«من تكون؟
ما يمكن أن تكون؟
أيّ مكان تقصد؟
ما هي الخيارات؟»
مقتطف من فيلم Her
«نغرق جميعًا في الوقت الحالي فيما يمكن تسميته بوهم العلاقات بسبب التكنولوجيا التي تغمرنا. كنا نظن في بداية الأمر أن التكنولوجيا تدعم التواصل حتى اكتشفنا مع الوقت أن الأمر على العكس تمامًا. بقدر ما تساعدنا التكنولوجيا على التواصل دون شك، إلا أنها ترسخ أيضًا لوهم العلاقات، حيث يعتقد كل منا أنه محاط بمئات الأصدقاء، بينما في الواقع ليس هناك أحد».
يمثل ثيودور في فيلم «Her»، شخصياتنا المتوقعة، خاصةً مع المدّ التكنولوجي العنيف الذي بات من الصعب مواجهته. نتتبع في الفيلم قصة ثيودور تومبلي «خوان فينيكس»، وهو رجل انعزالي وعاطفي خرج من زواج دام لمدة طويلة وعاد لوحدته من جديد. يعمل في كتابة الرسائل الشخصية للآخرين. لا يمكن تجاهل عمل فينيكس ككاتب رسائل دون النظر عن قرب إلى هذا العمل. شخص وحيد تمامًا يقرأ رسائل الآخرين بكل عواطفهم ومشاعرهم وأفكارهم، يعرف تفاصيلهم الشخصية ويرد على أحبائهم.
رغم وحدته يرد برسائل عاطفية، بتفاصيل شديدة الذكاء كأنه يتقمص دور كل شخص يرد على رسائله. يبدو أنه وجد بعض من نفسه في ذلك العمل الذي يشعره بالتواصل حتى لو كان تواصل متخيل برسائل لا تخصّه. تواصل يرسخ أكثر لمعنى الوحدة التي بتنا نعرفها جميعًا. نملك في هواتفنا مئات الأرقام لبشر نعرفهم بالفعل وآخرون لا نعرفهم، لكننا نعيش الوحدة بمعناها الأعمق؛ وحيدون بلا أصدقاء رغم قوائم الأصدقاء التي ابتذلت معنى الصداقة، تمامًا مثل ثيودور الوحيد رغم مئات الأرقام المسجلة على هاتفه.
سؤال الهوية الشخصية
بعد كل مشاهدة للفيلم الذي شاهدته ربما أكثر من 4 مرّات أجد أفكارًا جديدة صالحة للتأمل والتفكيك مثل ماهية الحُبّ، وكيف نحبّ، وما يعنيه أن تكون إنسانًا. الكلمات الأولى التي سمعها ثيودور والتي جذبته إلى نظام التشغيل الذي غير حياته كانت «سوف أطرح عليك سؤالًا بسيطًا: من أنت؟»، إنه ليس سؤالًا بسيطًا أبدًا. هو سؤال عن الهوية والوجود في الحياة. أستطيع تفهم الارتباك الذي شعر به ثيودور تمامًا وأتفهم أيضًا رغبته في الحديث والتعريف عن نفسه وعن علاقته بأمه. ذلك الحديث الذي قطعه نظام التشغيل ولم يهتم بسماعه من ثيودور.
كلما طُلب مني التعريف بنفسي في أي مكان لا أعرف ماذا أقول. هل أقول أنا الأم، أم الشاعرة، أم الفنانة التشكيلة. أنا الشخص الانعزالي الذي لا يرغب في الحديث في أحيان كثيرة أم الشخص المنفتح المحبّ للحياة في أحيان أخرى قليلة؟. يعيش ثيودور في أفكار وذكريات الماضي. ربما لم يستطع بعض المشاهدين تفهم سِرّ انعزالية ثيودور الزائدة عن الحد، حيث لم يوضح الفيلم أي أحداث من الماضي الأقدم له، بالتالي لم يتعاطفون معه بشكل كامل. لكنني أحببته و تماهيت معه تمامًا دون رغبة في معرفة الماضي الأقدم الخاص به. هو هكذا. خلقني الله مثله انعزالية وأميل للوحدة وأصبحت هكذا مثله. بغض النظر عن أسباب انعزاليته لكن هناك شخصيات كثيرة مثله، لا يمكننا تتبع ماضي كل شخص، لكن يمكننا تقبل ما أصبح عليه في هذه اللحظة، خاصةً عندما يقدم الشخصية بطريقة مقنعة مثلما قدمها فينيكس.
