كان أبي يأخذني إلى الدور الرابع من بيتنا القديم.
وهناك تنتصف لحظة لها جناحان!
فعلى يساري تتوهج غابة النخل ريشًا أخضر.
وعلى اليمين تنبسط زرقة الخليج، لازوردية تتماوج في عيني الطفلة، بتشكيلات مثيرة من أجنحة النوارس البيضاء، وشباك الصيادين، وحوريات البحر.
استكمالًا لبناء الصورة الأسطورية في مخيلتي عن عالم البحر، بلآلئه وأسماكه وجنياته، بسفنه وصياديه وغواصيه، طفقت أرسم السؤال ملحاحًا في صدر أبي .. عن البحرين .. فيشير بيده الساطعة .. إنها هناك.
ويضيف وهو يحملني على كتفه:
بإمكانك أن تراها، بمجرد أن تتبع خط سير السفن الشراعية، المحملة بالتمر والموز واللوز والليمون، وهي تمخر عباب البحر إلى المنامة.
سألت أبي ذات مرة:
ألم تذهب إلى البحرين؟
فأجابني: بلى .. لقد زرتها بقصد العلاج في مستشفى الإرسالية الأمريكي!! وقد قضى فيها شهرًا أو يزيد، كان خلالها ممتلئًا بصور غريبة عن سياقه الاجتماعي، لكنها مدهشة.
فهناك وجد الناس يرتدون أزياء (عولمية) بهيئة لم يألفها، ويتكلمون بألسن مختلفة، حتى أن الاقتراض اللغوي من الهندية والفارسية والإنجليزية، كاد يؤثر على فصاحة أبنائها العربية.
الطرق هناك نظيفة، والأسواق منظمة، والوجوه تفيض بالحيوية والتحدي، فالناس معظمهم متعلمون، أصحاب هوايات، ورياضات، يقرأون ويلعبون، يمتطون الحمير، و(حصان إبليس)، ويركبون السيارات!
يجدون في أوقات الجد، ويهزلون في أوقات الهزل.
يومًا بعد يوم، وسنةً وراء سنة، كان اسم البحرين يكبر في رأسي، ويمتلئ بها وجداني، وأنا أنصت إلى الحكايا عنها، في البيت والسوق والمقهى، حتى استجد بعد ذلك، عامل له الأثر الحاسم في بناء الصورة وتفكيك المخيلة.
إنه الصوت الآتي عبر المذياع، وهو يحمل فخامة الأداء في صوت إبراهيم كانو وأشعار إبراهيم العريّض، وأحاديث محمد جابر الأنصاري، وآراء حسن جواد الجشي.
إذن .. فالبحرين على عتبة الاستقلال الوطني.
وهنا قررت اختراق هذا العالم المتخيل، وكنت أتخطى السابعة عشر .. راكبًا السفينة من ميناء الخبر، في منتصف نهار قائض، لأقضي ساعات أربع بين أقفاص الدجاج، وقلات التمر، مع مجموعة من المسافرين، بينهم فلاحون عجزة من القطيف، وشباب من عمال شركة أرامكو، وفد هؤلاء وغيرهم على البحرين لقضاء حاجاتهم أو إجازاتهم الصيفية أو الأسبوعية، بين أقاربهم أو معارفهم في هذه الجزيرة السحرية العجيبة.
غير أن الرحلة مع بكارتها لم تكن رومانسية!
فحين وصلنا ميناء المنامة، لم تأخذنا السفن الشراعية الصغيرة إلى (الفرضة) كما فعل الزمان قبل قرن بـ(أمين الريحاني) الشاعر والأديب والرحالة .. لم أجد تلك النجوم الرقراقة المنعكسة على صفحة البحر، التي وصفها في كتابه (ملوك العرب) ولم أر الحمير والأتن التي كانت تملأ الطرق والأسواق.
لقد وجدتني وكأنني في القطيف!
