في المشهد الافتتاحي من فيلم «آماديوس» للمخرج ميلوش فورمان يظهر الموسيقار الإيطالي أنطونيو سالييري جالسًا أمام البيانو في إحدى المصحات العقلية، بينما يسأله القسيس عما ادعاه من أنه قد دس السم لموتسارت، يتنهد سالييري العجوز ويقول للقِس: «اسمع». ويلعب قطعة موسيقية على البيانو، ثم يسأله سالييري: «لمن تكون هذه؟» لم يعرف القِس. ثم يلعب له سالييري على البيانو قطعة أخرى، هي جملة موسيقية واحدة، وإذ بالقس يدندن معها ويكملها. كانت الجملة الأولى التي عزفها سالييري من أعماله هو، والجملة القصيرة الثانية كانت من موسيقى موتسارت، التي يسهل على الجميع تمييزها (ربما في إشارة من صناع الفيلم إلى ما يمكن أن يُسمى بكونية أو عالمية موسيقى موتسارت، والسبب، بحسب الفيلم، من وراء جنون سالييري ومكوثه آخر أيامه في مصحة للأمراض العقلية). وفي خاتمة الفيلم، ما كان لسالييري، بعد أن أتم سر الاعتراف، إلا أن يَرثيَ حاله بأنه القديس شفيع العاديين (patron saint of mediocrities). يُجسد سالييري، في الفيلم طبعًا، معنى أن يكون المرء عاديًّا في مواجهة أسطورة حقيقية بالمقاييس كافةً، وهو ما يُشكل الحبكة الدرامية في فيلم «آماديوس». يُركز هذا المقال على تعميق هذه الفكرة الأخيرة، وليس الفيلم نفسه (فقد تناوله الكثيرون من قبل بالتحليل والنقد).
كان الطفل المُعجز فولفجانج موتسارت، الذي يجوب أنحاء أوروبا ويعزف في أروقة وقاعات الملوك وصالات الأمراء، ويلقى استحسانهم ومودتهم وهو طفل لم يبلغ سن الخامسة بعد، وينال اللقب آماديوس، الذي يعني حرفيًّا «حب الله» أو «الذي أحبه الله»، كان هذا الطفل مثارًا للدهشة والتساؤل من الكثيرين، ما حدا ببعضهم إلى الظن بأنَّ أمرَ الطفل ينطوي على حيلة أو خدعة ابتدعها والده، ليوبولد موتسارت، ومن ثمَّ راح بعضهم إلى سالزبورغ بحثًا عن سجلات معموديته، والتأكد أنه لم يكن تجاوز طور الطفولة فعلًا. يُذكر أيضًا عن الطفل أنه كان موضوعًا للبحث والملاحظة العلمية من بعض علماء عصره، حتى أن ورقة علمية رُفعت إلى الجمعية الملكية البريطانية تفيد بأن للطفل «مواهب خارقة للطبيعة»[1].
لم تقتصر موهبة موتسارت الطفل، بين سن الرابعة والخامسة، على إتقان آلات الفيولينة والهاربسيكورد والكلافسان (البيانو القديم)، وعزف مؤلفات كبار الموسيقيين آنذاك عليها فحسب (أمثال هِندل وباخ الكبير وأبنائه، لا سيّما يوهان كريستيان باخ، وغير هؤلاء)؛ وإنما امتدت هذه الموهبة أيضًا لتشمل التأليف، كما لو كان قد تعلم التأليف الموسيقيّ قبل تعلم القراءة والكتابة؛ ففي عمر الرابعة ألّف الطفل أوّل مقطوعة معروفة، وفي السابعة سيمفونية، ولم يكن تجاوز الثانية عشرة حتى وضع أوبراتين (إحداهما أوبرا باستيان وباستيين، الذي استلهم بيتهوفن موضوع افتتاحيتها بعد ذلك بصورة غير مباشرة في سيمفونيته الثالثة، وهو في الأصل موضوع أغنية شعبية فرنسية). وغالبًا موتسارت الوحيد في تاريخ الموسيقى الذي نجد له مؤلفات تحت عنوان مؤلفات مرحلة الطفولة، أو على الأقل هو الوحيد الذي نعثر له على هذا الكم من الأعمال في تلك المرحلة العمرية المبكرة، في حين أن أغلب الموسيقيين الذين بدأوا مشوارهم التأليفي في هذه المرحلة من الطفولة – وهم قلة على أي حال (كبيتهوفن مثلًا، الذي بدأ بالتأليف في أواخر سن الطفولة) نجد أنهم قد تأخروا (نسبيًّا) مقارنة بموتسارت.
الطفل الأبديّ:
«إن كلَّ عبقري ما هو إلا طفل كبير.. ذلك أنه يرى العالم بوصفه شيئًا غريبًا، دخيلًا، بوصفه دراما، ولهذا يراه بنظرة موضوعية خالصة»[2] أ. شوبنهاور.
كان بالطبع من شأن هذا التفوق في تلك السن المبكرة جدًّا، وهذه القدرة الإعجازية الغريبة المستفزة، أن تثير الغيرة والحسد في أبشع صورهما في نفوس العاديين، الموسيقيين من ذوي القدرات البسيطة العادية، حتى كان بعضهم يصفه بأنه أشبه بـ«قرد مُدرَّب»، أو أنه أقرب إلى «دُمية موسيقية آلية»؛ هكذا، قد تتحول النعمة إلى نقمة، ويتحول العبقريّ الفذّ إلى مسخ؛ ذلك أن وجوده ببساطة يُناقض كل ما هو عادي وشائع، فهو يبدو كما لو أنه غريب عن العالم، أو كما يقول المتنبي: «إن النفيسَ غريبٌ حيثما كانا». وكل ما هو غريب، مهما كان نفيسًا ساميًا، هو مدعاة للسخرية والحطّة مثلما يكون محلًّا للتعظيم والتوقير من بين معاصريه؛ هو مثير للتناقض لأن وجوده ذاته يبدو مُتناقضًا. فهو تجسيد للا-إنساني في صورة إنسان (أو في صورة طفل، كحال موتسارت في نظر معاصريه). وإن بدا بعبقريته وتفوقه كأنما يُشير إلى شيء ليس من هذه الأرض؛ إلا أنه يعيش فوقها كغيره من سائر البشر. إن المقابلة السينمائية بين سالييري وموتسارت، وإن جاءت لتخدم أغراضًا دراميةً، لَهي صدى لمقابلة أكثر عمومية بين الإله والإنسان. وإذا كان الفيلم، الذي يُجسد دراميًّا بالطبع، كيف تعامل سالييري مع «عاديته»، وكيف نظر إلى ذاته مقارنًا إياها بأسطورة موسيقية بالمعنى الكامل معاصرة له كموتسارت، فهو على أي حال لا يعرض وقائع تاريخية (ولو أن من الثابت تاريخيًّا أن سالييري كان يُعاني فعلًا من أزمات نفسية واضطرابات عقلية في أواخر حياته)[3].
وعلى الرغم مما نُسج حول حياة فولفجانج موتسارت وموته المفاجئ من أساطير، مثل أنه اغتيل، أو أن أحدهم (أو سالييري) قد دس السم له، تلك الحكايات التي ربما أسهم هو نفسه في ترويجها (ذلك أن موتسارت في أواخر أيامه كان يغمغم لزوجته كونستانزا بأنه قد سُمَّم)، كذلك الكثير من النوادر منذ طفولته وفي أثناء حياته من قبيل قدرته الخارقة للمألوف على الارتجال والتذكر، وقراءة المدونة الموسيقية وحفظها بلمحة واحدة من البصر، ثم نسخها دون أن تفقد بذلك علامة واحدة![4] (لاحظ مارتن هايدجر مثلًا في «مبدأ العلة» أن موتسارت كان لا يسمع الموسيقى تِباعًا أو بشكل خطيّ linear، بل تزامنًا، كأنه في الواقع «يراها» ماثلة أمام ذهنه دفعة واحدة؛ وقد بنى هايدجر تحليله هذا بناءً على رسالة تبين بعد ذلك في الواقع نسبتها خطأ إلى موتسارت، رغم أن هذا لا يؤثر في مضمون الفكرة الهايدجرية في شيء)[5]؛ إلا أن هذه الرواية في مجملها مثار جدل؛ فما حاجة مؤلف ذي «قدرات خارقة للطبيعة»، على سبيل المثال، إلى الكتابة وعمل مُسَوَّدات لأعماله التي لا تزال محفوظة حتى الآن، حتى وإذا ثبت أن معظمها خلت من الشطب والتصحيحات. ورغم ذلك كله؛ إلا أن آماديوس موتسارت من النماذج الإنسانية التي تجعلنا نتساءل بحق عن حدود قدرة الإنسان. هل يكون ثمة فاصل، أو مشروعية للتمييز بين العادي والخارق؟ وكيف تتأتى هذه القدرة، هل تصدر- ولو جزئيًّا – عن التنشئة والتربية الحازمين (الدور الذي اضطلع به على أكمل وجه ليوبولد، والد فولفجانج، وهو ما سنحاول أن نبينه في الفقرات التالية من هذا المقال من خلال تحليل علاقة البنوة والأبوة).
المحبوب من أبيه:
من الثابت أن موتسارت قد حظي – بخلاف كثير من الموسيقيين – ببيئة وتنشئة موسيقية مثالية منذ ميلاده. بطل هذه القصة هو أبوه ليوبولد موتسارت، صاحب أعمق تأثير في حياة موتسارت الابن مثلما سوف نرى، ولا يمكن فَهم النضوج الموسيقيّ المبكر لموتسارت إذا نحينا جانبًا التنشئة الحازمة والدور التربوي الذي لعبه الوالد (الذي كان يرضعه موسيقى إذا جاز التعبير)، وقد كان ليوبولد بدوره عازفًا للأرغن والكمان، وله عمل رائد في التأليف الموسيقيّ يعد مرجعًا مهمًّا للمتخصصين حتى اليوم[6]. لم يذهب موتسارت إلى مدرسة، ولم يتخذ لنفسه أستاذًا، سواء في الموسيقى أم أي مجال آخر سوى ليوبولد؛ ما جعله يشارك أباه في سنواته الأولى الاعتقاد بالقيم والمبادئ ذاتها، كما لو كان مُتماهيًا معه. أخذ الابن عن أبيه عقلانيته وحبه للنظام، والاهتمام بالتفاصيل، وانعكس ذلك كله على موسيقى موتسارت، في وضوحها ودقتها ومدى اقتصادها، إذ يُضرب بها المثال من هذه الناحية.
تبدو أسرة موتسارت لأول وهلة كأنها تمثل مُجتمعًا طوباويًّا ضيقًا، حيث الأب العقلاني، المؤمن بمُثُل التنوير وقيمه، يمثل قمة المثلث، يعمل لخير الأسرة وصالحها ومن أجل منفعتها العامة، هو الحارس والمُحافظ على ميثاق الأسرة ورابطتها، وهو الحكم الفصل، وإليه يرجع القول الأول والأخير. ما حدث هو أن تحول ذلك الاجتماع المثالي الضيق إلى محل ممارسة سلطة أبوية غير مُبررة (ربما كان في ذلك مثالٌ مُصغرٌ على إمكانية التحول بسهولة من مجتمع طوباوي إلى نظام بطرياركي غير عادل)، من هنا نشأت مأساة موتسارت العائلية. في هذا الاجتماع الضيق الذي يتألف من أربعة أفراد، كان من يتخلف عن أداء إحدى مهامه وواجباته تجاه الأسرة مُهددًا بالنفي خارجها، لا سيّما الابن؛ نظرًا لأنه صار علامة آل موتسارت المميزة، وما يمثلها أمام المجتمع الأرستقراطي والبرجوازية الناشئة؛ وبالتالي ثمة مسؤولية هائلة تقع على عاتق الابن، سيعمل ليوبولد بعد ذلك على تضخيمها بطرق شتى. وإجمالًا كان ليوبولد يرى في ابنه مثالًا ونموذجًا من نماذج عصر الأنوار، تجلّت فيه قيم التنوير ومُثُله، كما لو أنه اختراع، هو وحده من يحوز براءته. وقد كان بإمكان ليوبولد أن يُقلب الأخت والأم على الابن وقتما شاء وفي حال عصى أحد أوامره أو خالف واحدة من التزاماته العائلية؛ لكن كانت الأم تمنعها عاطفتها في كثير من الأحيان من أن تقسى على الابن، فكان موقفها من ليوبولد شبيهًا بموقف المعارض الكتوم من سياسات النظام.
يتخذ الأب من الحرص على مصالح الأسرة الاقتصادية ومكانتها الاجتماعية ذريعةً لإرغام فولفجانج على البقاء تحت طوعه، داخل دائرة الأسرة؛ الأمر الذي يمكن أن ننظر إليه بشيء من الريبة؛ إذ استطاع ليوبولد على مدى سنوات طوال جمْعَ ثروات غير طائلة من خلال رحلات موتسارت الصغير أو ما يُسمى برحلات الطفولة، في جميع عواصم أوروبا تقريبًا، فضلًا عن الهدايا الثمينة (والتي يُذكر أن ليوبولد كان يُدوِّن أثمانها في دفتره الخاص) التي أصبحت تتدفق تدفقًا غير منقطع على منزل آل موتسارت في هذه السنوات، والتي امتدت منذ سن السادسة وحتى البلوغ، أي حتى أوّل علامات تمرد الابن.
إن الحجج التي يقدمها ليوبولد لابنه، كما تظهر في رسائلهم المتبادلة، من أجل أن يبقيه ضمن حيز الأسرة تبدو سطحية وغير مقنعة في ضوء تلك الملاحظة الأخيرة. كما لاحظ كثير من المعلقين أنه من غير المحتمل أن يكون ليوبولد قد بدد هذه الثروات كلها في بضع سنوات فقط، علاوةً على أن كل ما قيل عن الرجل يشهد له بالإخلاص والتعقل والأمانة والإدارة الحكيمة لشؤون منزله؛ فمن الصعب تصور أن ليوبولد قد أنفق هذه الأموال في نزوة أو راهن عليها في لعبة ما. يبدو أن فولفجانج نفسه سيُثير هذه التساؤلات فيما بعد.
إذن، فما السبب الحقيقي الذي يحاول ليوبولد أن يخفيَه عن طريق الإتيان بأسباب أخرى واهية، غير مقنعة؟ تجدر ملاحظة، بعد إثارة السؤال الأخير، أنه ليس ضروريًّا أن يعلم الأب ذلك السبب المزعوم، فقد يكون سببًا لاشعوريًّا مثلًا، يعلن عن ذاته – بدرجة ما – من خلال ما يمكن الاستدلال عليه من تذرعه بأسباب واهية، كحيلة أو أداة دفاعية نفسية، مثلما كان ليقول النفساني. ويبدو، استكمالًا لنظرة النفساني أيضًا، أن رغبة ليوبولد الحثيثة في إبقاء الابن تحت طوعه تمثل بشكل أساسٍ ما هو أكبر من ذلك، فهي تُمثل، في واقع الأمر، حفاظًا على هُوية الأب، وسلامته العقلية والنفسية وكمال شخصيته الذي أصبح مهددًا برحيل ابنه عنه، أكثر من أنه حفاظًا على مصدر دخل، أو أيًّا كان ما يحتجُّ به الوالد كحيلة نفسية دفاعية، وهي حيلة نجحت في بعض الأحيان في إسكات فولفجانج.
شعر الأب أنه برحيل موتسارت سيفقد جزءًا أصيلًا منه؛ إذ يبدو أن ليوبولد لم يكتفِ بتحقيق أبويته من خلال بنوة فولفجانج فحسب؛ بل يبدو أن الابن كان يُمثل بالنسبة له ما هو أعمق من ذلك، هو مشروع ليوبولد الذي أفنى حياته فيه، كما يتبدى ذلك من خلال حديثه عن الابن في كثير من المواضع، وانفصال فولفجانج عنه لا يعني بالنسبة إليه انفصالًا عاديًّا، كأي انفصال نتيجة خلاف متوقع بين أب وابنه؛ بل يعني انفصام في كينونة ليوبولد ذاته، وما يستتبعه ذلك من آثار تهدد بقاءه وجوديًّا.
لطالما قاوم ليوبولد محاولات موتسارت الشاب في أن يستقل ويخرج عن طوعه، ويبدو أن جميعها باءت بالفشل، ذلك أن موتسارت الشاب سرعان ما تدارك أنه وسيلة في يد الأب لإشباع حاجة نفسية محضة. وكلما كبر موتسارت تنامى بداخله الشعور بالتمرد، لا سيّما مع أولى جولاته في أوروبا برفقة والدته آنا ماريا، بدون الوالد؛ ما جعله يشعر بهامش من الاستقلالية والحرية يفتقر إليه في بلدته سالزبورغ. في هذه الجولات تحديدًا، يُظهر الأب خوفًا وقلقًا دائمين من أن يعتاد الابن عدم وجود الأب ملازمًا له، يتضح هذا أكثر في التحذيرات التي تعج بها الرسائل بين الأب والابن في هذه الفترات، حيث يستغل ليوبولد كل فرصة ممكنة ليعبر فيها عن خوفه وضرورة ابتعاد الابن عن معرفة «الغرباء والشباب والسيدات، لا سيّما الفرنسيين منهم»، وأن كل صديق يودّ التقرب من فولفجانج لا بدّ أن وراءه «دوافع خفية»، دوافع من النوع الشرير طبعًا، الذي يخافه ليوبولد على ابنه، والتيمة الأساسية المتكررة باستمرار في رسائل الأب لابنه مفادها أن «الرجال كلهم أشرار».
موتسارت الطفل ضد موتسارت الشاب:
أما التيمة الثانية، والأكثر أهميةً في هذا السياق والتي تتكرر باستمرار في هذه الرسائل، فهي استدعاء صورة فولفجانج الطفل من جانب ليوبولد كلما سنحت الفرصة بذلك. يستعين ليوبولد بصورة موتسارت الطفل ويستعملها ليدعم بها نفسه في مواجهة موتسارت الشاب. ويدفع الشاب نحو استعادة ذكريات الطفولة، وعلاقتهما في هذه الفترة، وهي الفترة التي كانت غنية جدًّا من حياة موتسارت، تحفل بالأحداث والذكريات والإنجازات، ويندر أن يحياها طفل. هكذا فإن صورة موتسارت الطفل، التي ظلت تطارد موتسارت الشاب سنوات طوال، استعملت تقريبًا من كل جانب وفي كل مناسبة مواتية من أجل تبرير إخضاع موتسارت الشاب لرغبة الأب، حتى بات موتسارت كارهًا لهذه الصورة، ويوّد تغييرها، وهو يعمل على ذلك بالرفض المستمر لاتباع الخطط التي وضعها أبوه لحياته، فهو رغمًا عن أبيه ترك العزف واتجه إلى التأليف، وكان ليوبولد رافضًا منذ البداية مسار موتسارت المهنيّ المستقل، ويرى أنه لا بد أن يركز على الأداء والعزف، أن يبقى في رعاية أحد الإقطاعيين فهذا ما سيكسبه قوت يومه ويحافظ على المكانة التي بلغتها الأسرة من الضياع.
بلغ الخلاف بين الأب والابن أوجه وقمته بعد موت الأم، آنا ماريا، خلال رحلة من رحلات موتسارت الموسيقية في باريس، حينها نشب خلاف بين الابن والوالد، كما تطلعنا رسائل هذه الفترة؛ إذ يتهم ليوبولد في هذه الرسائل ابنه بأنه أهمل والدته في الخارج مما أدى إلى وفاتها[7]. وضع موتسارت في هذه الفترة عينها صوناتا رقم 8 للبيانو في مقام لا الصغير مصنف كوشل 310 (وهي الصوناتا الوحيدة الموضوعة في السُلَّم الصغير، بجانب الصوناتا رقم 14 ضمن صوناتات موتسارت الثماني عشرة للبيانو). وهي تعد – مقارنة ببقية أعماله – من أكثر أعماله سوداوية وكآبة، على الرغم من رشاقتها وروحها الطفولية البريئة، حتى يكاد المرء ألا يجد بها أي سوداوية أو كآبة بالمعنى الشائع (استلهم بيتهوفن بعد ذلك موضوعها الأساس في الحركة الثالثة من صوناتا البيانو رقم 14 المعروفة بضوء القمر).
عندما يصرّ ليوبولد على استدعاء صورة موتسارت الطفل ليضعها أمام موتسارت الشاب فهو يضع ماضيه وما كان عليه، في مقابل ما يمكن مستقبلًا أن يكون عليه، وكان ليوبولد بالفعل يأخذ على ابنه أنه يحيا اللحظة الحاضرة فحسب ويلومه على ذلك، يأتي ذلك ضمن وصايا وتوجيهاتٍ أخلاقيةٍ يُمليها الأب على ابنه لكي يحفظَ ماضيه ويتذكر دائمًا ما بذلته الأسرة من تضحيات. الواقع أن الماضي كان ماثلًا تمامًا أمام موتسارت في كل لحظة تقريبًا؛ لكن بوصفه صورة لا بد له من تجاوزها، إذا ما أراد أن يحيا حياة الرجل الناضج المستقل والمسؤول وأن يؤسس أسرته الخاصة. كان موتسارت يصارع الماضي دائمًا، هذا الماضي الذي يفرض مطالبه عليه من ناحية بمواثيق أسرته، ومن ناحية أنماط سلوكياته التي تبلورت منذ عهد الطفولة، ولا سيّما صورة الطفل الأبدي التي لن يستطيع تغييرها أبدًا في أذهان عامة الناس أينما ذهب، والتي لا تلبث أن تُستدعَى في أذهان الناس فورًا عند ملاقاتهم لموتسارت الرجل، وهو الجدير بأن يكون قد تجاوز هذه المرحلة منذ زمان بعيد، وقد بقيت هذه الصورة خالدة تقريبًا، فحتى كونستانزا عندما شاركت في كتابة أول سيرة حياة لزوجها كتبت عنه أنه كان طفلًا طوال حياته، حتى يوم مماته.
ولهذا كله فإن موتسارت يخوض معركة في سبيل التحرر والتحقق الذاتيين؛ فعليه أولًا أن يحطم صورة الطفل الأبدي لاعب الكمان والهاربسيكورد وما تحمله هذه الصورة من دلالات، وأن يشق طريقه الخاص بذاته وحده، ولذاته؛ لذا كان عليه أن يؤسس حياته الخاصة كمؤلف وليس مجرد عازفٍ، خلافًا لرغبة الوالد، وبعيدًا عن الصورة النمطية التي أرادها له ليوبولد. وإذا كانت وفاة آنا ماريا قد ضاعفت من حدة الخلافات بين الأب وابنه، إلا أن ذلك الخلاف لم يبلغ تمامه وغايته النهائية إلا بعد زواج موتسارت من كونستانزا بدون أخذ مباركة أبيه، عندها بلغ ذلك الخلاف نقطة اللارجوع تقريبًا. ومنذ هذه اللحظة لم تعد تفيد توسلات الأب، وابتزازه العاطفيّ للابن في إجباره على الرجوع عن خططه وما ينويه. فقد باتت الصورة واضحة أمام موتسارت الشاب، وهي أنه يتعرض للاستغلال (النفسيّ) من قبل الوالد، وينبغي الانفصال عنه إذا ما أراد أن يحقق ذاته وما تنطوي عليها من إمكانات.
في الواقع، لم يخرج موتسارت عن طوع الأب في عالمه النفسي، بينما يمكن القول إنه قد حقق ذلك من الناحية العملية فحسب؛ ولكنه ظل طوال حياته حبيس هذه الصورة، إن كلَّ ما نما لدى موتسارت من شعور بالإيثار تجاه أسرته وفنائه فيها كانت أقوى من أن يمحيَها موتسارت الشاب وأن يقضيَ عليها تمامًا، فهي متأصلة فيه ومتجذرة في صميم نفسه، ويمكن القول إن هذا الشعور الإيثاري الطفولي هو ما تحرر من عقاله، وليس موتسارت نفسه؛ إذ إن ذلك الشعور الإيثاري أصبح عند موتسارت الشاب يشمل موضوعات أخرى أكثر من مجرد التحيّز للعائلة ونطاقها الضيق، وهو ما يوضح حاجته إلى الاندماج في كيانات اجتماعية أخرى أشمل، حتى وإن كانت سرية.
يحاول موتسارت الشاب تغيير هويته الطفولية الذي عُرف بها وصارت تميّزه رغمًا عن إرادته. ويمكن القول إن موتسارت قد عانى فعلًا مما يُشبه أزمة هُوية؛ فهو يستبدل عائلة ممكنة في المستقبل (تلك التي سوف يؤسسها بجانب كونستانزا) بأسرته الفعلية. وكان موتسارت أيضًا مولعًا بالألغاز، واللعب بالكلمات، فهو يُغيّر اسمه في رسائله وينوّع على حروفه الأصلية تنويعات طريفة، يُعامله كما لو أنه لحن من ألحانه: آماديه، آدم، آماديوس، آماديو، تراتسوم (مقلوب اسم موتسارت)، ثيوفيلوس (المحبوب من الرب)، وغيرها. كان الاسم قديمًا يُعد مكافئًا لصاحبه؛ لا يُشير إلا إليه، وعندما تُسمي الأنا الأشياءَ فهي تتسلط عليها، تجلبها إلى عالمها، وتصبغها بطابع خاص هو طابع الأنا؛ ولهذا يمكن أن نفترض أن مثل هذا السلوك لا ينطوي فحسب على نوع من الرغبة في تغيير الهُوية، أو محوها؛ وإنما أيضًا على تملُك الهوية الجديدة المُتخيلة، بحيث لم تعد ملكًا للغير، بل ملكٌ للذات. كذلك يمكن عدّ اللعب بالألغاز والسخرية غير المهذبة التي قد تبلغ حدّ الإهانة الفجّة، وهو ما يميز شخصية موتسارت الشاب، جزءًا من تحرير نفسه من الماضي. والتحرر من الماضي إما عن طريق تحيينه في الحاضر واستعادته فلا يصير ماضيًا بعد، وإما عن طريق استعادة صورة ماضية من أجل نبذها ومحاولة تجاوزها.
ويمكن القول، في ضوء ذلك، إن موتسارت حاول تحقيق ذلك ليس عن طريق أن يصبح موسيقيًّا عاديًّا مثل أبيه؛ بل أن يفوقه، أن يحقق ذاته كأسطورة موسيقية خالدة في التاريخ؛ وهو في سبيل ذلك يغادر سالزبورغ ويضطر إلى العيش فقيرًا في فيينا، ويتزوج من كونستانزا بدون مباركة ليوبولد، ويشق طريقه الخاص كمؤلف كما أشرنا من قبل، فجاءت كلها بوصفها محاولات الابن للتمرد على سلطة الأب. ومن يكون على استعداد للعمل، على حد تعبير كيركجارد، فإنه يلد أباه. غير أن تلك القطيعة عن الماضي وصورة الطفل، لم تؤثر في ليوبولد فحسب، وإنما في فولفجانج أيضًا؛ فتخلي أحدهما عن الآخر يعني تخليه عن جزء أصيل في تركيب الأنا، فالأب لن يغدو أبًا (بعد فقدان ما يجعله كذلك) وما يبدو أنه كان غاية وجوده (غير الشعورية)، والابن لن يغدو بعدها ابنًا، ويصبح من جانبه منفتحًا على خبرات وإمكانات عالم سوف يواجهه الآن بمفرده، أي دون الأب. ومن الصعب تقييم مدى نجاح هذه المحاولات في تلك الحالة؛ نظرا لأن تأثير ليوبولد على ابنه بات لا يمكن استرداده، ولا يمكن التخلص منه بالوسائل كافةً.
ظلت الخلافات بينهما قائمة حتى توفي ليوبولد. ويبدو أن فولفجانج لم يستطع التخلص من سلطان أبيه حتى وهو في قبره؛ فقد ظلّ الأب يمارس نفوذه على الابن، ويطارده حتى بعد الممات. وتوفي الابن (بعد ثلاث سنوات تقريبًا من موت الوالد)، وقت تأليفه القُدَّاس الجنائزيّ الشهير وعند المازورات القليلة الأولى من قمم اللاكريموزا، وهو ما زال شابًّا في مُنتصف الثلاثينيات تقريبًا، أو كما يقول لورد بايرون: «هؤلاء الذين تحبهم الآلهة يموتون صغار السن»؛ ويُدفن بعد ذلك واحد من أعظم العقول على مرّ التاريخ، في إحدى مقابر الصدقة للفقراء.
[1] Charles Burney, The Present State of Music in France and Italy (London, 1771): MDB, p.140.
[2] Arthur Schopenhauer, The World as Will and Representation, trans. E. F. J. Payne (New
York, 1966), vol. 2, p. 395. See also Peter Kivy, “The Child Mozart as an Aesthetic Symbol,” Journal of the History of Ideas 28 (1967), pp. 249-58.
[3] Deutsch, Otto Erich (1965). Mozart: A Documentary Biography. Peter Branscombe, Eric Blom, Jeremy Noble (trans.). Stanford: Stanford University Press, pp. 522, 524.
[4] من ذلك أنه استطاع وهو طفل أن يكتب مدونة آليجري الموسيقية للمزمور الخمسين “ارحمني يا الله.. Miserere mei, Deus” التي يُقال إن الكنيسة قد حرَّمت تداولها ونسخها، وذلك من أول استماع لها في الفاتيكان.
[5] Heidegger, Martin. The Principle of Reason, Lecture Nine, p.67
[6] Leopold Mozart, A Treatise on the Fundamental Principles of Violin Playing, 2d ed., trans. Editha Knocker, (Oxford: Oxford University Press, 1985).
[7] Anderson, Emily, trans. and ed. 1966. The Letters of Mozart and His Family. 2nd Completed by A. Hyatt King and Monica Carolan. London: Macmillan. ed. 2 vols, (590–91).