لقد شدد إيميل دوبوا ريموند على استحالة كشف سر الوعي، ودافع عن نظرية الانتخاب الطبيعي، وأحدث ثورة في دراسة الجهاز العصبي؛ فهو صاحب مكانة علمية عالية، ولكن نسيه الناس.
بخلاف تشارلز داروين وكلود برنارد، اللذان ما زالا بطلين في أعين إنجلترا وفرنسا؛ فإن إيميل دوبوا ريموند قد أصبح منسيًا بشكل عام في ألمانيا؛ فلا تحمل الشوارع اسمه، ولا توجد طوابع تضع صورته، ولا تقام احتفالات تكريمًا له، ولا توجد مجموعات من مقالاته مطبوعة. فمعظم الألمان لم يسمعوا به من قبل، وإنْ طرق ذكره مسامعهم، فإنهم يفترضون بشكل عام أنه سويسري.
لكن الحال لم يكن كذلك، فدوبوا ريموند حظي بالثناء ذات يوم باعتباره «الطبيعاني الأول في أوروبا»، و«آخر الموسوعيين»، و«أحد أعظم العلماء الذين أخرجتهم ألمانيا على الإطلاق». إذْ فاخر به معاصروه لأبحاثه في علم الأعصاب، وخطاباته حول العلم والثقافة. بل ولقد ذكر الشاعر جول لافورج أنه رأى صورته معلقة للبيع في نوافذ المتاجر الألمانية إلى جانب صور العائلة المالكة البروسية!
المطلعون على أبحاث دوبوا ريموند عمومًا يعرفونه بدفاعه عن فهم البيولوجيا بواسطة الكيمياء والفيزياء، لكنه نال تقديرًا على إنجازات أخرى في حياته. فقد كان رائدًا في استخدام الأدوات في علم الأعصاب، واكتشف الإرسال الكهربائي للإشارات العصبية، وربط البنية العصبية بوظائفها في الأنسجة العصبية، وتنبأ بتحسّن الاتصالات العصبية فيما بينهما كلما زاد استخدامها. كما عمل أستاذًا جامعيًا في جامعة برلين، وعُيّن عميدًا لها، ثم رئيسها، وأدار أول معهد الفزيولوجيا (علم وظائف الأعضاء) في بروسيا، وكان سكرتير الأكاديمية البروسية للعلوم، وأنشأ أول جمعية للفيزياء في ألمانيا، وساعد في تأسيس جمعية برلين للأنثروبولوجيا، وأشرف على جمعية برلين الفزيولوجية، وحرر المجلة الألمانية الرائدة للفيزيولوجيا، و أشرف على عشرات الباحثين، ودرب جيشًا من الأطباء.

ومع ذلك، كان مدينًا بمعظم شهرته لمهارته في الخطابة. وفي مسائل العلوم، شدد على المبادئ الموحدة لحفظ الطاقة والانتخاب الطبيعي؛ حيث قدم نظرية داروين إلى الطلاب الألمان، ورفض الفكرة التي مفادها أن الصفات المكتبسة موروثة، وحارب شبح الحيوية (vitalism)؛ وهي العقيدة القائلة بأن الكائنات الحية تحكمها مبادئ فريدة من نوعها. أما في مسائل الفلسفة، فقد ندد بالرومانسية، واستعاد تعاليم لوكريتيوس، واستفز نيتشه، وماخ، وجيمس، وهيلبرت، وفيتجنشتاين. وفي مسائل التاريخ، عزز نمو التاريخانية (historicism)، ووضع أسس تأريخ العلم، وأشاع مبادئ التنوير، وشجع دراسة القومية، وتوقع حروب الإبادة الجماعية. وفي مسائل الأدب والفنون، دافع عن الواقعية في الأدب، وأرخ لبدايات السينما، وانتقد أمركة الثقافة.
واليوم من الصعب فهم الضجة التي تحرض عليها خطابات دوبوا ريموند. فقد سأل في الخطاب الذي ألقي عشية الحرب البروسية، عما إذا كان الفرنسيون قد فقدوا حقهم في الوجود؛ و في آخر، استعرض حياة داروين العملية، وأثار نقاشًا في البرلمان البروسي؛ و في آخر، ألقى نظرة شاملة على مسار الحضارة، وجادل بأن العلم هو تاريخ البشرية الأساسي. أما خطابه الأشهر، كان ردًا على النزاع بين العلم والدين، وحدود المعرفة.
لم تعد تلهب الأبستمولوجيا مخيلة الجمهور كما في عصور قد خلت. إلا أنها، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كانت واحدة من علوم الروح، والروح كانت الشيء الأكثر تسييسًا آنذاك. وحينما شدد دوبوا ريموند على استحالة كشف سر الوعي، فقد سحق الطموح الأخير للعقل؛ فكل من كان يتوق إلى وحي علماني قد سحقته تلك الخسارة. قال المؤرخ أوين تشادويك حول ذلك: «كانت الأربعينات زمن الشكوك، بصيغة الجمع، ودون الحصر . . . أما في الستينات فقد دخلت بريطانيا وفرنسا وألمانيا عصر الشك بصيغة المفرد، والحصر».
يقول منافسون غيورون عن دوبوا ريموند بأنه عضو في «برلينـ-وقراطية» الإمبراطورية الألمانية الجديدة. لم يكن هذا عادلًا. فبصفته ابن مهاجرين، شعر دوبوا ريموند دائمًا بالغربة من محيطه؛ إذْ نشأ وهو يتحدث الفرنسية، وكانت زوجته من إنجلترا، وكان يعد اليهود والأجانب من بين أقرب أصدقائه. حتى صلته بولي العهد والأميرة البروسية أثارت استياء النظام عليه. فقد ساند النساء، ودافع عن الأقليات، وهاجم الخرافة، وحذر من مخاطر السلطة والثروة والإيمان، وعارض بسمارك في مسائل بناءً على مبادئ أخلاقية. ويذكرنا مثاله بعدم وجود مانع بأن تكون وطنيًا في ألمانيا الإمبراطورية، وناقدًا كوزمبوليتانيًا، بالإضافة إلى كونك شوفينيًا محافظًا.

Courtesy of Mary Rose Kissener
وقال مازحًا مرة لزوجته إنّ الضباط البروسييين يفترضون أن أي شخص بمكانته كان مقربًا من الحكومة المقرّبة من القيصر. كان في وسعه أن يقول لهم إنه قدم المهندس فيرنر سيمنز إلى الميكانيكي يوهان جورج هالسكي، أو أنه من ساعد الفيزيائي جون تيندال على بدء مسيرته المهنية، أو أنه رعى تصوير جوليا مارغريت كاميرون، أو أنه قادر على أن يلقي قصائد غوته وهوغو التي رآها في مخطوطات؛ إلا أنه لا يجاوز الاستئذان للانصراف من المحادثة من فرط أدبه. لذلك سيسعد المناصرون له لو عرفوا أنه قدم نفسه إلى ملكه، وهو شرف كبير لشخص وقع ذات مرة على دفتر ضيوف باسم «إيميل دوبوا ريموند، ضفدع سريع التقلّب، برلين».
لم يكن صعبًا ملاحظة أن إدراك تميّز دوبوا ريموند مجرد مسألة وقت. فقد كان معظم حياته كان يعمل بعيدًا عن الأنظار، مع أن كل مراقب مهتم في كثير من الأحيان يدرك أهمية مناهجه. على سبيل المثال، استند إيفان تورجينيف في شخصية بازاروف في كتابه «الآباء والبنون» على شخصيته. وكتب عنه طالبٌ شهير آخر في جامعة برلين، اسمه سورين كيركيغارد، ما يلي:
«من بين جميع العلوم، العلوم الفيزيائية هي الأقل تشويقًا، وأجد أنه من الممتع تأمل كيف يكون ذلك، فمع مضي الزمن، أصبح مبتذلًا ما كان نراه مثارًا للإعجاب؛ فهذا نصيب كثير من الاكتشافات المتوارثة في «اللانهائية الرديئة». تذكروا فحسب الضجة التي أثارها اكتشاف سماعة الطبيب. قريبًا سنصل لمرحلة نرى فيها كل حلاق يستعملها هذه السماعة، وعندما يحلق لك، سيسألك: «هل ترغب أن أجس نبضك بالسماعة، سيدي؟» ثم بعد ذلك سيخترع شخص آخر أداة لسماع نبض الدماغ، وسيحدث ذلك ضجة هائلة حتى بعد مضي خمسين عامًا سيكون بمقدور كل حلاق أن يستخدمها. وفي ذلك الحين، في كل محل حلاقة سيكون من الشائع أن يقص الحلاق شعرك، ويحلق دقنك، ثم يستخدم السماعة الطبية كذلك (فقد أصبحت شائعة في ذلك الزمان). لذلك سيسأل الحلاق بعدها: هل تود أن أستمع لنبض دماغك؟».
الكشف عن نبض الدماغ ليست ممارسة شائعة حتى الآن في الحلاقة، ولكنها شائعة في الطب. وفي هذا الصدد، كان كيركيغارد محقًا: فقد كانت مسيرة التكنولوجيا ثابتة إلى درجة الروتين؛ بحيث يمكن اعتبار كل التحديثات على أدوات دوبوا ريموند الفيزيوكهربائية -من مكبر الصمام المفرغ إلى المسرى الميكروي والالتقاط الرقعي (patch clamp)- حاشيةً على تقنيته الأصلية. وقد يقال عن هذا الإنجاز في ابتكار الأدوات أي شيء إلا كونه تافهًا: فبعد عامين من سخرية كيركيغارد، قال دوبوا ريموند إن الفيزيولوجيا سوف تصبح علمًا حالما تترجم عمليات الحياة إلى صور رياضية. لذلك يبدو أن أجهزة التصوير المرتبطة بالتقدم الطبي -كتخطيط كهربائية القلب، وتخطيط كهربائية الدماغ، وتخطيط كهربائية العضل، وماسحات التصوير المقطعي المحوسب، والتصوير بالرنين المغناطيسي، والتصوير المقطعي بالإصدار البوزيتروني- أثبتت تنبؤه. ولكن النجاح لا يقتصر على كونه في خانة التحليل؛ بل في خانة الفشل كذلك. ففهم لماذا كرس دوبوا ريموند حياته العلمية بأكملها لمشكلة واحدة سيساعدنا على فهم أعمق دوافعه.
سأل الفيزيولوجي بول كرينفيلد ذات مرة سؤالًا بسيطًا: «أي نوع من العلماء، في عام 1848، سوف يعد بإنتاج نظرية عامة تربط النشاط الكهربائي للأعصاب والعضلات بالظواهر المتبقية لنشاطهم الحي؟»كان جواب كرينفيلد هو: شخص يعتقد أن الكهرباء هي سر الحياة. ربما كان دوبوا ريموند يعدُّ نفسه صاحب رؤية؛ ففي نهاية الأمر، لقد ولد في السنة التي نشرت فيها رواية «فرانكشتاين». ومن ناحية أخرى، فإن العالم المهووس بعلم الفيزيولوجيا الكهربية قد يُعدُّ فيلسوفًا عمليًا، أو أحمقًا مضللًا، أو شخصية معقدة.
دراسة الكهرباء الحيوانية لها تاريخ طويل. فعندما تعرّف دوبوا ريموند على هذا الموضوع، كان ما زال مجالًا ملوثًا بآراء الحيوية (vitalism) والآلية (mechanism)، والقوى والسوائل، والتهيج والحساسية، وغيرها من الغوامض العتيقة في علم الأحياء. والأمر الكامن في جميع هذه المفاهيم المضطربة أسسُ اشتغال الأعصاب والعضلات، وهذه هي المشكلة التي رافقته طوال مسيرته المهنية، والسبب واضح: الأعصاب والعضلات هي أساس الفكر والعمل. لم يكف دوبوا أبدًا عن محاولة فهم كهرباء الحيوان؛ لأنه لم يكف أبدًا عن محاولة فهم نفسه.
وقد أدى هذا البحث عن الهوية إلى إثراء مسار علمه ومجتمعه، والنمو المتوازي بين الهوية الشخصية والمجتمع كان موضوعًا رومانسيًا شائعًا في النصف الأول من القرن التاسع عشر. إنّ كفاح دوبوا ريموند من أجل ترسيخ نفسه قد يرمز إلى كفاح ألمانيا من أجل ترسيخ نفسها، ونجاح كلا المسعيين لافت للنظر. بينما الأمر الأخفى كان في النصف الثاني من حياته، وهو ثيمة تقليدية معروفة؛ ألا وهي: فهمه أن السلطة تقتضي التقييد. هذه هي الدلالة المستترة في سيرته الذاتية: كيف فشل مجاله العلمي في فهم التجربة (experience)، وكيف أخفى مدحه للماضي رفضه للحاضر، وكيف أن رسائله ومحاضراته لم تذكر عشقه لمثله العليا إلا تلميحًا. كتب هنري آدامز في عام 1907: «تعتمد نتيجة عمل عام كامل على ما حُذف منه أكثر مما تعتمد على ما بقي فيه». ودوبوا ريموند يتفق مع آدمز في هذا التعبير المحكم البليغ. والحقيقة المحزنة هي أن معظم مواطنيه لم يوافقوه على ذلك. لم يكن دوبوا ريموند أول مفكر يسترشد بنكران الذات والزهد، عازفًا عن الاستعلاء والتفوق، ولكنه كان واحدًا من آخر المفكرين في أمة عازمة على الرفع من شأنها. حذره يستحق الاهتمام.
إذن كيف انتهى الحال بشخصية بالغة الشهرة والأهمية بأن أصبحت نسيًا منسيًا؟ اسمحوا لي أن أقترح ثلاثة أنواع من الإجابات: الأولى تتعلق بالكتابات التاريخية التي يؤرخ أصحاب المجالات العلمية بها عن أصول مجالهم. وعادة ما تأخذ هذه شكل أسطورة حرب الجبابرة، تلك الأسطورة اليونانية الكلاسيكية، حيث توجد شخصية بروميثية (في مثالنا التشبيهي: مؤسس المجال العلمي) ينحاز مع آلهة الحقيقة الأولومبية ضد جيل أقدم وأكثر همجية (يرمز إليه بكرونوس، أو التقليد). علم النفس يوفر مثالًا مناسبًا على ذلك: في روسيا، الإيفانان (بافلوف وسيتشينوف) هما بطلا المجال العلمي، حيث لم يتطرقا إلى دينهما العلمي لدراسات كارل لودفيغ في الهضم أو دراسات إيميل دوبوا ريموند في وظائف الأعصاب إلا لمامًا. أما في النمسا، فالبطل هو سيغموند فرويد، الذي لم نعرف إلا قبل أعوام قريبة -كما كشف أندرياس ماير- عن مدى ما تعلّمه من جان مارتن شاركوت في استعمال التنويم المغناطيسي. وأما في الولايات المتحدة، فالبطل هو ويليام جيمس -الذي كان أستاذًا لكم هائل من التلاميذ، والذين لم يعرفوا سبب انتقاله إلى برلين في عام 1867- لم يذكر جيمس دينه العلمي لدوبوا ريموند، ربما لأنه ترك فصله الدراسي، أو ربما لأن العديد من محاضراته الأولى بنيت على كتابات دوبوا ريموند. في كل مثال مما ذكرت، يقطع البطل البروميثي خط الاستمرارية، ويُسقط الأب المسيطر، ويفيد البشرية من شعلة عقله.

الجواب الثاني يتعلق بالتخصص الأكاديمي؛ فمن الصعب تصنيف دوبوا ريموند ضمن تخصص واحد. هذه هي إشكالية دراسة العلماء الموسوعيين: يستغرق الأمر وقتًا طويلًا لإتقان تاريخ الحقول التي يعملون فيها، وعندما يفعل المرء ذلك، ليس من السهل تلخيص مساهماتهم في جملة واحدة. ونتيجة لذلك، يميل المؤرخون أما إلى تحويل تعقيد الثقافة الألمانية الإمبراطورية إلى صور نمطية تظهرهم في صورة غرباء الأطوار (نيتشه، فاغنر، و«سياسة اليأس») أو »الكيتش» [بلا ذوق] (الطبيعة، وممارسة الرياضة، والحياة المنزلية، وعيد الميلاد). لن تفهم مثل هذه التشوهات المختزلة السمة الرئيسية للعصرهم، والتي كانت التفوق في العلوم والتكنولوجيا والطب. ففي نهاية الأمر، ليس دوبوا ريموند هو العالم الوحيد الذي نٌسي؛ فقد نُسي كل عالم ألماني في القرن التاسع عشر أيضًا.
أرى أن دوبوا ريموند قدم أفضل تفسير لنسيانه: كان دوبوا يفكر في سبب أن عددًا قليلًا من أبناء جيله يتذكر فولتير، وأشار إلى أن «السبب الحقيقي قد يكون أننا فولتيريون -جميعنا- بتفاوت النسب: فولتيريون دون أن ندرك ذلك». وينطبق الشيء نفسه على دوبوا ريموند: فهو مخفي في مرأى الجميع.
يذكرنا دوبوا ريموند بأن الأفراد يميزون أزمنتهم بقدر ما تميزهم هي. قال الفيزيولوجي كلود برنارد ذات مرة: «إذا كنت تريد أن تحكم على التأثير الذي يتمتع به الرجل على معاصريه، فلا تنظر إلى نهاية حياته المهنية -عندما يفكر الجميع مثله- ولكن في البداية، عندما كان يفكر بشكل مختلف عن الآخرين». تعليق برنارد يعتبر الابتكار فضيلةً، وبهذا المقياس، فإن مساهمات دوبوا ريموند نبيلة مثل أي مساهمة أخرى. ولكن دوبوا ريموند علمنا درسًا بالغ الأهمية، درسًا يهمنا الآن أكثر من أي وقت مضى؛ ألا وهو: كيف نتعامل مع عدم اليقين.
غابريل فينكلشتاين أستاذ التاريخ في جامعة كولورادو دينفر، ومؤلف كتاب «إيميل دوبوا ريموند: علم الأعصاب، والنفس، والمجتمع في القرن التاسع عشر» (Emil du Bois-Reymond: Neuroscience, Self, and Society in Nineteenth-Century German).
المصدر (ضمن اتفافية ترجمة خاصة بمنصة معنى).