
يقول ماسيمو بيغليوتشي إن فتى الفلسفة العلمية الشقي كرَّر فعلته مرةً أخرى، بعد وفاته.
يجب أن اعترف أني احتجت وقتًا طويلًا لأعي أن لدى بول فييرابند (١٩٢٤-١٩٩٤) شيئًا مثيرًا، بل مُهمًا، يمكن أن يقوله عن العلم والفلسفة. فعندما كنت عالمًا شابًّا مهتمًّا بفلسفة العلم قرأت كارل بوبر وتوماس كون بحماسة، بل واستمتعت باختلافاتهم في الفلسفة المعيارية (أيْ تعليم العلماء كيف يمارسون العلم على الوجه الصحيح، على طريقة بوبر)، مقابل التركيز على البرنامج الوصفي (أيْ دراسة كيف يمارس العلماء العلم، على طريقة كون). ولكن حين صادفت كتاب فييرابند «ضد المنهج» (١٩٧٥)، كنتُ ميَّالًا -بعبارة ديفيد هيوم- إلى أن أسلمه إلى اللهب، حيث بدى أنه لا يحتوي شيئًا سوى السفسطة والتخييل. ثمَّ مرت السنين، ومع العمر والخبرة صار تفكيري إزاء طبيعة العلم أكثر حكمةً. ومُؤخرًا طُلب إليَّ أن أكتب سلسلةً من الشروح لورقة بحثية مثيرة لإيان كيد بعنوان «لماذا دافع فييرابند عن التنجيم؟ استقامة العلم وفضيلته وسلطته» (الأبستمولوجيا الاجتماعية ٣٠، ٢٠١٦)، حيث وجدت نفسي متعاطفًا إلى حدٍّ ما مع اهتمامات فييرابند. لذا كنت سعيدًا عندما تهيئت لي فرصة أن ألقي نظرةً جديدةً على هذا الكاتب المُثير للجدل، بمراجعة كتابه «الجديد»: «فلسفة الطبيعة» Philosophy of Nature، الذي ظهر في عام ٢٠١٦، بعد عشرين سنةً من وفاته.

جاء الكتاب مشفوعًا بمقدمة ضافية من هلموت هيت وإريك أوبرهايم، وضعت الكتاب في سياقه التاريخي والثقافي الصحيح. فلقد تبيَّن أنَّ فييرابند كان يعمل بشكل مُتقطِّع على سلسلة من الكتب عن كيف فهم البشر تاريخيًّا الكون. وقد بدأ المشروع يأخذ شكله في مطلع السبعينات، ولكن في نهاية العقد كان منسيًّا، على ما يبدو من فييرابند نفسه. وقد ظهرت في نهاية المطاف مُسوَّدة غير مكتملة من العمل في الأرشيف الفلسفي لجامعة كونتنس، ثم اكتُشفت مسودة أطول في البحث الأرشيفي التابع. وتُرجِمت النسخة المُحقَّقة المنشورة إلى الإنجليزية على يدِ دوروثي لوتر بمساعدة من أندرو كروس. وهي تُمثِّل جُزءًا واحدًا من أجزاء ثلاثة انتواها فييرابند. وهذا شيء غريبٌ حقًّا، ومتوقع من المقاربة المُتمرِّدة الأصيلة -ولكن المثيرة للإحباط- التي تُميِّز المؤلِّف. كذلك يتصف كتاب «فلسفة الطبيعة» بطموح لامُتناهي: في فصول ستةٍ نجد استعراضًا للكيفية التي استوعب بها الناس العالم، بدايةً بالعصر الحجري ونهايةً بميكانيكا الكم. والفصل السادس، بحدِّ ذاته، يتناول كلَّ شيء منذ أرسطو إلى نيلز بور!
والفرضية الأساسية للكتاب هي أن البشرية مرت بثلاثة «أنماط حياة» أو ثلاثة أنواع من الأُطُر التي وُضِعت لفهم العالم: الأسطورة، والفلسفة، والعلم. لهذا يبدأ الكتاب بمناقشة الفن في العصر الحجري وعلم الفلك المُتجسِّد في الستونهنج (الفصل الأول)، ويُخصِّص الفصلين الثاني والثالث لبنية الأسطورة والمُساهمة الجليلة لهوميروس. وفي الفصلين الرابع والخامس نصل إلى الفلسفة، مع رفض التفسير الأسطوري للواقع والاتجاه نحو المنطقية المُجرَّدة، خصوصًا عند بارمنيدس، أحد الأشرار المُفضَّلين عند فييرابند كما سأشرح بعد قليل. وأخيرًا، الفصل السادس ينتقل بخفِّة من أرسطو إلى ديكارت، ومن غاليلو وبيكون إلى هيغل، ومن نيوتن ولايبنتز إلى آينشتاين وبور.
يرفض فييرابند السردية السائدة بأنَّ التنقلات أعلاه تُمثِّلُ التقدُّم؛ فيرى أن الحركة البارمنيدية نحو الفكر النظري والتجريدي -ما وضع أساسات ما ندعوه اليوم العلم- جاءت على حساب بداية سيرورة تغريب البشر عن محيطهم. وهذا التغريب قاد إلى انفصالٍ مُتزايد عن مُحيطنا، حفَّز في نهاية المطاف -ولكن بشكل حتميٍّ عند فييرابند- تدمير البيئة، الذي صار خطرًا وجوديًّا يتهدَّد نوعنا البشري وأكثر نظام الأرض البيئي.
