[highlight color=”yellow”]حوار اختص به الفيلسوف روبرت براندوم منصة معنى الإلكترونية[/highlight]
1- لنبدأ بنظرة عامة تمهيدية؛ نود أن تحدثنا، بإيجاز، عن عملك بالفلسفة وأساتذتك ومعلميك السابقين.
خلال دراستي في جامعة ييل، في البداية وجدت هناك شغفًا واهتمامًا بالغًا بالرياضيات والتاريخ الفكري، وكان دخولي إلى عالم الفلسفة بمثابة الضلع الثالث. تعرَّفتُ آنذاك على نظرية المجموعات set theory من خلال أبراهام روبنسون، وعلى نظرية النموذج model theory من خلال جون بارويز، وعلى الإحصاء من خلال ليونارد سافاج، ودرست البراجماتيين الأمريكيين (خصوصا تشارلز بيرس وجوزايا رويس) مع بروس كوكليك (الذي كان يكتب حينئذ كتابه عن تاريخ قسم الفلسفة في جامعة هارفارد). كما درَّس لي ريتشموند توماسون الصيغة الخاصة بريتشارد مونتاغيو من دلالة العوالم الممكنة، ورأيت في ذلك إمكانية استخدام المناهج الصورية لتحقيق قبضة رياضية على قضايا المعنى واللغة التي وضعت يدي عليها عبر البراجماتيين وفتغنشتاين. في جامعة برينستون، أشرف على أطروحتي للدكتوراه ريتشارد رورتي وديفيد لويس اللذيْن مثَلا، مرة أخرى، الجانبين التاريخي والصوري لدراسة اللغة.
2- عند النظر إلى أعمالك نلاحظ سمة تأليفية تركيبية؛ فأنت تجمع وتؤلف بين تيارات وشخصيات متباينة (الفلسفة التحليلية والبراجماتية، علم الدلالة وعلم الاستعمال اللغوي، سيلارز ورورتي، إلخ)؛ نود إلقاء مزيد من الضوء والتفصيل حول هذه السمة.
كان الدافع الذي يحركني في أطروحتي للدكتوراة هو الجمع والتأليف بين ما اعتبرته تيارين للفكر الفلسفي حول اللغة في القرن الماضي يمثّلان مقاربتين متعارضتين للغة: فهناك، من ناحية، نموذج أحادي لوجستي يتعامل مع اللغة على غرار علم التفاضل والتكامل الصوري الصناعي الذي ينسق البراهين الرياضية، وقد تحقق هذا مع فريجه وراسل وفتجنشتين المبكر في رسالة منطقية فلسفية وتارسكي وكارناب. ومن ناحية أخرى هناك رؤية أنثروبولوجية للغة بوصفها ممارسة اجتماعية، أي إحدى الخصائص البارزة المميِّزة للتاريخ الطبيعي للبشر، وقد ظهرت مع البراجماتيين الأمريكيين وهيدغر في الوجود والزمان وفتغنشتاين المتأخر في بحوث فلسفية. ثم فكرت في شخصيات مثل كواين ودافيدسون وداميت باعتبارهم يحاولون الجمع بين هاتين الطريقتين من التفكير، ومن ثم انتابني الطموح إلى خوض هذه المغامرة. كان أول كتاب كبير لي، لنجعلها صريحة Making It Explicit، هو محاولتي للوفاء بذلك الوعد. أما سلسلة محاضرات جون لوك التي ألقيتها في جامعة أكسفورد وطُبعت في كتاب بين القول والفعل: نحو براجماتية تحليلية Between Saying and Doing: Towards an Analytic Pragmatism فكانت، كما يشير العنوان الفرعي، تمثل سعيي إلى التأليف بين تبصرات الفلسفة التحليلية (كما رأيتها) وتبصرات الفلسفة البراجماتية، حيث فكرت في البراجماتية على نحو أكثر اتساعًا وعمومية بدرجة تكفي لتشمل ليس بيرس ووليم جيمس وجون ديوي وسي آي لويس فحسب، بل أيضًا هيدغر المبكر وفتغنشتاين المتأخر ورورتي. كذلك، قصدتُ في أعمال تالية إلى الجمع بين المثالية الألمانية والفلسفة التحليلية ليحاور كل منهما الآخر بروح براجماتية، وبلغ هذا الأمر ذروته في كتاب روح من الثقة A Spirit of Trust: A Reading of Hegel’s Phenomenology. أعتقد أن الدافع التأليفي هو الدافع الفلسفي. إنه، على حد تعبير بطلي (وزميلي سابقًا) ولفريد سيلارز، الرغبة في أن ترى، وتقول، “كيف أن الأشياء، بالمعنى الأوسع للكلمة، تتآزر، بالمعنى الأوسع للكلمة”. ولطالما كان شغفي الخاص هو القيام بهذا الأمر حينما تكون “الأشياء” التي يجب أن تتآزر هي نفسها التيارات الفلسفية.
3- يقول رورتي “لقد أظهر براندوم كيف يمكن للفلسفة التحليلية أن تتجاوز نفسها”، هل ينطبق هذا القول أيضًا على البراجماتية؟ وهناك من يقول إن الفلسفة التحليلية أو التحول اللغوي هو ماجدّد البراجماتية وأبقاها حيّة نشطة، بينما يقول آخرون إن البراجماتية تشوهت وتحولت إلى شيء آخر بعد التحول اللغوي؛ فكيف ترى تأثير التحول اللغوي على البراجماتية؟ بالإضافة إلى ذلك، باعتبار أن أعمالك تحظى بالمناقشة على نطاق واسع في الدوائر الفلسفية التحليلية والقارية على حد سواء، فما تعليقك بخصوص الانقسام التحليلي القاري؟
إنني أسعى إلى أن تكون أعمالي بمثابة بثّ لحياة جديدة في الفلسفة التحليلية، وفي البراجماتية، وفي المثالية الألمانية. وفكرتي الأساسية حول كيفية القيام بهذا الأمر هي جلب الأفكار من كل واحد منها وتطعيمها في البقية. وما جعل البراجماتية تبدو كأنها موضة قديمة، من وجهة نظري، هو أنها لم تُركِّز على اللغة بالقدر الكافي، باستثناء بيرس كما أعتقد، أما وليم جيمس فاللغة عنده ليست قضية مركزية، وحتى ديوي، حسبما أرى، فلم يضع اللغة في الصدارة عند محاولته فهمنا كبشر؛ ولا شك أن هذا يرجع، في أحد أسبابه، إلى أنه كان ملتزمًا إلى حد بعيد بالتركيز على أوجه الشبه والاستمرارية التي تربط الكائنات الخطابية بالكائنات الأخرى غير الخطابية، بدلًا من التركيز على أوجه الاختلاف. ويبدو لي أنه هنا، في هذه النقطة، يكون من المفيد للغاية التفكير في هيدغر وفتغنشتاين بوصفهما تصويبًا للبراجماتيين الكلاسيكيين. ومن وجهة نظري، فإن أحد المخاطر الأساسية التي تواجه الوارثين المعاصرين للفلسفة التحليلية عند تناولهم الآن موضوعات الميتافيزيقا والإبستمولوجيا وفلسفة العقل هو أنهم توقفوا إجمالًا عن التفكير في فلسفة اللغة باعتبارها “الفلسفة الأولى”. وما يقلقني هو أنهم لا يُقدِّرون دروس القرن العشرين حق قدرها، فقد كان –بحق- “قرن اللغة” في الفلسفة، في بريطانيا والولايات المتحدة، وكذلك الأمر في ألمانيا وفرنسا.
وفيما يتعلق بـ “الانقسام التحليلي القاري”، وأرجو أنه الآن يتلاشى سريعًا مقارنة بما كان عليه الأمر من قبل، فدومًا ما كنت أؤيد رأي رورتي بأنه ينبغي علينا أن نستمد معاييرنا للوضوح والكثير من أدواتنا ومناهجنا من التقليد الأنجلوفوني ونطبقها على موضوعات فلسفية وقضايا مُستقاة من أوروبا. ورغم أنه ما تزال هناك، لا شك، آثار سوسيولوجية لذلك الانقسام الأيديولوجي العنيف، فما أظنه سيؤدي في آخر الآمر إلى رأب هذا الصدع هو استعادة الفلاسفة التحليليين لكانط، وهو ما بدأه جون رولز في الفلسفة العملية، وشخصيات مثل ستراوسن في الفلسفة النظرية. إن المعتقد النضالي للفلسفة التحليلية، كما صاغه راسل وجورج مور، هو أنها حددت هويتها برفضها لهيغل. ولكن بما أننا نجد أنفسنا في عصر ذهبي من التقدير الفلسفي لكانط، فإن حقيقة أن هيغل قارئ مثير لكانط تضمن أنه أيضًا سوف يُستوعب ضمن التقليد الذي رفضه يوما ما وترفّع عنه. وكما يقول هيغل في نهاية فينومينولوجيا الروح: “تُشفى جراح الروح، ولا تُخلِّف وراءها من أثر”.
4- هل استطاع فتغنشتاين المتأخر إنقاذ الحرية الفردية من خلال تقريره لحجة اتباع القواعد في بحوث فلسفية؟ وإذا لم يستطع، فهل تقريرك الإيجابي، خلافا لجون مكدويل وفتغنشتاين، فيما يتعلق بتقديم نظريات لحل المشكلات الفلسفية، يمكن أن يقوم بذلك؟
إحدى أهم أفكار كانط هي فكرته عن الحرية بوصفها متمثلة، لا في غياب التقييد أو الإكراه، وإنما في وجود نوع محدد من التقييد: التقييد من خلال المعايير norms. وعلى حدّ تعبيره، فإن المخلوقات الطبيعية مُقيَّدة بقواعد في صورة قوانين تعمل على نحو مستقل عن مواقف مَن يقع عليهم هذا التقييد. وباعتبارنا كائنات خطابية، فنحن نتميز بأننا مُقيَّدون بتصوراتنا للقواعد: القواعد التي تُلزمنا فقط بحسب مواقفنا الخاصة تجاه هذه القواعد. وقد استوحى كانط هذه الفكرة من تعريف جان جاك روسو للحرية في العقد الاجتماعي: “طاعة القانون الذي نُلزم به أنفسنا هي الحرية”. يُحوِّل كانط هذه المقولة إلى تعريف لما هو معياري: إن التقييد المعياري الحقيقي الأصيل هو دائمًا تقييد ذاتي، إنه طاعة لقانون يُلزم به المرء نفسه. هذه هي نسخة كانط من الاستقلال الذاتي المكافئة للفكرة الثاقبة لعصر التنوير التي تقول إن الحالات المعيارية، مثل حالات السيادة والتبعية، أو (بصورة أفضل) السلطة والمسئولية، ليست سمات مميزة للعالم الطبيعي الأدنى من البشر (أو الأعلى)، وإنما هي نتاج لممارساتنا ومواقفنا العملية تجاه بعضنا البعض. يتجاوز هيغل نزعة كانط الفردية ويرى الحالات المعيارية بوصفها حالات اجتماعية في آخر الأمر، تقوم على الاعتراف المتبادل. ثم يأتي فتغنشتاين في القرن العشرين ويعيد اكتشاف معيارية القصدية (البعد المعياري الأساسي لدلالة الحالات القصدية مثل الاعتقاد والرغبة والقصد)، وكذلك يسعى إلى فهم تلك المعيارية في ضوء الدور الذي تؤديه الأشياء (مثلا، اللافتة “تعتبر مجرد قطعة من الخشب”) في ممارساتنا الاجتماعية. وأنا أقدم في كلٍّ من لنجعلها صريحة وروح من الثقة مقاربات للمعيارية الخطابية، والشروط العملية لحتمية المحتويات المفاهيمية للمعايير الخطابية، وذلك النوع من الحرية الإيجابية التي تنشأ عن إلزام أنفسنا بمثل هذه المعايير، على نحو جماعي وفردي على حد سواء.
5- نعلم اهتمامك بعلم الإدراك cognitive science، فكيف ترى العلاقة بينه وبين الفلسفة التحليلية؟ وما العلاقة بين نتائج التحليل الفلسفي للمفهوم ونتائج علم الإدراك؟
يهتم العديد من فلاسفة العقل وفلاسفة اللغة –وهم محقون في ذلك– بإدماج نتائج علم الإدراك في نظرياتهم الفلسفية (مثلًا، نظرية الإدراك الحسي). والمساهمة التي أود أن أقدمها تسير في الاتجاه الآخر. فأنا قلق من أن علماء علم الإدراك الذين يفكرون في استخدام المفاهيم لا يقدّرون بما فيه الكفاية الدروس التي تعلمها الفلاسفة فيما يتعلق بالمفاهيم منذ فريجه، التي تطورت إلى منطق التكميمات. من هذه الدروس أن أي مقاربة تفكر في المفاهيم باعتبارها مجموعات بولانية[1] من السمات الصغرى microfeatures محكوم عليها بأنها عاجزة عن النظر في مجموعة كاملة من المفاهيم المهمة، بدءًا من أبسط المفاهيم الحسابية. لأن هذه المفاهيم تعتمد على تمييز المحمولات المعقدة الجديدة عن طريق تحليل استبدالي للجمل المركبة، وتطبيق المكممات أو الأسوار على تلك المحمولات الجديدة، ثم تكرار العملية على نحو مطلق مفتوح. إن هذا درس يجب على أي فيلسوف معاصر في المنطق أو اللغة أن يهتم به من أجل تعليمه علماء علم الإدراك، بما في ذلك علماء النفس وباحثو الذكاء الاصطناعي. ومن منظور طريقتي الخاصة في فهم اللغة، فإن الدرس الأهم هو الأسبقية المفاهيمية للتمثيلات القضوية على وجه التحديد. فالتمثيلات التي يُعبَّر عن محتواها بالتعبيرات التي هي أقل من جملة، مثل الألفاظ المفردة والمحمولات، لا بد أن تُفهم من حيث المساهمات التي تقدمها في هذا النوع الأساسي من التمثيل. هذا درس تداولي pragmatist: درس يجب على التداولية (النظرية التي تتعلق بما نفعله في استعمال التعبيرات) أن تُعلّمه للسيمانطيقا (نظرية محتويات المعاني التي تكتسبها هذه التعبيرات في ضوء استعمالها على هذا النحو). رأيي هو أن ما يميز المحتويات القضوية هو أنها يمكن أن تلعب دور كل من الفرضية والنتيجة في الاستدلالات؛ أي إنها تُمثّل العلل وتقتضيها [2].
6- يبدو مشروعك الفلسفي واسعًا مترامي الأطراف ويمتد ليغطي مجالات متنوعة مثل فلسفة اللغة والمنطق الفلسفي وفلسفة العقل والمثالية الألمانية وتاريخ الفلسفة والبراجماتية الجديدة وغير ذلك، هل تعتقد أن ثمة روابط وعلاقات وخطًّا من الاتصال والاستمرارية بين أعمالك أم أنك تقدم مشروعات مختلفة قد تشهد تقاطعًا هنا أو هناك؟ فضلًا عن ذلك، إذا كانت هناك محاولة لتقديم فلسفتك أو أفكارك الأساسية لجمهور جديد فهل تقترح أحد المداخل التمهيدية مثل كتاب جيرمي واندرر روبرت براندوم أو كتاب رونالد لويفلر براندوم؟ أم تقترح أحد كتبك؟
أنظر إلى أعمالي كلها بوصفها تمثل إسهامات في مشروع واحد ترتبط أجزاؤه ببعضها البعض بعلاقات وثيقة. ومن ثم، يمكن دخول الصرح عبر بوابات مختلفة، بناء على ما إذا كان المرء أكثر اهتمامًا، مثلًا، بفلسفة اللغة عمومًا، أو تاريخ الفلسفة أو البراجماتية أو المنطق. الأعمال الأساسية، أي التي أتوقع أن سمعتي تقوم عليها، هي لنجعلها صريحة، وبين القول والفعل، وروح من الثقة، وهي كتب مُكثَّفة ومعقدة وصعبة. وفيما يتعلق بتقديم نظرة عامة حول مشروعي، فكل من كتابي واندرر ولويفلر جيد ويصلح لهذا، وكذلك كتاب جياكومو توربانتي النزعة الاستدلالية المعيارية عند روبرت براندوم Giacomo Turbanti: Robert Brandom’s Normative Inferentialism. وهناك من أعمالي ما قُصد به أن يكون مدخلًا ويستلزم خلفية فلسفية أقل من الأعمال الأخرى، مثل العلّة في الفلسفة Reason in Philosophy وتوضيح العلل Articulating Reasons (خصوصًا الفصول الأولى منه). كما أن العديد من سلاسل المحاضرات التي ألقيتها مؤخرًا (مثل محاضرات فرانز برنتانو في فيينا، ومحاضرتي في مركز جون ديوي بشانغهاي، ومحاضراتي في الشبكة الاسكندنافية للبراجماتية) متاح مجانًا للجميع على موقع أكاديميا www.academia.edu (وسيتم إتاحتها على موقعي بمجرد تنقيحها)، وهي تقدم مداخل مفيدة لأجزاء مختلفة من أعمالي. كذلك، يمكن للمرء أن يجد حوارات أخرى معي مثل هذا الحوار.
7- صدر مؤخرًا كتابك الذي طال انتظاره عن هيغل، روح من الثقة، حيث تقدم فيه قراءة جديدة لفينومينولوجيا الروح، ما موقع هذا الكتاب ضمن مشروعك الفلسفي الممتد وضمن إعادة الاكتشاف الجديدة لهيغل وكانط؟
لقد عكفت أعمل على أفكاري حول فينومينولوجيا الروح وأنقِّحها لأربعة عقود تقريبًا، أي طوال مسيرتي الفلسفية. عندما كتبت لنجعلها صريحة، كان أحد القرارات التي مكنتني من إنهاء ذلك الكتاب الضخم هو الحل الوسط، الذي كنت أعزف عنه وأتجنبه، وهو تجاهل كل الإشكاليات المتعلقة بتطوير وتحديد المحتويات المفاهيمية. لطالما قدَّر سيلارز أيضًا هذه الفكرة وأقر مرارًا صراحة بأنها ذات أهمية محورية، ولكنه أيضا لم يصل قط إلى طريقة محددة لمعالجتها. ودائمًا ما كنت أفكر أن الأفكار الأساسية اللازمة يمكن العثور عليها لدى هيغل، إلا أن المشكلة كانت تكمن في استخلاص هذه الأفكار وإظهارها بوضوح، ثم توظيفها لمعالجة قضايا وإشكاليات في فلسفة اللغة أصبحت أكثر وضوحًا لنا من جوانب عدة أكثر بكثير مما كانت تبدو له آنذاك. وتطلب القيام بهذا الأمر التصالحَ مع استقبال البراجماتيين لهيغل، وذلك من خلال التأليف بين أفكارهم وتبصراتهم وصياغاتهم من ناحية وأفكاره وتبصراته وصياغاته من ناحية أخرى، وكذلك الوصول إلى وضوح أكثر بخصوص كيف نفهم تطور المسار من كانط إلى هيغل. ونشرت خلال تلك الفترة الممتدة أوراقًا موجزة تمهيدية، لكن كان من الواضح دائمًا أنه لن يفي بالغرض إلا معالجة منهجية مُوسَّعة شاملة. أنا سعيد للغاية أن أصبح بإمكان المرء أن يرى ذلك المشروع وقد اكتمل ووصل إلى نهايته، كما أشعر بالرضا أن الكتاب جاء مُعبِّرا عن أفكاري على نحو ملائم بأقرب درجة ممكنة. وأرجو أن يجده الآخرون مُلهمًا ومفيدًا.
