ظاهرة عالمية لم يسبق لها مثيل.

في العقود اللاحقة أصبحت اللعبة مصدرَ إلهام في مجالات متعددة، فقد ألهمت الكاتب مارتن آميس لكتابة إحدى رواياته، وكانت إلهامًا مجموعة أزياء كاملة، ناهيك عن عدد هائل من المنتجات والبضائع مثل الشورتات والمشروبات؛ لقد باتَ واضحًا تألق باكمان خارج مجال الألعاب.

وبالإضافة إلى ذلك فإن الألعاب -والتي صدر منها حتى اليوم ما يُقارب المئتين إصدار- ما تزال تلقى قبولًا ورواجًا بين الجمهور. إذ أعلنت منصة ستاديا الترفيهية التابعة لقوقل عن إطلاق لعبة «PAC-MAN Mega Tunnel Battle» وذلك امتيازٌ جديد يُضاف إليها. ولم تكن قوقل وحدها في ذلك، فقد أطلقت في أكتوبر الفائت شركة «بانداي نامكو» الترفيهية المؤسِسَة لباكمان تطبيق PacMan Geo»» الذي يحوّل الطرقات والشوارع في العالم الواقعي إلى متاهة باكمان مُسليّة؛ وقبلها، أطلقت شركة الترفيه البريطانية ««Steamforged Games لعبة «بطاقات باكمان» وهي لعبة طاولة عائلية؛ فما الذي يجعل هذه اللعبة تستمر في التألق والتجدد؟

كما تمتلك الأفلام السينمائية مجموعة من الأساسيات الفنيّة؛ كزوايا التصوير، والوقفات، وسرعة اللقطات، والتقريب؛ فإنّ لألعاب الفيديو أيضًا تقنيات أساسية. وإن كنا قد بدأنا منذ قرن في فهمِ ومناقشة اللغة المعرفية للأفلام فإننا للتو بدأنا في فهم أساسيات الألعاب ولغتها المعرفية، وكيف تؤدي عملياتها إلى المعنى الذي نتلقاه والتجربة التي نعيشها، من تلك النقطة تحديدًا شقت «باكمان» طريقًا جديدًا.

في كتابي الجديد «كيف يأكل باكمان» أُقدِّم شرحًا للتصميم المبتكر الذي صَنع لعبة باكمان وتأثيرها القويّ، وكيف ما زال حتى اليوم يؤثر على نهج مطوريّ الألعاب ويوسع مجال الأفكار التي يمكنهم التعبير عنها. واحدة من هذه التقنيات هي «الاصطدام» وهو اصطدام جسم بآخر في اللعبة. هذا الفعل مألوفٌ جدًا بالنسبة للاعبي ألعاب الفيديو إلى درجة أنهم لن يولوه اهتمامًا أو يفكروا بشأنه، إلا أنه يستحق الفحص وتفسير أهمية هذا المنطق التشغيلي. لطالما كان الاصطدام عنصرًا أساسيًا ومهيمنًا في الألعاب القديمة التي سبقت باكمان، على سبيل المثال لعبتيّ «Asteroids» و«Space Invaders».

شكّلت تلك اللعبتان علامة فارقة إذ مهدّت الطريق لألعاب الأركيد في الولايات المتحدة والعالم أجمع. لعبة «غُزاة الفضاء» الشهيرة Space Invaders»» احتلّت مكانة مهمة وتصدّرت المشهد، محتلةً مكان لعبة «بونغ» [أحد أول الألعاب التي اكتسبت شعبية طاغية في أوائل السبعينات، وهي نسخة من لعبة البينغ بونغ، أو تنس الطاولة]، وأصبحت رمزًا لألعاب الفيديو حيث إنّ الكائنات الفضائية في هذه اللعبة ما تزال تُستخدم كرمز لألعاب الفيديو حتى بين أولئك الذين لم يلعبوا اللعبة في السبعينات.

لكنّ «باكمان» نقلت ألعاب الفيديو إلى مرحلةٍ جديدة، إذ رغِب الناس في مشاهدة مسلسل باكمان لأنّ تلك الدائرة الصفراء امتلكت هويةً تمنح شعورًا بأنها شخصية مستقلة، وكان ذلك أمرًا مُستحدثًا في عالم الألعاب. ولم يكن سبب ذلك التطور التقني في التصميم، إذ لم تكن تلك الدائرة البسيطة التي تمثل باكمان تتفوق في الشكل على تلك المركبة الفضائية في «غُزاة الفضاء». لكن باكمان أوحى بذلك الشعور بأنه شخصية مستقلة بسبب تقديم مفهوم الاصطدام بشكل مغاير.

«باكمان أوحى بأنه شخصية مستقلة بسبب مقاربة جديدة قدمتها اللعبة لتقنية اسمها الاصطدام».

