الفيلسوف الجديد

على نهجِهم مضيتُ: المال والنزعة الاستهلاكية

كلايف هاميلتون - ترجمة: منار الصلتية

«سأصرخ…»، تمتم الكاهنُ مغادِرًا الجنازة، «… إذا اضطررتُ لسماع أغنية “على نهجي مضيتُ”(1) مرةً أخرى».

ما الذي يفسّر رواج عزف أنشودة المغنّي سيناترا في جنازات الناس؟ لعلّنا لا نبالغ إنْ قلنا إنّ من يعلن للعالم بعد وفاته بأنه قد عاش حياته على طريقته ونهجه؛ فإنه في واقع الأمر قد عاش حياةً باهتةً تماشى فيها مع السائد. وإنْ وسّعنا نطاق ملاحظتنا، نجد أنّه في حين أنّ رغبة التأكيد على فردانيتنا لم تكنْ حاضرةً حضورًا قويًا في نفوس مواطني الدول الغنية – كأستراليا -؛ إلا أن غالبية الناس يعيشون في أكثر المجتمعات انقيادًا للسائد في العصر الحديث.

كان هنالك العديد من الأفراد، في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، الذين شكّلت أنشطتهم تهديدًا خطيرًا لبنى السلطة ولأساليب الوجود السائدة؛ ولكن كيف يمكن للمرء أن يبدي حريته في مجتمعٍ قد تقبّل فكرة ألّا وجود لبديل عن مثال الليبرالية الجديدة (النيوليبرالية)؟ وبما أنّ الحركة الاشتراكية لم تعد تهدد الرأسمالية، والنسوية تُقاس بعدد النساء في مجالس إدارة الشركات، والحركة البيئية رضخت للنزعة الاستهلاكية الخضراء وفكرة الحصيلة الثلاثية(2)؛ فحريتك لا تعدو إلا أن تكون مشروعًا شخصيًّا خالصًا لإنشاء الذات.

لقد فهم المسوّقون هذا الأمر منذ فترة طويلة قبل أن ندركه؛ لذلك بدلًا من طلب التحرر من القوالب الاجتماعية القمعية، أصبحت اليوم مطالبتنا بالاستقلال تظهر بصورة أكبر من خلال اقتناء العلامات التجارية أو بالتكلّف؛ إذ صارت الوشوم وعمليات التجميل تعدُّ آخر الصيحات في هذا المضمار، وما كان في الماضي ممنوعًا اجتماعيًّا، أصبح منجمَ ذهب اقتصاديًّا؛ إذ لم يُتَخَلَّص من العصيان المدني، بل رُوِّض ودُجِّن.

لدينا الآن مفردات كاملة لهذا التمرّد المزيف، على سبيل المثال: «راب العصابات»، «مُتأنّق الهيروين»، وكلمة «سيئ» (Bad) بنفسها، وغيرها. واخترع المسوّقون معظم هذه المصطلحات عندما استحوذوا على عنصر الجاذبية أو الكول (cool). ولمّا كان التسويق محور المجتمع الاستهلاكي الحديث – كما هو كذلك بطريقةٍ لا يدركها أغلب الناس -؛ فإنّ «المنظومة الحاكمة» وطّنتْ ذاتها مع الموقف المضاد لها لجيل ما بعد الحرب العالمية الثانية؛ إذ دجّنت مفهوم «الجاذبية» الذي أصبح معناه أن تكون سبّاقًا في الاطّلاع لكل ما هو جديد من علامات تجارية حديثة وأجهزة جديدة.

إنّ ارتباط حياتنا بالسوق جعلنا نتنازل عن حريتنا تدريجيًّا، وهذا ينطبق على كلٍّ من الأغنياء والفقراء. فعلى نقيض أولئك الذين يدافعون عن السوق بحجّة أنّها تمنحنا «الخيارات الحرّة»؛ كان مسؤولو الإعلانات والتسويق دائمًا أكثر تفاؤلًا بالطريقة التي يقنعون فيها المستهلكين للقيام بأمور لا يرغبون فيها، أو لم يكن لديهم الدافع للقيام بها.

وعلى حد تعبير رئيس التخطيط في إحدى وكالات الإعلانات العالمية: «معظم الناس يفتقدون الشعور بقيمة الذات؛ لهذا فإنّ شراء السلع الفاخرة يجعلنا نشعر بالتميّز والنجاح، وكما يمنحنا أيضًا الشعور بالقيمة في عالمٍ غالبًا ما يختبر إحساسنا بتقدير الذات».

اعتقدَ أولئك الذين روجوا بحماس للثورة الليبرالية الجديدة بأنهم كانوا يقدمون أفضل الظروف لأجل ازدهار الحرية الشخصية؛ بينما من الناحية العملية، فإن الاحتيال والخداع ضروريان لإعادة إنتاج المجتمعات الحالية للتسويق، ويتضح ذلك في المجتمعات التي تستهدف فيها الشركاتُ الأطفالَ دون سن المراهقة في محاولةٍ لتعزيز الولاء للعلامة التجارية مدى الحياة، وهذه المجتمعات التي يصرّح فيها المراهقون أن العلامات التجارية التي يرتدونها والهواتف النقالة التي يستخدمونها تحدد «مَن هم»؛ هذه المجتمعات حيث يُنَقّب في الثقافة الرائجة والكلاسيكية بصورة منهجية بحثًا عن الرموز والصور التي يمكن استخدامها لبيع المنتجات، والتي تُجمَّع فيها التفاصيل الوثيقة لحياتنا الشخصية وتُباع سرًّا لمؤسسات التسويق؛ وهذه المجتمعات التي أصبحت فيها المؤسسات التعليمية والأدبية والفنيّة والرياضية ميدانَ اللعب لأصحاب الإعلانات؛ تلك المجتمعات التي تكون فيها أغلب البيانات الأساسية لأعمالنا متاحةً لحفنة من الشركات الإعلامية.

كما أصبحت الغرف المعيشية حضانةً للنزعة الاستهلاكية؛ إذ عادة ما يشاهد الطفل الواحد مقدار ثلاثة آلاف إعلان يوميًّا؛ لذلك فإنّ غزو المسوّقين لكل ركن وزاوية من عوالمنا الخاصة؛ يعني أننا خاضعون لوابلٍ حثيثٍ من التلاعب الذي وضعه أمهر الخريجين من أفضل مدارس علم النفس ومختبرات علم الأعصاب.

هذا بالإضافة إلى أن المسوّقين يعملون على أن تتوافقَ الوظيفةُ الكيميائية لأدمغتنا (أي آليات عمل تفكيرنا التي قد تكون أكثر الجوانب خصوصية فينا)، مع ما يريدونه كي يتمكنوا من التلاعب بردود أفعالنا لتحقيق المنفعة التجارية. وكما أنهم يطلقون على هذا الأمر «علم التسويق العصبي»، ويعد نوعًا من أنواع منهجيات الإعلان الذي يهدف إلى استغلال ما يُعتقد بأنّه يشكّل نسبة 95% من إجمالي أفكارنا وعواطفنا، ومعرفتها قبل إدراكنا لها.

لهذه الأسباب، فإنّ السوق لا تستجيب لعقولنا ولكنّها تفترس اندفاعاتنا ونقاط ضعفنا النفسية بطريقة تتعارض غالبًا مع أعمق ميولنا، ولهذه الميول تأثير أكبر؛ لأنها تنشأ بعد تروٍّ وإمعان.

تعدُّ الأساليب النفسية للتسويق الحديث شكلًا قويًّا من أشكال الإكراه؛ إذ إنّها مصمّمة – بعد أن ننقاد لها – إلى أن نعتقد – واهمين – أن القرار كان بالأصل اختيارنا الحر.

إن العصيان الحقيقي اليوم يعني الانسحاب من أنظمة السوق؛ خصوصًا ما يتعلق بالجانب النفسي، لأن مفاهيم «الفردانية» كافةً التي يعبّر عنها في نشاط السوق، ما هي إلّا نتاج الإكراه الخفي. وتشهد، على هذا الانتهاك، التكاليفُ العاطفية والاجتماعية التي يتحملها الناس عندما يقررون الانسحاب من ضغوط السوق؛ كأن ينتقلوا من وظيفة ذات راتب مجزٍ ولكن تُسبب ضغوطًا عالية إلى وظيفة – أو نمط حياة – أقل ضغوطًا وأكثر إشباعًا للذات، وإنْ كان أقلّ من الأولى من ناحية الراتب.

في المقابل، ربما قد تقدمتْ مجتمعاتنا إلى درجة أصبح معها فعل المقاومة غير مُجدٍ، وبات التماثلُ الطريقَ المعقول الذي يسلكه الناس، وإن كان لا بد من ذلك؛ فعلينا على الأقل أن ندبّر أنشودةً جديدةً للجنازات، عنوانها: «على نهجِهم مضيتُ».

 

 

 


كلايف هاميلتون هو أستاذ الأخلاقيات العامة يعمل في مركز الفلسفة التطبيقية والأخلاقيات العامة، ومؤسس المعهد الأسترالي الذي يعدُّ مركزًا للتفكير التقدمي، وهو مؤلف كتاب «تعويذة النمو» (2003)، و«حب المال» (2005)، و«إسكات المُعارضة» (2007)، و«لغز الحرية»  (2008)، وغيرها من الكتب.

(1) I Did it My Way | Frank Sinatra

(2) أخذ قيم البيئة والمجتمع في عين الاعتبار في الخطط التنفيذية والتدابير الاقتصادية لقياس أداء الشركات ونجاحها. والثلاثي هنا إشارة إلى «الاقتصادي»، و«البيئي»، و«الاجتماعي». (المُراجِع)

 

New Philosopher – Issue : fame

 I did it their way: consuming our way to freedom

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى