في شتاء ١٩٨٤م كنت في السنة النهائية الطويلة بكلية الطب طالبًا يكتب الشعر وينشط في المجال العام، يساري بدرجة ما ورومانسي بدرجة أكبر. في هذا الشتاء وبعد النهاية المنطقية الحزينة لآخر إضراب طلابي عظيم بجامعة مصرية، دخلت في أزمة وجودية عميقة أصلها في السياسة والفشل العاطفي وعنوانها: طب أم شعر. قبل هذه اللحظة كنت أرى أنني لا أصلح للطب، وأنني بعد التخرج سأخلع البالطو الأبيض وأعلقه على أقرب شماعة وأكتفي بكتابة الشعر، كنت مقتنعًا تمامًا أنهما عالمان متعارضان، ولا رغبة لي في جمع العوالم، أو التقريب بينها كما يقتضي ضعف الإيمان وقلة الحيلة.
مرت أيام كثيرة وأنا لا أعرف ماذا أفعل سوى ترديد السؤال: طب أم شعر؟ حتى وقعت عيناي على مقتطف للجاحظ في كتاب أو مقال: «وحال الشاعر كحال الطبيب، على كل منهما أن يكون عارفًا جيدًا بأدواته وإلا كان وبالاً على نفسه وأهله». كانت هذه مصادفة تخلو من الصدفة، رسالة أو علامة كما يقولون، كأنها كتبت لي ومن أجل هذه اللحظة بالذات أذكرها الآن -بتصرف طبعًا- وأدرك أنها القشة التي تعلق بها الغريق فحسم أمره، والتفت إلى دروسه حتى لا يكون وبالاً على المرضى، أما الشعر فليس له جمهور يخشى عليه من اختلال العروض أو ثقل المجاز، هكذا أنقذ الشاعر نفسه واختفى -إلى حين- بين أسرة المرضى أو في غرفة العمليات.
في تلك الآونة التي تبدو بعيدة الآن، عندما كانت الصحف تسود أوراقها، والإذاعة تحشو وقت فراغها الطويل بحوارات مع الكتاب، فإذا كان الكاتب طبيبًا أو تصادف أنه درس الطب وتخلى سريعًا عن العمل به، فالسؤال عن العلاقة بين الطب والأدب يصبح سؤالاً حتميًا لا يقل سخافة عن الكليشية الي بطل استخدامها قبل أعوام قليلة: «طبيب بين الأدباء وأديب بين الأطباء»، وغالبًا ما كان الرد يتسم بالفخر: ربما لأن هناك من أوحى لهم أن الأدباء والأطباء هم آخر الإنسانيين العِظام، وآخر القادرين على التحديق في عين الحياة وفجيعة الموت، لكن الأرجح أنهم يؤمنون في قرارة أنفسهم بأن الجمع بين الانتماء لنخبتين ميزة، وفي تلك الآونة التي تبدو بعيدة أيضًا، وحين جاءت لحظة التخصص، لم أختر تحليل النفوس على أريكة فرويد، كما يفعل المهوسون بالأدب عادة، بل اخترت أن أكون جراحًا، جراح رومانتيكي يرى في أدوات التشخيص الحديثة امتدادًا ميتافيزيقياً للحواس، ويرى نفسه نصف إله ينقذ العالم كل يوم من نفسه، ويعيد اختراع الإنسان. تعيده إلى الواقع سحنة الأساتذة المتعالية، وفي الواقع أطوّر فهما يناسبني للفعل الطبي كفعل درامي يضم ثلاثة أطراف: مريض وطبيب ومرض. لكل طرف حكاية: طرف يحكي وطرف يسمع، وفي الوقت نفسه يدوّن ما يقوله المريض بدقة وبألفاظ المريض نفسها، حيث اللغة فاعل أساسي ومفتاح رئيس في فهم الحكاية وتشخيص المرض، وبين لحظة وأخرى يطرح الطبيب سؤالاً يدفع المريض للتحدث، فالمريض مركز الحدث، والطبيب يسمع ويسأل ويلاحظ، ثم يفحص ويجس بأصابعه العارية موضع الألم، وما الطب نفسه -وفق تعرف الأب المؤسس إيبوقراط- ألا «فن استخدام الحواس الخمس».
الحدث هو المرض بالطبع، وليس من الضروري أن تنتهي رحلة المرض سعيدة، فالكثير من الحكايات تنتهي بالشفاء، والكثير منها أيضًا ينتهي بموت المريض غالبًا أو الطبيب أحيانًا، أما حكاية المرض نفسه فهي الأكثر غرابة؛ حيث يرى شيوخ المهنة أنه مهما كانت طريقة العلاج فإن الشفاء ربما لا يعني نهاية القصة، بل بداية قصة أخرى. ولا يعني هذا أنني كنت على دراية بما عُرف في نهاية القرن العشرين بالطب الحكائي (Narrative Medicine)فما كان يدور في رأسي أبسط من منهجية كاملة في الطب النفسي على وجه التحديد، منهجية لا تحرص فقط على تعليم الطبيب كيف يحول حالة المريض إلى قصة، بل تسعى إلى تعميق العلاقة بين الطبيب والمريض واستعادة الإنسانية المفقودة في طرق العلاج.
عمومًا، لهذا الثالوث غير المقدس نفسه حكاية أخرى شديدة الارتباط بتطور الحياة والعلم والعمران، والتطور لم يكن خطيًا دائمًا، ومركز الدراما لم يكن هو نفسه في كل المراحل. في العالم القديم كان المريض هو المركز، وفي بداية الحداثة صار المعيار هو كفاءة الطبيب، فانتقل الطبيب إلى المركز، وفيما بعد الحداثة أصبح النظام الطبي هو المركز، ودفع المريض والطبيب إلى الهامش الواسع. فكيف كانت البداية، وكيف اختلفت صورة الطب والأطباء في كل مرحلة من هذه المراحل؟ وهل نجد هذه الصور المختلفة في كتب الطب، أم في الشعر والرواية ووسائل الإعلام؟
ينسب للمؤسس إيبوقراط أنه خلص الطب من الخرافات وفصله عن الفلسفة محتفظًا من أنبادوقليس بالعناصر الأربعة: الماء والهواء والتراب والنار. انتقل طبه من اليونان إلى إسكندرية البطالمة ومنها إلى روما جالينوس، ومن ثم عرفه العرب عن طريق النساطرة والسريان، واستعاروا له ولكل طبيب صفة الحكيم من الفرس، لكنهم كانوا أقرب إلى مزاج جالينوس الذي أعاد الطب إلى الفلسفة قائلًا: «على الطبيب أن يكون فيلسوفًا أيضًا»، فلا غرابة إذن أن يكون المعلم الثاني ابن سينا وعدد لا بأس به من أطباء العرب المشهورين في العصر الوسيط فلاسفة كبار وأطباء يُشهد لهم بأنهم لم يكونوا سعاة بريد بل إضافة حقيقية للطب والحكمة، تعرّف العصر الوسيط في غرب المتوسط من خلالهم على إيبوقراط وجالينوس، حتى جاء الفرنسي إيميل ليتريه في القرن التاسع عشر ورتب ما اكتشف من أصول يونانية وعرّف بمدونة إيبوقراط، وأعاد ترجمة كتاباته ورقّمها، وبعض هذه الكتابات تشبه الأقوال المأثورة: «الحياة قصيرة والفن (الطب) طويل، المصادفة عابرة، والخبرة خادعة، والحكم صعب. لا تفعل ما تقتنع به وحدك، بل يجب أن تفعل ما يتفق عليه المريض والمساعدون والعالم الخارجي المحيط». وبعضها يشبه الحكايات وبعضها يشبه العلم، وبعضها شاعري: «للقلب شكل الهرم/ لونه قرمزي عميق/ في غشاء أملس/ في هذا الغشاء سائل شفاف يشبه البول/ يتحرك القلب فيه كأنه في إناء/ هذا السائل يحمي نبض القلب/ قليل لكنه كافٍ لتخفيف الحرارة أيضًا»، ويصف بطين القلب قائلاً: «هنا ينابيع الوجود/ تنتشر منها أنهار إلى كل أنحاء جسده/ هذه الأنهار تروي جسده الجاف/ تجلب الحياة للإنسان/ وإذا جفت يموت».
ربما تخص هذه الشاعرية وصف القلب والدورة الدموية في العالم القديم كله، فالمصريون القدماء قالوا عن النبض إنه «كلام القلب الداخلي»، الأرجح أنها كانت لغة زمن ما، وطريقة في الكتابة تستجيب لزمنها، وأن الشاعرية المفترضة هنا هي رؤية المحدثين، من مؤرخي الطب وجلهم من الأطباء، وليس هذا لأن كل قديم جميل، ولكن لصياغة سردية طويلة متماسكة عن الجمال الكامن في كتاب الطب الكبير، هذه السردية نفسها التي حاولت بطريقة ما أن تضم الوصف الدقيق للجروح في إلياذة هوميروس إلى كتابها العظيم، لكن الشاعرية لا تسقط على الناس من أعلى، ولا تمنح بأثر رجعي، أما أكثر كتابات إيبوقراط شهرة هو «القَسَمْ» الذي تم تعميمه على كل الأطباء في جهات الأرض الأربع منذ ترجمته في القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا. هذا القسم يرسم صورة غاية في المثالية للطبيب بصفته شخصًا ملتزمًا بأصول مهنته ومراعٍ لحقوق المريض، وحافظ لأسرار البيوت التي يدخلها وحريص على الحياة، لا يقدم السم لمن يريد إنهاء حياته، ولا يساعد في إجهاض، ولا يغري مريضًا أو أحدًا من أهله ذكرًا كان أم أنثى، وفي الأخير هو لا يمارس الجراحة ويتركها لغيره من المتخصصين، فهل كانت صورة الطبيب في هذا القسم المكتوب في القرن السادس قبل الميلاد هي صورته في الواقع أم صورته في التمني؟ تعلمنا كتب التاريخ (تاريخ الطب) أن الأطباء لم يكونوا جميعًا إيبوقراط في اليونان، أو جالينوس في روما، أو الرازي وابن النفيس في بلاد العرب، وأن الطب في هذا الوقت كان خليطًا من العلم والقرابين والتعاويذ والسحر وسجع الكهان، والجراحة يمارسها العبيد في بلاد اليونان، ثم الحلاقون في أوروبا العصر الوسيط الذي استبدل الكنيسة بالمعبد، وصار الرهبان أطباء، والأطباء محكومين بالعزوبية كالرهبان، وطلاب الطب يدرسونه ملحقًا بالفلسفة واللاهوت والفلك وبعض الرياضيات.
الطب أم الأدب؟ هذا السؤال رغم بساطته يخفي الكثير من التعقيد والإبهام، وسؤال عن صورة الطب والأطباء في الأدب؟ ومن الذي تعنيه هذه الصورة: الجمهور أم الأدباء أم الأطباء؟ وهل يختلف السؤال بالتقديم والتأخير في الصياغة: الطب والأدب/ الأدب والطب؟ ومن الذي يعنيه هذا الجمع بين عالمي الأدباء والأطباء؟ هل يمكننا التعامل مع الكتب والمقالات الطبية باعتبارها نصوصًا أدبية؟ وهل نتعامل مع النصوص الأدبية التي تناولت المرض وسيرة الألم والتحليل النفسي للشخصيات باعتبارها كتابات طبية أو على الأقل وثيقة تضاف إلى المكتبة الكبيرة لتاريخ الطب؟
يبدو السؤال عن العلاقة بين الطب والأدب سهلاً في ظاهره بالنظر إلى النماذج الكثيرة التي جمعت بين الطب والأدب والتأليف الموسيقي وفنون التشكيل، خاصة في القرنين التاسع عشر والعشرين.
يرى مايكل نيڤي في الموسوعة الطبية الكبيرة لتاريخ الطب، أن فصل إيبوقراط للطب عن الفلسفة ورسم صورة للطبيب كشخص «حرفي/تقني» وليس فيلسوفًا أو مفكرًا يجعل من غير اللائق أن ننظر لكتاباته الطبية باعتبارها أدبًا أو تنتمي لعالم الأدب بالمعنى الحديث للمصطلح، كما أن وضع الطب والأدب باعتبارهما جزءًا من الثقافة الرفيعة يعود إلى عصر النهضة وليس إلى العصر الكلاسيكي القديم، فالنظرة الكلاسيكية القديمة للطبيب لا تنطوي على أي قدر من الاحترام، كما تتجلى في أعمال تشوسر (١٣٤٣-١٤٠٠م)، خاصة في «حكايات كانتربري» الشهيرة. وبعد حوالي قرن من الزمان حاول الطبيب والكاهن فرانسوا رابيليه (١٤٨٣-١٥٥٣م) أن يرد الصفعة للأدب فانتقد المثقفين والأدباء، ورسم لهم صورة هي في حد ذاتها وليمة في البذاءة والفحش وبعيدة كل البعد عن الحكمة اللاهوتية المفترضة في تكوين الكاهن فرانسوا، ويبدو أنه انشغل بالانتقام فلم يقدم صورة بديلة، أو لم يسعفه الواقع في رسم صورة بديلة، فبعد سنوات قليلة من رابيليه ظهر كريستوفر مارلو (١٥٦٤- ١٥٩٣م) وهو شاعر ومسرحي ومترجم من العصر الإليزابيثي لا يفوقه شهرة سوى شكسبير، حول الحكاية الشعبية (ذات الأصل الألماني، والمعروفة في أوروبا كلها) إلى المسرحية المعروفة «دكتور فاوست». شخصية فاوست الباحث عن الإنسان الأرقى أو الأعلى، وتحالفه مع الشيطان مفستوفيليس، وسقوطه في أسفل سافلين. وعودة إلى الرابطة السالفة الذكر، من دكتور في اللاهوت إلى دكتور في الطب:
كن طبيبًا، أي فاوست، وكدس الذهب
وخلد ذكراك بعلاج عجيب
إن الخير الأسمى للطب هو الصحة
وكما يقول عبدالرحمن بدوي في مقدمة فاوست لجوته: «لكن الطب لم يفلح في إبقاء الإنسان حيًا إلى الأبد ولهذا فهو علم قاصر، ولم يفلح في رد الموتى إلى الحياة فهو علم عاجز، فليدع الطب إذن، وليتطلع إلى علم القانون، وداعًا إذن أيها الطب». سيمد جوته (١٧٤٩-١٨٣٢م) في مسرحيته عن فاوست (١٨٠٦م) خط السخرية من اللاهوت والقانون على استقامته، لكن سخريته ستبلغ الذروة من الطب حيث يتخلى مفستوفيلس عن لهجة الأستاذ، ويتخذ لهجة الشيطان المغوي الغاوي، ويرى أن تحصيل الطب سهل، فهو شعوذة والشعوذة تحتاج إلى مظهر مقبول، ومجاملات وملاطفات، وثقة بالنفس، ووقاحة في الإدعاء، وهو وسيلة للخلوة مع النساء، واختبار قوة المشدات، ولمس وجس أعضائهن الشهوانية، مصدر كل آهاتهن، وهي أمور يتمناها كل شاب.
لم يتردد جوته في استخدام العبارة المنسوبة لإيبوقراط «الحياة قصيرة والفن طويل»، واستخدم عبارة أخرى في الحديث عن الطب «عليك أن تستقصي العالم الكبير والعالم الصغير»، وهي عبارة منسوبة للطبيب الأسطوري فليبوس بومباستوس فون هوهنهايم، الذي لقب نفسه بـ«باراسيلسوس» (١٤٩٣-١٥٤١م). كان باراسيلسوس طبيبًا وخيميائيًا وفيلسوفًا وجراحًا، ورائدًا من رواد الثورة الطبية في عصر النهضة، وتشبه شخصيته شخصية فاوست الواقعي إلى حد بعيد، وقد أبطل نظرية العناصر الأربعة لإيبوقراط وسخِر من أخلاط جالينوس والأمزجة الملونة، من الحار إلى البارد ومن الصفراء إلى الرماد، وقال إن حياة الإنسان كلها هي عمل الجزيئات الصغيرة؛ هبة الطبيعة ومنحة الكيمياء. كما وقد وضع مبادئ علم السموم، واكتشف الفوائد الطبية للأفيون، فعرفت زهرته بـ«وردة باراسيلسوس» التي تمنح جائزةً في عنق المميزين من الأطباء، مجاز مضمر في «اسم الوردة» لإمبرتو إيكو، ومعلن في واحدة من قصص بورخيس الأخيرة، تحمل العنوان نفسه وتشير بطريقة ما إلى الصاحب الأصلي للوردة، وهي القصة المنشورة في مجموعته القصصية التي نشرت في ١٩٨٣م «ذاكرة شكسبير».
إذن دافع الطبيب الكاهن رابيليه عن الطب والأطباء وكال الشتائم لمحترفي الأدب، لكن الواقع لم يسعفه في تقديم صورة بديلة تدحض ما رآه تشوسر وشركاه، كما كانت صورة الطب والأطباء في حقيقة النهضة، في كوميديات موليير العميقة، ومآسي الإليزابيثي الخالد وليم شكسبير.