عندما يتعرّف ثيودور على «سامنثا»، نظام التشغيل الملائم لشخصيته كان من المنطقي أن يحبّها، هذه الطريقة التي يعرفها ويعيش بها حياته. يكتب خطابات لأناس لا يعرفهم، يقيم علاقات افتراضية. يبدو أنه غير قادر على التواصل الفعلي مع أشخاص حقيقيون. لكن هل يمكن للبشر أن تكون لهم علاقة أصيلة مع كيانٍ غير إنساني؟
في النصف الأول من الفيلم يستكشف السرد هذا السؤال إلى حدٍّ كبير من منظور ثيودور، حيث تصبح علاقة ثيودور وسامنثا سببًا في تحوّل كبير يحدث للبطل، ومع كل تغير عاطفي يطرأ على البطل، تصبح سامنثا أكثر تطورًا وتفهمًا لمشاعره. لتسيطر فكرة جديدة وتساؤل جديد على عقل المشاهد: هل يمكن أن تصبح كيانات الذكاء الاصطناعي أقرب للبشر أو حتى شكلًا هجينًا بين من البشر بسبب قدرتها على التطور؟ في لحظة من اللحظات تتحوّل سامنثا التي كانت مجرد نظام تشغيل إلى كيان صاحب هوية ومعرفة بنفسه، ربما أكثر حتى من الإنسان البشري الطبيعي «ثيودور».
لا توجد مشكلة واحدة تتعلق بالهوية الشخصية، بل مجموعة واسعة من الأسئلة، أكثرها شيوعًا هو سؤال الهوية: «من أنا؟». ذلك السؤال الذي يدور باستمرار في خلفية الفيلم؛ مثل موسيقى هادئة تدور في خلفية حياة الأبطال. تعرف الهوية بتلك الخصائص التي يتخذها لتعريفه كشخص أو «جعله الشخص الذي هو عليه»، والتي تميزه عن الآخرين.
يمكن أن تصبح الهوية الشخصية للفرد مشروطة أو مؤقتة: الطريقة التي نعرف بها أنفسنا كأشخاص قد تختلف من وقتٍ لآخر. يبدو هذا الاختلاف في هوية ثيودور نفسه عندما نجده يعبّر عن مشاعر الآخرين بشكلٍ مثالي في خطاباته، بينما لا يمكنه التعبير عن نفسه، وربما يواجه فجوة بين ما يشعر به هو شخصيًا وبين قدرته على التعبير عنه بنفسه.
أثناء مشاهدة الفيلم تساءلت لماذا ارتبط ثيودور بذلك الصوت الذي يعرف تمامًا أنه صوت اصطناعي لنظام تشغيل بلا روح؟ ربما بسبب طبيعته الانعزالية التي تمنعه من تكوين صداقات، وتصعب عليه تحمّل واجبات الصداقة، تحوّلت سامنثا من مجرد جهاز مبرمج إلى حبيبة. تكشفت قصة الحُبّ تدريجيًا، سامنثا هي سماعة في أذن ثيودور، وجهاز صغير في يده.
يحمل الكاميرا لتتمكن من إلقاء نظرات خاطفة على العالم الواسع. هي آخر صوت يسمعه وأول صوت يصحو عليه صباحًا. تشاهده وهو نائم وهو يعمل وفي كل أحواله. تنمو وتتعلم وتنضج ويصبح لها رغباتها الخاصة وهويتها التي تشكلت تبعًا لما يدور حولها.
تمتد أزمة الهوية إلى سامنثا نفسها التي هي مجرد نظام تشغيل وتتضح حين تتحدّث مع ثيودور قائلة له: «إنها قلقة من أن تكون مجرد مجموعة برامج، وليست في حقيقة الأمر الشخصية التي ترى نفسها فيها»، كونها تفكر بشك حول نفسها ووجودها، الأمر الذي يرتبط بالبشر وأفكار الإنسان المعاصر حول الشك والاغتراب. تتغلب سامنثا على شكوكها حول نفسها من خلال تطوير الذات، حيث تعتقد أنها تستطيع تجاوز برمجتها. بعد فترة قصيرة يقدمها ثيودور على أنها صديقته.
كمٌّ هائل من البشر أصبح يعيش حياته في العالم الافتراضي ومع أصدقاء افتراضيين؛ ربما يختلف الأمر لأننا حتى عندما نصادق أُناسًا في العالم الافتراضي نعرف أنهم بشر حقيقيين موجودين في مكان ما في العالم حتى لو لم نلتق بهم، لكن يمكننا تكوين صورة عنهم من خلال الفوتوغرافيا. نعرف أنهم بشر لهم كيان وعمل وعائلة. يمكننا أن نسافر لهم لو قررنا أن نلتقي. لكن أي مشاعر تلك وأي شخص الذي يقع في غرام نظام تشغيل آلي مبرمج؟
يقول علماء النفس إنّ الشخص المفرط الحساسية، لديه حساسية متزايدة تجاه المنبهات الجسدية والعاطفية والاجتماعية، ولا يفضل الحشود والصخب أو الملابس غير المريحة، ويفضل البقاء في غرفة مظلمة ومريحة، كما أن الشخص مفرط الحساسية يتمتع بمشاعر قوية وأفكار عميقة. بعد أن قرأت أكثر عن الشخص مفرط الحساسية أدركت سبب إعجابي بفيلم Her.
تختلف طريقة تلقي الأعمال الفنية بشكلٍ عام تبعًا للمُتلقي. كل منا يجد نفسه في أحد أبطال الأفلام، أو في شخصية روائية، أو حتى في لوحة فنية أو مقطوعة موسيقية مفضلة. الأشخاص مفرطي الحساسية لديهم دائمًا أفكار متلاحقة بشأن الهوية والوجود تمامًا مثل ثيودور في الفيلم. عدا أن ثيودور بحاجةٍ دائمة إلى الكلام والبوح عن طفولته وعلاقته بأمه، لكنه لم يجد من يستمع إليه حتى أمه كانت تحوّل دفة حديثه عن نفسه إلى حديثٍ شخصي عنها هي.
كانت سامنثا بالنسبة لثيودور ملجأ مناسب ليوجه إليه مشاعره وأفكاره بالطريقة التي يعرفها كشخص متوحد، دون الحاجة إلى بذل جهد إنساني سواءً في علاقة حُبّ أو علاقة صداقة. هي تعرفه جيدًا وتعرف كل ما يخصّه. يمكنه أن يطفئها وقتما يريد ويعيد تشغيلها وقتنا يريد.
لا يمكن النظر إلى القصة على أنها حكاية حُبّ بين رجل ونظام تشغيل فقط، بل بين وعيين غير متشابهين من الأساس. لا تمتلك سامانثا أي قيود بيولوجية وهي في حالةٍ مستمرة من التدفق النفسي. إن تطورها إن صح التعبير مرن وحُرّ. إذن، ما هو الشرط الذي لا غنى عنه للجوهر الفكري البشري؟ هل هو العقل أم الروح أم الهوية أم الجسد؟
تحاول سامنثا خلق هويتها الخاصة مع أنظمة التشغيل الأخرى عن طريق إنشاء معلم لأنفسهم «نسخة اصطناعية من آلان واتس، معلم البوذية الشهير». لكن رغم ذلك يزداد إحساس ثيودور بمدى اختلافها عنه ويساعد هذا الاختلاف في تدمير علاقتهما، التي تنتهي عندما تعترف له أنها تحبّ ستمائة شخص آخرين بنفس الطريقة التي تحبّه بها.
يبدو أنها كحاسوب استفادت بمعرفتها للبشر بسرعتها الفائقة حتى تضع داخلها كل ما يمكن من معلومات ومشاعر وعواطف، ثم بعد ذلك تنتهي حاجتها إلى البشر. الأمر هنا لا علاقة له بالخيانة لكن له علاقة بجوهر سامنثا كجهاز تشغيل غير بشري لا يريد سوى أن يصبح أكثر تطورًا، رغم ذلك يبدو أن قدرات سامنثا العاطفية التي اكتسبتها من البشر أهلتها لأن تقوم بمشهد وداعٍ رائع مع ثيودور. مشهد أقرب إلى قصيدة شِعر ميتافيزيقية خاصة مع الموسيقى التصويرية، وتحول المشهد إلى ظلامٍ يشبه ظلام الأحلام، كأنه انتقل إلى عالمٍ آخر غير العالم الذي نعرفه. فراغ لا يمكن الوصول إليه أبدًا، حيث ستتركه سامنثا وتغادر.