فسوق السمك في المنامة هو سوق السمك في حي الشريعة، وفلاحو جد حفص هم فلاحو القديح ونخل سترة هو نخل أم الحمام، وعين عذاري هي عين داروش وعمال المحرق هم عمال الدمام، وشارع الشيخ عبدالله هو سوق الصكة.
إذن ما الذي استلفت نظري.
وكان ذلك في صيف سنة 1971م.
إنه سينما أوال، ونادي العروبة، والمكتبات، وأسرة الأدباء، والكتاب، وتلك الكوكبة المشرقة بالحيوية والإبداع. علوي الهاشمي، وعلي عبدالله خليفة، وقاسم حداد، ومحمد عبدالملك، ومحمد الماجد.
كان هؤلاء هم شعراء وقصاصو الموجة الجديدة، يحتلون موقعًا جيليًا واقعيًا حداثيًا، أشب من جيل حسن جواد الجشي، ومحمد جابر الأنصاري وعبدالله الشيخ جعفر القديحي وغازي القصيبي وعبدالرحمن رفيع .. بينما كان إبراهيم العريّض يحتل موقعه الرومانسي والانطباعي مجددًا وحده في مجال الشعر والدراما والنقد.
هكذا وجدته وأنا أتردد عليه ضحى كل يوم في متجر أحد أصدقائه في شارع الشيخ عبدالله، محاطًا بهالة أسطورية.
لمَ لا؟ّ!
وهو المولود في الهند من أبوين بحرانيين، وقد فقد أمه رضيعًا، دون أن يتقن نطق كلمة عربية، إذ تولت خادمة هندية تربيته، بينما كان والده تاجر اللؤلؤ منهمكًا في بيع لآلئ الخليج الطبيعية الغالية، لتتدلى على صدور زوجات مهراجات الهند، وأميرات ممالك أوروبا قبل كسادها.
وهكذا حتى استقر المقام بإبراهيم العريّض مدرسًا في إحدى مدارس البحرين الأهلية، وهو في سن العشرين لينفض عن رأسه غبار الانقطاع اللغوي، فيصدر ديوانه الأول (الذكرى) سنة 1350هجرية بداية الثلاثينات الميلادية، وإذا بقصائده مزيج لتنوع تحصيله الثقافي واللغوي، آخذًا من الإنجليز محتلي الهند والبحرين رومانسية شعرائهم، ومن الهنود أساطيرهم، ومن الفرس رباعيات خيامهم، ومن العرب جزالتهم، مزاوجًا بين هذه التأثيرات في تجربته الشعرية، بين التأمل الكوني، والحس الجمالي، والتعبير اللغوي.
فهل كان إبراهيم العريّض بدعًا بين الرومانسيين العرب؟
أحسب أنه كذلك.
لأنه انطوى على معاناة الرومانسي الحقيقي، الهارب من وطأة الواقع الأليم في طفولته، والغربة النفسية والاجتماعية والثقافية في صباه وشبابه .. إلى التأمل الذاتي في الحياة والكون، تأملًا قاده إلى إعداد تقويم فلكي بديع، مكنّه من التنقل الدقيق من التقويم الميلادي إلى التقويم الهجري، إضافةً إلى تملكه ثقافة موسوعية راوحت بين التراث والمعاصرة، فيخص الشعر بدراسات نقدية جمالية أسلوبية مبكرة، تجلت في كتابه (الأساليب الشعرية) ودراسته اللافتة عن فن المتنبي. متجاوزًا بقصائده التأملية، ودراساته النقدية، سياق مجتمعه الثقافي التقليدي، مقاربًا المسرح الشعري – منتصف الثلاثينات – بالاستدعاء التاريخي في ديوانه (وامعتصماه) والحس القومي بعد نكبة العرب الأولى نهاية الأربعينات في ديوانه (أرض الشهداء).