كان الاصطدام في العديد من الألعاب القديمة اصطدامًا حقيقيًّا، أيّ «شيءٌ ما يصطدم بآخر» ويخلّف آثارًا واضحة. طُورّت لعبة Spacewar!»» في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في أوائل الستينيات، وتُقدّم اللعبة مركبتين فضائيتين يُمكن اصطدامها بنجمٍ في المنتصف فيما يُمكن للاعب آخر إطلاق الصواريخ، ولعبة «Pong» -اللعبة الأولى التي نالت ذيوعًا طاغيًا- كانت أشبه بتنس الطاولة إذ تظهر مضربين على الشاشة وتتبادل الكُرات بين اللاعبين ويحقق النقاط من يجعل الكرة تصطدم بالحائط الذي خلف اللاعب الآخر.

بينما في باكمان فإن الاصطدام الذي لدينا هُنا مجازي؛ فالاصطدام الجسدي يمثّل فعل الالتهام؛ الأكل. عوضًا عن تقديم رسومات بتفاصيل أكثر أو إضافة أساليب تحكّم أكثر تنوعًا وسلاسة، فقد كانَ ذلك المجاز البسيط والتغيير في تقديم المفهوم هو ما جعل اللاعبين يرون باكمان كشخصية بهويّة مستقلة.

تم فهم وتفسير هذا النهج من قِبل المطورين خلف اللعبة، إذ صرّح «دينيس لي»، المدير التسويقي للعلامة التجارية لشركة «بانداي نامكو» الترفيهيّة، لبرنامج إذاعي: «إن الأكل من الصفات الإنسانيّة، وهو فعل مألوفٌ جدًا حول العالم».

ولم تتوصل الشركة إلى هذا التحوّل في تقديم المعنى عن طريق الصُدفة، فقد عمِل الفريق الإبداعي في التطوير على البحث عن طريقة لتقديم لعبة بنهج جديد من شأنه جذب الناس لاستكشاف تجارب جديدة في العالم الترفيهي. في المسلسل الوثائقي الذي أنتجته نتفلكس «High Score» يذكر تورو إيواتاني قائد فريق تطوير اللعبة، أنهم رغبوا في تقديم شيءٍ يختلف عن أسلوب التدمير والموت الذي نراه في «غُزاة الفضاء»، فيقول «إنّ الأكل لا ينطوي على تدميرنا بعضنا البعض» وأضاف «النساء أيضًا قد يجدنّ هذه اللعبة مُمتعة».

«بخلاف «باكمان»، كان الاصطدام في ألعاب مثل لعبة «بونغ» اصطدامًا حقيقيًا؛ أي «شيءٌ ما يصطدم بآخر»، ويخلّف آثارًا واضحة.

في كتاب «كيف يأكل باكمان» أُسمّي هذا النوع من النهج في عناصر الألعاب «التوسّع». إذ إنه نهجٌ يسمح للمبدعين في الأجيال القادمة بإعادة فحصه واكتشافه واستخدامه لتطوير إمكانيات جديدة حول ما يُمكن أن تتمحور الألعاب حوله. فقد وصفت في الكتاب -على سبيل المثال لا الحصر- كيف أن لعبة Dys4ia استفادت استفادة عظيمة من «الاصطدام»، واللعبة تعتبر سيرة ذاتية للمصمم المتحولة جنسيًا آنا آنثروبي عن بداية تلقيها الإستروجين. وبما أن اللاعبين قد اعتادوا على استخدامات «الاصطدام» وألِفوها؛ ففي وسع مصممين مثل آنثروبي زيادة تركيز «الاصطدام» في تصميم الألعاب، واستخدامه للتعبير عن كل شيء؛ بدايةً من ديناميات سلطة الحوار إلى التجربة الشخصية لصورة جسدنا لأنفسنا.

لعلّ المدراء التنفيذين في «قوقل ستاديا» الذيّن راهنوا على لعبتهم الجديدة (Pac-Man Mega Tunnel Battle) لم تكن لديهم أيّة فكرة بأنّ باكمان الأصلية كانت خلف هذا الثراء في التصاميم الحديثة للألعاب، لكنهم بالتأكيد على دراية بالتأثير الثقافي العميق والمستمر لهذه اللعبة. إنّ معرفتنا بالعناصر الأساسية في تصميم الألعاب، وفهمنا للألعاب التي تستخدمها بطرق مُبتكرة وجديدة، يفتح الباب للمبدعين الذين يمكنهم التأثير على ثقافتنا من خلال الألعاب.

 

 


 

*نوح واردرب فروين بروفيسور الإعلام الحاسوبي في جامعة كاليفورنيا، سانتا كروز؛ حيث يشارك في إدارة «Expressive Intelligence Studio»، كما أنه ألّف عدة كتب، وحرّر غيرها، وقد صدر له مؤخرًا « How Pac-Man Eats».

المصدر (ضمن اتفافية ترجمة خاصة بمنصة معنى).

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى