مقالات

عندما تصبح الأشياء امتدادات لك

مايكل سبيفي - ترجمة: كمال المصري

تُصبح الأشياء الخارجية مؤقتًا جزءًا منا باستمرار، سواء كانت تلك الأشياء أدوات أو ألعاب أو انعكاسات على المرآة. عندما تقول إن الأداة التي في يدك «أصبحت جزءًا منك»، فإن هذا ليس مجرد تعبير مجازي، كما أنه ليس مجرد وصف إحصائي لحركات جسمك وحركات الأداة، بل هو أمر واقع؛ لأن عقلك يجعله كذلك.

ومن اللافت للنظر أن الخلايا العصبية التي تستجيب بشكل خاص للأشياء التي في متناول يدك سوف تستجيب أيضًا للأشياء القريبة من الأداة الموجودة في يدك. وقد وجد الباحثان في علم النفس الإدراكي جيسيكا ويت (Jessica Witt) ودينيس بروفيت (Dennis Proffitt) أنه عندما طلبا من بعض الأشخاص استخدام أداة يدوية (تحديدًا عصا قائد الأوركسترا مقاس 15 بوصة) للوصول إلى أهداف كانت بعيدًا عن متناول اليد؛ بدت تلك الأهداف أقرب مما كانت عليه عندما أرادوا الوصول إليها بدون الأداة.

هذا المقال مقتبس من كتاب مايكل سبيفي «ماهيتك: علم الترابط»

ولكي يحققا غرض دراستهما، قاما بإضاءة بقعة ضوء على طاولة لفترة وجيزة ثم طلبوا من الأشخاص المشاركين في التجربة أن يلمسوا أو يشيروا إلى مكان بقعة الضوء. وتخللت محاولات اللمس والإشارة تلك بعض المحاولات التي كانا يطلبان فيها من هؤلاء الأشخاص تقدير مدى بُعد بقعة الضوء عن اليد (بالبوصة). وكانت النتيجة وجود قدر كبير من الاختلاف في تخمينات الأشخاص، لكن في المتوسط ​​كانت الإجابات قريبة جدًا من الدقة، إلا عندما كان هؤلاء الأشخاص يمسكون بعصا الأوركسترا، فعندما كانوا يمسكونها ويستعدون لاستخدامها كانت بقعة الضوء التي تبعد عنهم بمسافة 39 بوصة تبدو على بعد 35 بوصة فقط، وذلك يعني تقلص المسافة المُتصورة بنسبة عشرة بالمائة لمجرد أن الشخص كان يمسك بأداة في يده.

وافترض ويت وبروفيت أن السبب في هذا التأثير هو أن الدماغ قد قام بمحاكاة عقلية لحركة الوصول إلى بقعة الضوء، وبالتالي خدع نفسه ليعتقد بأن الشيء [بقعة الضوء] كان أقرب، وبالتالي يكون الوصول إليه أكثر سهولة عند حمل الأداة [العصا]. ولاختبار هذه الفكرة، أجريا تجربة أخرى حيث أظهرا عصا الأوركسترا للمشاركين وأخبروهم أن يتخيلوا مجرد تخيل استخدامها للوصول إلى بقعة الضوء. وعندما سألا الأشخاص المشاركين في التجربة عن المسافة التي تبعد بها بقعة الضوء في تصورهم، أشارت الإجابات مرة أخرى إلى تقلص واضح في تلك المسافة المقدرة. لم يكن هؤلاء المشاركون يمسكون بعصي الأوركسترا في أيديهم، ولكنهم فقط تخيلوا الوصول إلى بقعة الضوء باستخدام العصا، وتسببت تلك المحاكاة الحركية في تقليص تقديرهم للمسافة التي تبعدها بقعة الضوء عن أيديهم. وهكذا فإنه حتى لو تظاهر الدماغ فقط بأن الأداة جزء من جسده، تكون الأداة جزءًا من جسده.

وقبل عشرين عامًا، وجد الباحثان في علم الإدراك ماثيو بوتفينيك (Matthew Botvinick) وجوناثان كوهين (Jonathan Cohen) أنك قادرُ على خداع الدماغ ليعتقد أن يدًا مطاطية هي جزء من جسده؛ حيث أتيا بعدة أشخاص وجعلوا كل منهم يضع راحة يده اليمنى أسفل طاولة ثم وضعا يدًا مطاطية على سطح الطاولة مباشرةً فوق اليد الحقيقية، ثم قاما بمداعبة ونقر مفاصل وأصابع اليد المطاطية بشكل متزامن مع مداعبة ونقر اليد الحقيقية المخفية تحت الطاولة. وعندما رأى المشاركون في التجربة لمس اليد المطاطية وشعروا بلمس أيديهم الحقيقية في نفس المواضع وذات التوقيت، بدأوا يشعرون نوعًا ما كما لو كانت تلك اليد المطاطية جزءًا من أجسادهم.

كما أنه عندما طلب الباحثان من المشاركين في التجربة تحديد مواضع اليد الحقيقية المخفية تحت الطاولة في ظل هذه الظروف، غالبًا ما كانت تقديراتهم تتحول في منتصف مسافة موضع اليد المطاطية تقريبًا. وقد أثبت عالم النفس فرانك دورجين (Frank Durgin) أنه ليس من الضروري حتى أن تكون اللمسة على اليدين حقيقية، فعندما تُوضع مرآة بحيث تجعل تلك اليد المطاطية تبدو كما لو كانت بالضبط في موضع اليد الحقيقية (المخفية)، ويُبعث ضوء من مؤشر ليزر يمر على طول اليد المطاطية؛ فإن هذا الضوء كافٍ في منح الشخص إحساسًا وهميًا بالدفء في يده الحقيقية؛ بل وحتى الإحساس بلمسها.

إنّ هذه الملاحظة الثاقبة لها تطبيقات طبية؛ فحول تلك الفترة التي أجريت فيها هذه التجارب، كان طبيب الأعصاب فيلانور  راماشاندران (Vilayanur Ramachandran) يبحث تلك الظاهرة مع المرضى مبتوري الأطراف الذين يعانون من آلام الأطراف الوهمية. ويحدث ألم الطرف الوهمي عندما يشعر الشخص مبتور الطرف بألم مبرح في الطرف المبتور. وقد يبدو هذا الأمر مستحيلًا، ولكنه يكون منطقيًا عندما تفكر في كيفية ينقل الدماغ  المعلومات العصبية الخاصة بهذا الطرف، وكيف يعيد الدماغ تنظيم نفسه عند فقدان هذا الطرف.

على سبيل المثال، إذا بُتِرَت ذراع من أسفل المرفق مباشرة، فالأكيد أن مجموعات الخلايا العصبية التي كانت تقوم تستقبل المعلومات العصبية لتلك اليد لن تتلقى مدخلات حسية من المستقبلات الميكانيكية (mechanoreceptors) التي كانت في تلك اليد. ولكن بمرور الوقت، تُكوِّن بعض هذه الخلايا العصبية بالتدريج روابطًا مع الخلايا العصبية القريبة التي تستقبل المعلومات العصبية للمرفق الذي ما يزال يتلقى مدخلات حسية.

وفي بعض الأحيان، قد تؤدي تلك الروابط إلى اعتقاد الدماغ بأن اليد تحركت بطريقة ما لأعلى بحيث تكون بجوار المرفق، ودماغك يعرف جيدًا أنه إذا التوت يدك اليمنى لدرجة أن تكون قريبة من مرفقك الأيمن فسيكون ذلك الوضع مؤلمًا للغاية (لا تحاول تجربة ذلك في المنزل). ولذلك، فإنه من الطبيعي أن يولِّد الدماغ استجابة لهذا الألم. ولو أن الطرف المفقود ما زال موجودًا، فإن مجرد تحريكه بصورة معينة سيتيح للدماغ أن يعرف بسرعة أن اليد ليست ملوية بهذا الشكل في واقع الأمر. ولكن لأن الطرف مفقود، فإن الدماغ لا يملك طريقة لاستخدام استِقْبال الحِسِّ العَميق (proprioception) في معرفة ذلك، بيد أنه يستطيع معرفة ذلك من خلال المدخلات المرئية.

وقد واتت راماشاندران فكرة عبقرية تتمثل في وضع مرآة بجوار الطرف السليم في الشخص الذي بُترت أحد أطرافه. فعندما يجلس المريض في الوضع الصحيح، وتكون المرآة في الزاوية المناسبة؛ فإن انعكاس الطرف السليم يبدو للمريض تمامًا كنسخة من الطرف المفقود، وفي موضع الطرف المفقود. وهنا يقوم دماغ المريض بالمعالجة البصرية لحركات الطرف السليم كما لو كانت حركات الطرف المفقود أيضًا. وبالتالي، إذا كان المريض يشعر بألم في ذراعه الأيمن الوهمية، فإن مشاهدة انعكاس مرآوي ليده اليسرى وهو يقبض ويبسط كف يده يُمكن أن يُدرِّب دماغه على إدراك أن الذراع اليمنى (المفقودة) ليست ملوية أصلًا بطريقة تُسبب الألم. وقد ثبت أن الإجراء فعال جدًا في حالات التشنج وغيره من آلام العضلات في الطرف الوهمي.

إن الأشياء الخارجية تُصبح مؤقتًا جزءًا منا باستمرار، سواء كانت تلك الأشياء أدوات أو ألعابًا أو انعكاسات على المرآة؛ فعندما أرتدي نظارتي أكون كائنًا يتمتع بدقة إبصار 20/20، وهذا ليس لأن جسمي يتمتع بتلك الدقة – فهو لا يمكن أن يكون كذلك – بل لأن جسمي مع الأداة المعزِّزة للإبصار يمكن أن يكون كذلك، ولذلك فأنا عندما أرتدي نظارتي أكون: إنسانًا معزَّزًا بالأجهزة (hardware-enhanced human) يتمتع بدقة إبصار 20/20.

وأنت إذا ما تدربت على آلة موسيقية لآلاف الساعات، فإنك عندما تعزف الموسيقى بتلك الآلة فإنها تبدو كما لو كانت امتدادًا لجسمك؛ لأنها كذلك بالفعل. وعندما تُمسك هاتفك الذكي في يدك، فإن الحسابات الصورية التي تحدث على سطح بشرة اصبعك ليست فقط هي التي تُصبح جزءًا من هويتك، فما دُمتَ متصلًا بشبكة واي فاي Wi-Fi أو بشبكة بيانات الهاتف، فإن المعلومات المتاحة عبر الإنترنت (المعلومات الصحيحة والخاطئة، والأخبار الصادقة والأكاذيب الملفقة على حد السواء) تكون في متناول يدك حرفيًا. بل وحتى عندما لا تتصل مباشرةً بتلك الدوامة الهائلة من المعلومات، فإن توافرها الفوري يجعلها جزءًا من ماهيتك، الأكاذيب وغيرها من المعلومات على حد السواء، فكن حذرًا في التعامل معها.


مايكل سبيفي أستاذ علم الإدراك في جامعة كاليفورنيا، ومؤلف كتاب «اتصالية العقل» (The Continuity of Mind) وكتاب «ماهيتك» (Who You Are )، الذي تم اقتباس هذه المقالة منه.

المصدر (ضمن اتفاقية ترجمة خاصة بمنصة معنى)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى