تقديم المترجمة
يرى جورج زيمل، عالم الاجتماع الألماني 1858-1918 وصاحب السوسيولوجيا التفاعلية، أن ثمة وحدة لا سبيل إلى فصمها يتداخل فيها مضمون التفاعل الاجتماعي وشكله، فالشكل أداةٌ منهجية أو بارادايم لوصف التفاعل الاجتماعي وتأويله. في ضوء تلك الوحدة، يتطرق عالم الاجتماع الذي سبق عصره بعقود، على نحو لافت واستشرافيّ، إلى مسألة التواصل الكتابي وسوء الفهم الناتج عنه في كتابه /دراسات في أشكال التنشئة الاجتماعية/ الصادر عام 1908 والذي أفرد فيه بابًا موسومًا : /السرّ والجماعة السريّة/ ليخصص ضمنه مقالة تتناول التناقض الذي ينطوي عليه الخطاب المكتوب، إذ إنه من ناحية، الأكثر وضوحًا، لأنه مرئي ليس ثمة احتمال لتزويره، لكن من ناحية أخرى، موغلٌ في الغموض والإبهام إذا ما قورن بالكلام المنطوق، لافتقاره إلى العناصر الذي تعزز الوضوح؛ كنبرة الصوت مثلًا التي من شأنها أن تقلب المعنى المقصود وتحوّله إلى العكس. فمحتوى الخطاب هام جدًا، إلا أن شكله هو الذي يمنحه قوته ضمن التفاعليّة الاجتماعية. فالمضمون يتخذ شكلًا معينًا يحدّد بدوره طبيعة التفاعل الاجتماعي. وإن كان الفهم والتفاهم بين الأفراد محتملًا، فإن سوء الفهم بات يقارب اليقين اليوم، ورغم أن زيمل كان يتحدث عن الرسائل المكتوبة التي كانت معروفة آنذاك كوسيلة للتواصل، إلا أن رؤيته الاستشرافية حول التفاعلية الاجتماعية تنطبق إلى حد كبير على ما تشهده البشرية اليوم، لا سيّما مع المدّ الهائل لوسائل التواصل الاجتماع الالكتروني التي تحكمها جدلية المعلَن والمبطّن، بما تحمله من منطوق ومسكوتٍ عنه، ووضوح منشود وغموض وإبهام غير قصديّ. وهذا ما تناوله زيمل في مقالته الموجزة التي بين أيدينا.
مقالة موجزة حول التواصل الكتابيّ
من المفيد التنبيه إلى بعض الملاحظات المتعلّقة بعلم اجتماع الرسالة، إذ تقدم الرسالة المكتوبة توليفة غريبة جدًا فيما يتعلّق بالسريّة. بادئ ذي بدء، لابد من القول إنّ الشكل المكتوب له جوهر يتعارض تمام التعارض مع السريّة كلها. فقبل الاستخدام العام للكتابة، كان يجب إتمام كل معاملة قانونية، مهما كانت بسيطة، أمام شهود. حلّ النموذج المكتوب، محل ذلك، بتضمين “عام” ممكن إلا أنه غير محدود؛ بمعنى أنه ليس الشهود فحسب، وإنما الجميع يمكن لهم بشكل عام معرفة أن ثمة صفقة قد تم إبرامها.
هذا الشكل الغريب المتاح لإدراكنا، لا يمكن أن يُطلق عليه المرء إلا “الروح الموضوعية”: فقوانين الطبيعة والضرورات الأخلاقية والمفاهيم والتصاميم الفنيّة متاحة لمن يرغب باقتنائها ويمكنه استيعابها، ولكن صلاحيتها الخالدة موضع تساؤل، إذ لا يمكن معرفة متى وبواسطة من تحدث. فالحقيقة، التي تختلف تمامًا عن موضوعها العابر، باعتبارها بنية روحية، تظلّ صحيحة سواء كانت معروفة ومعترف بها أم لا، والقانون الأخلاقي ساري المفعول الآن، بغض النظر عما إذا استمر بعد ذلك أم لا. من هنا يمثل الشكل المكتوب رمزًا أو حاملًا للمعنى. إذ يكتسب المحتوى الروحي، بمجرد تدوينه، صيغةً موضوعيّةً، وخلودًا أساسيًا لوجوده، ولا محدودية لإعادة إنتاجه في الوعي الذاتي على نحو يمكن الوصول إليه، ولكن بدون ضمان لمعناه وصلاحيته، لأنه يجعل الإدراك العقلي أو فشله يعتمد على الأفراد. وبهذه الطريقة يكون لما هو مكتوب وجود موضوعي يضحّي بأي ضمان يبقيه سريًا.
إلا أن هذا الافتقار إلى الحصانة ضد أي نوع من المعرفة يجعل اللامبالاة حيال المكتوب أمرًا مستنكرًا، فبالنسبة لأنماط الشعور الأكثر دقة، يغدو عدم الدفاع عن الرسالة المكتوبة دفاعًا ضد سريتها. وحقيقة أن الرسالة تربط النقص الموضوعي لكل ما يحفظ السريّة مباشرة بازدياد الأمان الذاتي لتلك السرية، تلك حقيقة تتجلى في اجتماع التناقضات الغريبة التي تحمل الرسالة المكتوبة كظاهرة اجتماعية. فشكل الرسالة ما هو سوى تجسيدٌ موضوعيُ لمحتواها، وهنا تتشكل توليفة خاصة يكوّنها فردٌ واحدٌ محدّد من ناحية، لكن من حيث الارتباط التالي: الشخصية والذاتية التي يختلف بها كاتب الرسالة عن راويها. لكن من جهة أخرى فإن الرسالة، بوصفها شكل من أشكال التواصل، هي أمرٌ فريدٌ جدًا.
بالمقابل، عند الحضور المباشر، يعطي كل طرف في الحديث للآخر أكثر من محتوى كلماته؛ عندما يرى المرء نظيره، ويتحدث وينغمس في الحالة المزاجية له، والتي لا يمكن التعبير عنها بالكلمات، يشعر بآلاف الفروق الدقيقة في تشديد الحروف وإيقاع كلامه، هذا كلّه يعمل على إثراء المحتوى المنطقي والمقصود من كلماته، وهذا ما تبدو فيه الرسالة المكتوبة، إذا ما قورنت بالحديث الكلاميّ، ضعيفة للغاية. لكن حتى تلك القوة الكلاميّة هي نتيجة ذكريات التواصل الشخصيّ. وربما يكون ذلك من ميزات وعيوب الرسالة المكتوبة، فمن حيث المبدأ، تسمح الكتابة بإعطاء المحتوى المادي الصرف لخيال مؤقت والتزام الصمت بشأن ما لا يستطيع المرء، أو لا يريد، قوله.
المميّز هنا هو أن الرسالة لا تختلف عن أية مقالة أو أطروحة أخرى من حيث عدم طباعتها فحسب، بل ثمة ما هو ذاتي، فوري، وشخصي بالكامل، ولا يقتصر الأمر هنا، بأي حال من الأحوال على النخامة الصوتيّة فحسب، بل حتى عند الإخبار الجامد كذلك. إنّ موضعة ما هو ذاتيّ وتبسيطه وعزله عن كل ما لا يريد الآن أن يفصح عن نفسه، كل ذلك يكون ممكناً أكثر في حالة الثقافة العليا، حيث يمكن حينها للمرء التحكم بالتقنية النفسية على نحو كافٍ، بما يمكّنه من إضفاء الديمومة على الحالة المزاجية والأفكار اللحظية، التي يتم التفكير فيها وتلقيها على أنها لحظية فحسب ومتوافقة مع المتطلبات والشروط الحالية. وتكون تلك الديمومة ملائمة تمامًا عندما يكون للإنتاج الداخلي صفة “العمل”؛ ومع ذلك، ثمة تناقض كبير بين شكل الخطاب ومحتواه، إنّه تناقض يتطلّب حلّه مستوى معين من الرقي الفكري، إذ يجد هذا التوليف قياسًا إضافيًا في ذاك المزيج من الوضوح والغموض الذي يميز البيان المكتوب، لاسيّما الرسائل. مع ذلك، فالأمر لا يتعلق هنا بمن أعطى في الحديث أكثر أو أقل مما يعطيه المرء للآخر، بل ما يهم هو بالأحرى مدى وضوح ما يتم تقديمه بالنسبة إلى المتلقي. إذ غالبا ما يترافق الافتقار إلى الوضوح مع نسبة كبيرة من التفسيرات المحتملة.
