نودّ التداول في هذه الصفحة في شأن مجموعة من المحددات الخاصة بـ “العالم الافتراضي”، أي كل ما يُبنى خارج تفاصيل حياتية تتحقق استنادًا إلى قوانين واقعية لا أحد منا يستطيع تغييرها أو الإفلات من سلطانها. فنحن أسرى الزمان والمكان وتقلبات الجو والجاذبية، وأسرى مظاهر الكون وأبعاده، ما يشدّنا إلى أرض هي مأوانا ومثوانا، تمامًا كما نحن أسرى إكراهات المعيش الاجتماعي أيضًا، فذاك هو الشرط الحياتي الذي يجعل منا كائنات فانية.
ومع ذلك لا يمكن أن نعيش بحقائق الواقع وحده، إننا نقتات أيضًا مما يُسقطه الوجدان من رغبات تطمح إلى الإشباع. لذلك كان المتخيل وكل ما يُصنف ضمن الأسطورة والحكايات التي تحتضن ما تسرب إلى مناطق “غُفل” أو صادرته الرقابات ملاذًا إليه نُهرع عندما تحاصرنا الحياة بواجبات لا نستطيع لها ردًا. فهذه العوالم مجتمعة هي “صيغ” تستعملها الذات لكي تكون أكثر من “واحد” وأكثر من ” أنا” تتحكم فيها حاجاتٌ عارضة هي ما يشكل دائرة النفعي فيها. فليست وقائع التاريخ وحدها هي ما يشكل هويتنا، بل هناك الإحباطات أيضًا وما لم يتحقق، أي ممكناتنا، ما كنا نحلم به وما رغبنا فيه واشتهيناه، ذاك الذي يُدرجه بول ريكور ضمن “الهوية السردية” التي تجمع في ثناياها بين الواقعي والحقيقي والفعلي، وبين “عوالم ممكنة” تتطوّر على هامش الزمنية المألوفة.
وقد يكون الافتراضي جزءًا من هذه العوالم، في الظاهر على الأقل، أو قد يكون صيغة جديدة من صيغ الاستيهام التخييلي الذي يفلت من رقابة اليومي لكي “يحرر” الذات من كل ما يشدها إلى المعتاد والمكرور. فهو أيضا نافذة جديدة يعيش من خلالها الناس الكثير من “الحقائق” في انفصال عما يُصَدق عليها أو يردها إلى وقائع بعينها. إنه، بصيغة أخرى، محاولة لتعويض الواقعي بصيغ حياتية تتحقق ضمن فضاء “أفقي” يغطيه زمن حاضر انتزعته الرقمية من الدفق المعتاد وأعادت صياغته ضمن عالم بصري هش سريع التلاشي. وهذا بالضبط ما يُمَيز الافتراضي عن المتخيل.
يعتمد الافتراضي صورًا مستقاة من واقع مألوف في العين، إنه استنساخ لما “يراه” الناس في معيشهم اليومي، لذلك لا يدعي الانزياح عن حقيقة واقعية، بل يقدم نفسه بديلًا عنها. فالذات في الافتراضي لا تتأمل نفسها في فضاءات مستوحاة من الحلم أو البصيرة الداخلية، بل ” تتفرج” على نفسها فيما تراه من نفسها ومن الآخرين، أو تتفرج على صور لموجودات مألوفة لديها. إنه بذلك لا يقترح على العين إلا ما تعرفه أو ما سبق أن رأته.
إن العين، في جميع هذه الحالات، لا تنتقي موضوعاتها من الذاكرة أو الاستيهام، بل تلتقط ما في الصورة “معدلًا” أو “مَزيدًا” وتفرضه على النفس باعتباره معادلًا أو نظيرًا للوجود، وقد يكون في الكثير من الحالات بديلًا عما يتم تمثيله في الصورة. بعبارة أخرى، إن العين لا تبحث عن العالم في محيطها، فكل ما في هذا العالم مودع في صور “تشبه ” الواقع، ولكنها لن تكونه أبدًا. فنحن نتعرف على الأشياء في الافتراضي من خلال الصورة قبل أن تراها العين عيانًا.
فعلى عكس المتخيل الذي يتميز بمطاطيته وتحولاته الدائمة، فهو يكبر معنا واستنادًا إلى أحلامنا، فإن الافتراضي يقدم نفسه باعتباره حياة “فعلية”، أي زمنية تخلصت من الخطية لكي تصبح كَمَّا هلاميًا تصوغه العين وفق هوى الذات وقدرتها على “النقر” الدائم، أي الانتقال من لحظة إلى أخرى ضمن “حاضر” لا يتغير أبدًا. يتعلق الأمر ” بحاضر مباشر” أو ” لحظة أبدية” بلا أفق، بتعبير ميشال مافيزولي، إنه عقم في العين وفي الوجدان، فنحن لا نرى سوى ما تعرضه الشاشة علينا. ذلك أن الإدراك الحسي، وهو غير التمثل في المتخيل، يفرض على العين موضوعًا هو مداها وممكناتها، في حين لا يكون التمثل إلا إذا تحقق خارج ما يتم تأمله.
وبذلك قد يقود العالم الافتراضي إلى حالة من “استلاب مطلق”، أو تنازل طوعي عن دفء الحياة من أجل عالم بارد بلا روح. فما تقترحه الصورة كامل ومصفى وخالٍ من تعقيدات لم يعد “الذهن الواقعي” قادرًا على تحملها. إن العالم الرقمي وحده يمكن أن يوفر مساحات قادرة على استيعاب العرضي في العين. والصور الرقمية خير شاهد على ذلك، فقد أُلتُقطت في العشرية الأخيرة وفي سنة واحدة، ما يقارب 850 مليار صورة، ظل أغلبها حبيس العوالم الافتراضية، ولم يعرف طريقه أبدًا إلى السند الورقي، فقد تداول الناس هذا الكم الهائل من الصور في شبكات التواصل الاجتماعي بعيدًا عن أي غاية فنية أو جمالية. لقد كانت صورًا بلا ذاكرة يتبادلها الناس، في الغالب، كما يتبادلون البضائع الممنوعة.
إن الافتراضي لا يتحقق إلا من خلال “الاتصال الدائم”، وتلك ميزته الأساس، فنحن لا نبحث داخله عن حلم أو أمل أو رجاء، بل نود الإمساك بمضمون شحنة انفعالية لا تُشبَع إلا ضمن رغبات تتناسل فيما بينها. إننا نبحث عن سلوان ومواساة وفرحة ونشوة، أو حالات استيهام في ما تقوله الصورة في أجهزتنا الثابتة والمحمولة. فنحن لا نكف عن النظر في هواتفنا أو لوحاتنا وحواسيبنا. إن الافتراضي يُعاش بجمع لا يتحقق إلا بالمفرد، فنحن مع الناس جميعا ولكننا وحدنا أمام الشاشة. فما نعرضه على الناس وما يعرضونها علينا ليس نحن أو هم في الحياة، بل صور عنا وعنهم هي موضوع التمجيد، أي موضوع اللايكات.
لذلك لا يمكن الحديث عن شبكات تكون “اجتماعية” في جوهرها، وهي تنتزع الناس من حاضنهم الطبيعي لكي تقذف بهم إلى عوالم يعيشها الفرد وحيدًا في مواجهة بلازما باردة بلا روح. لقد دفعوا بنا، طوعًا وبرضانا، إلى استنبات سلسلة من الوضعيات التي توهمنا أنها هي الواقع الحقيقي وهي مصدره الوحيد. فتحول “الواقع” بذلك، من خلال هذا الاستنبات ذاته، إلى لحظة هشة عابرة في الوجدان سرعان ما تختفي وسط حقائق تُبنى في عالم افتراضي ليس معنيًا بتعقيدات الحقيقة الواقعية وطابعها المركب. لقد اتسعت دائرة العالم وامتدت في كل اتجاهات العين، ولكنه أُفرغ من مضمون الحياة فيه.
وليست تلك هي طبيعة المتخيل. إنه، على عكس الافتراضي، استحضار للأشياء في غيابها، إنه يجعل مرئيًا ما يستعصي على العين في عِيانها. وبذلك عُد عينًا للروح به ترى وبه تنتشي خارج ملكوتها المألوف. إنه، من خلال صفاته تلك، يقوم بإغناء الواقعي وتوسيع دوائره ليشمل الحلم وكل أشكال الاستيهامات التي تقود إلى الخلق والإبداع. فالثابت أن الإنسان يلجأ إلى النشاط التخيلي من أجل تمطيط حجم الواقعي والانفتاح على ما يوجد خارج قوانينه. وتلك محاولة منه لاستعادة حريته، أو إيهام نفسه بذلك على الأقل. يتعلق الأمر بما يشبه “التسامي” العابر في الذاكرة، إنه إفراز خالص لحالات استهواء بلا ضفاف. ” فالإنسان مُنتَج من منتَجات الرغبة، وليس إفرازًا للحاجة وحدها” ( غاستون باشلار).
وهذا ما يجعل “التخيل حركة دائمة تُسقط ذاتية جديدة تتمتع بزمانها وفضائها الخاصين، ما يسميه غاستون باشلار ” النسيج الزمني للذاتية” ” ( لوران لافو)، فأكثر ” الأفكار تجريدية تظل دائمًا في حاجة إلى نشاط تخيلي ” كما يقول لايبنيتز. لذلك تعددت مصادره وتنوعت. فهو ذاتي يُسقط المرء من خلاله كل أحلامه ومشاريعه، وهو جماعي أيضًا، إنه رغبة الناس في التطلع إلى ما هو أحسن في السياسة والاجتماع. وقد يكون مصدره هو الخوف والرهبة من الآتي أو من عالم ضاعت بداياته ويلف الغموض نهاياته. إننا نهرب إليه في حالات الأمل والرجاء، ذلك أن الأمل ليس فعلًا بل وعد بفعل. إنه في جميع هذه الحالات مضاف يمكننا من العيش في حياتين لا يمكن لإحداها أن تكون بديلًا عن الأخرى.
لذلك تختلف عوالم الافتراضي عن تلك التي ينتجها التخيل. فلا شيء يربط كائناته وأشيائه بالعالم الخارجي سوى الممكن. فعوالمه وثيقة الصلة بما يعيشه الوجدان خارج الرقابة العقلية، إنها لا تتحدد ” من خلال وظيفتها في إعادة إنتاج ما تلتقطه العين، فهي موجودة من خلال الطريقة التي تنزاح بواسطتها عن هذا الأصل وتتحرر منه. إنها، على هذا الأساس، مُنْتَج صادر عن الذات في عفويتها، وبذلك تشير إلى إمكانية التخلص مما يشكل الموضوعية فيها”(لوران لافو).
وهذا معناه أن التخيل، وهو الحاضن لكل أشكال المتخيل، حاجة أملتها طبيعة الوجود الإنساني ذاته. فالواقعي ناقص دائمًا، وتلك طبيعته، كما هو الإنسان ناقص أيضًا، وتلك عظمته وذاك مصدر قوته. ولكن النقصان في الحالتين معًا لا يمكن أن يعوضه الافتراضي أو تقوم الصور بإشباعه، بل يُستوعب عادة في فعل إنساني واقعي يسعى فيه الإنسان إلى التغطية على جوانب النقص في وجوده، وذاك كان مسعاه منذ أن تأنسن واستقام عوده وانفصل عن محيط صامت ليخلق تاريخه الخاص. وداخل هذا النشاط يلعب التخيل دورا مركزيًا، فالحيوانات لحظية لا تتخيل أي شيء فعالمها غريزي، إنه كامل أودعته الطبيعة داخلها بشكل سابق.
وقد يكون هذا هو أصل الاختلاف بين “افتراضية” مصدرها المتخيل، وبين افتراضية تحاصر العين بصور توهمها بواقعية مزيفة. بعبارة أخرى، إن المتخيل أفق يسكنه الحلم الذي يغذي الحياة الواقعية ويُنَميها، أما الافتراضي فهو محاولة للتخلص من الواقع واستبداله بعالم يتشكل من صور عرضية وهشة. إنه رغبة في الخروج النهائي من العالم الواقعي والعيش في وهم تصنعه “لحظات” عابرة لا تراكم خبرة.