
«إنّ العالِم الجمّاعة، ذاك الذي لا يعمل في الواقع إلا على زحزحة الكتب عن مواضعها، ينتهي بأن يفقد بصفة جذرية، القدرةَ على التّفكير بنفسه. إذا توقّف عن زحزحة الكتب، فإنّه يتوقّف عن التّفكير. إنّه لا يعمل إلاّ على الاستجابة إلى منبّهات، والردّ على الفكرة التي اطّلع عليها، فينتهي بالاكتفاء بردود الفعل. فهو يضيّع كل جهوده في الإثبات والنفي، وفي انتقاد ما فكّر فيه غيره. أما هو فلا يفكّر على الإطلاق … رأيت بأمّ عينيّ طِباعًا بشرية غنيّة تتمتع بمواهب خُلقت من أجل أن تكون حرّة، رأيتها وقد تحطّمت بمجرّد أن بلغت الثلاثين من عمرها، فأصبحتْ تقتصر على دوْر أعواد الثّقاب التي ينبغي حكّها لكي تنبعث منها شرارات و”أفكار» – نيتشه ، هو ذا الإنسان
ماذا يقرأ الفلاسفة؟ قد يبدو الجواب عن هذا السؤال من قبيل البداهات، اعتبارا أنّ من المفروض أن قراءات الفلاسفة لا بدّ وأن تنصبّ على ما خلّفه من تقدّموا عليهم من تراث فلسفي. إلاّ أن واقع الأمر يبدو مخالفا لذلك. فالظّاهر أنّنا، إذا ما استثنينا الفلاسفة-الأساتذة الذين تفرض عليهم «حِرفتهم» ألا يميّزوا بين الفلسفة وتاريخها شأن هيجل، أو الذين اقترن عندهم التّكوين الفلسفيّ بالحوار مع تاريخ الفلسفة، و«تهجّي» نصوصه الكلاسيكية كما هو الشأن في فرنسا عند خريجي المدرسة العليا لزنقة أولْم، مثل جاك دريدا، إذا استثنينا هؤلاء، فإنّنا لا نعثر عند معظم الفلاسفة على قرّائين ملتهمين لكلاسيكياتهم. وهكذا فربّما سنندهش عندما نعلم أن سارتر، على سبيل المثال، لم يكن، عند كتابته لـ«الوجود والعدم»، قد قرأ لفرويد أو لنيتشه إلا كتابين لكلّ واحد منهما، على حدّ اعتراف رفيقة دربه سيمون دو بوفوار. ذلك أيضا شأن ديكارت الذي كان يفضّل «قراءة كتاب الطبيعة»، ولم يكن قارئًا كبيرًا للكتب، بل إنه لم يكن حتّى من عشّاق امتلاكها نظرًا لتنقلاته الكثيرة التي كانت تفرض عليه ألا تتعدّى إقامته في المكان نفسه أكثر من نصف السَّنة. وعلى رغم ذلك، فإن كان يزدري كتابات الفيلسوف هوبز، فإنه كان متابعًا لمستجدات العلوم، فكان يطّلع على كل ما يكتبه العالم الرياضي فيرما، والعالم الفيلسوف غاساندي.
عدم إعطاء الأولويّة للمعلّمين الكبار، هذا ما نلحظه كذلك عند مونتيتي قبله، الذي كان يُوثر على المعلّم الأول صديقه تيوفراست الذي خلَفه في رئاسة اللوقيون. ورغم أن مونتيني كان يحبّ المحاورة عند أفلاطون، إلا أنّه كان يفضّل الرّواقي سنيكا. وبصفة أعمّ، فإنه كان، كما يقول عن نفسه: «أفضّل المفكرين الذين يوائمون مزاجي لكون العلم الذي أبحث عنه عندهم مدروسًا وفق قِطع مجزّأة مفصولة لا تتطلّب عملا متواصلًا أنا عاجز عن القيام به». صحيح أن مونتيني قرأ أفلوطين وديوجين اللايرسي وشيشرون وإبيكتاتوس والقديس أوغسطين وتوما الإكويني، مثلما قرأ معاصرَه إيراسموس، إلا أنه توجّه أساسًا نحو المؤرخين كبلوتارخوس ويوليوس قيصر، كما وجّه اهتمامه نحو المفكّر السياسي ماكيافيلي، والرياضي شارل دوبوفيل، ورجل القانون جان بودان. وكان يوثر على كل هؤلاء الفيلسوف لوكريس.
هذا الإغفال للمعلّمين الكبار، وهذا التنوّع في القراءات قد يثير دهشتنا اليوم، إلاّ أنّ الأمر، على ما يظهر، كان شيئا معمولًا به في هذا العهد. لذا فمن غير المفاجئ أن نعثر عند فيلسوف مثل سبينوزا على كتب العلوم أكثر بكثير مما نلفي عنده من كتب الفلسفة. بل إن ممّا يثير الدّهشة أن صاحب كتاب «الإيتيقا»، الذي كان يتقن كثيرًا من اللغات بما فيها الإسبانية، كان يولي أهمية لمؤلّف دون كيخوطي أكثر مما يوليها لأفلاطون. بل إن من المؤرخين من يرى أن سبينوزا لم يكن قد طالع كثيرا أفلاطون، أما أرسطو فكانت معرفته به أفضل حالًا. غير أن قراءاته الفلسفية «الكلاسيكية» انصبّت أساسًا على الفلاسفة الرواقيين، ويظهر أنه كان يملك أجزاء كثيرة من مؤلفات سنيكا وإبيكتاتوس. وقد تميّز سبينوزا عن ديكارت بقراءاته السياسية، فكان يعرف كتاب الأمير لماكيافيلي، واللفياثان لهوبز.
هذه القراءة الموسوعية، وهذا الجمع بين عدّة معارف نعثر عليهما حتى عند فيلسوف أقرب إلينا مثل نيتشه. فبالرغم مما يبديه من ازدراء لقراءة الكتب في مؤلفه «هو ذا الإنسان»، إلا أنّ نيتشه كان قارئَ كتب كبيرًا حتى وإن لم تكن قراءاته منصبة على كتب الفلسفة الكلاسيكية. وقد تغيّرت تلك القراءات تبعًا لتحوّل اهتماماته. ففي طفولته كان أكثر ميلًا إلى الشّعر والموسيقى والكتاب المقدّس، باعتباره كان ابن أحد القساوسة. وعند بداية دراساته العليا، أصبح اهتمامه منصبّا على كلاسيكيات الأدب الإغريقي-اللاتيني. لكن، ابتداء من سنة 1870 سيوجّه اهتمامه نحو الدّراسات العلمية، خصوصًا الأجزاء الأربعة والعشرين من مجموعة «المكتبة العلمية الدولية»، التي مكّنته من أن يتابع الجدالات التي كانت تدور في وقته بين الفاعلين في مجال العلوم. أما في مجال الفلسفة، فان اهتمامه انصبّ أساسًا، ليس على الكلاسيكيات المعروفة، وإنما على بعض فلاسفة الأخلاق الفرنسيين أمثال لاروشفوكولد، ونيكولا شامفور، وعالم الاجتماع ه. سبنسر.
قد نجد تفسيرًا لذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة التّفلسف كما يمارسه صاحب «هكذا تكلم زارادوشترا»، وكذا علاقته بالكتب كما يوضّحها في كتابه «هو ذا الإنسان» حيث يقول: «كل قراءة هي عندي استراحة: إنها تنتزعني من نفسي وتأخذني في جولة عبر علوم أخرى، ونفوس أخرى، في ما لا أعود آخذه مأخذ الجِدّ. إنها بالضّبط تُريحني من جِدّيتي. عند اللحظات التي أعمل فيها كثيرًا، لا ترى كتبًا في بيتي: لأنّني أحرص فيها أشدّ الحرص ألاّ أترك لغيري أن يتكلّم أو يفكّر عوضا عني .. وتلك هي الحال التي تحصل لي عندما أقرأ الكتب … في فترة الخصوبة العقلية، أوّل ما ينبغي القيام به هو الانغلاق وإقامة الجدران. فهل أسمح لأفكار أجنبية أن تقتحم حصني؟ هذا ما سيحصل لو أنّني خضت في القراءة».
لن يسمح فيما بعد وضْع الفيلسوف-الأستاذ بهذا «الانغلاق» بطبيعة الحال. لذا فلا عجب أن يغرق «فلاسفة الجامعات» في العصر الحديث في قراءة النّصوص وتأويلها، وأن تغدو الفلسفة تأويلًا لتاريخ الفلسفة. غير أن انتقاء النّصوص والارتباط بها اختلف من فيلسوف لآخر. فمن هؤلاء من هو أستاذ أكثر منه فيلسوفًا شأن ياسبرس وريكور، ومنهم من هو عكس ذلك. ولعل من يمثّل هذا الصّنف الثاني خير تمثيل هو بالضبط أحد «تلامذة» نيتشه، وأعني جيل دولوز الذي قال: «كنت أفضّل الكتّاب الذين كان يبدو أنهم ينتمون إلى تاريخ الفلسفة لكنهم كانوا ينفلتون من أحد جوانبه، ومن ثمّة يخرجون منه كلية أمثال لوكريس وسبينوزا وهيوم ونيتشه وبرغسون». وحتى عندما كان صاحب «نيتشه والفلسفة» «يشتغل» على الفيلسوف، فليس من أجل تحصيل معارف وتكديس معلومات، ليس «من أجل توفير فكر احتياطي»، فكما يقول: «ليس لديّ فكر احتياطي. ما أعرفه، أعرفه بدلالة الحاجة التي يتطلّبها عمل أُنجزه حالًا. وإذا ما عدت إلى الأمر سنوات فيما بعد، سيكون عليّ أن أعاود التّحصيل من جديد». إنّها إذًا قراءات في خضم إنتاج، قراءات من أجل خروج وانفصال، قراءات ليس من أجل شحن الذاكرة، وإنما من أجل النسيان.