من المؤكد أنه لم تعد ثمّة علاقة دائمة بين الناس لا تلعب فيها درجات الوضوح المتغيرة وقابلية تفسير الكلام دورًا أساسيًا، على الرغم من أن هذا الدور يقتصر غالبا على نتائجها العملية. يبدو للوهلة الأولى أن الكلام المكتوب هو الأكثر أمانًا، إذ لا يمكن أن يُسلَبَ منه أو يعدّل فيه مثقال ذرّة. بيد أنّ هذا الامتياز الخاص بما هو مكتوب، هو بدوره نتيجة لنقص: إذ يفتقر الخطاب المكتوب إلى العناصر المصاحبة له من نبرة الصوت، والتشديد على الأحرف، والإيماءات والتعبير، التي من شأنها أن تعزّز الغموض بقدر ما تكون مصدرًا للوضوح في الخطاب المنطوق.
إلا أن المتلقي حقيقةً لا يكتفي عادة بالمعنى المنطقي البحت للكلمة والذي تقدمه الكتابة، بالطبع، بشكل لا لبس فيه أكثر من الكلام المنطوق؛ إذ إنه في حالات لا حصر لها، لا يمكنه فعل ذلك لأن هناك ما هو أبعد من المعنى المنطقي كشرط للقبض على المعنى المنطقي. من هنا كان السبب في أن الرسالة المكتوبة، على الرغم من وضوحها، أو بالأحرى بسبب وضوحها، هي فضاءٌ للعديد من التفسيرات وبالتالي لسوء الفهم، أكثر بكثير من الكلام المنطوق.
بالتوافق مع المستوى الثقافي الذي تكون فيه العلاقة أو فترة العلاقة القائمة على التواصل الكتابي ممكنة على الإطلاق، تتباين المواقف النوعيّة للأفراد هنا وفقًا لتمايزٍ حادّ: إذ يكون ما هو واضح بشكل أساسي في أقوال الناس أوضح في المكتوب منه في المنطوق، وما هو غامض من حيث المبدأ يكون أكثر غموضًا في المكتوب منه في المنطوق.
وإن أراد المرء التعبير عن ذلك بمصطلحات الحرية والعبودية التي يمتلكها المتلقي فيما يتعلق بالكلام: فيمكن القول إن فهمه لجوهرها المنطقي مرتبط أكثر بالحرف المكتوب، ولكن بحريّة أكبر، فيما يتعلق بمعناها الأعمق والشخصي، مقارنةً بالكلام. إذ يمكن القول إن الكلام يكشف سرّ المرء عبر كل ما يحيط به من مرئي، غير مسموع، ويكشف عن نفسه حتى في لا منطقيّة الحديث نفسه، في حين يحجب الحرف المكتوب ذاك السر. وبالتالي تكون الكتابة أكثر وضوحًا حيث يكون سرُّ الطرف الآخر غيرَ ذي صلة، ولكنه أقل وضوحًا حين يكون الحال عكس ذلك. أما سرّ الآخر، فأعني به مزاجه وسماته التي لا يمكن وصفها منطقيًا، والتي نعود إليها مرّات لا حصر لها، حتى لفهم المعنى الفعلي للألفاظ المحددة بدقة. في الكلام المنطوق، يتم دمج هذه الوسائل التفسيرية مع المحتوى المفاهيميّ بحيث ينتج عن ذلك وحدة فهم متكاملة؛ ربما تكون هذه هي الحالة الأكثر قربًا من الحقيقة العامة، حيث يختبر المرء ما يراه ويسمعه حقًا، وما يجعله، في الوقت نفسه، عاجزًا عن تمييزه على الإطلاق بسبب تفسيره له عبر الإضافة والإزالة وإعادة الصياغة. من هنا كانت إحدى الإنجازات الفكريّة للتواصل الكتابي أنه يميز أحد عناصره عن هذه الوحدة الساذجة، وبالتالي يوضح تعدد تلك العوامل المنفصلة بشكل أساسيّ، ما يشكل “التفاهم” المتبادل بالغ البساطة.