في هذه الرحلة الميمونة إلى البحرين، ما زلت أتذكر ذهابي – ذات مساء – إلى نادي العروبة لمقابلة حسن جواد الجشي – وهو الشخصية الأدبية والقومية المقابلة لإبراهيم العريّض – وقد عاد للتو من مهجره السياسي، حيث كان يلتقي العريّض، وبعض الصحب، للنقاش، ولعب طاولة البليارد. وإذ لمس في الأستاذ الجشي تطلعًا نحو الأفق الجديد في الأدب والشعر، أخذ بيدي بين أزقة المنامة إلى مكتبة العليوات، ليختار من بين رفوفها كتابين هما (النقد المنهجي عند العرب) للدكتور محمد مندور و(شعرنا الحديث إلى أين) للناقد المصري الطليعي غالي شكري. ومجموعات شعرية للسيّاب والبياتي وبلند الحيدري وصلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطي حجازي.
هذه النوافذ الجديدة هي التي قادتني بعد ثلاث سنوات، وأنا على عتبة الدراسة الجامعية، للسفر إلى القاهرة صيف سنة 1974م لمقابلة توفيق الحكيم ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وعبدالرحمن الشرقاوي وصلاح عبدالصبور و .. أمل دنقل.
***
فبعد هزيمة 67، لم يتقدم شاعر عربي إلى الوعي القومي – خارج ظاهرة شعراء المقاومة الفلسطينية – مثلما تقدم الشاعر المصري أمل دنقل.
كان صوتًا شعريًا جديدًا، اتسم بالبساطة الجارحة والنبوءة الشعرية النافذة، إلى أعصاب الوطن العربي المشدودة. فقبل وقوع الكارثة، كان أمل يتقمص روح زرقاء اليمامة المعروفة في الميثولوجيا العربية بحدة البصر، درجةً مكنتها من اكتشاف العدو المتربص بقبيلتها، وهو في طريقه بجيشه إليها غازيًا، منبهًا السلطة السياسية في بلده، إلى الاستعداد لخوض المعركة بقوة السلاح، لا بصوت المذياع (بيانات أحمد سعيد الرنانة) إلا أن زرقاءه لاذت بالصمت، لكي تنال فضلة الأمان.. أما هو (عنترة المصري) فقيل له “اخرس”!
.. فخرست.. وعميت، وائتممت بالخصيان.
ظللت في عبيد (عبس) أحرس القطعان
أجتز صوفها
أرد نوقها
أنام في حظائر النسيان.
طعامي الكسرة.. والماء.. وبعض التمرات اليابسة
وعندما حانت ساعة الطعان
إذ تخاذل الكماة والرماة الفرسان.
عندها يدعى عنترة الجديد! (هذا الذي ما ذاق طعم الضأن.
الذي لا حول له أو شأن)
هذا الذي أُقصي عن دائرة صنع القرار! يدعى الآن إلى الموت.. بينما لم يدع من قبل إلى المجالسة.
بهذه الصورة التراثية الثائرة بنغمة نثرية آسرة، عن جينولوجيا أخلاق البطولة والفروسية.. راح أمل دنقل يسائل الصمت الذي خنقه ومجتمعه، متفحصًا جِمال (الزباء).. (أجندلًا تحمل أم حديدًا).. متسائلًا كما تسائل جده الشاعر الجاهلي (ما للجِمال مشيها وئيدًا).
بينما زرقاؤه وحيدة عمياء عن رؤية جحافل العدو!
بعد مسامرات ومناقشات و(مناكفات) في أماسي مقهى (ريش) الشهير، المتفرع من ميدان طلعت حرب، اتفقت وأمل دنقل على إجراء حديث صحفي لجريدة (الرياض).. غير أنه اشترط أن أتكفل بعد الانتهاء من هذه المهمة العسيرة (!) بعشائه بطبق كباب، وأن يبيت في شقتي بشارع عماد الدين .. وبين هذه الليلة وتلك، كان أمل يستجيب لطلباتي في إلقاء قصائده، عندما يكون مزاجه صفوًا سلسبيلًا:
كلَّ صَباح..