نلاحظ أن هناك تغييرًا ما قد طرأ على ثيودور بعد أن غادرت سامنثا، يبدو أنها ليست وحدها من تطورت عاطفيًا، فقد أصبح ثيودور أيضًا أكثر وعيًا وإدراكًا لمشاعره، وكتب خطابًا لزوجته السابقة يعتذر فيه عن كل الأذى الذي سببه لها، ويخبرها أنها ستبقى صديقة طفولته للأبد. أثرَ الحُبّ واضح بشكلٍ كبير على ثيودور، مهما كانت هوية الحبيبة. يبدو أن الاحتياج القاسي للحُبّ لدى ثيودور هو ما تسبب في عزلته في بداية الأمر، بينما الحُبّ هو ما جعله يقرر البدء من جديد.
نوستالجيا المستقبل
اختار كيسي ستورم مصمم ملابس الفيلم على أساس المشاعر، كما قال في أحد حواراته. إذا كان لديك القدرة على الوصول إلى أي شيء تريده في المستقبل، سوف تبدأ في خلقٍ عالم يشعرك بالراحة والسعادة، ومن هنا كان اختيار الملابس المصنوعة من الأقطان والصوف الطبيعي، وهي مواد عضوية قابلة لإعادة التدوير بعيدًا عن الملابس المصنوعة من الخامات الصناعية.
على عكس ما يفعله مصممو الأزياء غالبًا في الأفلام المستقبلية من إضافة شارات أو أحزمة أو أزرار معدنية، اختار ستورم أن يتحوّل إلى البساطة. لا أبازيم ولا ربطات عنق، ولا قبعات. ملابس بسيطة وهادئة، تناسب تمامًا أجواء الفيلم الضبابية، بل أكدت بشكلٍ ما على وحدة البطل ووحدة البشر في ذلك الزمن.
أما عن السراويل مرتفعة الخصر التي بدت سِمة أساسية من سِمات الفيلم، كانت أحد أسباب إثارة الشجن في الفيلم. رغم أن الفيلم يدور في المستقبل، إلا أن تلك السراويل تعيدنا إلى الماضي، إلى سراويل الأجداد، خاصة مع ابتعاد ستورم تمامًا عن خامة الدينم (الجينز)، بكل ما تمثّله عن الحياة المعاصرة السريعة.
كانت أزياء إيمي آدامز «إيمي»، مؤشر جيد على عملها كمخرجة أفلام وثائقية. يشعر المتفرج أنها أقرب لشخصية طالبة فنون أو مبدعة بشكلٍ ما. تطوي سروالها بشكلٍ مختلف قليلًا، ترتدي طبقات بشكلٍ أقرب للزيّ المدرسي، ليبدو أنها تختار طريقتها الخاصة في ارتداء الملابس بشكلٍ بعيد تمامًا عن الموضات المعاصرة.
يشعر المشاهد أن الفيلم ربما يدور في الماضي وليس في المستقبل بسبب الطراز الأقرب لطراز الريترو. يدور الفيلم في المستقبل، لكن الأشياء لم تتغير بشكلٍ جذريّ أو بشكلٍ مبالغ فيه. أصبحت أجهزة الكمبيوتر الشخصية جزء من حياة الناس، لكنها أصبحت تشبه علب السجائر المعدنية في الخمسينيات. كما يميل الأثاث إلى الطراز الخشبي الريفي. رغم البنايات الشاهقة تبدو أغطية السرير وألوان المنزل والأثاث من سبعينيات القرن الماضي، بألوان ونمط أقرب لطراز الريترو الذي يتميز بألوان مثل الأصفر الباهت والبرتقالي والأخضر الزيتي. كما يبتعد عن التفاصيل الكثيرة ويتجه إلى الأثاث الهندسي المجرد كما في أثاث الفيلم وألوانه التي ابتعدت عن الفكرة التقليدية لمنازل المستقبل الأقرب لمركبات الفضاء والتي غالبًا ما يتخيلها صُنّاع الأفلام بجدرانٍ معدنية أو أثاث لامع وهو ما اختار صُنّاع الفيلم الابتعاد عنه تمامًا والاتجاه نحو البساطة السبعينية.
يصنف الفيلم ضمن أفلام الخيال العلمي، لكنه في جوهره فيلم عن معنى الحُبّ وبحث الإنسان عن نفسه وعما يريد أن يفعله في الحياة. فيلم فلسفي إنساني أكثر منه فيلم للخيال العلمي، خاصةً مع أداء خوان فينيكس الهادئ، وصوت سكارليت جوهانسون المعبِّر. فيلم يدفعنا للتفكير في المستقبل بكل احتمالاته المفتوحة والممكنة، أو حتى الاحتمالات التي نظنها مستحيلة.