ويمكننا أن نحصل على فكرةٍ جيدةٍ عن مُقاربة فييرابند من خلال تلخيصه هو لما كان يصبو إليه (ولكن لم يتحقق) في مشروعه لفلسفة الطبيعة: «هذه هي خطتي للجزئين التاليين: سيكون الجزء الثاني مُخصصًا لأفلاطون وأرسطو وللعصر الوسيط حتى عصر النهضة … وأرسطو يبقى الفيلسوف الوحيد الذي حاول أن يُوفِّق مُتطلبات الفكر مع الحدس، على نحوٍ يبني مسكنًا يمكن للبشر فيه أن يشعروا أنهم في منزلهم وفي بيئة مألوفةٍ مرةً أخرى… الجزء الثالث [سوف] يُغطِّي الفترة التي تقود إلى الوقت الحالي [حوالي ١٩٧٠]… الجزء الأكبر من المشروع العلمي التقليدي يتحوَّل تدريجيًّا إلى عملٍ تجاريٍّ يدفع به قُدُمًا أرواح مُستعبدة غير سعيدة وخائفة، ومع ذلك مغرورة… [لكن قريبًا سنرى] علمًا فلسفيًّا أسطوريًّا جديدًا، نرى معالمه غير الواضحة في الأفق. وإحدى أهداف هذا الكتاب هي توضيح الشروط التاريخية المُسبقة -الاكتشافات والأخطاء- لهذا العلم، ومن ثمَّ تسريع ولادته».
لوضع هذا الكلام في السياق، كان فييرابند مقتنعًا بأنَّ العلم، خصوصًا ميكانيكا الكم، كان يُعيد اكتشاف أهمية الذاتيِّ، وأنه على وشك الترحيب بوجود الظواهر الماوراء طبيعية والقوى الخفيَّة للعقل البشري. وليس من الواضح أيُّ علمٍ جديدٍ كان في تصوُّره، ولكن من الآمن القول إنه لا يُشبه ما حدث فعلًا في العقود الأربعة التي مرَّت. وإن كان ثمة من شيءٍ، فإن العلم صار أكثر «بارمنيدية»؛ أي أكثر تجريدًا. انظر على سبيل المثال إلى الجدالات التي تجري في الفيزياء الأساسية عن الأوتار الفائقة والأكوان المُتعددة، وهي تصوُّرات نظريَّةٌ تمامًا، وبعيدة كل البعد عن أيِّ إثباتٍ تجريبي مُرتقب، إلى الحدِّ الذي جعل بعض العلماء والفلاسفة يتحدثون عن «علمٍ ما بعد تجريبي». وهذا شيء كان ليُصيب أرسطو بالذُعر.
علاوة على هذا، يقول فييرابند في نهاية كتاب «الفلسفة الطبيعية» إنَّ: «انتصار الديكارتية نحى جانبًا ليس فقط بعض النظريات بل أيضًا عددًا كبيرًا من الحقائق الجليَّة. وهذا يتضمَّن كلَّ الحقائق التي تدعم وجودًا مُستقلًّا للروح، الذي لا يمكن شرحه بعبارات ميكانيكية، أو وجود القدرات العقلية بمُستقلٍّ عن المادة». لا يا بول، لا توجد أسباب تجريبية قوية للاعتقاد بوجود الروح، ولا بوجود القوى العقلية بمستقل عن المادة. وهذه الاستنتاجات قوية جزئيًّا بسبب النجاحات المُذهلة التي للعلوم المادية في تفسير كيف يعمل العالم.
رغمًا عن انتقاداتي، «فلسفة الطبيعة» مُستحقٌّ للقراءة لتقدير كيف كانت فلسفة العلم. وبمعنى من المعاني، كان فييرابند الممارس الكبير الأخير في العصر الذهبي لفلسفة العلم. فخلال نصف قرن، كانت فلسفة العلم تعمل على تقديمِ نظريات في كيفية عمل العلم، من الوضعيين المنطقيين وبوبر وكون، انتهاءً بفييرابند نفسه. وبعد هذه الحقبة العظيمة صارت فلسفة العلم عملًا تخصُّصيًّا أكثر، حيث يركِّز ممارسوه على جوانب مُعيَّنة من حقول العلم، من البيولوجيا التطوريَّة إلى ميكانيكا الكم. وهذا قد يكون نتيجةً حتميةً من حقيقة أن المرء لا يمكنه أن يصل إلى نظريات مُوحِّدة للعلم تنطبق على جميع الفروع العلمية، أو قد تكون فترةً انتقاليةً تسبق موجةً جديدةً من المفكرين الكبار. وهذا متروك للزمن. ولكن كيفما كانت الأمور، أشكُّ جدًّا أن الأمور ستكون على النحو الذي تخيَّله فييرابند في كتابه «فلسفة الطبيعة». وحتى لو كان الأمر هكذا، التقدُّم الفكري يحدث بفهم كيف أخطأ كبار المُفكِّرين؛ وفييرابند، بلا شك، كان أحد كبار مُفكري القرن العشرين.
المصدر: الفلسفة الآن (Philosophy of Nature by Paul Feyerabend – Massimo Pigliucci)
(ضمن اتفاقية خاصة بمنصة معنى)