8- ما هي مشروعاتك التي تعمل عليها الآن؟
لدي مشروعان أعمل عليهما حاليًا. الأول مشروع في المنطق، مدفوع ومستفيد ومسترشد بآرائي حول فلسفة المنطق. أضفت بالفعل في كتابي لنجعلها صريحة إلى المقاربة الاستدلالية[3] inferentialist للسيمانطيقا وجهة نظر التعبيرية عن المنطق[4]. يقول المذهب الاستدلالي السيمانطيقي إن المحتويات المفاهيمية بشكل عام تُفهم من حيث العلاقات الاستدلالية الأوسع التي تقوم بين المحتويات. وهذه هي علاقات التضمن وعدم التوافق التي هي مادية (كي نستخدم تعبير سيلارز) من حيث إنها توضح المفردات العادية، والتجريبية، والوصفية، وغير المنطقية nonlogical، ومن ثم لا تدين بأي شيء للمفاهيم التي يُعبَّر عنها بأي مفردات منطقية على وجه الخصوص. أما المذهب التعبيري المنطقي فهو الرأي الذي مفاده أن هذه المفردات المنطقية، على وجه الخصوص، تتميز بالدور التعبيري الذي تلعبه. شعاري هو: “المنطق هو عضو الوعي الذاتي السيمانطيقي”. وأعني بذلك أن المفردات المنطقية تُقدَّم لتجعل تلك العلاقات التضمينية واللاتوافقية المادية صريحة، التي بموجبها (وفقا للمذهب الاستدلالي السيمانطيقي) تعبر المفردات غير المنطقية عن المحتويات التي تعبر عنها. الباراديمات هي الشرطية، التي تجعل علاقات التضمين، والنفي، صريحة (تضعها في صورة ادعاء)، مما يجعل علاقات عدم التوافق صريحة. أجد بالفعل رؤية للمنطق من هذا النوع عند فريجه المبكر. ومن ثم، يعالج المشروع الحالي السؤال التالي: إذا قمنا بتطوير منطقنا الصوري على نحو صريح بأخذ هذا الرأي التعبيري في الاعتبار، فكيف كنا لنفعل ذلك بشكل مختلف؟ هنا نقطة أساسية مفادها أن التضمين المادي وعدم التوافق هما بشكل عام من المنطق غير الرتيب nonmonotonic: إذ يمكن أن يتحول التضمين الجيد إلى تضمين سيء إذا أضاف المرء المزيد من المقدمات[5]. الفرق بين التضمينات الرتيبة وغير الرتيبة هو نفسه فرق يود المرء أن يكون قادرًا على التعبير عنه صراحة باستخدام المفردات المنطقية[6]. تصف مقالتي “من المذهب التعبيري المنطقي إلى المنطق التعبيري From Logical Expressivism to Expressivist Logics” هذا المشروع، وترسم بعض نتائجنا الأولية. وأشترك مع أولف هلوبيل Ulf Hlobil ودان كابلان Dan Kaplan وشوهي شيمامورا Shuhei Shimamura في كتابة كتاب يعرض المنطق الذي يقنن العلاقات النتائجية المادية غير الرتيبة، وذلك تحت عنوان منطق النتيجة: أدوات للتعبير عن البنية Logics of Consequence: Tools for the Expression of Structure.
أما المشروع الثاني فهو كتاب مبني على محاضرات سبينوزا التي سألقيها في جامعة أمستردام (من المقرر عقدها في ربيع 2021)، وهو يمثل امتدادًا وتفصيلًا لعملي على فكر ريتشارد رورتي الذي أشرف على رسالتي للدكتوراة. طوال مسيرتي الفلسفي، اشتبكت مع أعماله وحاولت التوافق معها (يتضح هذا، مثلًا، في إسهاماتي في كتاب رورتي ونُقَّاده Rorty and His Critics الذي حررته ويضم عددًا من المقالات المخصصة له). لطالما ظلت مهمة وضع نفسي في موقع فلسفي مقارنة برورتي مرنة ومستمرة وساهمت في تشكيل فكري بطرق عديدة؛ بدأت أفهم بعضها للتوِّ للأسف. أشعر في السنوات الأخيرة أنني أحرزت تقدمًا في فهم المراحل المختلفة التي تطور خلالها فكر رورتي، والصعوبات والرؤى التي كانت دافعًا وراء العديد من التطورات البارزة في مسيرته. ومن ثم، ستكون سلسلة محاضرات سبينوزا والكتاب الذي آمل أن أكتبه حول أفكارها بمثابة محاولتي لأن أفهم، تحديدًا، ما أعتبره دافعه النهائي وصياغته النهائية لتصوره للبراجماتية، التي أعلنها في سلسلة محاضرات كرسي فيراتير مورا في مدينة جيرونا عام 1996. والفكرة هي مقارنة ومقابلة موقفه المتجدد، ولكن النقدي دومًا، من الفكرة الفلسفية المركزية لعصر التنوير –فكرة التمثيل- مع ما فكر فيه هيغل في نظري.
كل الشكر للفيلسوف روبرت براندم على هذا الحوار الذي اختصت به منصة معنى.
[1] نسبة إلى الفيلسوف والمنطقي والرياضياتي جورج بول (1815 – 1864)George Boole ، الذي أسس المنطق الرقمي الحديث بكتابه المؤثر التحليل الرياضي للمنطق، عام 1847، وكان تأسيسه تطلعيا، أي إن ما قدمه قد أفاد الثورة التقنية الحديثة فيما بعد. فالأساس الرقمي المعاصر الذي يقوم على الرمزين “0” و “1” يعود إليه، حيث يُرمز إلى الوضع غير الموجب أو الزائف بالصفر، والوضع الموجب أو الصحيح بالواحد. ويقصد براندوم هنا تغلغل هذا التصور التبسيطي في معظم أعمال علم الإدراك. المترجم
[2] نلاحظ هنا أن حل براندوم للصورة التبسيطية البولانية يعود إلى فتغنشتاين المتأخر، وذلك في عبارته الشهيرة “المعنى هو الاستعمال” وليس تصورا صوريا مسبقا. لكن براندوم يدمج بين هذا الاستعمال الأنثروبولوجي وعلم الإدراك، وهذه هي فكرة أعماله الرئيسية. المترجم
[3] المقاربة الاستدلالية هي المصطلح الذي وضعه براندوم للتعبير عن نظريته في المعنى، ويعني أن المحتوى المفاهيمي لجملة ما يتحدد أو يُحكم بنوع معين من القواعد الاستدلالية. وهذا يقتضي ضمنًا النظر إلى الجملة من حيث علاقتها بالجمل الأخرى (شبكة العلاقات الاستدلالية)، أي إن معنى الجملة يعتمد على كيفية استخدامها في الاستدلالات. ويتضح الغرض من هذه النظرية ويُفهم بالنظر إلى مشروع براندوم الأكبر، وهو الدمج بين اللغة التداولية واللغة المنطقية، فالمقاربة الاستدلالية يراد بها أن يكون المعنى سياقيًا استعمالياً وفي نفس الوقت يمكن ترميزه. المترجم
[4] ذكرت في الهامش السابق أن المقاربة الاستدلالية تجعل المعنى يمكن ترميزه، وهذا هو المراد بالمذهب التعبيري المنطقي، فهو يرمّز أو يصرّح بجوانب معينة من خطاب ممارساتنا اليومية، الخطاب الاستدلالي بالتحديد. المترجم
[5] المنطق غير الرتيب هو منطق صوري لكنه معدّ لتمثيل الاستنتاجات التي يمكن تقييدها أو حتى إبطالها، فالنتائج وفق هذا المنطق يمكن أن نستثني منها، نعم هناك قاعدة، لكنها قابلة للاستثناء، وهذا يسمح للفاعل أو المفكر بالتفاعل مع النتائج في ضوء دليل جديد (لذلك يُستخدم هذا المنطق في القانون وفلسفة الأخلاق بالخصوص، وهو قريب من مفهوم “القياس التمثيلي” في التراث). فمثلا، “الأعزب هو شخص غير متزوج”، هذه قضية لا يمكن أن تكون غير رتيبة، أما قضية “الطيور تطير” فقضية غير رتيبة، لأنها تسمح لنا بتقبل بعض الاستثناءات، أي من الممكن وجود طيور لا تطير؛ الدجاج مثلًا. المترجم
[6] قارن هنا مفهوم فتغنشتاين المتأخر “التشابهات العائلية” ومشروع براندوم. نجد أن براندوم يفترق عن فتغنشتاين تمامًا، لأن التضمينات عند فتغنشتاين لا يمكن التعبير عنها بمفردات منطقية. المترجم