أفتحُ الصنبورَ في إرهاقْ
مُغتسِلًا في مائِه الرقْراقْ
فيسقُطُ الماءُ على يدي.. دَمًا!
وعِندما..
أجلسُ للطّعام.. مُرغمًا
أبصرُ في دوائِر الأطباقْ
جماجِمًا..
جماجِمًا..
مفغورةَ الأفواهِ والأَحداقْ.
إذن.. فقد وقع ما توقعه.. هزيمة مصر والعرب المخزية أمام إسرائيل.
وفي أمسية صيفية أخرى من أماسي القاهرة الندية، طفق أمل يلقي قصيدته (سفر الخروج) قبل عبور أكتوبر 73 بنغم شفاف، وبحة مكتومة بدخان سجائر (كيلوبترا) ومتلوثة بعوادم الجو الطبيعي والسياسي، في سنوات اللا حرب واللا سلم، حينها وجد نفسه بين الجموع في ميدان التحرير، حول نصب الجندي المجهول يردد (أغنية الكعكة الحجرية):
عندما تهبطين على ساحة القوم
لا تبدئي بالسلام
فهم الآن يقتسمون صغارك فوق صحاف الطعام
بعد أن أشعلوا النار في العش..
والقش..
والسنبلة.
وغدًا يذبحونك بحثًا عن الكنز في الحوصلة
وشيئًا فشيئًا يتصاعد صوت أمل دنقل الغاضب مخاطبًا حبيبته – هل يعني القاهرة! – (في الإصحاح الخامس) من قصيدته (أغنية الكعكة الحجرية):
اذكريني!
فقد لوثتني العناوين في الصحف الخائنة!
لوَّثَتْني.. لأني منذ الهزيمة لا لون لي
غير لون الضياع
قبلها، كنت أقرأ في صفحة الرمل
والرمل أصبح كالعُملة الصعبة،
الرمل أصبح أبسطة.. تحت أقدام جيش الدفاع
فاذكريني، كما تذكرين المُهَرِّبَ.. والمطربَ العاطفيَّ..
وكاب العقيد.. وزينة رأس السنة
بعدما أفرغ أمل طاقةً هائلة ضاغطة على صدره، أخذ قلمًا وورقة، فرسم لي – وقد تبدت طفولته – شكل نصب ميدان التحرير الشهير، – وقد أزيل وقتها – كعكةً حجرية، ولم تكن قصيدته تلك سوى أغنية لمن تحلقوا حولها.
***
تناولت ديوان (إقبال وشناشيل ابنة الچلبي) من أحد رفوف مكتبتي فوجدت إهداءً، من غيلان بدر شاكر السيّاب، موقعًا بعواطف غامرة بتاريخ 23 أيلول 1979م.
كنت ليلتها في دار السيّاب في البصرة، بعد زيارة إلى (منزل الأقنان) في قريته جيكور مسقط رأسه، وقد التقيت فلاحين من أهله وجيرانه، وصهره فؤاد عبدالجليل، وبنتيه غيداء وآلاء من زوجته إقبال.
قبلها قد اكتشفت من خلال قراءتي في كتاب (تاريخ الأقطار العربية الحديث) للمستعرب الروسي الضخم (لوتسكي) أن أسرة السيّاب كانت ذات ماضٍ إقطاعي، إن لم تكن بالمصطلح الماركسي، فكأنها على أي حال، أسرة امتلكت الأراضي الزراعية.
هل لهذا يستعيد السيّاب لا وعيه التاريخي هذا في ديوانه (منزل الأقنان)؟ فقد وجدت بيت أسرة السيّاب في جيكور فسيح الباحة كبير المساحة، بدا متهاويًا بأطلال مجدٍ غابر، وأصبح الشعراء العرب من زوار مهرجانات بغداد يقفون عليه، كما كان شعراء الجاهلية يقفون على أطلالهم، ويتأملون في (شباك وفيقة) إحدى ملهمات الشاعر، ويا لهنّ من ملهمات:
ديوان شعر ملؤه غزلُ
بين العذارى بات ينتقلُ
أنفاسي الحرى تهيم على
صفحاته والحب والأملُ
وستلقي أنفاسهن بها
وترف في جنباته القبلُ
ديوان شعر ملؤه غزلُ
بين العذارى بات ينتقلُ
لم تتردد الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة، حين التقيتها في أبو ظبي سنة 1996م، من الحديث معي عن افْتِتَان السيّاب بجمالها الفاتن، وهما على مقاعد الدرس الجامعي في معهد دار المعلمين العالية ببغداد منتصف الأربعينات الميلادية من القرن المنصرم.
ولأن من طبيعة الشاعر الرومانسي، المبالغة والإغراق في التخييل، فقد هالني مرأى نهر (جيكور)! فلم أجده سوى (نهير) أو ساقية نخيل في إحدى قرى القطيف، إلا أن خضرة جيكور شكلت عنصرًا أساسيًا، في صياغة مفتتح قصيدة السيّاب الشهيرة (أنشودة المطر) فإذا بعيني حبيبته:
غابتا نخيلٍ ساعةَ السَّحر
أو شُرفتانِ راح ينأى عنهما القمر
عيناكِ حين تبسِمان تورِقُ الكُروم
وترقصُ الأضواء كالأقمارِ في نهر
يرجُّه المجداف وهنًا ساعة السَّحر
كأنما تنبضُ في غوريهما النّجوم
أنشودة المطر
مطر .. مطر .. مطر
هذا ما تطارحته في نقاشي مع صديقه الناقد والمترجم وشاعر قصيدة النثر جبرا إبراهيم جبرا في ڤيلته الأنيقة بحي المنصور، وكذلك مع ناقد الأدب المقارن الدكتور عبدالواحد لؤلؤة، اللذين وضعا أصابعهما النقدية على مصادر الصورة الشعرية، في (تناص) السيّاب (الشكسبيري).
أثناء زيارتي لبيت السيّاب، وجدت بعض مترجماته الشعرية، بخط يده على أوراقه المتبقية.
***
قبل هزيمة 67، كان يتحلق في بيروت جماعة مجلة (شعر) بقيادة يوسف الخال وأدونيس – أحتفظ بكثير من أعدادها في مكتبتي – وقد تأثر هذان الشاعران بمدرستين شعريتين.. مدرسة (والت ويتمان) النثرية (الأمريكية) في ديوانه (أوراق العشب) الذي ترجمه يوسف الخال .. ومدرسة سان جون بيرس (الفرنسية) المتحررة من الوزن والباحثة عن الصورة.
بين هذين القوسين راح أدونيس تحديدًا، يجرب حظه في اللعب على الكلمات، فيما نشر من نصوص في مجلة (شعر) هذه التي حاولت مواجهة مجلة الآداب البيروتية، ذات النفس القومي الصارخ، ومن ثم (الملتبسة) بأحدث الصرعات الوجودية في الفضاء الفرنسي .. كما تطارحت ذلك مستوضحًا أبعادها، مع مؤسسها الناشر والروائي سهيل إدريس.
غير أن مجلة (شعر) وصلت إلى أذواقنا في زهوة الستينات، محملة بأحلام شباب الحزب القومي السوري، صوب جزيرة جغرافية سياسية ثقافية جديدة، اسمها الهلال الخصيب تتوسطه نجمة في قبرص!! لماذا لم تكن أثينا، مهبط الإلياذة الهوميروسية وأكرابولس فلاسفة اليونان؟!
