
كنتُ -وما زلتُ- مفتونةً بتنظيم العقل للمعلومات منذ زمن بعيد؛ إذْ كان نشاطي المحبب في طفولتي في المرحلة المتوسطة رسم الجمل بجوار أقسام الكلام. فليس مستغربًا -إذن- إنْ كان هذا حالي أن ينتهي بي مساري التعليمي بالحصول على درجة الدكتوراة في النماذج الصورية عن اللغة والإدراك من معهد ماساتشوستس. وفي تلك المرحلة -أواسط الثمانينيات- أسعدني حظّي حين سجّلت عدّة مواد في علم التركيب يدرّسها نعوم تشومسكي.
ورغم أني لم أسلك مسلكًا بحثيًا وتعليميًا متخصصًا؛ إلا أني ظللتُ في معهد ماساتشوستس أغلب مسيرتي المهنية، وبقيتُ مخلصةً لتركيزي الأساسي: كيفية نقل اللغة للمعلومات. فإدارة دار نشر للكتب هي أيضًا تتعلق بالمسار البادئ باللغة والمنتهي بالمعلومة؛ البادئ بالنص والمنتهي بالمعرفة. كما أنه منحني فرصةَ أن أكون محررة كتابات تشومسكي وناشرتها. إنّ تشومسكي وما يُجسّدُّه من قيم البحث العلمي الرصين، ويقظة الضمير، والنزاهة ما زالت حاضرةً في نفسي وفي نفوسِ كثيرٍ غيري هنا في معهد ماساتشوستس؛ كما أنها تتخلل ثنايا هذه المقابلة.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
آمي براند: تميل إلى فصل أبحاثك في اللغة عن شخصيتك السياسية وكتابتها، ولكن هنا سؤال يُطرح: هل يوجد توتر بين القول بتفرّد البشر باللغة، والتشنيع بدورهم في التغيّر المناخي واستفحال الفساد البيئي؟ بعبارة أخرى، أيصح القول إنّ تفرّدنا عن سائر الحيوانات وثيقُ الصلة بتعاملنا (أو لعله: سوء تعاملنا) مع البيئة الطبيعية؟
تشومسكي: أبحاثي المتخصصة -من حيث المبدأ- لا علاقة لها بضلوعي في مجالات أخرى؛ فلا وجود لروابط منطقية بينهما، ورغم ذلك توجد روابط دقيقة وتاريخية ناقشتها في مناسبات مختلفة (وكذلك فعل غيري من الباحثين)، وقد تحوي هذه الروابط طرفًا من أهمية.
يختلف الجنس البشري اختلافًا بيّنًا عن سائر الحيوانات من عدّة جوانب هي أوضح من أن تذكر، وامتلاك اللغة من هذه العناصر بالغة الأهمية التي نتج عنها نتائج حاسمة، وقد اُعتُبِرَتْ اللغة فيما مضى من زمن -ولهذا الاعتبار وجاهته- السمة الجوهرية التي تميّز الإنسان الحديث؛ فهي مصدر إبداعه، وثراء ثقافته، وتعقّد بناه الاجتماعية.
أما فيما يخص «التوتر» الذي أشرتِ إليه؛ فلا أراه. طبعًا من المعقول أن اختلافنا عن سائر الحيوانات له صلة بتدمير جنسنا -المُدان- للبيئة، ولكن لا أرى أن هذه النتيجة تعضدها السجلات التاريخية؛ فعلى امتداد التاريخ الإنساني كله تقريبًا، عاش البشر حياةً متناغمة مع البيئة الطبيعية، والجماعات الواطِنَة (indigenous groups) ما زالت تفعل ذلك قدر استطاعتها (بل وإنّ هذه الجماعات تقود زمام المبادرة في مساعي الحفاظ على البيئة في جميع أنحاء العالم). خلّفت تصرفات البشر آثارًا على البيئة، وعادةً ما تختفي الثديات الكبيرة في المناطق التي يتوسع فيها النشاط البشري، ولكن لم تكن هذه الآثار وخيمة العواقب إلا مع الثورة الزراعية، واشتد وقعها في الثورة الصناعية، وأشد هذه تدميرًا لم يقع إلا في عهد قريب؛ وكل هذه الآثار تتراكم بوتيرة سريعة، ويبدو أن مصدر هذا الدمار -وهو على مشارف التحول إلى كارثة- مؤسساتي، وليس متجذرًا في طبيعتنا.
آمي براند: ذكرت -أنت واللساني الحاسوبي روبرت بيرويك – في تقديمكما لكتاب عن غناء الطيور واللغة أن «الصلة بين بحوث غناء الطيور، والتحدث، واللغة ترتبط ارتباطًا مناسبًا مع آخر مستجدات توجهات بحثية قائمة الآن في التفكير اللساني». هلّا فصلت في ذلك؟ ما فائدة تغريد الطيور في فهم لغتنا؟
تشومسكي: ينبغي توخي الحذر في هذه المواضع؛ فلنميز بين اللغة من حيث هي لغة، والتحدث؛ فهذا الأخير خليط يتضمن اللغة، ونظام حسيّ حركي محدد يستخدم في إخراج اللغة، وهذان النظامان [اللغة والنظام الحسي الحركي] غير مرتبطين في التاريخ التطوري؛ فالأنطمة الحسية الحركية وجِدَتْ قبل وجود اللغة (والجنس البشري) بزمن طويل، وتأثرها باللغة قليل محدود؛ هذا إنْ تأثرت أصلًا. كما أن التحدث -وإنْ كان هو الأشيع- ليس إلا شكلًا واحدًا من أشكال إخراج اللغة؛ إذْ قد تُخرج اللغة بالإشارة -وهي تنمو في الصم كما التحدث في غير الصم إلى حد بعيد- أو حتى اللمس.
كتاب نعوم تشومسكي وروبرت بيرويك «لم نحن دون غيرنا؟» يقوم على آخر مستجدات النظرية اللسانية في تقديم تفسير تطوري للغة وقدرة البشر الرائعة -الخاصة بالجنس البشري- في اكتسابها.
حاججتُ وبيرويك (أخاله حجاجًا معقولًا، وإنْ كان محط خلاف) أن اللغة -وهي نظام داخلي للذهن- مستقلة عن الإخراج، وتزوّدنا بتعابير محددة لغويًا عن الأفكار. وإنْ كانت كذلك؛ فهي نظام بنيوي خالص، ليس له ترتيب خطيّ، ولا غيره من التدابير التي لا تنتمي إلى اللغة من حيث هي كذلك؛ بل فُرضت عليها فرضًا يستلزمه جهاز النطق ( بينما الإشارة، التي تستفيد من الفضاء البصري، تستعمل خيارات أخرى). إنّ اللغة الداخلية مبنية على عمليات تكرارية تنتج ما سمّيناه خصيصة اللغة الأساسية: إنتاج سلسلة لا متناهية من التعابير -ذات البنية المحددة- إنتاجًا تراتبيبًا، وتفسّر بوصفها أفكارًا. ونظام إخراج اللغة يخلو من العمليات التكرارية؛ فهو ببساطة تعيين محدد يفرض الترتيب الخطي، وغيرها من التدابير التي يتطلّبها نظام الإخراج.
أما غناء العصافير فهو في غاية الاختلاف: فهو نظام إخراج مبني على ترتيب خطي، ولا بنية لها إلا لَمام. توجد مقارنات تمثيلية مذكورة من باب الإشارة في مرحلة الإخراج، ولكن حكمي أنا على الأقل -وأخال أن زملائي المشتغلين في دراسة غناء الطيور دراسة مكثفة يشاركونني الرأي- هو، على الرغم من أن الظواهر ذاتها مثيرة للاهتمام في نفسها؛ إلا أنها لا تكاد تنبئنا شيئًا ذا بال عن اللغة الإنسانية.
آمي براند: أتيت بنظرية النحو التحويلي -الفكرة التي مفادها أن هناك بنية عميقة تحكمها القواعد تقوم عليها اللغة الإنسانية- حين كنتَ طالبَ دراسات عليا في خمسينيات القرن الماضي، ونشرت كتابك الأول عنها «البنى النحوية» في عام 1957. ما مدى تغيّر حقل اللسانيات النظرية اليوم مقارنة مع ما قد كنتَ تراه المستقبل قبل 60 عامًا؟
تشومسكي: لا يكاد يُعرف مقارنة بما كان عليه. في تلك الفترة، كانت اللسانيات حقلًا معرفيًا صغيرًا، واهتمامي في البحوث التي ذكرتيها كانت لا تتعدى نطاق RLE (معمل بحوث الإلكترونيات في ماساتشوستس). وقد كانت المجلات العلمية معدودة، ويندر أن تستقبل بحوثًا من طينة هذه البحوث؛ بل إنني سلّمت كتابي الأول «البنى المنطقية للنظرية اللغوية» إلى دار نشر معهد ماساتشوستس عام 1955 بناءً على توصية رومان ياكوبسان، لكن رفضه المراجعون بحجة معقولة مفادها أن الكتاب لا يبدو أنه يتناسب مع أي حقل علمي معروف (نسخة عام 1956 من الكتاب التي حُذف منها بعض الأجزاء نُشرت عام 1975 حين قام حقل اللسانيات على رجليه).
وقد وُجِدَ تقليد فكري -وهو تقليد ثري- أحيته هذه الأبحاث من عدّة وجوه، وبسطت ضِفَافه؛ ولكنّه كان مجهولًا تمامًا آنذاك (وما زال إلى حد بعيد).
طلبتُ وموريس هالي في نهاية الخمسينيات طلبًا بإنشاء قسم اللسانيات، وقد جاءت الموافقة سريعًا، وفكرة تأسيس القسم كانت فكرة جامحة في نظرنا؛ إذْ كانت أقسام اللسانيات نادرة؛ فلمَ يوجد واحد منها في معهد ماساتشوستس [المعروف بأقسامه العلمية والهندسية]؟! كما أن هذا القسم سيخص ضربًا من اللسانيات يكاد لم يسمع به أحد قط؟ لمَ قد يلتحق أي طالب بهذا القسم؟ قررنا المحاولة بصرف النظر عن كل ذلك، والمدهش أننا نجحنا! شملت الدفعة الأولى مجموعة رائعة من الطلاب، وجميعهم قد بنى سيرًا مهنية مميزة، وأبحاثًا أصيلة ومثيرة، واستمر الأمر حتى يومنا هذا. ومما يلفت النظر -وربما لا يفلت النظر- أن النمط نفسه قد تكرر في دول أخرى؛ حيث قد نمت جذور «المشروع التوليدي» بعيدًا عن الجامعات الكبيرة.
بل إنّ أول طلبة الدكتوراة عندنا قد سبق تأسيس القسم؛ وهو روبرت ليس (كان زميلًا في معمل بحوث الإلكترونيات)، وقد أنجز دراسة بالغة التأثير عن الاسميّة (nominalization) في اللغة التركية. وبما أنه لم يوجد قسم لسانيات بعدُ، سلم صديقنا بيتر إلياس -رئيس قسم الهندسة الكهربائية في ماساتشوستس- أطروحة الدكتوراة في قسمه؛ وعدم التمسك بالرسميات هذا أمر معهود في المعهد، وهي عادة غاية في الإنتاجية. لا بد أن ذلك قد فاجأ الآباء الفخورين حينما قرأوا عناوين الأطروحات في حفل التخرّج.
ولكن الوضع البحثي الآن مختلف اختلافًا بيّنًا؛ إذْ تزدهر أقسام اللسانيات في جميع أنحاء العالم، والإسهامات الرئيسية فيه تأتي من أوروبا، واليابان، والعديد من البلدان، كما توجد العديد من المجلات العلمية في المجال؛ بما فيها مجلة البحث اللساني (Linguistic Inquiry) التي تصدرها مطابع معهد ماساتشوستس -والتي احتفلت بعامها الخمسين قبل فترة قريبة-. وقد أجريت دراسات النحو التوليدي على عدد كبير من اللغات -تختلف فيما بينها اختلافًا واسعًا- وعلى نطاق وعمق لم يتصور فيما سبق. وقد شُرِّعَتْ مجالات بحثية جديدة نادرًا ما وجدت في الخمسينيات. ويستكشف الطلّاب أسئلة لم يكن في الإمكان صياغتها قبل عدّة سنوات، كما أن الأبحاث النظرية بلغت مستويات جديدة من العمق والتحقق التجريبي، وتُستكشف العديد من المناطق البحثية الجديدة الواعدة.
عادة ما كنتُ وموريس، في آخر السنوات، نتأمل ضآلة إمكانيتنا في استشراف ما قد يقع مقارنة مع ما وقع، بله تخيله، حينما بدأنا عملنا سويًا في مستهل الخمسينيات. وما حدث منذ ذلك الحين هو للسحر أقرب.
آمي براند: في كتابك المنشور عام 1957 ذكرت جملتك المشهورة «الأفكار الخضراء التي لا لون لها تنامُ نومًا غاضبًا» بيانًا لملحظ أن الجملة صحيحة نحويًا، ولكن بلا معنى دلاليًا؛ وعليه، تشير إلى البنية والتركيب بوصفهما شيئًا أوليًا ومستقلًا عن المعنى. وقد يعترض شاعرٌ على أن هذه الجملة بلا معنى (ولعله يصفها بما سمّاه اللساني والناقد الأدبي رومان ياكوبسون «الوظيفة الشاعرية» للغة)، وعددٌ من الناس «حقنوا» الجملة -إنْ جاز القول- بالمعنى. لمَ فعلوا ذلك في ظنّك؟
تشومسكي: لأنهم لم يفهموا مغزاها هي وغيرها من الأمثلة المشابهة. لقد كان مغزى هذه الجملة دحض معتقدات ذائعة حول النحويّة [أو السلامة اللغوية grammatical status] مفادها أن النحويّة يحددها التقريب الإحصائي لمدونة لغوية بأطر صورية (formal frames)، أو بالمعنى الذي يكون مستقلًا عن البنية؛ إلخ. إنّ الجملة التي ذكرتِها -لنسمّها (1)- واضحٌ نحويتها، ولكنها تخلّ بجميع هذه المعايير الموضوعة للنحوية. ولهذا وضعت الجملة مثالًا يدحضها. تختلف (1) عن الجملة المماثلة لها بنيويًا (2) «الأفكار الثورية الجديدة تظهر ظهورًا نادرًا» (وهي -بخلاف (1)- لها معنى حرفي مباشر)، كما أنها تختلف عن (3) «غاضبًا نومًا تنامُ لها لون لا التي الخضراء الأفكار» -نفس الجملة الأولى ولكن معكوسة- التي يصعب حتى قِرَأَتُها بتنغيم عادي. وما يميز (1) هو أنها نحوية كما (2)، ولها نفس صيغتها النحوية، ومعنى حرفي مباشر؛ رغم أنها تخل بجميع المعايير الموضوعة آنذاك للنحوية. ولهذا، لا يصعب الإتيان بتأويلات غير حرفية لـ(1) (كما أن ذلك ممكن لـ(2)، ولكنه في غاية الصعوبة لـ(3) الفاقدة للتشابه البنيوي لجمل صحيحة نحويًا مثل (2)).
نُوقِشَ جميع ذلك في كتاب «البنى النحوية»، واستفضت في نقاشها في «البنى المنطقية للنظرية اللغوية» (وهو يشمل أبحاثًا لي اشتركتُ في بحثها مع بيت إلياس؛ حيث وسّعنا تفسيرًا للتصنيف على منوال نظرية المعلومات، وقد كان ناجعًا مع الجمل القصيرة، والحسابات اليدوية التي كانت الخيار الوحيد في أوائل الخمسينيات حين أنجزنا البحث في مرحلة الدراسات العليا في جامعة هارفرد).
أفضى عدم فهم المغزى من هذه الأمثلة إلى أن يقدّم بعض الناس تأويلات استعارية («شاعرية») لـ(1) مشابهة لما أشار إليه النقاش في كتاب «بنى نحوية». وأقل منه لـ(3)، مع أن ذلك ممكن، بشيء من الجهد. قد يختلق تأويل معين لتقريبًا أي سلسلة من الكلمات، ولكن السؤال المهم في دراسة اللغة: كيف أفضت القواعد إلى تأويلات حرفية (مثل حالة (2))؟ والسؤال الثانوي: كيف أن العمليات الإدراكية الأخرى -التي تعتمد جزئيًا على بنية اللغة (كما في (1) و (3))- قادرة على إعطاء تأويلات أخرى كثيرة؟
آمي براند: في المقابلة التي أجريناها مع ستيفن بينكر، سألناه عن رأيه في الأثر الذي قد يخلّفه الاهتمام المتفجر بالذكاء الاصطناعي وتعلّم الآلة في مجال علم الإدراك، وأجاب بينكر أنه يلمس «جدبًا نظريًا» في هذه المجالات ستفضي بنا إلى طرق مسدودة؛ إلا إذا دُمجت مع دراسة الإدراك. وقد كان علم الإدراك -الذي ساهمتَ في إنشائه- افتراقًا واضحًا عن السلوكية -وهي توجه علمي يشدد على أثر العوامل البيئية على السلوك أكثر من العوامل الفطرية أو الوراثية- وأبحاث بورهوس فريدريك سكينر. أترى تنامي الاهتمام بتعلّم الآلة على أنه شيء مماثل للعودة إلى السلوكية؟ هل تشعر أن الطريق الذي يسلكه مجال التحسيب مدعاة للقلق؟ أم أنه قد يبث نفسًا جديدًا في مجال دراسة الإدراك؟
تشومسكي: يقال ذلك أحيانًا، وبنبرة انتصارية. ففي كتاب ترانس سينوسكي الصادر حديثًا «ثورة التعلّم المتعمّق» (Deep Learning Revolution) -مثلًا- يدعي أن سكينر كان محقًا! وهي -كما أرى- إساءة فهم بالغة لسكينر، ولما أحرزته «الثورة». تطلّ علينا بعض الأسئلة الواضحة حول مشاريع «تعلّم الآلة». لنأخذ مثلًا محلل جوجل اللغوي (Google Parser)، والسؤال الأول المطروح هو: ما الغرض منه؟ إنْ كان غرضه صنع جهاز مفيد -نوع محدد من الهندسة- فلا شيء يقال بخصوصه. ولكن افترض أن الغرض منه هو المساهمة في العلم؛ أي، معرفة شيء عن العالم؛ وفي حالتنا، عن الإدراك، وعلى وجه التحديد: كيف يعالج البشرُ الجملَ. حينها، تطلّ علينا أسئلة أخرى. ولكن ما يطرح هو أتفه الأسئلة -ويبدو أنه لا يطرح غيره- ألا وهو: ما مدى نجاعة البرنامج -مثلًا- في تحليل مدونة صحيفة الوال ستريت لغويًا؟
هب أن نسبة نجاح البرنامج بلغت 95% -كما يصرح بذلك مسؤولو العلاقات العامة في جوجل- مما يفيد [في ظنهم] أن مسألة التحليل اللغوي قد حلّت، وحريٌّ بالعلماء بحث أمر آخر. ما معنى ذلك على وجه الدقة؟ تذكري افتراضنا أن الغرضَ من البرنامج المساهمةُ في العلم؛ إذْ كل جملة في المدونة اللغوية تُعدُّ إجابةً عن سؤال تطرحه تجربة معينة: هل أنتِ جملة إنجليزية سليمة لغويًا ولكِ هذه البنية الكذائية؟ الجواب: نعم (غالبًا). وحينها سنطرح السؤال الذي سيذكر في أي مجال علمي: ما الفائدة من نظرية أو منهجية معينة تأتي بالإجابة الصحيحة بنسبة 95% من تجارب اُختيرت عشوائيًا، وأُديت بلا غاية؟ الإجابة: تكاد لا توجد فائدة. ما يفيد هو الإجابات عن أسئلة تطرحها تجارب حاسمة ضمن حدود نظرية، وقد صممت هذه التجارب بحثًا عن إجابة سؤال بالغ الأهمية.
فلو كان من المفترض عدُّ هذا البرنامج «علمًا»؛ فهو علمٌ مجهولٌ نوعه.
السؤال التالي: هل الأساليب المستخدمة مماثلة لما يستعمله البشر أم لا؟ الإجابة: لا تماثل أساليب البشر في شيء. أقولها مجددًا: علمٌ مجهولٌ نوعه.
كما يوجد سؤال آخر، ويبدو أنه لا يطرح أبدًا: ما مدى نجاعة المحلل اللغوي في معالجته للغات المستحيلة؛ أي، تلك اللغات التي تنتهك المبادئ الكلية للغة؟ ولاحظي في هذه الحالة أن نجاح المحلل اللغوي سيعدُّ فشلًا لو كانت أغراض البرنامج المساهمة في العلم. ومع أن الأمر لم يجرّب حسب علمي، إلا أن الإجابة أغلب الظن أن نسبة النجاح ستكون عالية؛ بل وفي بعض الحالات ستكون نسبتها أعلى (في التجارب الاختبارية [في تعلّم الآلة] مثلًا) من اللغات البشرية؛ خصوصًا بالنسبة للأنظمة المصممة لاستعمال مزايا التحسيب الأساسية المستحيلة -من حيث المبدأ- على اللغات البشرية (استعمال الترتيب الخطي مثلًا). عرفنا جانبًا كبيرًا عن اللغات المستحيلة، ويتضمن ذلك أدلة من علم نفس اللغة وعلم أعصاب اللغة حول تعامل البشر مع هذه الأنظمة؛ وإنْ كانوا قادرين على التعامل معها فهم يتعاملون معها بوصفها أحاجٍ، وليس لغات.
باختصار، يصعب رؤية أنى لهذه البحوث أن تساهم في العلم من أي وجه نظرت لها به؛ خصوصًا علم الإدراك، بصرف النظر عن فائدتها في صناعة أجهزة مفيدة أو استكشاف خصائص العمليات التحسيبية التي توظف فيها.
قد يقول قائل: إنّ السؤال الأخير صِيغَ صياغة خاطئة؛ لأنه لا يوجد شيء اسمه لغات مستحيلة؛ إذْ إنّ أي مجموعة مختارة من الكلمات المتسلسلة ستعدُّ لغةً كغيرها. وأقول، حتى مع وجود أدلة طافحة تنقض هذا الزعم، ينبغي رفضه بناءً على أسس منطقية بسيطة: لو صح ذلك؛ لاستحال تعلّم اللغة، وهو أمر أوضح من أن يذكر. ورغم ذلك، إنْ مثل هذا الاعتقاد كان شائعًا في أيام ذروة السلوكية والبنيوية، وأحيانًا يقال ذلك بوضوح فيما سُمّي «الأطروحة البوازية» [نسبة إلى الأنثروبولوجي فرانز بواز] التي مفادها أن اللغات تختلف عن بعضها اختلافًا اعتباطيًا، وينبغي دراسة كل لغة من دون أي تصورات مسبقة (وقد قال علماء الأحياء بدعاوى مشابهة عن تنوع الكائنات الحية). ونجد أفكارًا مشابهة -على الأقل ضمنيًا- في أدبيات تعلّم الآلة، ولكن من الواضح أن مثل هذه الدعاوى لا ينبغي أخذها على محمل الجد، ونعرف الآن أنها غير صحيحة (وينطبق الأمر كذلك على مسألة تنوع الكائنات الحية).
ولعلّ استطرادًا يثري النقاش حول مفهوم التجربة الحاسمة؛ أي، التجربة التي تؤطرها نظرية معينة صممت إجابةً عن سؤال ذي أهمية لغوية. في حالة هذه التجارب، يكون أداء أنظمة التحليل اللغوي الميكانيكية -التي يُحاول أن يغرونا بها- أداءً رديئًا، كما أبان عن ذلك بيانًا واضحًا عالم الإدراك الحاسوبي سانديواي فونغ. وهذا مدار الأمر -في نظر العلم على أقل تقدير- وليس مجرد توافق نتائج تجارب عشوائية لا هدف لها (كما نجد في المحاكاة، أو التحليل اللغوي لمدونة ما). إنّ التجارب الهامة متعلقةٌ بالبنى اللغوية «الغريبة» التي نادرًا ما نراها في الحديث العادي، ولكن يفهمها الناس مباشرةً، بالشروط اللافتة للنظر التي يجب استيفاؤها. وقد كُشف عن عدد من هذا الضرب من التجارب على امتداد السنين، وخصائصها كاشفة؛ لأنها تسلط الضوء على مبادئ غير مُتعلّمة تجعل اكتساب اللغة ممكنًا. لن أتطرق لمناقشة الموضوع هنا، ولكن بحوث اكتساب اللغة عند الرضع، والدراسة الإحصائية الدقيقة للمواد اللغوية المتاحة للطفل (على وجه التحديد، أعني دراسات تشارلز يانغ) تكشف أن مفهوم «غريب» بوجه عام يطال حتى تجربة الرضيع.
آمي براند: ما زلت نشطًا -كما كنت- في أكثر من مجال؛ إذْ ما زلت -مثلًا- تتعاون مع زملاء من حقول مختلفة مثل علم الحاسوب وعلم الأعصاب في سلسلة من الأوراق البحثية نشرت في السنوات القريبة الماضية. ما مشاغلك البحثية حاليًا؟
تشومسكي: لعل من المفيد إلقاء نظرة خاطفة على البدايات. بدأت أجرب النحو التوليدي من باب الهواية في آواخر الأربعينيات، وقد كان جانب من هذا الاهتمام محاولةً لتفسير البيانات في صيغة قواعد ظاهرة للنحو التوليدي، ولكن جانب أكبر من هذا الاهتمام مصدره استكشاف موضوع بساطة النحو؛ «البرنامج الأقصر»، وهي مشكلة ليست هينة، ولا تحل إلا جزئيًا بالحساب اليدوي؛ وذلك لتعقد أنظمة القواعد المنظمة تنظيمًا عميقًا. وفور التحاقي بهارفرد، قابلت موريس هالي وإيرك ليننبرغ، وسرعان ما أصبحنا أصدقاء قريبين، وسبب ذلك -جزئيًا- ارتيابنا المشترك بأطروحات العلم السلوكي السائدة التي كانت أشبه ما تكون بالعقائد المسلّم بها آنذاك. وسرعان ما أفضت بنا هذه الاهتمامات المشتركة إلى ما سيسمى لاحقًا «برنامج اللغة الحيوي»: دراسة النحو التوليدي بوصفه خاصية بيولوجية للكائن الحي (وقد شرّع إيرك أبواب مجال بيولوجيا اللغة بكتابه الذي أصبح من الكلاسيكيات الآن).
وقد بات واضحًا في حدود إطار برنامج اللغة الحيوي أنّ «غاية المنى» تفسيرُ الخصائص الأساسية للغة بناءً على أنحاء توليدية مقننة نظريًا تلبي الشرطين المتلازمين: قابلية التعلّم (learnability) وقابليّة التطور (evolvability). هذا هو معيار التفسير الأصيل، ولكن الهدف كان بعيد المنال.
لقد كانت المهمة التي في متناول اليد هي محاولة فهم البيانات الضخمة الجديدة، والإشكالات المحيرة، التي سرعان ما تراكمت فور ظهور نتائج الجهود الأولى في بناء أنحاء توليدية، وقد تطلب ذلك آليات بالغة التعقيد. لن أراجع التاريخ منذ ذلك الحين، ولكن قوته الدافعة كانت بيان أن افتراضات أبسط وأضبط نظريًا قد تفضي إلى نفس النتائج التجريبية أو أفضل منها إنْ طبقت على نطاق واسع من البيانات.
وقد بدا لنا في مستهل التسعينيات أنه من الممكن مواجهة الصعب المحتوم: تبنّي أبسط الآليات التحسيبية القادرة -على أقل تقدير- أن تنتج الخصيصة الأساسية للغة، ومحاولة بيان أن خصائص اللغة الأساسية قد تُفسّر على ضوء ما سُميّ «الأطروحة الأدنوية القوية». وأخال أننا الآن قد أحرزنا تقدمًا ملحوظًا في هذا المسعى، كما حققنا أول التفاسير الأصيلة للخصائص الكلية الهامة للغة التي توفي الشرطين المتلازمين: قابليّة التعلّم وقابليّة التطور.
المهمة القادمة لها عدّة جوانب: الجانب الأولي تحديدُ المدى الذي تشمل به الأطروحة الأدنوية القوية مبادئ اللغة الأساسية التي سلط البحث عليها الضوء في السنوات الأخيرة، والتعامل مع التجارب الحاسمة؛ تلك التجارب التي تكشف جوانب هامة بالنسبة للمبادئ المتعلّقة بعمل الملكة اللغوية، والتي تفسر اكتساب اللغة.
المهمة الثانية هي التمييز بين المبادئ الخاصة باللغة -أي تلك الخاصة بالبنية الفطرية للملكة اللغوية- وغيرها من المبادئ [الإدراكية] العامة. ومما ينير فهمنا في هذا الجانب على وجه التحديد مبادئ النجاعة التحسيبية، وهو ليس أمرًا مستغربًا بالنسبة لنظام تحسيبي مثل اللغة. وما يهمنا في هذا الموضع المبادئ التحسيبية الخاصة بالأنظمة التي لها قدرة استيعابية قصيرة الأجل، وهذا الخاصية قد أبانت بحوث قريبة عهد أن لها عواقب تجريبية حاسمة. كما توجد مهمة أخرى في شحذ هذه المبادئ بحيث تشمل تلك المبادئ التي تؤدي دورًا في التفسير الأصيل، وتعزل تلك التي لا تشابهها إلا سطحيًا، وتبين أن هذه المبادئ المشابهة غير مشروعة من الناحيتين التجريبية والمفهومية.
وقد ظهرت أبحاث لافتة للنظر في جميع هذه المجالات، ويبدو أن الوقت ملائم لقطف ثمار هذه الجهود بمراجعة شاملة لهذه التطورات البحثية التي أخالها تستهلّ مرحلةً جديدة ومثيرة في مجال بحثي ضارب في القدم.
اختصارًا أقول: أرى لأول مرة في تاريخ اللسانيات أن «غاية المنى» قد أصبحت في مدانا المنظور -على أقل تقدير في بعض المجالات الأساسية- بل لعلها في متناول اليد. هذا هو البحث الأساس الذي انخرطت فيه في السنوات الأخيرة، وآمل أن ألم شتاته قريبًا.
آمي براند: احتفلت مؤخرًا بعيد ميلادك التسعين -أنت وعددٌ كبير من الأصدقاء والزملاء هنا في الحرم الجامعي ماساتشوستس- وبلوغ هذا العمر هو لا شك مدعاة للتأمل، حتى وإنْ كان المرء يترقب مستقبله. بإلقاء نظرة على أبحاثك حتى اليوم، ما الذي تعدّه أبرز إسهاماتك النظرية في مجال اللسانيات؟
تشومسكي: استهلال ضروب جديدة من الأسئلة والمواضيع البحثية.
آمي براند: سؤالي هذا سؤال عام للغاية، ولكن لعله يخاطب الزمن الذي نعيشه الآن: ما الذي تراه مدعاة للتفاؤل هذه الأيام؟
تشومسكي: عدّة أمور؛ أولها أن الزمن الذي نعيش فيه بالغ الخطورة، ومن بعض الوجوه، هو الأخطر في تاريخ البشر كافة؛ هذا التاريخ كما نعرفه قد ينتهي إنْ لم نتعامل تعاملًا حازمًا مع تزايد تهديدات الحرب النووية والكوارث البيئية. ويتطلّب ذلك وضع حد للولايات المتحدة في مساعيها لتعطيل اتفاقيات التسلّح، ومواصلتها -مع روسيا- في تطوير أسلحة أهلك وأفتك مما مضى؛ فهي لا ترفض فحسب وضع يدها مع بقية العالم محاولةً في التصرف بشأن الكارثة البيئية الوخيمة؛ بل تسعى في تصعيد الخطر، وهذا ضربٌ من الإجرام لم يسبق في التاريخ قط.
ليس أمرًا سهلًا، لكنه ممكن.
وُجِدَتْ كوارث أخرى في تاريخ البشرية، وإنْ لم تكن بهذا النطاق الشامل. أنا كبيرٌ في السن حدَّ أني أتذكر حين كان انتشار الفاشية وكأنه انتشارُ النارِ في الهشيم -ولا أعني إلى ما يشار إليه بالفاشية اليوم؛ بل شيء لا يدانيه فظاعة- ولكن تجاوزنها.
توجد أشكال مختلفة مذهلة من النضال والمشاركة السياسية، وأغلبها من الشباب. وهذا مما يثلج الصدر.
وفي آخر المطاف، نحن دائمًا بين خيارين: إما الركون للتشاؤم واللامبالاة مفترضين أنه ما باليد حيلة، ولا يسعنا المساعدة في منع أسوأ ما قد يحدث؛ أو تلقف الفرص السانحة -وهي موجودة- والسعي في تحقيق أهدافها بأقصى ما يمكننا؛ وبذلك نساهم في تحسين العالم.
ليس خيارًا صعبًا.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
آمي براند مديرة تحرير موقع MIT Press.
المصدر (ضمن اتفاقية ترجمة خاصة بمنصة معنى)