مراجعات

سأكون بين اللوز

غيداء العويّد

قبل عدة أشهر سمعت إحداهن تتحدث عن كتاب: سأكون بين اللوز، لم أعر اهتمامًا لحديثها في بادئ الأمر حتى ذكرتْ أنه سيرة ذاتية لكاتب فلسطينيّ، ثم أضافت بأنه وطَّدَ العزم على تدوينها بعد إصابته بمرض السرطان، وارتداده إلى حضن أرضه الأولى: ريف رام الله، بعد ثلاثين عامًا من الاغتراب والمنفى الطوعي.

وأردفت بتفاصيل أخرى، فتصاعد حماسي لاقتنائه، تحصلت بعدها على الكتاب وقرأته بإنصات شديد، كنت أريد أن أعرف: ما الكلمة الأخيرة التي مَدَّ بها صوته وأطلقها إلى العالم وهو يسابق فتات العمر والزمن قبل صموته الأبدي؟ كنت أتساءل: ترى ماذا سيقول إنسان يخطو على الأرض خطواته الوداعية، تخنقه رائحة الرحيل حيثما اتجه وهو يتسمع إلى ألحان سيمفونية الختام؟

كنت أحاول رؤية الحياة وإدراكها بعيون شاعر يقف وجهًا لوجه مع الموت، ويجاهد بشتى الوسائل الممكنة لمقاومته، رغم أنه لا يتنزه عن انتهاز أي فرصة لينال منه، فتارةً ينتزع خصلًا من شعره، وطورًا يزعزع عظام فكه، وتارةً يزلزل نبضه، وطورًا يزغرد في دمه؛ حتى يُجهز عليه أخيرًا ويهلكه.

أنهيت القراءة، وتوقفت كثيرًا أمام العنوان الشاعريّ الذي اختاره حسين البرغوثي لسيرته الخاصة، قلّبت الكتاب وأعدت قراءة غلافه الخلفي الذي ما كان إلا تقديمًا له من مُواطِنه الشاعر أحمد دبور، واستوقفتني هذه العبارة: «هذا الرجل الذي ظل يُقطّر شعرًا حتى آخر لحظة من حياته، مع أن شاعريته الحقيقية وجدت متنفسها الطبيعي في نص مركب كهذا الذي بين أيدينا».

كنت أتفكر في رمزيّة العنوان وبلاغته وكم هو دالٌ على صاحبه، ثلاثة أمور تذكرتها وأنا أنظر في صور أشجار اللوز: الأمر الأول هو المقطع الذي حكى فيه قصة زواج أبيه من أمه، التي رفض أهلها زواجه منها؛ ولكنه فاز بها في نهاية المطاف، واصطحبها معه إلى عمّان لقضاء شهر العسل، ثم عاد إلى قريته في ريف رام الله، وزرع لها الجنائن حول بيتهما باللوز.

الأمر الثاني هو عوالمه الجوّانية العميقة وحواراته الداخلية الطويلة؛ حين تمكنت أعراض المرض الخبيث من اختراق جسده الواهن، وبدأ البرغوثي يستحضر منظر الجبال في طفولته، ويحادث نفسه قائلًا: «لقد مرض الجبل بالسرطان!»، ثم يستأنف حواراته ويصيح بصمت: «قاوم، هذه الأرض لك، قاوم!». ويخطر بباله أن بترا -زوجته- ستنهار إن هو انهار. ثم يشعر بأن الجبل يهتف به: «قل لها: مهما حدث إن زرتِني؛ سأكون بين اللّوز!، ستكون شمس، ويكون نوّار يتطاير في الهواء، وتكون جنائن، ويكون نحل وطريق نحل، وحتى يأتي ذلك الوقت، قاوم».

الأمر الثالث هو صورة قبره التي تأملتها مليًا من الهاتف الخلويّ، حيث أوصى بأن يُدفن بين أشجار اللوز، أخذتُ أتمعن في شاهدة القبر المحاطة بالخضرة والزهور الناعمة من جهاتها الأربع، ثم أقوم بتكبير الصورة بواسطة السبابة والإبهام، وأطالع وأقرأ الكلمات المنحوتة على الرخام الأبيض:

 إن زرتِني سأكون بين اللوز

 الشاعر حسين جميل البرغوثي

1954-2002

كنت المسافة بين سقوط المطر

وانبعاث الزهور

على تلة تخضر تحت قوس قزح

سوف أخرج من داخل الأرض في الليل

كفًا رخامية تحمل القمر الجديد قدح

فاغتسلوا في النهور

وانتظروا لحظتي …

أعود إلى الكتاب مرة أخرى، أبدأ بصفحاته الأولى، يستهلّ الكاتب سيرته بأن يخبرنا بحكاية عودته إلى مسقط رأسه، إلى «هذا الجمال الذي تمّت خيانته» -بحسب تعبيره- حيث اختار أن يكون مسقط روحه هو ذاته مسقط رأسه، ثم ينطلق في سرد تفاصيل المستشفى والمرض، وتثير انتباهي تعاريفه الخاصة هنا، فأجده يُعرّف المستشفى بـ «حائط المبكى الأخير»، أمّا نفسه فهي «لفظة حائرة بين قاموسي الموتى والأحياء» كما يقول: «إنه يطوف على حافة الأحداث، في ضواحي الأشياء».

أغادر الصفحات الأولى وأتصفّح وأتفحّص الكتاب بشكل عام، وأتوقف لإعادة النظر في المعلومات الجديدة التي اكتسبتها من خلاله ووضعت بجانبها علامة نجمة، فعرفت -مثلًا-

حيوان يُدعى الـ غريري؛ وهو حيوان صغير لاحم مفترس، ينام في النهار وينشط في الليل، ويُشكّل خطورة كبيرة على الإنسان، كما اطّلعت على نوع غريب لم أعهده من الحليب يُسمى حليب التين؛ الذي اتضح أنه سائل أبيض حمضي، إن لمس الأعين التهبت بحدة، وينزُّ من عرق ثمرة التين المقطوعة عن أمها، وهي لم تزل فجة، فتُخثّر حليب الغنم إلى جبن لذيذ جدًّا، بمذاق التين.

وعلمت بقصة أو أسطورة عين القتيلة ومعرفته بها، ومختصرها أنه نزل في إحدى الليالي يسبح في البركة، وكان يرافقه صاحبه علي، فقال له فجأة: «إنك تسبح في الدمع!»، ثم أبان له ما استغلق عليه، فأكمل: «كانت هناك امرأة جميلة جدًّا، قتلها أهلها، وكانت مظلومة، فتحولت إلى حوريّة تسكن في الينابيع البريّة، وسكنت هذه العين فسميت (عين القتيلة)». انتهى رفيقه من حكايته. فراح البرغوثي يتخيل الشق الذي تنبع منه العين في الصخرة، عين حورية تبكي، فيتجمع دمعها في بركة كبيرة، ثم يتفرع في قنوات تروي البساتين من حولهم.

أنهيت قراءتي للفصل الأول من مذكراته، فبزغ سؤال جديد، وبدأ يزنّ في رأسي: هل كان يعايش واقعه الراهن بملء كيانه أم أنه كان مستغرقًا وعالقًا فيما استدبر من أيامه الماضية، وكأنه يعيش روبابيكيا حياة؟ أم تُراه كان مهمومًا مرهقًا بما سيستقبله في العالم الآخر ورحلة تحور الحياة من طور إلى آخر كما لو أنه يتخيل ويشاهد الغيب أمامه؟ يبدو لي هذا التساؤل المفاجئ محاولة مني لاستيعاب المرحلة المركبة المربكة من حياته.

أغلقت الكتاب، فسقطتْ منه قصاصة ورقيّة صغيرة مطويّة، كنت قد دسستها في وسطه، فأخذت أقلّب بصري في الكلمات اللافتة التي سجلتها سالفًا في باطنها: إجهاضًا معماريًا، ومطر الكيمياء، وسينما الهلاك، وملاكمة الظل، ومعمار ضوئي وغريزة البراري.

عدت ثانية أتمعن في تلك الكلمات، وأستحثّ عقلي لمعرفة فحوى مغزى كلمتيّ إجهاضًا معماريًا، فتذكرت أنه كان وصفًا لمدينة الرّصَيْفة، التي وصفها بأنها مدينة من غبار خماسيني، ظهيرة صحراوية تشبه «واقعًا مقليًّا على 45 درجة مئوية»، ثم أردف قائلًا: «أفق من جبال رملية، مطفأة اللون، وبيوت من باطون مسلّح ورمادي أشد ثقلًا من الجو نفسه، وتبدو نشازًا، أو إجهاضًا معماريًا، ولا زهرة. خضرة قليلة، وفقر بصري، ومساحات تُنتج جوعًا إلى اللون».

بعد ذلك، تسمّرت عند مصطلح مطر الكيمياء، فأخذتُ أقلب الأوراق حتى وقعت على صفحة 52، وطفقت أقرأ الفقرة التي تُجلي غموض المعنى، فوجدت أن هذا هو التعبير الذي خطر بباله حين أخبروه بأنه سيخضع للعلاج الكيماوي، وقد أثار تأملي تعليقه التالي: «وفي دمي، بدل الشهوات، ليترات أدوية تكفي لأعرف ما معنى (مطر الكيمياء)». تعجبني الأوصاف والمسميات التي كان يخترعها ويخلعها على بعض الأمور؛ رغم أنها تبدو في غاية البساطة في عين غيره.