ساءلت ذلك أدونيس .. وهو يفاجئني وزوجته الناقدة خالدة سعيد، بزيارة غير متوقعة، وأنا أسكن فندق ميريديان دمشق، بعد تسللي إليها فارًا من بغداد صدام حسين أواخر شهر أيلول 1979م وقد كنت فرغت للتو من حوار حاد مع محمد الماغوط أروع من كتب قصيدة النثر، بحس وجودي فطري، دون أن يعتمد على شركات نقل المعلومات الفلسفية وغيرها! كما يعبر المفكر المصري الدكتور جمال حمدان، أو يقوم باستنساخ الصور الشعرية المترجمة!
على هذه الأرصفة الحنونة كأمي
أضع يدي وأقسم بليالي الشتاء الطويلة
سأنتزع علم بلادي عن ساريته
وأخيط له أكمامًا وأزرارًا
وأرتديه كالقميص
إذا لم أعرف
في أي خريفٍ تسقط أسمالي.
وإنني مع أول عاصفة تهب على الوطن
سأصعد أحد التلال
القريبة من التاريخ
وأقذف سيفي إلى قبضة طارق
ورأسي إلى صدر الخنساء
وقلمي إلى أصابع المتنبي
وأجلس عاريًا كالشجرة في الشتاء
حتى أعرف متى تنبت لنا
أهداب جديدة، ودموع جديدة
في الربيع؟
قبلها حاورت أستاذ أدونيس ومعلم الأجيال السورية المفكر القومي أنطون مقدسي، فهو الذي أخبر تلميذه عن هذا البدوي القادم من الصحراء، محاورًا شعراء الحداثة ونقادها.. فجاء أدونيس يزورني في الفندق، فأسرتني لياقة استقباله برغم شهرته الطاغية، وقد فرغ من إصدار (ديوان الشعر العربي) بأجزائه الثلاثة وتأليف أطروحته اللافتة (الثابت والمتحول) قارئًا التراث العربي بألمعية نقدية، رغم تأثره بمنهج أستاذه المستعرب الفرنسي الشهير جاك بيرك.
لم يتوقف أدونيس عن إطلاق قذائفه، المحشوة ب(ذخائر) التراث و (رصاص) الحداثة.. بل واصل كتابة نصوصه الشعرية المفتوحة في ديوانه (الكتاب) محاولًا تقديم شكل تعبيري جديد.. أحسب شخصيًا أنه لم يقدر على تفجيره الشعري إلا مرات، حين عبر عن قضايا ومواقف، في مطولته (قبر من أجل نيويورك) مستهديًا بخطى لوركا الشاعر الأندلسي، المتأثر بصور تراثه الغرناطي، والثأر على فاشية فرانكو وتقاليد الشعر الأسباني.. وكذلك في ديوانه (هذا هو اسمي) وفي قصيدته (سنبلة الوقت) عن فواجع الحرب الأهلية في لبنان.. بينما وجد شعراء كثيرون من أتباعه في العالم العربي، من محمد بن نيس في المغرب، إلى قاسم حداد في البحرين، شكلًا شعريًا ناجزًا بخليط من صور المتصوفة، في أدبياتهم (مواقف النفري) على وجه الخصوص، وموسيقية سان جون بيرس النثرية المبنية على الصورة الشعرية.. وهذا ما حاوله الشاعر العراقي عبدالقادر الجنابي، منذ فرّ بداية السبعينات من بغداد إلى لندن ليستقر به المقام في باريس، مصدرًا مجلة (الرغبة) و (فراديس)، و (أنطولوجيا لشعراء قصيدة النثر في العالم) منذ بودلير إلى آخر شاعر ولد (أمس!) وكأنه الوكيل الحصري لتسويقها في المشهد الشعري العربي.
أتذكر هنا جلسات شتائية ضمتني وعبدالقادر الجنابي.. واللبناني أنسي الحاج، في مقهى الفوكيتس بشانزلزيه باريس سنة 1977م..
أدهشني الجنابي بتمرده الوجودي وجنونه الفني، رغم تمكنه من أسرار القصيدة التراثية، مؤكدًا في تنظيراته على عنصر (الموسيقى) جزءً حاسمًا في صياغة قصيدة النثر، وإن (بناءها) لا يختلف عن قصر المتاهة المذكور في الأساطير اليونانية المكون، من حيطان تتعاقب وتتقاطع، وإلا ستضيع في متاهة نثر شعري!! كما يقول.
لقد وجدته أعمق ثقافة من محمد الماغوط (الأكثر موهبة منه) أما أنسي الحاج فكان في دواوينه (لن) و (الرأس المقطوع) و (الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع) إنجيليًا مُنبَهِرًا ومُبهِرًا، أميرًا للعشاق.. بينما وجدت الجنابي ملكًا للمتصعلكين، رافضًا أي مكون روحي واجتماعي وتراثي!!
هنا أتساءل:
أين شعراء قصيدة النثر، من اكتناه أسرار نصوص إبداعية، بارعة بصورها وتكثيفها اللغوي (القرآن الكريم، نهج البلاغة، وعرفاء الصوفية ابن عربي وجلال الدين الرومي والسهروردي والنفري) الذين تدفقت نصوصهم النثرية، بتجارب روحية مُمِضّة وتأمل وجودي عميق، فجر مخيلاتهم بشعر غير موزون، لم يأتِ به الأوائل ولا الأواخر!
لقد استدرك أدونيس هذه الملاحظة الجوهرية في كتابه (الشعر والصوفية) لكن بعد فوات الأوان! وقد امتلأت الساحات العربية، بشعراء قصيدة النثر – مُستَسْهِلين ومُتَسَاهِلين – وامضين بصورهم وأخيلتهم، في الغالب من نصوص مترجمة، متكاثر كثير منهم كرؤوس البصل! لكن دون لون ولا طعم ولا رائحة، كل من أولئك يدعي وصلًا بليلى الريادة، وائدين بدايات روادها (الريحاني وجبران المَهْجَرِيَيْن وألبير أديب اللبناني وناصر بوحيمد السعودي وبشر فارس الفرنسي التحصيل والثقافة اللبناني المتمصر شاعر قصيدة النثر الرمزي، المتمكن من وعي التراث الشعري العربي، والمتناص مع نصوص المتصوفة). تحت صمت النقاد ومجاملاتهم.. وأخشى أن أقول تواطئ بعضهم!!
أختم بمحمود درويش، الذي امتزجت فيه أعراق رومانسية علي محمود طه المصري وعبدالرحيم محمود وإبراهيم طوقان الفلسطينيين وجمالية نزار قباني والإنجاز الأدونيسي، حيث تحول شعريًا منذ قصيدة (سرحان يشرب القهوة في الكافتيريا) في أوائل السبعينات الميلادية، حتى أخر قصائده بإلقائه الآسر شاعرًا جماهيريًا رغم جمالية شعره.
محمود درويش هو الذي تقدم وفدوى وطوقان وعز الدين المناصرة، بتوجيه نداء لمنظمة اليونسكو سنة 1999م ليكون يوم (21 مارس) يومًا للشعر العالمي، بهدف تعزيز قراءته ونشره وتدريسه، في وقت أصبح الشعر أمام سؤال مصيري.. سبق أن تطارحه الشاعر الصديق د غازي القصيبي في محاضرته الشهيرة بنادي الطائف سنة 1978م.. (هل للشعر مكان في القرن العشرين) في بداية صعود الموجة الثالثة بثورتها المعلوماتية المتفجرة، وشيوع ثقافة الاستهلاك في أنماط الحياة والإبداع، وتجانس الأشكال الأدبية، وتقدم الرواية إلى المشهد العالمي على حساب الشعر، رغم محاولة جائزة نوبل العام الماضي، تدارك ذلك بإعطاء جائزتها للشاعرة الأمريكية لويز جلوك.
في هذا السياق اضطر الشاعر البحريني قاسم حداد لإغلاق موقع (جهة الشعر) سنة 2018م الذي أطلقه على الإنترنت سنة 1996 ليكون «غرفة كونية» مستقطبًا أهم الأصوات الشعرية العربية والعالمية، في أكبر موسوعة شعرية إلكترونية. ليغدوا هذا الإغلاق مرثية للشعر نفسه واندحاره – حسب تعليق عدد من الشعراء والنقاد العرب – متواريًا إلى الصفوف الخلفية، بالمقارنة مع اقتحام الشكل المفتوح للرواية نحو الفضاء الأدبي دون حراسة نقدية لأصوله الفنية.
هل لأنّ حشود الشعراء الطارئين الذين تكاثروا على الشبكة العنكبوتية، وكتبوا القصيدة الرقمية قد أطاحوا بالذائقة الشعرية، حتى أصبح الشعر هائمًا على وجهه ، كما تعبر الشاعرة والأكاديمية السعودية د. أشجان هندي في كتابها (تجليات القصيدة الرقمية في المملكة العربية السعودية)، خاصةً بعد إعلان شعبويي النقد ومتحذلقيه في العالم العربي، موت النقد النصوصي، متعلقين بقاطرة النقد الثقافي الأوروبية والأمريكية ، الذي تشكل سياقه وفق ظروف موضوعية وتراكم معرفي، أدى إلى موت المؤلف (البارتي) بل إلى موت الأدب برمته ؛ في المجتمعات الصناعية، ما دفع بالناقد اليوغسلافي المتفرنس تزفيتان تودروف إلى إطلاق صرخته (الأدب في خطر) ثائرًا على تنظيرات ما بعد الحداثة النقدية ، بعدما جردت الشعر من معناه، متسائلاً:
أليس من مصلحتنا تبني فهمٍ أفضل للوضع الإنساني، بعد هيمنة ثالوث (الشكلانية. العدمية. الأنانة) المستند في فرنسا إلى الرفض وقلب الأوضاع، ملمحًا إلى الحركة الطلابية سنة ١٩٦٨ م في باريس، وإيهام الإجراءات النقدية الحداثية وما بعدها، إلى أن الصلة بين الأعمال الفنية والعالم ما هي إلا وهم! داعيًا -أي تودررف- إلى تحرير الأدب من المشد المحتبس فيه، والمصنوع من ألعاب شكلانية، أو شكاوى عدمية، وتمركزٍ أناني على الذات، وفتحه على السجال العريض للأفكار، أو قل المعاني ذات المشترك الإنساني.
نعم فإن مجاراة بعض النقاد العرب، خاصةً في دول المغرب العربي، ومجاريهم من نقاد المشرق العربي، لما تنتجه بعض الجامعات والصحف في أوروبا وأمريكا ، ساهم في انزواء الشعر في العالم العربي، بعدما أفسح النقاد الثقافيون، مجال العبث بما بقي من شعر لجحافل الغزاة لـ”فن الشعر” هذا الذي وقف على أكتافه النقاد من أرسطو اليوناني، إلى قدامة بن جعفر العباسي، وابن حازم القرطاجني، ثم إلى أستاذي المفكر الأدبي د. شكري محمد عياد المصري، وكذلك عبدالفتاح كليطو المغربي، الناقد المبدع منشغلًا بالسرديات التراثية العربية، بعد تشربه الواعي الإجراءات النقدية الفرنسية الجديدة، وهضمه المتقن الهادئ لها، دون أن ترى في ما يكتب ويقول بلسانيه، أحكامًا نقدية لدنية قاطعة، تؤججها حركات عصابية ناتجة عن عبادة الذات، ونجومية تلفازية متضخمة بنرجسيتها.