
السينما -شكلًا ومضمونًا- ذات أصناف وأنواع لا نهاية لها، لكثرة الاعتبارات التي قد نقسم بها الأفلام، فقد يكون الاعتبار للقصة، أو للأسلوب، أو للمكان، وغيرها الكثير من الاعتبارات المختلفة.
ومن تلك الأنواع المختلفة وحسب اعتبار المكان، هناك نوع مميز ومختلف، ويعد تحديًا حقيقيًا لكل من المخرج والكاتب والممثل، ألا وهو «أفلام المكان الواحد». فالمحافظة على انتباه المشاهد في فيلم مصور تصويرًا كاملًا في مكان واحد لمدة تقارب ساعتين، دون إشعاره بالملل وفقد الاهتمام؛ ليست بالمهمة السهلة.
في تلك الأفلام يكون الدور الهام والرئيسي للحوار، والممثل، والكاميرا (وهذه العناصر الثلاثة ليس شرطًا أن تجدها جميعها في أفلام المكان الواحد، ففي بعضها مثلا يكاد الحوار أن يكون معدومًا! وهي غالبًا تكون «أفلام الصراع للبقاء»، مثل فيلم ١٢٧ ساعة) وكل تلك العناصر بالتأكيد تحتاج إلى مخرج قادر على أن يحسن توظيفها توظيفًا جيدًا وفعالًا.
في معظم أفلام المكان الواحد تكون السيادة للحوار، فهو السرد كله، وهو من يصعّد أو يخفف من وتيرة الفيلم، وهو البداية والتعقيد والذروة.
أما الممثل، فهو في الصورة من بداية الفيلم إلى نهايته، لا ننشغل عنه باختلافات الأمكنة، فنجده يستخدم كل مالديه، من ملامح ونظرات ولغة جسد وحركة وحتى نبرة صوت لإيصال الحالات المختلفة التي ستمر بها الشخصية، ولإيصال كل تلك الحوارات المكتوبة على أكمل وجه.
ومن خلال الكاميرا، سنطل نحن على ذلك المكان ونتعرف على معالمه وحدوده، ونراقب تلك الشخصيات، سواء من لقطات واسعة ترصد تفاعلاتهم وتحركاتهم، أو لقطات مقربة نرصد من خلالها التعبيرات المختلفة على وجوه تلك الشخصيات.
لقطة من «عشائي مع أندريه» (1981)
كرسيّان وطاولة، وشخصيتان مختلفة القناعات، هذا ما احتاجه المخرج الفرنسي لويس مال ليصنع رائعته «عشائي مع أندريه» (1981) حيث نشاهد لما يقارب ساعتين حديث عفوي بين صديقين في أحد المطاعم. لانغادر تلك الطاولة ولانشاهد أي شخصية أخرى، إلا النادل في مشهد قصير، أحد الصديقين يمكن القول بأنه شخصية روحانية والآخر يتسم بالواقعية والعملية، من خلال هذا التباين في شخصياتهم وخلفياتهم الفكرية يُخلق الحديث، وتبدأ الحوارات، وتستمر بتسلسل مدهش: المسرح، والفن، والحياة، والبشر، والعلاقات، والفكر والفلسفة؛ كل تلك الموضوعات تمتزج معًا في الحوارات المطبوعة بعفوية وحس دعابة مميزين، لتكون النتيجة واحدة من أجمل الحوارات المكتوبة في السينما. ولعل مما أعطى الفيلم عفويته وصدقه أن كتّاب الفيلم هم الممثلَين أنفسهم! بل وظهروا في الفيلم بأسمائهم الحقيقة: أندريه غريغوري ووالاس شاون.
لقطة من «النافذة الخلفية» (1954)
وفي الحديث عن أفلام المكان الواحد لابد أن يأتي ذكر هيتشكوك، ففي مسيرته السينمائية أخرج العديد من هذه الأفلام، لعل أهمها -وقد يكون أهم فيلم في مسيرته في رأي البعض- هو فيلم «النافذة الخلفية» (1954) الذي تظهر فيه عبقرية هيتشكوك الفذة؛ حيث صنع عالمًا زاخرًا بالتفاصيل والقصص في غرفة واحدة! يلعب فيه دور البطولة جيمس ستيوارت، جيف، مصوّر صحفيّ تُقعده إصابة في ساقه على كرسي متحرك في شقته لفترة من الوقت لايستطيع فيها الخروج، ومع هذه الساعات الطويلة التي يقضي معظمها لوحده يدفعه الملل والفضول إلى مراقبة جيرانه عبر نوافذهم في المبنى السكني المقابل. ويستعين بمنظاره ليشاهد مايحدث خلف تلك النوافذ عن قرب. فيرى ونرى خلف كل تلك النوافذ قصصًا وشخصيات، نشاهدها من منظور جيف؛ فالكاميرا تنقل مايراه جيف تمامًا، فتكون اللقطة بعيدة إن كان يرى بعينه المجردة، وتكون مقرّبة إن استعان بالمنظار، إذن هيتشكوك سيجعلنا -ربما بغير وعي منّا- نشاهد ونحلل ونفكر مثل جيف. يرى جيف ملامح ودلالات على حدوث جريمة قتل في شقة مقابلة! ليحدّث عشيقته وخادمته اللتين تزورانه أحيانًا عنها، ويطلب منهما مساعدته في التثبت من تلك الجريمة، ليبدأ هيتشكوك في التفنن في ملعبه ولعبته المفضلة؛ صناعة الإثارة، إلى أن ينتهي الفيلم ونجد أنفسنا أمام فيلم ثري حقًا بالقصص والتفاصيل، ذهب إلى أعماق بعيدة ليصبح قابلًا لقراءات عديدة وتحليلات مختلفة. كل ذلك من غرفة واحدة، رجل مقعد ومنظار!
كان هيتشكوك من المخرجين الذين لديهم العديد من أفلام المكان الواحد، وهناك أيضًا بولانسكي، الذي صنع ثلاثة أفلام من هذا النوع.
نتناول الفيلم الأشهر من بينها تقريبا؛ «المذبحة» (2011).
لقطة من «المذبحة» (2011)
قد يستغرب من يقرأ عنوان الفيلم، ثم يكتشف أنه فيلم درامي كوميدي يدور كاملًا في شقة واحدة، ولكنّ الكلمة تكسب معناها الخاص بتقدم الفيلم وتطور الأحداث.
القصة بسيطة تمامًا، يبدأ الفيلم بمشهد لعراك بين طفلين في حديقة مدرسة، ثم ينتقل المشهد إلى اجتماع أهل كلا الطفلين في شقة أحدهم؛ لمناقشة المشكلة التي دارت بين الطفلين وحلها.
لا يوجد ما هو ملفت على مستوى الشكل، سواء حركة كاميرا أو تقطيع مونتاجي أو غيرهما، يعتمد الفيلم تمامًا على الحوارات وأداء الشخصيات الأربع التي يقوم بأدوارها أربعة من النجوم.
يبدأ الطرفين بمناقشة المشكلة بأكثر الأساليب لطفًا وتحضرًا، ثم تأخذ الحوارات نواحٍ أخرى، وتظهر للسطح مشاكل أعمق، لتتطور حالة النقاش والتفاهم الودي إلى صراعات مفاهيم، وتوجهات فكرية، واختلافات شخصية، حتى بين الزوج وزوجته، فنشاهد طوال الفيلم الأقنعة تسقط شيئا فشيئًا، إلى أن يصبح كل شخص يظهر بطبيعته وأفكاره الحقيقية المختلفة تمامًا عن الآخر.
لعل الملفت على مستوى الإخراج كان التحكم والموازنة في التوقيت، متى يصعّد وتيرة الفيلم ومتى يخفضها، كيف يأتي تسلسل الحوارات والكشف عن شخصياته وصراعاتها طبيعيًا، كيف ومتى يفلسف الحالات على لسان شخصياته بتلقائية أناس عاديين ودون إدعاء أو تصنع زائف.
لقطة من «12 رجلًا غاضبًا»
أما أهم أفلام المكان الواحد في رأي الكثير من عشاق السينما، هو رائعة سيدني لوميت، والفيلم الخالد في تاريخ السينما «12 رجلًا غاضبًا». صُوّر هذا الفيلم أيضًا في غرفة واحدة، حيث يجتمع أعضاء هيئة المحلفين لتحديد براءة أو ذنب شاب متهم في جريمة قتل. يجمع الفيلم بين الحوارات القوية والتمثيل المتقن وحركة الكاميرا الفاعلة في رسم أجواء الفيلم، أحد عشر عضوًا يقولون بذنب هذا الشاب، ورجل واحد (هنري فوندا) يقول ببراءته، هكذا يبدأ الفيلم، لنذهب في رحلة من المحاججة ومحاولات الإقناع والانكشافات والانفعالات والغضب! ومع تقدم الفيلم ندرك أن له جوهر أعمق من التحقق من براءة شاب، جوهر يناقش مفاهيم مثل اليقين والشك والحقيقة والوهم، ومن روعة حوارات هذا العمل أنه من خلالها تُسرد لنا الجريمة قصصيًا وتصوّرها حتى نكاد نراها أمامنا مجسدة بكل تفاصيلها.
في مكان واحد، ولعبقرية سيدني لوميت في استغلال كل ما يمكن استغلاله في الإسهام في نقل تعقيدات تلك القضية، لن تستطيع حقًا أن تغفل لحظة طوال مدة الفيلم.
لقطة من «أغنية البجعة» (2019)
ومن الأعمال السعودية التي تدور أحداثها في مكان واحد، هناك الفيلم القصير «أغنية البجعة» (2019) الذي أخرجته وكتبته -مقتبسًا من مسرحية تشيخوف- المخرجة السعودية هناء العمير، وقام ببطولته أسامة القس. لعل الحقيقة المدهشة أن الفيلم عبارة عن لقطة واحدة طويلة (17 دقيقة) لم يطالها مقص المونتاج، ولقطة ترتكز على شخصية واحدة فقط، الممثل المسرحي الذي يناجي أحلامه ويستعرض ذكرياته بالطريقة التي يحب، بالطريقة المسرحيّة، وليس من الغريب أن يكون عملًا يميل للمسرح؛ إذْ إنّ بطل الفيلم ممثلٌ مسرحي؛ بل هذه هويته التي يقدمها الفيلم؛ فنحن لا نعرف اسمه إلى نهاية الفيلم، والمكان الواحد في الصورة هو خشبة المسرح. ورغم ذلك، فإنّ الكاميرا تؤكد هنا على سينمائية العمل؛ إذ لا نشاهد خشبة المسرح من بعيد (بمنظور الجمهور الحاضر)، ولكن نشاهدها من خلال الكاميرا التي تتحرك بحرية بالقرب من الممثل وتلتفت معه إلى التفاصيل الصغيرة على تلك الخشبة؛ ليخرج لنا عملٌ مميز مزج بين طاقة السينما وسحر المسرح.
هذه أمثلة لأفلام مهمة ولافتة من هذا النوع المميز في السينما، وغيرها الكثير والكثير من الأفلام، أفلام على الرغم أنها في مكان واحد إلا أنها تحلق بنا إلى عوالم شديدة الاتساع، وتستفزنا للتفكير وللتأمل.