وقعت عيني بعدها على تساؤلات طفله الصغير -آثر- الذي كان عمره آنذاك لا يتجاوز الثالثة، وكنت قد رسمتُ تحتها خطًّا. فسأله ذات مرة: «حسين، من كبّ التراب على الجبال؟»، ومرة أتاه بقلم حبر، وسأل: «حسين، هل يكتب هذا القلم شعرًا؟». واستعدت في تلك اللحظة ما قاله آنفًا عن ابنه، لما كان يسكن في بيت في سفح الجبل، يطلّ عليه حرش صنوبر وسرو ولوز، استعدت تحديدًا جملة «ظلال ذاكرتي» حين قال: «وسيكبر آثر هنا، قرب ظلال ذاكرتي».

 ياه! كم أشجاني أنه سيكبر في ظلال ذاكرته وليس في حضن ذاكرته! حتمًا سينكفئ كل تفكيره على ولده الوحيد الذي لن تُمهله الأقدار المرقومة –واحسرتاه- من معايشة ومعاينة أطوار حياته القادمة، وكأنّ الأقدار أهدته هديتها الفاخرة؛ لكنها لم تُمهله للاستمتاع بها، ورجعت إلى الهاتف الذكي، أحدّق في صورة آثر بوجهه الصغير ونظرته الممتلئة بالبراءة.

أكمل كتابة هذا النص وبجانبي قطّة صغيرة تقفز على الأريكة وتحاول عبثًا الاقتراب من قدمي ولعقها، فأستدعي مباشرة وصف البرغوثي للقطّة التي كانت ترافقه في جنائن اللوز حين كان يتأمل جذع إحدى شجر اللوز، ثم يصف تلك القطة بأنها مرقّطة ببقع بيضاء وسوداء، وكأنّ لونها صدى لهيئة الجذع.

لاحظت أيضًا مشاهد تأمّلاته العميقة للتفاصيل الدقيقة على مدار فصول سيرته، فوجدته يصف أجواء صباح يوم شتويّ، وجلسته قرب البئر وهو يُدير بصره حوله، ويقول: «يا إلهي نسيت بأنّ في الدنيا طنين نحل، ودبيب نمل، وعشبًا، وبصلًا أخضرًا، وشمسًا دافئة»، ويُتابع قائلًا: «الانتباه إلى ما سبق ونسيته، أو حتى خنته، هو الورقة الأولى في إرادة الحياة التي بدأت تستعد لكي تولد فيّ»، ثم يقول في فقرة أخرى: «كنت وكأنني أتعلم الانتباه إلى التفاصيل الصغيرة»، ويضيف اقتباسًا لا أعلم مَن صاحبه «فالله في التفاصيل».

وفي منتصف مذكراته يستشهد بمقولة للرسام الألماني بول كلي: «إن الرسام لا يرسم المرئيّ، بل يجعله مرئيًّا»، ثم يقوم بإسقاط هذه العبارة على مرضه فيُجمله، ويحوله إلى فنان يُسلّط الضوء على التفاصيل الصغيرة، فيستطرد قائلًا: «والسرطان رسام جعل اللامرئيّ في عيني مرئيًا، حين يلتقي الفن والحب والموت في الروح».

ويمتدُ كلامه بعد ذلك شارحًا حالته بعد أول جلسة للعلاج الكيماوي فور خروجه من الغرفة، حين استعسر عليه المشي، فكان يقف بعد كل خطوة لالتقاط الأنفاس والاستراحة، ثم يقول: «وتكبر التفاصيل، تصبح مرئية، يتركز كل انتباهي في بقعة من غبار في زاوية مهملة من الدرج لم ينظفها أحد، أو في قصاصة ورقية مرمية، أو حشرة سوداء على الزجاج، تحرك أجنحتها تحت الشمس ولا تطير، وكأن كونًا ثانيًا لم ألحظه من قبل ونسيته، يحضر فجأة إلى الوعي». ويسترسل مستغرقًا في توصيفاته الدقيقة للبرتقالة والرجُل والأشياء حتى يقول: «تفاصيل، تفاصيل، تفاصيل، وكأنّ كلّ فقاعة صابون كون». يا إلهي!، وكأنّه ليس في استطاعة الإنسان ملاحظة تلك التفاصيل المغفول عنها إلا إذا كان على مرمى أشبار معدودة من رحلته الأخيرة!

وفي هذا المقام، تذكرت الجدة العجوز في الرواية الفلسفية الشهيرة عالم صوفي للأديب النرويجي جوستاين غاردر حين أبلغها الطبيب بمرضها مرض الموت فهتفت قائلة: «الآن فقط أدركت روعة الحياة وجمالها!»، كلمات الجدة توافق المعنى الذي عبر عنه الروائي الراحل عبدالرحمن منيف في أحد نصوصه «كم في الحياة من المسرات والجمال، ولأنها قريبة هكذا فإن الكثيرين لا يرونها، أو لا يعرفون كيف يتمتعون بها، وحين يفطنون إلى ذلك يكون الوقت متأخرًا وكل شيء قد انتهى». نعم، نعم! الموت الوشيك يعيد صياغة إحساس الإنسان بالحياة ومهجة الوجود حوله! وهنا يتردد سؤالي، لماذا لا يتعلم الواحد منا باكرًا ضبط مؤشر بوصلة إحساسه الدقيق باتجاه احتمالية الموت الوشيك فيتغير نمط رؤيته للأمور والعالم كله؟

وأجلس وأنظر وأطيل التأمّل في موقفه حين خرج من المستشفى ضاحكًا، فكان أوّل ما فعله هو الوقوف بين ظلال الصنوبر، مردّدًا حكمة قديمة، تقول: «إن كنت تقف في داخل نفسك في المكان الصحيح، فحيث تقف هو المكان الصحيح»، ومن ثَمَّ يكشف الغطاء عن عميق احتياجه لسفر طويل؛ لكي يرى أمكنة كثيرة أخرى، تمحو من ذاكرته دهاليز المستشفيات، ومن أنفه رائحة الأدوية.

وبعد يومين من مغادرة المستشفى، كان يمشي ويمشي على شاطئ البحر الأحمر مع ابنه وزوجته وصديق لهما مستسلمًا لسكون الليل، مستمتعًا بالبحر وهديره وزبده، متمنيًا أن يغسل الهدير كل ذاكرته من قاع ذهنه، وأكاد أسمع صدى صوته وهو يصيح قائلًا في نهاية المقطع: «لا أريد الآن شيئًا غير الآن»!

وضعت الكتاب جانبًا ثم عدت إليه بعدها بأيام لأتصفحه للمرة الأخيرة قبل أن ينضمّ إلى إخوته في مسكنه الجديد على الرف، فتوقّفت عند بعض عباراته التي حصرتها ما بين مزدوجتين ومنها مثلًا: «لكن لم أُرد أن أسمع هذه الكلمة من هذه الممرّضة بالذات، وجهها من علامات القيامة، هكذا بدا لي»، «جسمي نفسه كان يتصلّب، وتقلّ حركته، ولا بكاء ولا فرح، مشروع تمثال»، «وأتمنى أن أكون نحّاتًا؛ كي أنقش في حجر شعوري بـ (تصلب) جسمي هذا»، «وأصنع بيدي صحن (سلطة) لآثر وبترا، أصنعه بيديّ أنا، هذا شرط. كل الفكرة هنا. ثم أوقظ آثر وأمه، ونقعد على طاولة خشب بدائية، أو في فيء زيتونة، ونأكل معًا، هذا سيكون احتفالي بالحياة: صحن سلطة».

جملة القول، من تعاجيب هذه السيرة -على صغر حجمها- أنها هجين ملون من التأملات والتأويلات والخيالات والحوارات واليوميات، كما تفيض بالتساؤلات والاقتباسات والأساطير والنوستالجيا.

أُتمّم نصي وأنا أمسك بالهاتف الخلويّ، أتأمّل في الملامح المنهكة تحت النظارة الطبيّة، وصوت أزيز أنفاسه الهشة الآفلة، أصغي إلى كلمات ابن الثامنة والأربعين سنة وهو يقضي أيامه الأخيرة في المستشفى ويرقب عن قرب مشهد وقوب شمس تجربته الأرضية قائلًا: «عندي شعور أنّها حققت شيئًا من حلم قديم، ألّا أمرّ على الأرض بدون أن أترك أثرًا ما، أما لم يكتمل الأثر، أنا منذ زمن بعيد تنازلت عن فكرة الكمال، لا يوجد شيء كامل، سواءً ما كتبته أو ما أرغب في كتابته». يُنهي كلامه فتطرق رأسي بغتة كلمتيّ رغبات خاسرة، التي أوردها بين سطور مذكراته، كما لا أعلم سببًا يجعلني أتذكر عمّه الذي سأله البرغوثيّ ذات مرة عن أسعد أيام حياته، فقال: «عندما كنت ألعب بالتراب بطاقيتي وأنا صغير».

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى